سيطر عليهم الشعور باليأس وأيقنوا أن لا نجاة مما هم فيه إلا بالهرب من الحياة الى الموت..كل همهم إنهاء ألمهم وليس حياتهم، رغم سنهم الصغيرة إلا أن همهم كان كبيرا ودفع بهم الى اختيار الهرب الى الجانب الآخر وترك المواجهة.. لكل منهم كانت له أسبابه ولكن جمعهم تفضيل مواجهة الموت على البقاء أحياء..
«أنا آسف لأني سأتسبب في كل ذلك الحزن حينما أقتل نفسي».. «أنا آسف لأنني كنت حملا ثقيلا في الفترة السابقة»، «أنا آسف لأن كل ما فعلته كان خطأ»، غالبا ما ستجد جملا شبيهة في معظم رسائل الانتحار توضح دوافع المنتحر.. ولكن بعضهم رحل في صمت ودون تبرير..
طفل لم يتجاوز سن الـ15 أقدم بداية الأسبوع على الانتحار شنقا بجهة حي التضامن من ولاية أريانة.
تم العثور عليه جثة هامدة داخل منزل عائلته.
وأثارت قبل هذه الحادثة حادثة انتحار الطفل يحيى الزايري، البالغ من العمر 13 سنة من منطقة الشبيكة بالقيروان، صدمة كبرى لدى عائلته ومتساكني الجهة بعد أن أقدم على شنق نفسه داخل ملعب كرة قدم، إثر طرده من المدرسة من قبل معلمته بسبب عدم امتلاكه الأدوات المدرسية.
زملاء يحيى أكدوا أنّ الطرد لم يكن سوى النقطة التي فجّرت المأساة، يحيى، الذي كان لاعبا موهوبا رحل وترك حزنا عميقا بين رفاقه.
وأقدم في وقت سابق طفل عمره 13 سنة على الانتحار شنقا بشجرة زيتون أمام منزل عائلته بمنطقة الشرايطية التابعة لمعتمدية بوحجلة من ولاية القيروان،وخلَفت الحادثة حالة من الحزن والفزع في صفوف عائلته وأهالي المنطقة.
الطفل الضحية يدرس بالسنة السابعة أساسي وكان ينوي الذهاب إلى البحر مع أقاربه الا ان عائلته رفضت طلبه ويبدو ان رفضهم طلبه كان السبب في انتحاره.
التنمر وعلاقته بالانتحار..
أظهرت دراسة نُشرت في إحدى المجلات أن أشكالا مختلفة من التنمر كان لها تأثير على مشاعر الحزن أو اليأس أو أفكار الانتحار، لكنها لم تؤثر على الطلاب بالتساوي. وشملت الدراسة، التي أجريت نحو 70 ألف طالب في الصف السادس والثامن والحادي عشر لمعرفة إذا ما كان هناك ارتباط بين التنمر والصحة العقلية والتفكير الانتحاري.
وأشارت الدراسة إلى أن 5 % من الطلاب حاولوا الانتحار، أي أن نحو 3500 طفل أقبلوا على الانتحار إثر تعرّضهم للتنمّر.
ولاحظت الدراسة أن التنمر الجسدي، مثل الضرب أو الدفع، كان ارتباطه ضئيلا جدا بخطر الإصابة بالاضطراب العقلي، على عكس ما هو متعارف عليه.
وأكدت الدراسة أن التنمّر على الجنسية أو الهوية العرقية أو الثقافية من شأنه أن يترك أثرا عميقا في نفوس الأطفال، قد يتجاوز العزلة إلى تصدّع ثقتهم بأنفسهم، وانعدام راحة البال، وعدم القدرة على رؤية مستقبل خال من الألم.
حين يصرخ الصغار في صمت..
يرى الباحث في علم الاجتماع ممدوح عز الدين أن الأطفال ينتحرون شنقاً أو قفزاً من الأسطح أو ابتلاعاً للأدوية، تاركين وراءهم علامات استفهام موجعة: ماذا يحدث داخل بيوت أهاليهم؟ وكيف وصل الألم الطفولي إلى هذه الدرجة من اليأس؟
ويضيف عز الدين لا توجد إلى اليوم إحصاءات رسمية دقيقة ومفصلة، لكن تقارير الجمعيات والمنظمات الاجتماعية تشير إلى أن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعاً غير مسبوق في حالات ومحاولات انتحار الأطفال والمراهقين في تونس.
وقد تم تسجيل أكثر من 300 محاولة انتحار سنة 2023، منها نسبة متزايدة تخصّ أطفالاً دون سن الخامسة عشرة.
أما في سنة 2024، فقد سُجلت عشرات الحالات التي هزّت الرأي العام، من بينها أطفال في مدنين وسيدي بوزيد والقيروان وتونس العاصمة، أغلبهم ينتمون إلى أوساط اجتماعية فقيرة أو هشة.
التأثر بالعالم الرقمي..
المثير أن طرق الانتحار لدى الأطفال أصبحت متأثرة بالعالم الرقمي، من خلال ألعاب الموت مثل “الحوت الأزرق” أو “مريم”، أو من خلال مشاهد العنف والاكتئاب التي تبثّها الشبكات الاجتماعية، في ظل غياب المرافقة الأسرية والنفسية.
وقد يبدو انتحار طفل حدثاً معزولاً أو مأساة خاصة، لكن تكرارها وانتشارها الجغرافي والطبقي قد يحوّلها إلى ظاهرة اجتماعية في صورة تسارع وتيرتها وزيادة كثافتها.
الأطفال الذين يقدمون على الانتحار لا ينتمون كلهم إلى الطبقات الفقيرة، وإن كانت الغالبية كذلك..بعضهم يعيش في أسر متوسطة ظاهرياً، لكنها مفككة وجدانياً، يسيطر عليها العنف اللفظي أو الجسدي، والإهمال العاطفي.
إنها صرخة ألم جماعية تعبّر عن أزمة أعمق: أزمة المعنى، وانهيار الحماية الاجتماعية والنفسية التي كانت الأسرة والمدرسة والمجتمع يؤمّنونها.
ماذا تقول السوسيولوجيا؟
إميل دوركايم، في كتابه الكلاسيكي “الانتحار”، اعتبر أن كل انتحار هو نتيجة خلل في الروابط الاجتماعية بين الفرد والمجتمع، سواء بسبب التفكك أو الاندماج المفرط. لكنه لم يتطرق إلى انتحار الأطفال، لأن المجتمع في زمنه لم يعرف هذه الظاهرة.
فالطفل المنتحر ليس “فرداً كاملاً” اجتماعياً، بل هو نتاج لعلاقات أسرية، تعليمية، رقمية، وإعلامية متشابكة. انتحاره هو مرآة لمجتمع فقد توازنه، حيث العائلة لم تعد حضناً، والمدرسة لم تعد فضاءً آمناً، والإنترنت صارت مربياً بديلاً.
من هذا المنظور، لا يمكن فهم انتحار الأطفال إلا كنتاج لعوامل اجتماعية وثقافية ونفسية متداخلة، لا كخيار فردي.
التمثلات الاجتماعية.. بين الصدمة والإنكار
رغم انتشار هذه الممارسة الخطيرة، ما زال المجتمع التونسي يميل إلى إنكارها أو تفسيرها دينياً، فالانتحار يُعتبر “حراماً”، لذلك تُخفى الكثير من الحالات ولا تُعلن، أو تُقدَّم على أنها “حادث عرضي”.
لكن هذا الإنكار لا يُخفي سوى هشاشة جماعية في التعامل مع الألم النفسي، خاصة لدى الأطفال.
في أذهان كثيرين، “الطفل لا يمكن أن ينتحر”، لأنه “لا يدرك معنى الموت”، إلا أن الواقع يكذّب هذه الصورة: فالأطفال اليوم يعيشون في بيئة مشبعة بالصور والمشاهد الدرامية والعنيفة التي تُبكّر نضجهم النفسي وتشوّه تصوراتهم عن الحياة والموت.
السياقات المحيطة
لفهم انتحار الأطفال، لا بد من النظر إلى السياقات الأوسع:
الأزمة الاقتصادية والاجتماعية: الفقر والبطالة والعنف الأسري وضغط المعيشة كلها عوامل تُنتج شعوراً باللاجدوى.
الأزمة التعليمية: المدرسة فقدت دورها في الاحتواء والتنشئة، وصارت فضاءً للتوتر والعنف أكثر مما هي فضاء للمعنى.
الأزمة الرقمية: الأطفال يعيشون أكثر في العالم الافتراضي، حيث يجدون الانتماء والاعتراف الذي يفقدونه في الواقع، لكنهم في المقابل يتعرضون لمخاطر التنمر والإيحاءات السلبية.
الأزمة النفسية: غياب خدمات الصحة النفسية للأطفال داخل المؤسسات التعليمية والاجتماعية يجعل من كل ألم بسيط كرة ثلج تتضخم بصمت.
تداعيات تتجاوز الفرد
انتحار الأطفال ليس فقط مأساة أسرية، بل صدع في نسيج المجتمع. إنه مؤشر على فقدان الثقة الجماعية في المستقبل، وعلى تحوّل الطفولة من فضاء للأمل إلى فضاء للخيبة.
يؤدي تكرار هذه الحالات إلى انتشار الخوف والقلق بين الأولياء، ويُضعف ثقة الأطفال بأنفسهم وبالآخرين، كما يكرّس لدى الأجيال الناشئة فكرة أن الموت هو الحل، لا المقاومة أو التعبير أو الحوار.
سياسات عمومية غير فعالة
على الرغم من التحذيرات المتكررة، لا توجد إستراتيجية وطنية متكاملة للوقاية من الانتحار، ولا برنامج وطني للعلاج النفسي للأطفال، ولا خطة تواصلية توعوية في وسائل الإعلام والمدارس.
كما أن قانون حماية الطفل، رغم أهميته، يظل عاجزاً عن مواجهة التحولات الرقمية والثقافية الجديدة.
ما العمل؟ نحو مقاربة شاملة
تتطلب المواجهة تحركاً جماعياً، يقوم على منطق الرعاية لا العقاب، والوقاية لا الصدمة.
أولاً، يجب دمج الصحة النفسية في السياسات العمومية التربوية، وتوفير مختصين نفسيين في كل مؤسسة تعليمية.
ثانياً، تمكين الأسر من أدوات التواصل والوعي لفهم احتياجات أبنائهم.
ثالثاً، تنظيم الفضاء الرقمي ووضع ضوابط تربوية لا قمعية لحماية الأطفال من المحتويات الخطيرة.
وأخيراً، تحريك المجتمع المدني والإعلام لكسر جدار الصمت، وإعادة بناء ثقافة الإصغاء والاحتواء.
حين ينطفئ النور في عيون الصغار..
ليس انتحار الأطفال في تونس قدراً، بل نتيجة مجتمع فقد بوصلة الحنان والمعنى.
إنه إنذارٌ قاسٍ بأننا نربي جيلاً يشعر بالوحدة وسط الزحام، وبالعجز وسط الكلام، وباليتم رغم وجود الأهل.
ولعل السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه اليوم ليس: “لماذا ينتحر الأطفال؟”
سيطر عليهم الشعور باليأس وأيقنوا أن لا نجاة مما هم فيه إلا بالهرب من الحياة الى الموت..كل همهم إنهاء ألمهم وليس حياتهم، رغم سنهم الصغيرة إلا أن همهم كان كبيرا ودفع بهم الى اختيار الهرب الى الجانب الآخر وترك المواجهة.. لكل منهم كانت له أسبابه ولكن جمعهم تفضيل مواجهة الموت على البقاء أحياء..
«أنا آسف لأني سأتسبب في كل ذلك الحزن حينما أقتل نفسي».. «أنا آسف لأنني كنت حملا ثقيلا في الفترة السابقة»، «أنا آسف لأن كل ما فعلته كان خطأ»، غالبا ما ستجد جملا شبيهة في معظم رسائل الانتحار توضح دوافع المنتحر.. ولكن بعضهم رحل في صمت ودون تبرير..
طفل لم يتجاوز سن الـ15 أقدم بداية الأسبوع على الانتحار شنقا بجهة حي التضامن من ولاية أريانة.
تم العثور عليه جثة هامدة داخل منزل عائلته.
وأثارت قبل هذه الحادثة حادثة انتحار الطفل يحيى الزايري، البالغ من العمر 13 سنة من منطقة الشبيكة بالقيروان، صدمة كبرى لدى عائلته ومتساكني الجهة بعد أن أقدم على شنق نفسه داخل ملعب كرة قدم، إثر طرده من المدرسة من قبل معلمته بسبب عدم امتلاكه الأدوات المدرسية.
زملاء يحيى أكدوا أنّ الطرد لم يكن سوى النقطة التي فجّرت المأساة، يحيى، الذي كان لاعبا موهوبا رحل وترك حزنا عميقا بين رفاقه.
وأقدم في وقت سابق طفل عمره 13 سنة على الانتحار شنقا بشجرة زيتون أمام منزل عائلته بمنطقة الشرايطية التابعة لمعتمدية بوحجلة من ولاية القيروان،وخلَفت الحادثة حالة من الحزن والفزع في صفوف عائلته وأهالي المنطقة.
الطفل الضحية يدرس بالسنة السابعة أساسي وكان ينوي الذهاب إلى البحر مع أقاربه الا ان عائلته رفضت طلبه ويبدو ان رفضهم طلبه كان السبب في انتحاره.
التنمر وعلاقته بالانتحار..
أظهرت دراسة نُشرت في إحدى المجلات أن أشكالا مختلفة من التنمر كان لها تأثير على مشاعر الحزن أو اليأس أو أفكار الانتحار، لكنها لم تؤثر على الطلاب بالتساوي. وشملت الدراسة، التي أجريت نحو 70 ألف طالب في الصف السادس والثامن والحادي عشر لمعرفة إذا ما كان هناك ارتباط بين التنمر والصحة العقلية والتفكير الانتحاري.
وأشارت الدراسة إلى أن 5 % من الطلاب حاولوا الانتحار، أي أن نحو 3500 طفل أقبلوا على الانتحار إثر تعرّضهم للتنمّر.
ولاحظت الدراسة أن التنمر الجسدي، مثل الضرب أو الدفع، كان ارتباطه ضئيلا جدا بخطر الإصابة بالاضطراب العقلي، على عكس ما هو متعارف عليه.
وأكدت الدراسة أن التنمّر على الجنسية أو الهوية العرقية أو الثقافية من شأنه أن يترك أثرا عميقا في نفوس الأطفال، قد يتجاوز العزلة إلى تصدّع ثقتهم بأنفسهم، وانعدام راحة البال، وعدم القدرة على رؤية مستقبل خال من الألم.
حين يصرخ الصغار في صمت..
يرى الباحث في علم الاجتماع ممدوح عز الدين أن الأطفال ينتحرون شنقاً أو قفزاً من الأسطح أو ابتلاعاً للأدوية، تاركين وراءهم علامات استفهام موجعة: ماذا يحدث داخل بيوت أهاليهم؟ وكيف وصل الألم الطفولي إلى هذه الدرجة من اليأس؟
ويضيف عز الدين لا توجد إلى اليوم إحصاءات رسمية دقيقة ومفصلة، لكن تقارير الجمعيات والمنظمات الاجتماعية تشير إلى أن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعاً غير مسبوق في حالات ومحاولات انتحار الأطفال والمراهقين في تونس.
وقد تم تسجيل أكثر من 300 محاولة انتحار سنة 2023، منها نسبة متزايدة تخصّ أطفالاً دون سن الخامسة عشرة.
أما في سنة 2024، فقد سُجلت عشرات الحالات التي هزّت الرأي العام، من بينها أطفال في مدنين وسيدي بوزيد والقيروان وتونس العاصمة، أغلبهم ينتمون إلى أوساط اجتماعية فقيرة أو هشة.
التأثر بالعالم الرقمي..
المثير أن طرق الانتحار لدى الأطفال أصبحت متأثرة بالعالم الرقمي، من خلال ألعاب الموت مثل “الحوت الأزرق” أو “مريم”، أو من خلال مشاهد العنف والاكتئاب التي تبثّها الشبكات الاجتماعية، في ظل غياب المرافقة الأسرية والنفسية.
وقد يبدو انتحار طفل حدثاً معزولاً أو مأساة خاصة، لكن تكرارها وانتشارها الجغرافي والطبقي قد يحوّلها إلى ظاهرة اجتماعية في صورة تسارع وتيرتها وزيادة كثافتها.
الأطفال الذين يقدمون على الانتحار لا ينتمون كلهم إلى الطبقات الفقيرة، وإن كانت الغالبية كذلك..بعضهم يعيش في أسر متوسطة ظاهرياً، لكنها مفككة وجدانياً، يسيطر عليها العنف اللفظي أو الجسدي، والإهمال العاطفي.
إنها صرخة ألم جماعية تعبّر عن أزمة أعمق: أزمة المعنى، وانهيار الحماية الاجتماعية والنفسية التي كانت الأسرة والمدرسة والمجتمع يؤمّنونها.
ماذا تقول السوسيولوجيا؟
إميل دوركايم، في كتابه الكلاسيكي “الانتحار”، اعتبر أن كل انتحار هو نتيجة خلل في الروابط الاجتماعية بين الفرد والمجتمع، سواء بسبب التفكك أو الاندماج المفرط. لكنه لم يتطرق إلى انتحار الأطفال، لأن المجتمع في زمنه لم يعرف هذه الظاهرة.
فالطفل المنتحر ليس “فرداً كاملاً” اجتماعياً، بل هو نتاج لعلاقات أسرية، تعليمية، رقمية، وإعلامية متشابكة. انتحاره هو مرآة لمجتمع فقد توازنه، حيث العائلة لم تعد حضناً، والمدرسة لم تعد فضاءً آمناً، والإنترنت صارت مربياً بديلاً.
من هذا المنظور، لا يمكن فهم انتحار الأطفال إلا كنتاج لعوامل اجتماعية وثقافية ونفسية متداخلة، لا كخيار فردي.
التمثلات الاجتماعية.. بين الصدمة والإنكار
رغم انتشار هذه الممارسة الخطيرة، ما زال المجتمع التونسي يميل إلى إنكارها أو تفسيرها دينياً، فالانتحار يُعتبر “حراماً”، لذلك تُخفى الكثير من الحالات ولا تُعلن، أو تُقدَّم على أنها “حادث عرضي”.
لكن هذا الإنكار لا يُخفي سوى هشاشة جماعية في التعامل مع الألم النفسي، خاصة لدى الأطفال.
في أذهان كثيرين، “الطفل لا يمكن أن ينتحر”، لأنه “لا يدرك معنى الموت”، إلا أن الواقع يكذّب هذه الصورة: فالأطفال اليوم يعيشون في بيئة مشبعة بالصور والمشاهد الدرامية والعنيفة التي تُبكّر نضجهم النفسي وتشوّه تصوراتهم عن الحياة والموت.
السياقات المحيطة
لفهم انتحار الأطفال، لا بد من النظر إلى السياقات الأوسع:
الأزمة الاقتصادية والاجتماعية: الفقر والبطالة والعنف الأسري وضغط المعيشة كلها عوامل تُنتج شعوراً باللاجدوى.
الأزمة التعليمية: المدرسة فقدت دورها في الاحتواء والتنشئة، وصارت فضاءً للتوتر والعنف أكثر مما هي فضاء للمعنى.
الأزمة الرقمية: الأطفال يعيشون أكثر في العالم الافتراضي، حيث يجدون الانتماء والاعتراف الذي يفقدونه في الواقع، لكنهم في المقابل يتعرضون لمخاطر التنمر والإيحاءات السلبية.
الأزمة النفسية: غياب خدمات الصحة النفسية للأطفال داخل المؤسسات التعليمية والاجتماعية يجعل من كل ألم بسيط كرة ثلج تتضخم بصمت.
تداعيات تتجاوز الفرد
انتحار الأطفال ليس فقط مأساة أسرية، بل صدع في نسيج المجتمع. إنه مؤشر على فقدان الثقة الجماعية في المستقبل، وعلى تحوّل الطفولة من فضاء للأمل إلى فضاء للخيبة.
يؤدي تكرار هذه الحالات إلى انتشار الخوف والقلق بين الأولياء، ويُضعف ثقة الأطفال بأنفسهم وبالآخرين، كما يكرّس لدى الأجيال الناشئة فكرة أن الموت هو الحل، لا المقاومة أو التعبير أو الحوار.
سياسات عمومية غير فعالة
على الرغم من التحذيرات المتكررة، لا توجد إستراتيجية وطنية متكاملة للوقاية من الانتحار، ولا برنامج وطني للعلاج النفسي للأطفال، ولا خطة تواصلية توعوية في وسائل الإعلام والمدارس.
كما أن قانون حماية الطفل، رغم أهميته، يظل عاجزاً عن مواجهة التحولات الرقمية والثقافية الجديدة.
ما العمل؟ نحو مقاربة شاملة
تتطلب المواجهة تحركاً جماعياً، يقوم على منطق الرعاية لا العقاب، والوقاية لا الصدمة.
أولاً، يجب دمج الصحة النفسية في السياسات العمومية التربوية، وتوفير مختصين نفسيين في كل مؤسسة تعليمية.
ثانياً، تمكين الأسر من أدوات التواصل والوعي لفهم احتياجات أبنائهم.
ثالثاً، تنظيم الفضاء الرقمي ووضع ضوابط تربوية لا قمعية لحماية الأطفال من المحتويات الخطيرة.
وأخيراً، تحريك المجتمع المدني والإعلام لكسر جدار الصمت، وإعادة بناء ثقافة الإصغاء والاحتواء.
حين ينطفئ النور في عيون الصغار..
ليس انتحار الأطفال في تونس قدراً، بل نتيجة مجتمع فقد بوصلة الحنان والمعنى.
إنه إنذارٌ قاسٍ بأننا نربي جيلاً يشعر بالوحدة وسط الزحام، وبالعجز وسط الكلام، وباليتم رغم وجود الأهل.
ولعل السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه اليوم ليس: “لماذا ينتحر الأطفال؟”