تستعدّ تونس، وفق مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026، لاعتماد مقاربة جديدة في إدارة ملف الدعم الطاقي، من خلال التخفيض التدريجي في نفقات دعم المحروقات والكهرباء بنحو 726 مليون دينار مقارنة بسنة 2025. ويُتوقّع أن تبلغ قيمة الدعم المخصصة لهذين القطاعين حوالي 4993 مليون دينار بعد أن كانت في حدود 5719 مليون دينار، في خطوة تعكس إرادة الحكومة في ترشيد الإنفاق العمومي وإعادة توجيه الموارد نحو القطاعات الحيوية المنتجة.
ويأتي هذا التوجّه في ظرف اقتصادي عالمي أكثر استقرارا، خصوصا بعد الانخفاض الملحوظ في أسعار النفط خلال سنة 2025، والذي مكّن المالية العمومية التونسية من تحقيق فائض يُقدّر بـ1.4 مليار دينار، حسب الإحصائيات الرسمية. هذا المكسب الاستثنائي فتح الباب أمام الحكومة لتبنّي سياسة أكثر عقلانية في إدارة مواردها الطاقية، مستفيدة من الظرف الدولي المواتي ومن تحسّن نسب النمو في منطقة الأورو، الشريك التجاري الأبرز لتونس.
الطاقة بين ضغط الاستهلاك ومحدودية الموارد
تُظهر البيانات الرسمية أنّ النفقات المخصصة لدعم المحروقات والكهرباء ستتوزّع سنة 2026 بين الشركة التونسية للكهرباء والغاز (STEG) التي ستتحصّل على 3138 مليون دينار، والشركة التونسية لصناعات التكرير (STIR) التي ستستفيد من حوالي 1855 مليون دينار. وتعتمد هذه التقديرات على جملة من الفرضيات التقنية والاقتصادية أهمّها اعتماد سعر برميل نفط من نوع «برنت» في حدود 63.3 دولارًا، مع استقرار سعر صرف الدولار وارتفاع معدلات الاستهلاك الوطني من المواد النفطية بنسبة 6 بالمائة والكهرباء بـ3 بالمائة.
وتشير هذه الأرقام إلى أنّ تونس ما زالت تواجه تحدّيات في مجال ترشيد الاستهلاك الطاقي رغم المساعي الحكومية لضبط مسالك التوزيع ومراقبة الدعم الموجه لقوارير الغاز المنزلي، التي تظلّ الأعلى دعما بنسبة تصل إلى 71 بالمائة. ويستفيد من هذا الدعم جميع الشرائح الاجتماعية، خاصةً ذوي الدخل المحدود والمتوسط، ما يجعل أيّ تعديل في سياسات الدعم رهينا بمقاربة اجتماعية دقيقة تراعي الفئات الهشة، وتحافظ على التوازن الاجتماعي.
انعكاسات انخفاض أسعار النفط
شهدت سنة 2025 انخفاضا مهما في أسعار النفط العالمية، بعد قرار منظمة «أوبك+» في أكتوبر من السنة نفسها بالترفيع في سقف الإنتاج، ما أدى إلى تراجع السعر إلى ما دون 55 دولارًا للبرميل. هذا الانخفاض مكّن تونس من تحقيق مكاسب مالية تقدّر بـ1.4 مليار دينار، وهو ما وفّر للدولة متنفسًا لتمويل جزء من التزاماتها دون اللجوء إلى الاقتراض الخارجي المكلف.
لكن هذا الظرف الإيجابي لا يُخفي هشاشة المنظومة الطاقية الوطنية التي ما تزال تعتمد بنسبة عالية على التوريد لتغطية حاجياتها. ويؤكد خبراء الطاقة لـ«الصباح» أنّ تونس مطالبة اليوم باستثمار هذا الظرف الدولي المواتي لإعادة هيكلة قطاع الطاقة، من خلال تطوير الإنتاج المحلي، وتشجيع الطاقات المتجددة، وتحسين أداء الشركات العمومية التي تعاني من عبء الديون والتكاليف المرتفعة.
إصلاح الشركات العمومية.. خطوة حاسمة لترشيد الدعم
أدرجت وزارة المالية في مشروع الميزانية الجديدة خطة لتسوية جزء من المتخلّدات المالية للشركتين العموميتين العاملتين في مجال الطاقة، إذ سيتمّ تخصيص 320 مليون دينار لتسوية ديون الشركة التونسية لصناعات التكرير عن السنوات 2018 و2022 و2024، إلى جانب 350 مليون دينار لتسوية متخلّدات الشركة التونسية للكهرباء والغاز عن الفترة الممتدة من 2016 إلى 2023.
هذه الخطوة تهدف إلى تحسين توازنات المؤسستين وتخفيف الضغوط المالية التي طالما أثرت على أدائهما وقدرتهما على الاستثمار والتطوير. فالتحكم في الكلفة وتحسين المردودية التشغيلية يُعدّان شرطين أساسيين لإنجاح أيّ سياسة ترشيد دعم، خصوصًا أنّ نسبة الدعم من الكلفة الإجمالية لجميع المحروقات لا تزال مرتفعة، وتبلغ 27 بالمائة في المعدل العام.
من دعم الاستهلاك إلى دعم الإنتاج
يُجمع الخبراء اليوم على أنّ المرحلة القادمة تقتضي انتقالا تدريجيًا من سياسة دعم الاستهلاك إلى سياسة دعم الإنتاج، أي توجيه الموارد التي تُنفق اليوم على دعم الأسعار نحو مشاريع استثمارية تُعزز استقلالية البلاد الطاقية. فالتوجه نحو الطاقات المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، يمكن أن يساهم في تقليص كلفة التوريد ويوفر فرص عمل جديدة، مع تحسين ميزان المدفوعات الخارجية.
وتتجه تونس بالفعل نحو هذا المسار، إذ بدأت العديد من المشاريع النموذجية في ولايات الجنوب والوسط ترى النور، لكنّها لا تزال دون المستوى المطلوب لتغطية الطلب المحلي أو لتصدير الفائض نحو أوروبا. ومن المنتظر أن يتم استثمار مرابيح الدعم في الميزانية على مشاريع حيوية للدولة، شريطة وجود رؤية وطنية واضحة في مجال الانتقال الطاقي.
انعكاسات مالية واجتماعية متوازنة
رغم الطابع المالي لقرار التخفيض في دعم المحروقات، إلا أن انعكاساته تتجاوز المجال الاقتصادي لتشمل البُعد الاجتماعي والسياسي أيضًا. فالحكومة مطالبة بالموازنة بين حاجتها إلى تخفيف العبء على ميزانية الدولة من جهة، والمحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، من المرجح أن تواصل الدولة سياسة الدعم الموجه تدريجيًا عبر آليات رقمية تضمن وصول المساعدات إلى مستحقيها، بدل دعم شامل يستهلكه الجميع دون تمييز. ويُعدّ هذا التحول خطوة نحو عدالة اجتماعية ومالية أكثر دقة، خاصة إذا ما رافقته برامج لتحسين الأجور وتطوير منظومة النقل العمومي والطاقة النظيفة.
آفاق قطاع الطاقة في تونس
ويرى خبراء الاقتصاد اليوم أن التوجه نحو ترشيد دعم المحروقات لا يجب أن يُقرأ فقط من زاوية التقشف، بل باعتباره إصلاحا هيكليا ضروريا لإعادة توازن المنظومة المالية وتحسين حوكمة الموارد الوطنية. فالاقتصاد التونسي لم يعد يحتمل استمرار نزيف الدعم في ظل محدودية الموارد وارتفاع حاجيات الاستثمار في قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية.
وفي المقابل، فإن النجاح في توفير 726 مليون دينار من نفقات الدعم سيفتح المجال أمام تمويل مشاريع تنموية مستدامة تُحدث حركية في الاقتصاد وتُعزز النمو. كما أن تحقيق فائض طاقي في المستقبل القريب سيُتيح لتونس فرصة التحول من بلد مستورد للطاقة إلى بلد منتج ومصدر جزئيا، خاصة إذا تمّ تسريع نسق الاستثمار في الطاقات البديلة.
وإجمالا، يعد قرار تونس التخفيض في دعم المحروقات والكهرباء في ميزانية 2026 خيارا استراتيجيا أكثر منه مجرد إجراء مالي ظرفي. فترشيد الإنفاق الطاقي، في ظل انخفاض الأسعار العالمية، يشكّل فرصة تاريخية لإعادة توجيه الموارد نحو القطاعات المنتجة والعدالة الاجتماعية، بما يُعيد الثقة في المالية العمومية ويُعزز تنافسية الاقتصاد الوطني.
سفيان المهداوي
تستعدّ تونس، وفق مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026، لاعتماد مقاربة جديدة في إدارة ملف الدعم الطاقي، من خلال التخفيض التدريجي في نفقات دعم المحروقات والكهرباء بنحو 726 مليون دينار مقارنة بسنة 2025. ويُتوقّع أن تبلغ قيمة الدعم المخصصة لهذين القطاعين حوالي 4993 مليون دينار بعد أن كانت في حدود 5719 مليون دينار، في خطوة تعكس إرادة الحكومة في ترشيد الإنفاق العمومي وإعادة توجيه الموارد نحو القطاعات الحيوية المنتجة.
ويأتي هذا التوجّه في ظرف اقتصادي عالمي أكثر استقرارا، خصوصا بعد الانخفاض الملحوظ في أسعار النفط خلال سنة 2025، والذي مكّن المالية العمومية التونسية من تحقيق فائض يُقدّر بـ1.4 مليار دينار، حسب الإحصائيات الرسمية. هذا المكسب الاستثنائي فتح الباب أمام الحكومة لتبنّي سياسة أكثر عقلانية في إدارة مواردها الطاقية، مستفيدة من الظرف الدولي المواتي ومن تحسّن نسب النمو في منطقة الأورو، الشريك التجاري الأبرز لتونس.
الطاقة بين ضغط الاستهلاك ومحدودية الموارد
تُظهر البيانات الرسمية أنّ النفقات المخصصة لدعم المحروقات والكهرباء ستتوزّع سنة 2026 بين الشركة التونسية للكهرباء والغاز (STEG) التي ستتحصّل على 3138 مليون دينار، والشركة التونسية لصناعات التكرير (STIR) التي ستستفيد من حوالي 1855 مليون دينار. وتعتمد هذه التقديرات على جملة من الفرضيات التقنية والاقتصادية أهمّها اعتماد سعر برميل نفط من نوع «برنت» في حدود 63.3 دولارًا، مع استقرار سعر صرف الدولار وارتفاع معدلات الاستهلاك الوطني من المواد النفطية بنسبة 6 بالمائة والكهرباء بـ3 بالمائة.
وتشير هذه الأرقام إلى أنّ تونس ما زالت تواجه تحدّيات في مجال ترشيد الاستهلاك الطاقي رغم المساعي الحكومية لضبط مسالك التوزيع ومراقبة الدعم الموجه لقوارير الغاز المنزلي، التي تظلّ الأعلى دعما بنسبة تصل إلى 71 بالمائة. ويستفيد من هذا الدعم جميع الشرائح الاجتماعية، خاصةً ذوي الدخل المحدود والمتوسط، ما يجعل أيّ تعديل في سياسات الدعم رهينا بمقاربة اجتماعية دقيقة تراعي الفئات الهشة، وتحافظ على التوازن الاجتماعي.
انعكاسات انخفاض أسعار النفط
شهدت سنة 2025 انخفاضا مهما في أسعار النفط العالمية، بعد قرار منظمة «أوبك+» في أكتوبر من السنة نفسها بالترفيع في سقف الإنتاج، ما أدى إلى تراجع السعر إلى ما دون 55 دولارًا للبرميل. هذا الانخفاض مكّن تونس من تحقيق مكاسب مالية تقدّر بـ1.4 مليار دينار، وهو ما وفّر للدولة متنفسًا لتمويل جزء من التزاماتها دون اللجوء إلى الاقتراض الخارجي المكلف.
لكن هذا الظرف الإيجابي لا يُخفي هشاشة المنظومة الطاقية الوطنية التي ما تزال تعتمد بنسبة عالية على التوريد لتغطية حاجياتها. ويؤكد خبراء الطاقة لـ«الصباح» أنّ تونس مطالبة اليوم باستثمار هذا الظرف الدولي المواتي لإعادة هيكلة قطاع الطاقة، من خلال تطوير الإنتاج المحلي، وتشجيع الطاقات المتجددة، وتحسين أداء الشركات العمومية التي تعاني من عبء الديون والتكاليف المرتفعة.
إصلاح الشركات العمومية.. خطوة حاسمة لترشيد الدعم
أدرجت وزارة المالية في مشروع الميزانية الجديدة خطة لتسوية جزء من المتخلّدات المالية للشركتين العموميتين العاملتين في مجال الطاقة، إذ سيتمّ تخصيص 320 مليون دينار لتسوية ديون الشركة التونسية لصناعات التكرير عن السنوات 2018 و2022 و2024، إلى جانب 350 مليون دينار لتسوية متخلّدات الشركة التونسية للكهرباء والغاز عن الفترة الممتدة من 2016 إلى 2023.
هذه الخطوة تهدف إلى تحسين توازنات المؤسستين وتخفيف الضغوط المالية التي طالما أثرت على أدائهما وقدرتهما على الاستثمار والتطوير. فالتحكم في الكلفة وتحسين المردودية التشغيلية يُعدّان شرطين أساسيين لإنجاح أيّ سياسة ترشيد دعم، خصوصًا أنّ نسبة الدعم من الكلفة الإجمالية لجميع المحروقات لا تزال مرتفعة، وتبلغ 27 بالمائة في المعدل العام.
من دعم الاستهلاك إلى دعم الإنتاج
يُجمع الخبراء اليوم على أنّ المرحلة القادمة تقتضي انتقالا تدريجيًا من سياسة دعم الاستهلاك إلى سياسة دعم الإنتاج، أي توجيه الموارد التي تُنفق اليوم على دعم الأسعار نحو مشاريع استثمارية تُعزز استقلالية البلاد الطاقية. فالتوجه نحو الطاقات المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، يمكن أن يساهم في تقليص كلفة التوريد ويوفر فرص عمل جديدة، مع تحسين ميزان المدفوعات الخارجية.
وتتجه تونس بالفعل نحو هذا المسار، إذ بدأت العديد من المشاريع النموذجية في ولايات الجنوب والوسط ترى النور، لكنّها لا تزال دون المستوى المطلوب لتغطية الطلب المحلي أو لتصدير الفائض نحو أوروبا. ومن المنتظر أن يتم استثمار مرابيح الدعم في الميزانية على مشاريع حيوية للدولة، شريطة وجود رؤية وطنية واضحة في مجال الانتقال الطاقي.
انعكاسات مالية واجتماعية متوازنة
رغم الطابع المالي لقرار التخفيض في دعم المحروقات، إلا أن انعكاساته تتجاوز المجال الاقتصادي لتشمل البُعد الاجتماعي والسياسي أيضًا. فالحكومة مطالبة بالموازنة بين حاجتها إلى تخفيف العبء على ميزانية الدولة من جهة، والمحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، من المرجح أن تواصل الدولة سياسة الدعم الموجه تدريجيًا عبر آليات رقمية تضمن وصول المساعدات إلى مستحقيها، بدل دعم شامل يستهلكه الجميع دون تمييز. ويُعدّ هذا التحول خطوة نحو عدالة اجتماعية ومالية أكثر دقة، خاصة إذا ما رافقته برامج لتحسين الأجور وتطوير منظومة النقل العمومي والطاقة النظيفة.
آفاق قطاع الطاقة في تونس
ويرى خبراء الاقتصاد اليوم أن التوجه نحو ترشيد دعم المحروقات لا يجب أن يُقرأ فقط من زاوية التقشف، بل باعتباره إصلاحا هيكليا ضروريا لإعادة توازن المنظومة المالية وتحسين حوكمة الموارد الوطنية. فالاقتصاد التونسي لم يعد يحتمل استمرار نزيف الدعم في ظل محدودية الموارد وارتفاع حاجيات الاستثمار في قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية.
وفي المقابل، فإن النجاح في توفير 726 مليون دينار من نفقات الدعم سيفتح المجال أمام تمويل مشاريع تنموية مستدامة تُحدث حركية في الاقتصاد وتُعزز النمو. كما أن تحقيق فائض طاقي في المستقبل القريب سيُتيح لتونس فرصة التحول من بلد مستورد للطاقة إلى بلد منتج ومصدر جزئيا، خاصة إذا تمّ تسريع نسق الاستثمار في الطاقات البديلة.
وإجمالا، يعد قرار تونس التخفيض في دعم المحروقات والكهرباء في ميزانية 2026 خيارا استراتيجيا أكثر منه مجرد إجراء مالي ظرفي. فترشيد الإنفاق الطاقي، في ظل انخفاض الأسعار العالمية، يشكّل فرصة تاريخية لإعادة توجيه الموارد نحو القطاعات المنتجة والعدالة الاجتماعية، بما يُعيد الثقة في المالية العمومية ويُعزز تنافسية الاقتصاد الوطني.