إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الروائي عمر الجملي لـ«الصباح»: تتويجي بجائزة «كتارا» سيجعلني أنفض الغبار عن المشاريع الروائية التي كنت قد بدأتها

 

  • نبهت وأشرت في روايتي «ديان بيان فو... تاريخ من أهملهم التاريخ» إلى الذين أسقطتهم فرنسا من تاريخها العسكري
  • الرواية التاريخية ليست نسخًا للواقع بقدر ما هي إعادة بناء له عبر اللجوء إلى اللغة والخيال
  • قارئ الرواية التاريخيّة اليوم لم يعد يهتمّ بما حدث فقط، إنّه يسعى إلى معرفة لماذا حدث؟ وماذا كانت مشاعر فاعليه؟

تتويج عربي جديد أطلّ على تونس منذ أيام من الخليج العربي، وتحديدًا من دولة قطر، بحصول الروائي الدكتور عمر الجملي على جائزة «كتارا» للرواية العربية غير المنشورة. وقد مثّلت له الجائزة حافزًا لنفض الغبار في قادم الأيام عن المشاريع الروائية التي كان قد بدأها ، كما أشار إلى ذلك في هذا الحوار الذي أجريناه معه. والدكتور عمر الجملي أصيل مدينة توزر، متخصص في علوم التربية بصفته متفقدًا عامًا للمدارس الابتدائيّة، وله في ذلك عديد الإصدارات قبل أن يركب زورق المغامرة السردية، فكانت رواية «ديان بيان فو... تاريخ من أهملهم التاريخ» التي كشف تفاصيلها في هذا اللقاء.

*كيف كانت بداية العلاقة بالكتابة؟

- أعتقد أن تجربتي لا تختلف عن الكثير من التجارب الأخرى، وخاصة ما تعلق منها بالتجارب الشبابية. كانت البداية بالشعر، كتبت الشعر وأنا تلميذ في المعهد الثانوي، ونشرت أولى مجاميعي الشعرية سنة 1996 تحت عنوان (خامس الأبعاد). وقد فازت هذه المجموعة بجائزة الطاهر الحداد للإبداع الأدبي. ثم لم أصبر كثيرًا على المعاناة التي تسببها كتابة الشعر. ومن ناحية أخرى بدا لي الميدان الشعري في تونس شديد الازدحام، ويختلط فيه الحابل بالنابل، ففضّلت العمل على السرد.

  نشرت سنة 2006 مجموعة قصصية بعنوان (حكايات جريدية) ، وقع ترجمتها إلى الفرنسيّة، ثم رواية سنة 2008 بعنوان (العمليّة شاق واق).

وبحكم تخصصي في مجال التربية، باعتباري متفقدًا عامًا للمدارس الابتدائيّة، نشرت مجموعة من الكتب العلميّة تخصّ المجال التربوي. وفي سنة 2016 بدأت رحلتي مع دراسة الدكتوراه، وتفرّغت من أجل ذلك لمدّة خمس سنوات، أعددت فيها أطروحة حول تنمية مهارات التفكير الإبداعي لدى الأطفال. وبعدها عدت إلى الكتابة، وكان ذلك من خلال رواية (ديان بيان فو) التي استغرقت كتابتها سبع سنوات أخرى.

* توجت منذ أيام بجائزة «كتارا» للرواية العربية غير المنشورة، ماذا يمثل لك هذا الفوز؟

- بالإضافة إلى أنه تتويج شخصي، فإنني أعتبره تتويجًا للأدب في تونس. فقد تمّت البرهنة على أن الإبداع التونسي قادر على المنافسة في مختلف المحافل والمسابقات الأدبية العربية، ومنها جائزة كتارا للرواية العربية التي تُعدّ حاليًا من أهم المسابقات العربية في هذا المجال، ومن أكثرها قيمة. وهو ما يجعل المنافسة فيها شديدة، فالوصول إلى القائمة الطويلة في هذه الجائزة يُعتبر في حد ذاته إنجازًا للمشاركين فيها، فما بالك بالتواجد في القائمة القصيرة، ثم التتويج النهائي في فئة الرواية التاريخية غير المنشورة. وهي فئة تُمنح فيها جائزة وحيدة، في حين تُمنح ثلاث جوائز في كل فئة من بقيّة الفئات.

  وسأعتبر فوزي جوازًا لتأكيد توجّهي نحو كتابة الرواية التاريخية، وهو ما سيجعلني أنفض الغبار عن المشاريع الروائية التي كنت قد بدأتها، ولم أجد ما يكفي من الوقت للعودة إليها.

*أي تأثير للجائزة في إثراء تجربة الكاتب وحضوره في المشهد الأدبي العربي بدرجة أولى؟

- لم يتمّ إنشاء فئة الرواية التاريخية غير المنشورة ضمن جوائز كتارا إلّا انطلاقًا من الدورة السابقة. إلّا أن فوزي بها يجعلني ضمن كتّاب كبار قد تمّ تتويجهم سابقًا ضمن فئة الرواية العربية المنشورة أو غير المنشورة، مثل الأزهر الزنّاد، وأمير تاج السرّ، وواسيني الأعرج، وجلال برجس، وميسلون هادي، وإبراهيم نصر الله، ويحيى يخلف، وإلياس خوري، وعبد الوهاب عيساوي، ومحمد برادة، والحبيب السائح. والقائمة ما زالت طويلة.

  ولا أشك في أن الرسالة التي ضمّنتها في رواية ديان بيان فو ستصل إلى كل المهتمين بالرواية في الوطن العربي، وذلك حين يتم نشرها. وهو ما ستعمل دار النشر الملحقة بالحي الثقافي كتارا بالدوحة على إنجازه على امتداد السنة الجارية، فقد نبهت وأشرت في هذه الرواية إلى الذين أسقطتهم فرنسا من تاريخها العسكري.

* بدت الرواية العربية ذات النفس التاريخي اليوم وكأنها لفتت انتباه لجان تحكيم المسابقات الروائية، هل في ذلك مجرد موضة سرعان ما ستنتهي، أم أن الأمر له علاقة بتحولات يشهدها النص الروائي العربي؟

-  الرواية التاريخية جنس سردي ينتمي إلى الرواية بصفه عامة، وفيه يعود الروائي إلى استلهام الأحداث التاريخية. ولأن التاريخ العربي المعاصر كتبه الآخرون، فإنّنا نشهد في الوقت الراهن اتّجاهًا نحو كتابة الرواية التاريخيّة. ويمثّل هذا الاتجاه في نظري موقفًا للكاتب من التاريخ في حد ذاته، وقد يكون في نفس الوقت بحثًا عن آفاق جديدة للرواية العربية بعد تجربة رواية ما بعد الحداثة.

  فالعودة إلى التاريخ تمنح الكاتب أداة لإعادة تفكيك الماضي من أجل محاولة فهم الحاضر. فالرواية التاريخية الحديثة لم تعد تُكتب بتلك الطريقة التقليدية القائمة على رواية الأحداث كما وقعت، بل صارت تعتمد على كتابة ما ورائيّة تهدف إلى مساءلة التاريخ وإعادة تشكيله.

  وبهذا المعنى فإن الرواية التاريخية قادرة على المزج بين الوثيقة والتخييل، وبين الصوت الفردي والجماعي، وكذلك بين الماضي والمستقبل. ولجان تحكيم مختلف المسابقات التي تهتمّ بالرواية العربية تميل إلى نصوص روائية تجمع بين متعة السرد والعمق الفكري. وحين تُكتب الرواية التاريخيّة بلغة معاصرة وفكر نقدي، فإنها في اعتقادي تحقق هذين الشرطين في ذات الوقت.

  وبالتالي فحضورها ضمن العديد من المسابقات لا يرتبط بكونها «موضة»، وإنّما هو نابع من استجابتها لمعايير فنيّة ونقديّة تمكنّت من ملامسة النضج المنشود، في مقابل أزمة أدبية عربيّة. فالمسألة في نظري لا تتعلّق بموضة زائلة، حتّى وإن أغرت البعض بمجاراتها، ولكنها في جوهرها تعبّر عن تحوّل في الوعي السردي العربي، لم يعد التاريخ فيه موضوعًا للتمجيد أو الرثاء، بل أصبح يشكّل فرصًا للسؤال والشك، وحتّى لإعادة الكتابة.

*  لماذا «ديان بيان فو... تاريخ من أهملهم التاريخ»؟

- ديان بيان فو هو اسم لموقع جغرافي في الفيتنام، ارتبطت به أشرس معركة وأطولها في التاريخ العسكري المعاصر. وقد دارت المعركة سنة 1954 بين الجيش الفرنسي المتكوّن أساسًا من جنود ينتمون إلى المستعمرات الفرنسيّة، وبين جيش رابطة تحرير فيتنام، وانتهت بهزيمة مذلّة للجيش الفرنسي الذي كان يُصنّف ضمن أقوى الجيوش في ذلك الزمن.

  لقد ألهم النصر الذي أحرزه الجنرال جياب  بقيّة الشعوب التي ترزح تحت الاحتلال الفرنسي فكرة التحرّر والنضال من أجل الاستقلال. والرواية تتحدث عن الجنود المغاربيين الذين زجّت بهم فرنسا في أتون حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ولم يذكر تاريخها العسكري الفرنسي أن أغلب أولئك الجنود فرّوا من الجيش الفرنسي، وانضمّوا إلى صفوف الفيتناميين حين أدركوا أن قضيّتهم واحدة، وساهموا في هزيمة فرنسا وخروجها المذل من الفيتنام.

  وكان أولئك الجنود على هامش تاريخ تلك الحرب، فأردت من خلال الرواية إلقاء الضوء على ما عاشوه، فاخترت لها عنوانًا فرعيًا هو تاريخ من أهملهم التاريخ. هو في نظري تاريخ المنسيين الذين تعمّدت فرنسا تهميشهم.

* أي حضور للجانب التخيّيلي في الرواية؟

- تتميّز الرواية التاريخية عن النص التاريخي والبحث التاريخي في نظري بوجود الجانب التخيّيلي الذي يسعى الكاتب من خلاله إلى إضفاء الهويّة الجمالية على روايته. فكل الروايات تقوم أساسًا على فعل التخيّل، ذلك أنّ الرواية التاريخية خاصّة ليست نسخًا للواقع بقدر ما هي إعادة بناء له عبر اللجوء إلى اللغة والخيال.

  والكاتب الذي يوظّف الأحداث التاريخية والشخصيات والأماكن توظيفًا يستند إلى الخيال، يضفي على روايته حياة خاصّة لا نجدها في كتب التاريخ، فالتاريخ في الرواية لا يشكّل هدفًا في حد ذاته بقدر ما هو أداة لخلق الخيال.

* إلى أي حد يمكن الوثوق بالرواية التاريخية كمرجع أساسي للمعلومة والحقيقة التاريخية؟

- لا يمكن الاعتماد على الروايات التاريخية كمصدر دقيق للحقيقة التاريخية، ومع ذلك يمكن اعتبارها مرجعًا لفهم الوعي التاريخي، كتمثيل للماضي وتحليله. إنّها تعبّر بهذا المعنى عن وجهة نظر الروائي من الأحداث ومن الشخصيات. ومع ذلك فالروائي غير معني بالموضوعية والصرامة والحياد التي يجب على المؤرّخ أن يتحلّى بها.

  فالمؤرخ يسعى إلى توثيق الوقائع اعتمادًا على مصادر وأدلة ووثائق، بينما يسعى الروائي إلى خلق عالم فني يعبّر عن رؤيته ومعناه الشخصي للتاريخ، لا عن الحقيقة في ذاتها. وفي المرّات التي يلجأ فيها الروائي إلى توظيف الوثائق التاريخية والأحداث الواقعيّة، فإنّه يعمد إلى العمل عليها بإعادة ترتيبها وانتقائها وتأويلها من أجل أن تتوافق مع البنية الدرامية للرواية، خدمة للأطروحة التي يريد أن يقنع المتلقي بها.

* كيف تتحول الشخصية التاريخية إلى شخصية روائية يطوّعها الروائي لخياله الإبداعي مع الالتزام بخطوط التاريخ العامة؟

- يُعتقد أن من أكثر التحديات الإبداعيّة تعقيدًا في الكتابة السردية التي تواجه الروائي الذي يكتب الرواية التاريخيّة، تتمثّل في تحويل الشخصية التاريخية إلى شخصيّة روائية. فالتاريخي يقوم على الوقائع الموثّقة، بينما يعتمد السردي على التخيّل والإيحاء، ويهدف أساسًا إلى الفهم والتأويل وتحقيق الوساطة الفنيّة.

  ذلك أن الروائي ليس مؤرّخًا، بل هو ينزع عبر السرد إلى تأويل الأحداث التاريخية انطلاقًا من قناعة ذاتيّة. فحين لا يذكر المؤرخ شيئًا عن مشاعر الشخصيّة التاريخية ودوافعها الداخليّة، يأتي دور الروائي لإضفاء السمة الإنسانية على تلك الشخصيّة.

  وعادة ما يلجأ الروائي إلى ما يمكن أن نطلق عليه **الصدق الفنّي الجمالي** في مواجهة **الصدق الوثائقي**، حيث يسمح لنفسه بالابتعاد عن التفاصيل الصغيرة أو تخيّل أحداث وشخصيات غير موثّقة، طالما أن ذلك لا يؤثر في الحقائق الجوهرية.

  ففي روايتي جعلت أبطالها يلتقون بشخصيات تاريخية ويتعاملون معها، بل ويشاركونها الأحداث التي قام عليها السرد، فقد كانت لأبطال روايتي علاقات بصالح بن يوسف، والجنرال جياب، والزعيم هو شبه منه.

* ما مدى حاجة الشخصيات والأحداث التاريخية اليوم إلى إعادة كتابة من منظور روائي؟

- ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن المجال السردي في الرواية التاريخية يسعى في نظري إلى إلقاء الضوء على من أهملهم التاريخ كما تمّت كتابته من منطلقات أيديولوجيّة وعرقيّة همّشت الفاعلين الحقيقيين.

  وهو ما أتته فرنسا حين أسقطت من حساباتها التاريخية ما قام به الفوج الرابع للرماة التونسيين الذي حرّر فرنسا من الاحتلال الألماني. ولم تكتف بنكران ذلك، وإنّما عملت على إظهار دور الفرنسيين من أبنائها في ذلك النصر.

  إنّ قارئ الرواية التاريخيّة لم يعد يهتمّ بما حدث فقط، إنّه يسعى الآن إلى معرفة لماذا حدث؟ وماذا كانت مشاعر الفاعلين تجاه ذلك الحدث؟ وهو ما يتطلب من الروائي تقديم تفسير للأحداث يقوم على تفسير التاريخ من الداخل، انطلاقًا من المشاعر والوجدان والتجارب الإنسانيّة، بعيدًا عن الوثائق والنفائس والرموز الجامدة.

*يعاني المشهد البصري التونسي والعربي، على حدّ سواء، من ندرة الإنتاجات الدرامية التاريخية. أيّ سرّ وراء ذلك من وجهة نظرك؟

يعود سبب ذلك في اعتقادي إلى الضغط الذي تخضع له مؤسسات الإنتاج الدرامي، ويتمثّل ذلك في فرض رؤية أحاديّة لتقديم الأحداث التاريخيّة وتأويلها، وهو ما يجبر المنتجين على تجنّب التعاطي مع الدراما التاريخيّة، والسعي إلى الاستثمار في دراما الشأن اليومي بدعوى أنّ الجمهور المستهدف بتلك الأعمال راغب في ذلك.

* إلى أي مدى يمكن القول إن فوز روايتك بجائزة كتارا للرواية التاريخية غير المنشورة، مؤخرًا، أصبح حافزًا للمواصلة في كتابة الرواية التاريخية؟

- إنّ الوصول إلى القائمة الطويلة ثم القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية يُعدّ في حدّ ذاته إنجازًا هامًا، كما أن التنافس مع كتّاب عرب مرموقين منحني ثقة تقتضي بالضرورة مواصلة هذه المغامرة التي سأواصل من خلالها مساءلة التاريخ وتأويل أحداثه وتفسيرها وفق خطّ درامي خاص بي.

أجرى الحوار: محسن بن أحمد

الروائي عمر الجملي لـ«الصباح»:   تتويجي بجائزة «كتارا» سيجعلني أنفض الغبار عن المشاريع الروائية التي كنت قد بدأتها

 

  • نبهت وأشرت في روايتي «ديان بيان فو... تاريخ من أهملهم التاريخ» إلى الذين أسقطتهم فرنسا من تاريخها العسكري
  • الرواية التاريخية ليست نسخًا للواقع بقدر ما هي إعادة بناء له عبر اللجوء إلى اللغة والخيال
  • قارئ الرواية التاريخيّة اليوم لم يعد يهتمّ بما حدث فقط، إنّه يسعى إلى معرفة لماذا حدث؟ وماذا كانت مشاعر فاعليه؟

تتويج عربي جديد أطلّ على تونس منذ أيام من الخليج العربي، وتحديدًا من دولة قطر، بحصول الروائي الدكتور عمر الجملي على جائزة «كتارا» للرواية العربية غير المنشورة. وقد مثّلت له الجائزة حافزًا لنفض الغبار في قادم الأيام عن المشاريع الروائية التي كان قد بدأها ، كما أشار إلى ذلك في هذا الحوار الذي أجريناه معه. والدكتور عمر الجملي أصيل مدينة توزر، متخصص في علوم التربية بصفته متفقدًا عامًا للمدارس الابتدائيّة، وله في ذلك عديد الإصدارات قبل أن يركب زورق المغامرة السردية، فكانت رواية «ديان بيان فو... تاريخ من أهملهم التاريخ» التي كشف تفاصيلها في هذا اللقاء.

*كيف كانت بداية العلاقة بالكتابة؟

- أعتقد أن تجربتي لا تختلف عن الكثير من التجارب الأخرى، وخاصة ما تعلق منها بالتجارب الشبابية. كانت البداية بالشعر، كتبت الشعر وأنا تلميذ في المعهد الثانوي، ونشرت أولى مجاميعي الشعرية سنة 1996 تحت عنوان (خامس الأبعاد). وقد فازت هذه المجموعة بجائزة الطاهر الحداد للإبداع الأدبي. ثم لم أصبر كثيرًا على المعاناة التي تسببها كتابة الشعر. ومن ناحية أخرى بدا لي الميدان الشعري في تونس شديد الازدحام، ويختلط فيه الحابل بالنابل، ففضّلت العمل على السرد.

  نشرت سنة 2006 مجموعة قصصية بعنوان (حكايات جريدية) ، وقع ترجمتها إلى الفرنسيّة، ثم رواية سنة 2008 بعنوان (العمليّة شاق واق).

وبحكم تخصصي في مجال التربية، باعتباري متفقدًا عامًا للمدارس الابتدائيّة، نشرت مجموعة من الكتب العلميّة تخصّ المجال التربوي. وفي سنة 2016 بدأت رحلتي مع دراسة الدكتوراه، وتفرّغت من أجل ذلك لمدّة خمس سنوات، أعددت فيها أطروحة حول تنمية مهارات التفكير الإبداعي لدى الأطفال. وبعدها عدت إلى الكتابة، وكان ذلك من خلال رواية (ديان بيان فو) التي استغرقت كتابتها سبع سنوات أخرى.

* توجت منذ أيام بجائزة «كتارا» للرواية العربية غير المنشورة، ماذا يمثل لك هذا الفوز؟

- بالإضافة إلى أنه تتويج شخصي، فإنني أعتبره تتويجًا للأدب في تونس. فقد تمّت البرهنة على أن الإبداع التونسي قادر على المنافسة في مختلف المحافل والمسابقات الأدبية العربية، ومنها جائزة كتارا للرواية العربية التي تُعدّ حاليًا من أهم المسابقات العربية في هذا المجال، ومن أكثرها قيمة. وهو ما يجعل المنافسة فيها شديدة، فالوصول إلى القائمة الطويلة في هذه الجائزة يُعتبر في حد ذاته إنجازًا للمشاركين فيها، فما بالك بالتواجد في القائمة القصيرة، ثم التتويج النهائي في فئة الرواية التاريخية غير المنشورة. وهي فئة تُمنح فيها جائزة وحيدة، في حين تُمنح ثلاث جوائز في كل فئة من بقيّة الفئات.

  وسأعتبر فوزي جوازًا لتأكيد توجّهي نحو كتابة الرواية التاريخية، وهو ما سيجعلني أنفض الغبار عن المشاريع الروائية التي كنت قد بدأتها، ولم أجد ما يكفي من الوقت للعودة إليها.

*أي تأثير للجائزة في إثراء تجربة الكاتب وحضوره في المشهد الأدبي العربي بدرجة أولى؟

- لم يتمّ إنشاء فئة الرواية التاريخية غير المنشورة ضمن جوائز كتارا إلّا انطلاقًا من الدورة السابقة. إلّا أن فوزي بها يجعلني ضمن كتّاب كبار قد تمّ تتويجهم سابقًا ضمن فئة الرواية العربية المنشورة أو غير المنشورة، مثل الأزهر الزنّاد، وأمير تاج السرّ، وواسيني الأعرج، وجلال برجس، وميسلون هادي، وإبراهيم نصر الله، ويحيى يخلف، وإلياس خوري، وعبد الوهاب عيساوي، ومحمد برادة، والحبيب السائح. والقائمة ما زالت طويلة.

  ولا أشك في أن الرسالة التي ضمّنتها في رواية ديان بيان فو ستصل إلى كل المهتمين بالرواية في الوطن العربي، وذلك حين يتم نشرها. وهو ما ستعمل دار النشر الملحقة بالحي الثقافي كتارا بالدوحة على إنجازه على امتداد السنة الجارية، فقد نبهت وأشرت في هذه الرواية إلى الذين أسقطتهم فرنسا من تاريخها العسكري.

* بدت الرواية العربية ذات النفس التاريخي اليوم وكأنها لفتت انتباه لجان تحكيم المسابقات الروائية، هل في ذلك مجرد موضة سرعان ما ستنتهي، أم أن الأمر له علاقة بتحولات يشهدها النص الروائي العربي؟

-  الرواية التاريخية جنس سردي ينتمي إلى الرواية بصفه عامة، وفيه يعود الروائي إلى استلهام الأحداث التاريخية. ولأن التاريخ العربي المعاصر كتبه الآخرون، فإنّنا نشهد في الوقت الراهن اتّجاهًا نحو كتابة الرواية التاريخيّة. ويمثّل هذا الاتجاه في نظري موقفًا للكاتب من التاريخ في حد ذاته، وقد يكون في نفس الوقت بحثًا عن آفاق جديدة للرواية العربية بعد تجربة رواية ما بعد الحداثة.

  فالعودة إلى التاريخ تمنح الكاتب أداة لإعادة تفكيك الماضي من أجل محاولة فهم الحاضر. فالرواية التاريخية الحديثة لم تعد تُكتب بتلك الطريقة التقليدية القائمة على رواية الأحداث كما وقعت، بل صارت تعتمد على كتابة ما ورائيّة تهدف إلى مساءلة التاريخ وإعادة تشكيله.

  وبهذا المعنى فإن الرواية التاريخية قادرة على المزج بين الوثيقة والتخييل، وبين الصوت الفردي والجماعي، وكذلك بين الماضي والمستقبل. ولجان تحكيم مختلف المسابقات التي تهتمّ بالرواية العربية تميل إلى نصوص روائية تجمع بين متعة السرد والعمق الفكري. وحين تُكتب الرواية التاريخيّة بلغة معاصرة وفكر نقدي، فإنها في اعتقادي تحقق هذين الشرطين في ذات الوقت.

  وبالتالي فحضورها ضمن العديد من المسابقات لا يرتبط بكونها «موضة»، وإنّما هو نابع من استجابتها لمعايير فنيّة ونقديّة تمكنّت من ملامسة النضج المنشود، في مقابل أزمة أدبية عربيّة. فالمسألة في نظري لا تتعلّق بموضة زائلة، حتّى وإن أغرت البعض بمجاراتها، ولكنها في جوهرها تعبّر عن تحوّل في الوعي السردي العربي، لم يعد التاريخ فيه موضوعًا للتمجيد أو الرثاء، بل أصبح يشكّل فرصًا للسؤال والشك، وحتّى لإعادة الكتابة.

*  لماذا «ديان بيان فو... تاريخ من أهملهم التاريخ»؟

- ديان بيان فو هو اسم لموقع جغرافي في الفيتنام، ارتبطت به أشرس معركة وأطولها في التاريخ العسكري المعاصر. وقد دارت المعركة سنة 1954 بين الجيش الفرنسي المتكوّن أساسًا من جنود ينتمون إلى المستعمرات الفرنسيّة، وبين جيش رابطة تحرير فيتنام، وانتهت بهزيمة مذلّة للجيش الفرنسي الذي كان يُصنّف ضمن أقوى الجيوش في ذلك الزمن.

  لقد ألهم النصر الذي أحرزه الجنرال جياب  بقيّة الشعوب التي ترزح تحت الاحتلال الفرنسي فكرة التحرّر والنضال من أجل الاستقلال. والرواية تتحدث عن الجنود المغاربيين الذين زجّت بهم فرنسا في أتون حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ولم يذكر تاريخها العسكري الفرنسي أن أغلب أولئك الجنود فرّوا من الجيش الفرنسي، وانضمّوا إلى صفوف الفيتناميين حين أدركوا أن قضيّتهم واحدة، وساهموا في هزيمة فرنسا وخروجها المذل من الفيتنام.

  وكان أولئك الجنود على هامش تاريخ تلك الحرب، فأردت من خلال الرواية إلقاء الضوء على ما عاشوه، فاخترت لها عنوانًا فرعيًا هو تاريخ من أهملهم التاريخ. هو في نظري تاريخ المنسيين الذين تعمّدت فرنسا تهميشهم.

* أي حضور للجانب التخيّيلي في الرواية؟

- تتميّز الرواية التاريخية عن النص التاريخي والبحث التاريخي في نظري بوجود الجانب التخيّيلي الذي يسعى الكاتب من خلاله إلى إضفاء الهويّة الجمالية على روايته. فكل الروايات تقوم أساسًا على فعل التخيّل، ذلك أنّ الرواية التاريخية خاصّة ليست نسخًا للواقع بقدر ما هي إعادة بناء له عبر اللجوء إلى اللغة والخيال.

  والكاتب الذي يوظّف الأحداث التاريخية والشخصيات والأماكن توظيفًا يستند إلى الخيال، يضفي على روايته حياة خاصّة لا نجدها في كتب التاريخ، فالتاريخ في الرواية لا يشكّل هدفًا في حد ذاته بقدر ما هو أداة لخلق الخيال.

* إلى أي حد يمكن الوثوق بالرواية التاريخية كمرجع أساسي للمعلومة والحقيقة التاريخية؟

- لا يمكن الاعتماد على الروايات التاريخية كمصدر دقيق للحقيقة التاريخية، ومع ذلك يمكن اعتبارها مرجعًا لفهم الوعي التاريخي، كتمثيل للماضي وتحليله. إنّها تعبّر بهذا المعنى عن وجهة نظر الروائي من الأحداث ومن الشخصيات. ومع ذلك فالروائي غير معني بالموضوعية والصرامة والحياد التي يجب على المؤرّخ أن يتحلّى بها.

  فالمؤرخ يسعى إلى توثيق الوقائع اعتمادًا على مصادر وأدلة ووثائق، بينما يسعى الروائي إلى خلق عالم فني يعبّر عن رؤيته ومعناه الشخصي للتاريخ، لا عن الحقيقة في ذاتها. وفي المرّات التي يلجأ فيها الروائي إلى توظيف الوثائق التاريخية والأحداث الواقعيّة، فإنّه يعمد إلى العمل عليها بإعادة ترتيبها وانتقائها وتأويلها من أجل أن تتوافق مع البنية الدرامية للرواية، خدمة للأطروحة التي يريد أن يقنع المتلقي بها.

* كيف تتحول الشخصية التاريخية إلى شخصية روائية يطوّعها الروائي لخياله الإبداعي مع الالتزام بخطوط التاريخ العامة؟

- يُعتقد أن من أكثر التحديات الإبداعيّة تعقيدًا في الكتابة السردية التي تواجه الروائي الذي يكتب الرواية التاريخيّة، تتمثّل في تحويل الشخصية التاريخية إلى شخصيّة روائية. فالتاريخي يقوم على الوقائع الموثّقة، بينما يعتمد السردي على التخيّل والإيحاء، ويهدف أساسًا إلى الفهم والتأويل وتحقيق الوساطة الفنيّة.

  ذلك أن الروائي ليس مؤرّخًا، بل هو ينزع عبر السرد إلى تأويل الأحداث التاريخية انطلاقًا من قناعة ذاتيّة. فحين لا يذكر المؤرخ شيئًا عن مشاعر الشخصيّة التاريخية ودوافعها الداخليّة، يأتي دور الروائي لإضفاء السمة الإنسانية على تلك الشخصيّة.

  وعادة ما يلجأ الروائي إلى ما يمكن أن نطلق عليه **الصدق الفنّي الجمالي** في مواجهة **الصدق الوثائقي**، حيث يسمح لنفسه بالابتعاد عن التفاصيل الصغيرة أو تخيّل أحداث وشخصيات غير موثّقة، طالما أن ذلك لا يؤثر في الحقائق الجوهرية.

  ففي روايتي جعلت أبطالها يلتقون بشخصيات تاريخية ويتعاملون معها، بل ويشاركونها الأحداث التي قام عليها السرد، فقد كانت لأبطال روايتي علاقات بصالح بن يوسف، والجنرال جياب، والزعيم هو شبه منه.

* ما مدى حاجة الشخصيات والأحداث التاريخية اليوم إلى إعادة كتابة من منظور روائي؟

- ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن المجال السردي في الرواية التاريخية يسعى في نظري إلى إلقاء الضوء على من أهملهم التاريخ كما تمّت كتابته من منطلقات أيديولوجيّة وعرقيّة همّشت الفاعلين الحقيقيين.

  وهو ما أتته فرنسا حين أسقطت من حساباتها التاريخية ما قام به الفوج الرابع للرماة التونسيين الذي حرّر فرنسا من الاحتلال الألماني. ولم تكتف بنكران ذلك، وإنّما عملت على إظهار دور الفرنسيين من أبنائها في ذلك النصر.

  إنّ قارئ الرواية التاريخيّة لم يعد يهتمّ بما حدث فقط، إنّه يسعى الآن إلى معرفة لماذا حدث؟ وماذا كانت مشاعر الفاعلين تجاه ذلك الحدث؟ وهو ما يتطلب من الروائي تقديم تفسير للأحداث يقوم على تفسير التاريخ من الداخل، انطلاقًا من المشاعر والوجدان والتجارب الإنسانيّة، بعيدًا عن الوثائق والنفائس والرموز الجامدة.

*يعاني المشهد البصري التونسي والعربي، على حدّ سواء، من ندرة الإنتاجات الدرامية التاريخية. أيّ سرّ وراء ذلك من وجهة نظرك؟

يعود سبب ذلك في اعتقادي إلى الضغط الذي تخضع له مؤسسات الإنتاج الدرامي، ويتمثّل ذلك في فرض رؤية أحاديّة لتقديم الأحداث التاريخيّة وتأويلها، وهو ما يجبر المنتجين على تجنّب التعاطي مع الدراما التاريخيّة، والسعي إلى الاستثمار في دراما الشأن اليومي بدعوى أنّ الجمهور المستهدف بتلك الأعمال راغب في ذلك.

* إلى أي مدى يمكن القول إن فوز روايتك بجائزة كتارا للرواية التاريخية غير المنشورة، مؤخرًا، أصبح حافزًا للمواصلة في كتابة الرواية التاريخية؟

- إنّ الوصول إلى القائمة الطويلة ثم القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية يُعدّ في حدّ ذاته إنجازًا هامًا، كما أن التنافس مع كتّاب عرب مرموقين منحني ثقة تقتضي بالضرورة مواصلة هذه المغامرة التي سأواصل من خلالها مساءلة التاريخ وتأويل أحداثه وتفسيرها وفق خطّ درامي خاص بي.

أجرى الحوار: محسن بن أحمد