إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بداية من اليوم في القاعات.. فيلم «باراسول» لهيفل بن يوسف.. كوميديا طريفة تعكس نبض الواقع الاجتماعي

 

  • الكوميديا في الفيلم طريق لمقاربة أكثر المواضيع حساسية في المجتمع، مثل الطلاق وصراع الأجيال
  • المخرج يجعل البحر والضوء والشمس عناصر حية داخل السرد.
  • فيلم «باراسول» لا يتطرق للطلاق بقدر ما هو تأمل في معنى العائلة في زمن التحولات القيمية

ينطلق عرض الفيلم الكوميدي «باراسول» في قاعات السينما ابتداءً من اليوم الأربعاء 29 أكتوبر الجاري، وهو من إخراج هيفل بن يوسف. ويشارك في بطولة الفيلم عدد من أبرز نجوم الساحة الفنية التونسية على غرار وجيهة الجندوبي، محمد صابر الوسلاتي، نسيم بورقيبة، رحمة بن عيسى، الصادق حلواس، مريم بن مامي، جهاد الشارني، وهيثم فرحاني. ويُعد «باراسول» تجربة سينمائية جديدة تمزج بين الكوميديا والرومانسية، من خلال مواقف طريفة وقصص حب تعكس نبض الواقع الاجتماعي، وتستهدف الجمهور الشاب والعائلي على حدّ سواء.

وقد احتضنت احدى قاعات السينما بالعاصمة  العرض الأول لفيلم «باراسول» يوم الجمعة 24 أكتوبر الجاري، بحضور فريق العمل وعدد من الوجوه الفنية والجمهور.

طغت أجواء من الضحك على القاعة طيلة العرض، فعكست روح الفيلم ذاته الذي اختار الكوميديا طريقاً لمقاربة أكثر المواضيع حساسية في المجتمع التونسي، وهو الطلاق والروتين وصراع الأجيال. فيلم يبدو للوهلة الأولى «خفيفاً»، لكنه يخفي في طيّاته تفكيراً عميقاً في العائلة التونسية الحديثة، بين ما يتداعى من علاقات وما يُرمَّم بالضحك والمواقف العابرة.

يُقدَّم «باراسول» كفيلم كوميدي رومانسي، لكنه في الحقيقة يلامس منطقة وسطى بين الفانتازيا الاجتماعية والتجريب الإخراجي اللطيف. تدور أحداثه في مدينة هرقلة الساحلية، حيث اختار المخرج أن يجعل البحر والضوء والشمس عناصر حية داخل السرد البصري، لا مجرد خلفية تصويرية.

القصة بسيطة في ظاهرها، وهي حول زوجين يقرّران الطلاق، لكنهما يبحثان عن الطريقة الأنسب لإبلاغ طفليهما بالقرار. غير أن بساطة الحكاية ليست إلا ذريعة سردية تسمح لهيفل بن يوسف بالغوص في شبكة العلاقات الإنسانية التي تحيط بهذا الحدث، فيرسم صورة بانورامية لعائلة تمثل في الواقع عيّنة من المجتمع ذاته عبر مفارقات كوميدية طريفة. فيُظهر الفيلم هشاشة التواصل بين الأجيال، والتعب النفسي الذي يسببه الإيقاع السريع للحياة الحديثة، وضغط التوقعات العائلية.

من خلال أداء وجيهة الجندوبي في دور «ليليا»، المحامية التي تحب زوجها ولكنها تختنق داخل رتابة الأيام ورتابة سلوكياته وقناعاته الحياتية، يخلق الفيلم مفارقة بين العقلاني والعاطفي، بين امرأة تعرف ماذا تريد لكنها لا تعرف كيف تتحمله وتواجهه. وجيهة الجندوبي تؤدي الدور بطبيعية ذكية، إذ تمزج بين السخرية والتعب، وبين خفة الظل والوجع المكتوم.

إلى جانبها، يقدّم صابر الوسلاتي أداءً متوازناً، فينجح في إبراز التناقض الداخلي لرجل يرفض الطلاق، لكنه في الوقت نفسه يراه نهاية ضرورية لحياة فقدت معناها، ويخاف من تبعاته على الأسرة. من جهة الإخراج، اعتمد هيفل بن يوسف على إيقاع سردي متدرّج، يتنقّل بين المشاهد الداخلية التي تُكثّف الحوار والمشاهد الخارجية التي تنفتح على فضاءات الطبيعة والبحر.

الصورة المشبعة بالألوان ليست ترفاً جمالياً بل خياراً دلالياً، فالشمس الساطعة في معظم اللقطات تقابلها برودة المشاعر بين الزوجين، ما يجعل من الضوء نفسه شاهداً على الانطفاء.

وفي لحظات كثيرة، تبدو الكوميديا وسيلة لحماية الشخصية من الانهيار، لا مجرد أداة لإضحاك الجمهور.

والكوميديا هنا ليست آلية متكرّرة، بل لغة للتخفيف من ثقل الواقع. الضحك يصبح طريقة للنقد، للسخرية من المجتمع الذي يخشى الاعتراف بأزماته العاطفية والاجتماعية.

في خلفية الفيلم، يطل هيفل بن يوسف بفكرته عن السينما كخدمة للسياحة، لكن هذا البعد لا يُقدَّم بشكل دعائي، بل كدعوة لتصالح الجمال الطبيعي مع الحكاية الإنسانية.

اختيار هرقلة موقعاً للتصوير كان قراراً واعياً لتكريس فكرة أن الأماكن يمكن أن تتكلم، وأن البحر قد يكون مرآة للعلاقات وساحة للمواجهة الصامتة بين ما كان وما سيأتي. إن حضور المكان في الفيلم ليس ديكوراً، بل شخصية ثالثة تُؤثّر في مجريات الأحداث وتكشف عن التناقضات الداخلية للأبطال.

من الناحية الفنية، ينجح المخرج في خلق توازن بين الواقعية والرمزية، رغم ميل بعض المشاهد إلى التبسيط المفرط. الحوار يبدو أحياناً قريباً من المسرح اليومي التونسي، لكنه يحتفظ بعفويته، ما يجعله صادقاً في نقل لهجة الحياة.

في المقابل، كان يمكن لبعض المشاهد أن تُختصر دون فقدان المعنى، إذ يشعر المتفرّج أحياناً بإطالة غير ضرورية في بعض المواقف الحوارية. ومع ذلك، فإن هذه الملاحظات لا تقلّل من حيوية العمل ولا من نضج لغته البصرية.

من زاوية اجتماعية، «باراسول» هو أكثر من مجرد حكاية عن الطلاق، إنه تأمل في معنى العائلة في زمن التحولات القيمية، وفي هشاشة التوازن بين الحب والاستمرارية.

فالفيلم يعالج موضوع الروتين الزوجي لا كحالة خاصة، بل كأحد أمراض العصر، حيث تتآكل العلاقات بفعل التكرار، وتنطفئ المشاعر خلف أقنعة النجاح المهني أو الانشغال اليومي.

من خلال الطرافة والمواقف الساخرة، يطرح الفيلم سؤالاً مؤلماً: هل يمكن للضحك أن يُنقذ الحب من الموت؟

الفيلم يتناول أيضاً صراع الأجيال في المجتمع التونسي بطريقة خفيفة لكنها نافذة، إذ يضع الآباء والأبناء في مواجهة غير مباشرة حول مفاهيم السعادة والحرية والعائلة.

فجيل الآباء الذي عاش ضمن منظومة قيمية محافظة، يكتشف في أبنائه مواقف أكثر تحرّراً، وأحياناً أكثر واقعية. هنا تتجلّى براعة المخرج في تحويل الكوميديا إلى مرآة للواقع الاجتماعي دون أن يقع في المباشراتية أو الوعظ.

على مستوى الأداء الجماعي، يقدّم الفيلم توليفة من الممثلين التونسيين المعروفين: وجيهة الجندوبي، صابر الوسلاتي، نسيم بورقيبة، جهاد الشارني، مريم بن مامي، وكلّهم يساهمون في خلق تناغم واضح داخل المشاهد الجماعية. الأدوار الثانوية لا تبدو هامشية، بل تغني السرد وتكسر رتابة الثنائية الزوجية.

يبقى «باراسول» تجربة تُحسب لهيفل بن يوسف في سعيه إلى تكريس سينما تونسية تجمع بين المتعة البصرية والطرح الاجتماعي.

ويمكن القول أيضاً إن «باراسول» يكرّس اتجاهاً متنامياً في السينما التونسية نحو الكوميديا الواعية، التي لا تكتفي بالإضحاك، بل تحوّل الضحك إلى أداة تأمل ونقد.

إيمان عبد اللطيف

بداية من اليوم في القاعات..   فيلم «باراسول» لهيفل بن يوسف.. كوميديا طريفة تعكس نبض الواقع الاجتماعي

 

  • الكوميديا في الفيلم طريق لمقاربة أكثر المواضيع حساسية في المجتمع، مثل الطلاق وصراع الأجيال
  • المخرج يجعل البحر والضوء والشمس عناصر حية داخل السرد.
  • فيلم «باراسول» لا يتطرق للطلاق بقدر ما هو تأمل في معنى العائلة في زمن التحولات القيمية

ينطلق عرض الفيلم الكوميدي «باراسول» في قاعات السينما ابتداءً من اليوم الأربعاء 29 أكتوبر الجاري، وهو من إخراج هيفل بن يوسف. ويشارك في بطولة الفيلم عدد من أبرز نجوم الساحة الفنية التونسية على غرار وجيهة الجندوبي، محمد صابر الوسلاتي، نسيم بورقيبة، رحمة بن عيسى، الصادق حلواس، مريم بن مامي، جهاد الشارني، وهيثم فرحاني. ويُعد «باراسول» تجربة سينمائية جديدة تمزج بين الكوميديا والرومانسية، من خلال مواقف طريفة وقصص حب تعكس نبض الواقع الاجتماعي، وتستهدف الجمهور الشاب والعائلي على حدّ سواء.

وقد احتضنت احدى قاعات السينما بالعاصمة  العرض الأول لفيلم «باراسول» يوم الجمعة 24 أكتوبر الجاري، بحضور فريق العمل وعدد من الوجوه الفنية والجمهور.

طغت أجواء من الضحك على القاعة طيلة العرض، فعكست روح الفيلم ذاته الذي اختار الكوميديا طريقاً لمقاربة أكثر المواضيع حساسية في المجتمع التونسي، وهو الطلاق والروتين وصراع الأجيال. فيلم يبدو للوهلة الأولى «خفيفاً»، لكنه يخفي في طيّاته تفكيراً عميقاً في العائلة التونسية الحديثة، بين ما يتداعى من علاقات وما يُرمَّم بالضحك والمواقف العابرة.

يُقدَّم «باراسول» كفيلم كوميدي رومانسي، لكنه في الحقيقة يلامس منطقة وسطى بين الفانتازيا الاجتماعية والتجريب الإخراجي اللطيف. تدور أحداثه في مدينة هرقلة الساحلية، حيث اختار المخرج أن يجعل البحر والضوء والشمس عناصر حية داخل السرد البصري، لا مجرد خلفية تصويرية.

القصة بسيطة في ظاهرها، وهي حول زوجين يقرّران الطلاق، لكنهما يبحثان عن الطريقة الأنسب لإبلاغ طفليهما بالقرار. غير أن بساطة الحكاية ليست إلا ذريعة سردية تسمح لهيفل بن يوسف بالغوص في شبكة العلاقات الإنسانية التي تحيط بهذا الحدث، فيرسم صورة بانورامية لعائلة تمثل في الواقع عيّنة من المجتمع ذاته عبر مفارقات كوميدية طريفة. فيُظهر الفيلم هشاشة التواصل بين الأجيال، والتعب النفسي الذي يسببه الإيقاع السريع للحياة الحديثة، وضغط التوقعات العائلية.

من خلال أداء وجيهة الجندوبي في دور «ليليا»، المحامية التي تحب زوجها ولكنها تختنق داخل رتابة الأيام ورتابة سلوكياته وقناعاته الحياتية، يخلق الفيلم مفارقة بين العقلاني والعاطفي، بين امرأة تعرف ماذا تريد لكنها لا تعرف كيف تتحمله وتواجهه. وجيهة الجندوبي تؤدي الدور بطبيعية ذكية، إذ تمزج بين السخرية والتعب، وبين خفة الظل والوجع المكتوم.

إلى جانبها، يقدّم صابر الوسلاتي أداءً متوازناً، فينجح في إبراز التناقض الداخلي لرجل يرفض الطلاق، لكنه في الوقت نفسه يراه نهاية ضرورية لحياة فقدت معناها، ويخاف من تبعاته على الأسرة. من جهة الإخراج، اعتمد هيفل بن يوسف على إيقاع سردي متدرّج، يتنقّل بين المشاهد الداخلية التي تُكثّف الحوار والمشاهد الخارجية التي تنفتح على فضاءات الطبيعة والبحر.

الصورة المشبعة بالألوان ليست ترفاً جمالياً بل خياراً دلالياً، فالشمس الساطعة في معظم اللقطات تقابلها برودة المشاعر بين الزوجين، ما يجعل من الضوء نفسه شاهداً على الانطفاء.

وفي لحظات كثيرة، تبدو الكوميديا وسيلة لحماية الشخصية من الانهيار، لا مجرد أداة لإضحاك الجمهور.

والكوميديا هنا ليست آلية متكرّرة، بل لغة للتخفيف من ثقل الواقع. الضحك يصبح طريقة للنقد، للسخرية من المجتمع الذي يخشى الاعتراف بأزماته العاطفية والاجتماعية.

في خلفية الفيلم، يطل هيفل بن يوسف بفكرته عن السينما كخدمة للسياحة، لكن هذا البعد لا يُقدَّم بشكل دعائي، بل كدعوة لتصالح الجمال الطبيعي مع الحكاية الإنسانية.

اختيار هرقلة موقعاً للتصوير كان قراراً واعياً لتكريس فكرة أن الأماكن يمكن أن تتكلم، وأن البحر قد يكون مرآة للعلاقات وساحة للمواجهة الصامتة بين ما كان وما سيأتي. إن حضور المكان في الفيلم ليس ديكوراً، بل شخصية ثالثة تُؤثّر في مجريات الأحداث وتكشف عن التناقضات الداخلية للأبطال.

من الناحية الفنية، ينجح المخرج في خلق توازن بين الواقعية والرمزية، رغم ميل بعض المشاهد إلى التبسيط المفرط. الحوار يبدو أحياناً قريباً من المسرح اليومي التونسي، لكنه يحتفظ بعفويته، ما يجعله صادقاً في نقل لهجة الحياة.

في المقابل، كان يمكن لبعض المشاهد أن تُختصر دون فقدان المعنى، إذ يشعر المتفرّج أحياناً بإطالة غير ضرورية في بعض المواقف الحوارية. ومع ذلك، فإن هذه الملاحظات لا تقلّل من حيوية العمل ولا من نضج لغته البصرية.

من زاوية اجتماعية، «باراسول» هو أكثر من مجرد حكاية عن الطلاق، إنه تأمل في معنى العائلة في زمن التحولات القيمية، وفي هشاشة التوازن بين الحب والاستمرارية.

فالفيلم يعالج موضوع الروتين الزوجي لا كحالة خاصة، بل كأحد أمراض العصر، حيث تتآكل العلاقات بفعل التكرار، وتنطفئ المشاعر خلف أقنعة النجاح المهني أو الانشغال اليومي.

من خلال الطرافة والمواقف الساخرة، يطرح الفيلم سؤالاً مؤلماً: هل يمكن للضحك أن يُنقذ الحب من الموت؟

الفيلم يتناول أيضاً صراع الأجيال في المجتمع التونسي بطريقة خفيفة لكنها نافذة، إذ يضع الآباء والأبناء في مواجهة غير مباشرة حول مفاهيم السعادة والحرية والعائلة.

فجيل الآباء الذي عاش ضمن منظومة قيمية محافظة، يكتشف في أبنائه مواقف أكثر تحرّراً، وأحياناً أكثر واقعية. هنا تتجلّى براعة المخرج في تحويل الكوميديا إلى مرآة للواقع الاجتماعي دون أن يقع في المباشراتية أو الوعظ.

على مستوى الأداء الجماعي، يقدّم الفيلم توليفة من الممثلين التونسيين المعروفين: وجيهة الجندوبي، صابر الوسلاتي، نسيم بورقيبة، جهاد الشارني، مريم بن مامي، وكلّهم يساهمون في خلق تناغم واضح داخل المشاهد الجماعية. الأدوار الثانوية لا تبدو هامشية، بل تغني السرد وتكسر رتابة الثنائية الزوجية.

يبقى «باراسول» تجربة تُحسب لهيفل بن يوسف في سعيه إلى تكريس سينما تونسية تجمع بين المتعة البصرية والطرح الاجتماعي.

ويمكن القول أيضاً إن «باراسول» يكرّس اتجاهاً متنامياً في السينما التونسية نحو الكوميديا الواعية، التي لا تكتفي بالإضحاك، بل تحوّل الضحك إلى أداة تأمل ونقد.

إيمان عبد اللطيف