احتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة مساء الجمعة 17 أكتوبر العرض ما قبل الأول لمسرحية «جرس Cloche»، وهو إنتاج جديد للمسرح الوطني التونسي بإمضاء المخرج عاصم بالتوهامي الذي تولّى أيضا كتابة الدراماتورجيا والسينوغرافيا. العمل جمع على الركح كُلًّا من سنية زرڨ عيونه وعبد الكريم البناني ورضا جاب الله ومروان الروين، فيما كُتب النص مناصفة بين محمد شوقي خوجة وعاصم بالتوهامي، وتولّى مروان الروين تصميم الكوريغرافيا.
منذ اللحظات الأولى، يدرك المتفرّج أنه أمام تجربة مسرحية لا تبحث عن الحكاية بقدر ما تنحت المعنى من الصمت والحركة والضوء. أربعة ضيوف يلتقون حول مائدة عشاء أُعدّت بعناية، في فضاء يتأرجح بين الواقعي والغرائبي، لتتحوّل الجلسة إلى مساحة تأمّل واعتراف، حيث تتقاطع الحوارات وتتشظّى الأصوات، كأنّ كلّ شخصية تحاول أن تفهم ما جرى في حياتها وما جرى للحياة في حدّ ذاتها. فاللقاء لا يخصّ أفرادا بعينهم، بل يبدو رمزا للإنسان في مواجهته مع ذاته وماضيه وواقعه المتناقض.
من أسفل الطاولة المعلّقة في مركز خشبة المسرح ينبعث ضوء أحمر يشبه الجمر، كأنه قلب الأرض أو بؤرة الجحيم. تتحرّك الطاولة ببطء، تدور عكس عقارب الساعة أحيانا، وكأنّ الزمن نفسه يتقهقر. ومع كلّ حركة، يتغيّر مزاج الضوء: من الأحمر البرتقالي إلى الرمادي الباهت، ثمّ إلى ظلام دامس يبتلع الوجوه، ليكوّن بناءً بصريا أعطى نفسا فلسفيا للمسرحية تحرّك فيه الممثلون بحذر ووعي.
فيتقاطع صمتهم مع صوت الراوي الذي يأتي من خلف الركح، صوت يبدو كأنه الضمير الجمعي أو ذاكرة غامضة تلاحقهم. بين الفينة والأخرى، تنفجر الحوارات بلغة بسيطة لكنها محمّلة بالأسئلة، عن الهوية، عن الحب، عن الوجوه التي نفقدها في زحمة الحياة.
وما بين هذه المقاطع الكلامية، تتسلّل المشاهد الكوريغرافية التي أضفت على العرض إيقاعا داخليا متوتّرا، عبّر عن اضطراب الشخصيات وصراعها مع ذاتها والعالم. فالجسد في هذا العمل ليس تابعا للكلمة، بل هو لغتها البديلة حين تعجز اللغة عن التعبير. كان الممثلون يتحرّكون وكأنهم يسيرون في حلم جماعيّ، أجسادهم تتقاطع دون أن تلتقي، وأصواتهم تتناوب بين الهمس والصرخة.
وفي هذا البناء المتشظّي، استطاع عاصم بالتوهامي أن يخلق إيقاعا بصريا وصوتيا يجعل المتفرّج يعيش تجربة لا تعتمد على الفهم المباشر، بل على الإحساس. فالمسرحية لا تروي قصة، بل تضعنا داخل لحظة من الحياة، لحظة مشتعلة بالأسئلة. الجرس الذي يُسمع بين حين وآخر يأتي كصوت داخلي يذكّرنا بأنّ شيئا ما يجب أن نستفيق عليه، كأنه نداء من الذاكرة، أو تحذير من الصمت الطويل الذي يسبق الانهيار.
مسرحية «جرس» قدّمت رؤية إنسانية عن التمزّق والبحث عن الذات، عن فقدان التوازن في عالم مملوء بالتناقضات. هو جرس إنذار فكري ووجودي، يقرعه المسرح ليذكّرنا بأننا بحاجة إلى الإصغاء إلى صوتنا الداخلي قبل أن يُغطيه ضجيج العالم.
وبهذا العرض، يؤكّد المسرح الوطني التونسي من خلال مخرج شاب في شخص عاصم بالتوهامي، أنه مازال قادرا على التجديد والبحث عن لغات تعبير جديدة. «جرس» لا يقدّم إجابات، بل يدعو الجمهور إلى طرح الأسئلة، إلى التفكير في الإنسان وسط هذا العالم المتسارع.
إيمان عبد اللطيف
احتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة مساء الجمعة 17 أكتوبر العرض ما قبل الأول لمسرحية «جرس Cloche»، وهو إنتاج جديد للمسرح الوطني التونسي بإمضاء المخرج عاصم بالتوهامي الذي تولّى أيضا كتابة الدراماتورجيا والسينوغرافيا. العمل جمع على الركح كُلًّا من سنية زرڨ عيونه وعبد الكريم البناني ورضا جاب الله ومروان الروين، فيما كُتب النص مناصفة بين محمد شوقي خوجة وعاصم بالتوهامي، وتولّى مروان الروين تصميم الكوريغرافيا.
منذ اللحظات الأولى، يدرك المتفرّج أنه أمام تجربة مسرحية لا تبحث عن الحكاية بقدر ما تنحت المعنى من الصمت والحركة والضوء. أربعة ضيوف يلتقون حول مائدة عشاء أُعدّت بعناية، في فضاء يتأرجح بين الواقعي والغرائبي، لتتحوّل الجلسة إلى مساحة تأمّل واعتراف، حيث تتقاطع الحوارات وتتشظّى الأصوات، كأنّ كلّ شخصية تحاول أن تفهم ما جرى في حياتها وما جرى للحياة في حدّ ذاتها. فاللقاء لا يخصّ أفرادا بعينهم، بل يبدو رمزا للإنسان في مواجهته مع ذاته وماضيه وواقعه المتناقض.
من أسفل الطاولة المعلّقة في مركز خشبة المسرح ينبعث ضوء أحمر يشبه الجمر، كأنه قلب الأرض أو بؤرة الجحيم. تتحرّك الطاولة ببطء، تدور عكس عقارب الساعة أحيانا، وكأنّ الزمن نفسه يتقهقر. ومع كلّ حركة، يتغيّر مزاج الضوء: من الأحمر البرتقالي إلى الرمادي الباهت، ثمّ إلى ظلام دامس يبتلع الوجوه، ليكوّن بناءً بصريا أعطى نفسا فلسفيا للمسرحية تحرّك فيه الممثلون بحذر ووعي.
فيتقاطع صمتهم مع صوت الراوي الذي يأتي من خلف الركح، صوت يبدو كأنه الضمير الجمعي أو ذاكرة غامضة تلاحقهم. بين الفينة والأخرى، تنفجر الحوارات بلغة بسيطة لكنها محمّلة بالأسئلة، عن الهوية، عن الحب، عن الوجوه التي نفقدها في زحمة الحياة.
وما بين هذه المقاطع الكلامية، تتسلّل المشاهد الكوريغرافية التي أضفت على العرض إيقاعا داخليا متوتّرا، عبّر عن اضطراب الشخصيات وصراعها مع ذاتها والعالم. فالجسد في هذا العمل ليس تابعا للكلمة، بل هو لغتها البديلة حين تعجز اللغة عن التعبير. كان الممثلون يتحرّكون وكأنهم يسيرون في حلم جماعيّ، أجسادهم تتقاطع دون أن تلتقي، وأصواتهم تتناوب بين الهمس والصرخة.
وفي هذا البناء المتشظّي، استطاع عاصم بالتوهامي أن يخلق إيقاعا بصريا وصوتيا يجعل المتفرّج يعيش تجربة لا تعتمد على الفهم المباشر، بل على الإحساس. فالمسرحية لا تروي قصة، بل تضعنا داخل لحظة من الحياة، لحظة مشتعلة بالأسئلة. الجرس الذي يُسمع بين حين وآخر يأتي كصوت داخلي يذكّرنا بأنّ شيئا ما يجب أن نستفيق عليه، كأنه نداء من الذاكرة، أو تحذير من الصمت الطويل الذي يسبق الانهيار.
مسرحية «جرس» قدّمت رؤية إنسانية عن التمزّق والبحث عن الذات، عن فقدان التوازن في عالم مملوء بالتناقضات. هو جرس إنذار فكري ووجودي، يقرعه المسرح ليذكّرنا بأننا بحاجة إلى الإصغاء إلى صوتنا الداخلي قبل أن يُغطيه ضجيج العالم.
وبهذا العرض، يؤكّد المسرح الوطني التونسي من خلال مخرج شاب في شخص عاصم بالتوهامي، أنه مازال قادرا على التجديد والبحث عن لغات تعبير جديدة. «جرس» لا يقدّم إجابات، بل يدعو الجمهور إلى طرح الأسئلة، إلى التفكير في الإنسان وسط هذا العالم المتسارع.