ما يجمع العراق وتونس أكثر من مجرد علاقة حضارية وتاريخية وثقافية راسخة منذ عصر التواصل الثقافي الإسلامي والعربي بين بغداد والقيروان، حيث إن تلك العلاقة متجذرة رغم البعد الجغرافي. فقد كانت بغداد عام 1925 موطنًا للزعيم التونسي ومؤسس الحزب الحر الدستوري الشيخ عبد العزيز الثعالبي، الذي جاءها لاجئًا من اضطهاد الفرنسيين، ودُعي لتدريس الفلسفة الإسلامية في جامعة آل البيت التي أسسها الملك فيصل الأول.
فيما أنشد شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري قصيدته الشهيرة في حب أهل تونس، وكتب في شعب قرطاج:
سقى «تونسًا» ما يدفع الخطب، إنها
بخضرتها تُكفى الذي يدفع الجدبا
وحيّا القباب البيض روح كأهلها
رقيق الحواشي يمسح الماء والعشبا
لكن قضية استقلال تونس تُعد واحدة من أهم المحطات التي جمعت الشعبين عبر تقديم الدعم بأشكاله المتعددة، وخاصة خلال المسار الدبلوماسي الطويل. ولعل احتفال الشعب التونسي بذكرى عيد الجلاء يوم 15 أكتوبر من كل عام (والتي مرّت علينا قبل أيام)، يجعله مناسبة لاستعراض هذا التاريخ المشرف. ويرمز عيد الجلاء إلى خروج آخر جندي فرنسي من الأراضي التونسية عام 1963، تحديدًا من قاعدة بنزرت التي كانت آخر معقل للوجود الفرنسي بعد الاستقلال عام 1956. وكان ضغط المقاومة التونسية، والتي رافقها عمل دبلوماسي ومفاوضات مضنية من رجال الاستقلال التونسي، هو ما دفع فرنسا إلى الجلاء التام عن تونس، بعد سنوات قاوم فيها التونسيون الاستعمار بكل بسالة ورباطة جأش.
وكان لأستاذنا الكبير والدبلوماسي العراقي القدير الدكتور محمد فاضل الجمالي دور بارز في الدفاع عن استقلال تونس، في قصة شائعة عن موقفه في الأمم المتحدة، لكن بسردية غير مكتملة الأركان. فقد قدّر «ابن العراق» — وهو اسمه الحركي السري في المنشورات التي يريد أن يعبّر فيها عن نفسه بحرية — أن يقدم أنموذجًا عظيمًا ويترك إرثًا كبيرًا للدبلوماسية العراقية يحق لنا جميعًا كعراقيين وتونسيين وعرب أن نفتخر به.
ولكي نفهم القصة التاريخية بأبعادها نعود إلى ما كتبه الدكتور الجمالي في مذكراته عندما سأل الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة:
«كيف تستطيع دولة صغيرة كتونس أن تتخذ سياسة المواجهة مع فرنسا وهي دولة عظمى؟»
فأجاب: «بالسير وفق سياسة المراحل، أي خذ وطالب».
فقال له الجمالي: «إنني مسرور أن أسمع منك ذلك، فهذه هي السياسة التي اتخذها الملك فيصل الأول مع الإنكليز، وهي سياسة أدت بالنتيجة إلى استقلال العراق».
لهذا نحاول في هذه المقالة تقديم الدور الدبلوماسي الذي قام به الدكتور الجمالي في قضية استقلال تونس في سياق تاريخي متسلسل، وسوف نحتفظ بالتفاصيل والوثائق الكاملة والمصادر التي سوف تُنشر لاحقًا في كتاب سيرة مشترك.
بعد إبعاد بورقيبة إلى مصر، قدّمت المفوضية العراقية في القاهرة التي كان يرأسها الوزير المفوض تحسين العسكري كافة التسهيلات للزعيم التونسي طوال مدة بقائه في مصر.
في جوان 1946 انضم إلى بورقيبة في القاهرة نشطاء آخرون كانوا قد استقروا في برلين بعد ماي 1943، وهم: حبيب ثامر، والطيب سليم، ورشيد إدريس، بعد فرارهم من برلين في مارس 1945، وتعرّضهم المستمر لقبضة الشرطة الفرنسية. رسوا أولًا في مدريد، ثم تمكنوا، بعد أن أنقذتهم السفارة العراقية، من الوصول إلى ملاذ آمن في مصر.
في 20 جانفي عام 1949 سافر يوسف الرويسي والحبيب ثامر رئيس الحزب الدستوري إلى العراق بعد أن التقيا الجمالي وطلبا حث الحكومة العراقية على دعم الاستقلال، إذ كانت مفاوضات الاستقلال بين تونس وفرنسا قد وصلت إلى طريق مسدود.
طلبت تونس عرض قضيتها على الأمم المتحدة خلال اجتماع في باريس عام 1951، فأبدى الجمالي استعداد العراق للمشاركة في هذه المهمة وأكد أن العراق ستكون أول دولة عربية تمثل أمام مجلس الأمن، وسوف ينتهز أول فرصة دولية لإبراز القضية التونسية.
رافق الجمالي عام 1951 أعضاء الوفد التونسي صالح بن يوسف ومحمد بدرة لمقابلة رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة لويس بادييا نرفو، وحثه على طرح القضية على وزير خارجية فرنسا من أجل أن تغيّر فرنسا سياستها إزاء تونس.
في أكتوبر 1952 عقد الجمالي اجتماعًا طويلًا مع وزير الخارجية الأمريكي آنذاك دين آتشيسون، وكان من جملة المسائل التي بُحثت في ذلك الاجتماع قضية تحرير الشمال الإفريقي وتونس تحديدًا.
طلبت تونس من العراق التدخل لدى الولايات المتحدة الأمريكية لتمنح صالح بن يوسف تأشيرة الدخول للولايات المتحدة، فقام بالمهمة الدكتور الجمالي، وحضر بن يوسف اجتماع الجمعية، فضلًا عن محمد بدرة والباهي الأدغم عام 1952.
في جويلية 1954 زار الجمالي العاصمة واشنطن، وكانت قضية تونس من المسائل التي بحثها مع جون فوستر دالاس، وزير الخارجية، ضمن منهج الدبلوماسية العراقية للدفاع عن قضايا الاستقلال.
في الزيارة ذاتها اجتمع الجمالي بالرئيس الأمريكي أيزنهاور، وكانت قضية تونس إحدى القضايا قيد البحث، والتي تحدث فيها بإسهاب عن أهمية الضغط على الجانب الفرنسي.
في 25 مارس عام 1952 أجرت الحكومة العراقية اتصالات مع السفير الأمريكي والبريطاني في بغداد لحثهما على مساندة تونس في نيل حقها بالاستقلال.
قام الدكتور الجمالي باصطحاب الزعيم التونسي صالح بن يوسف إلى داخل قاعة الجمعية العمومية وأجلسه ضمن أعضاء الوفد العراقي، فاعترض مندوب فرنسا على وجود شخص لا يحق له الجلوس في القاعة.
فقام الجمالي بضم صالح بن يوسف ومحمد بدرة إلى الوفد العراقي كعضوين مستشارين ضمن الوفد العراقي، ووجه مذكرة إلى الأمانة العامة للجمعية العامة بذلك. وتروي بعض المصادر التاريخية أن الحكومة العراقية منحت جوازات سفر عراقية لزعماء تونس، والسماح لهم بمرافقة الوفد العراقي في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تكررت احتجاجات الحكومة الفرنسية على الحكومة العراقية، كما أن الرئيس الفرنسي استدعى السفير العراقي في باريس وأبدى انفعاله. ورفض الدكتور الجمالي تلك الضغوطات واعتبرها تدخلاً في شؤون العراق ومسًّا بسيادته.
وصلت برقية من الخارجية الفرنسية تُعرب عن رفضها جلوس صالح بن يوسف ضمن الوفد العراقي، وكانت إجابة الدكتور الجمالي أن المصلحة القومية تستدعي ذلك، وأن العضوية في وفد أية دولة هي من صلاحية تلك الدولة، وهي جزء من سيادتها.
عندما ألقى روبير شومان، مندوب فرنسا في الأمم المتحدة، في الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1952، خطابًا وصف فيه إدراج قضية تونس في جدول أعمال الأمم المتحدة بأنه إجحاف بحق فرنسا، وبأنه ليس من صلاحيات اللجنة السياسية، وطالب المندوب الفرنسي أيضًا بأن تتم تسوية المشاكل المتعلقة بين تونس وفرنسا خارج نطاق الأمم المتحدة، انبرى الدكتور الجمالي للمندوب الفرنسي واتهم بلاده بممارسة الاستبداد المطلق دون أي اعتبار لأماني تونس القومية، وقال ردًّا على اتهامات المندوب الفرنسي: إن شعب تونس ليس إرهابيًا، بل إنه من أسلم وأنظم شعوب العالم، وإن فرنسا هي التي أخضعت هذا الشعب لإجراءات تعسفية وقمعية دفعته إلى أن ينهض دفاعًا عن النفس، وهو بعيد عن العنف والإرهاب.
بعد عودة الجمالي إلى العراق من باريس، كان في استقباله وزير الخارجية الذي عانقه وقال له: «أنت بيّضت وجه العراق بتمسكك بضم صالح بن يوسف إلى الوفد العراقي رغم بعض التحفظ الحكومي».
تحوّل سلوك العراق الدبلوماسي المميز إلى قدوة يُحتذى بها، فقام الوفد الباكستاني الذي يرأسه محمد ظفر الله خان بضم أحمد بلفريج (المغرب) إلى الوفد الباكستاني، كما قام الوفد العراقي لاحقًا بضمّ عباس فرحات وحسين آية أحمد إلى وفده عند عرض قضية الجزائر.
زار بغداد وفد تونسي آخر ضم كلًّا من محمد بدرة وعلي البهلوان (الأمين العام المساعد للحزب الدستوري التونسي) لحث الحكومة العراقية على تأييد عرض القضية التونسية على الأمم المتحدة مجددًا. وبناءً على ذلك قدّم الجمالي طلبًا إلى الكتلة الآسيوية الإفريقية في الأمم المتحدة للاجتماع وبحث تطورات هذه القضية. وقال علي البهلوان، الذي استقر في بغداد وأصبح مدرسًا للفلسفة فيها بمساعدة الجمالي: «إن تونس لن تنسى للعراق أياديها البيضاء، ولن تنسى لوزير خارجيتها معالي الدكتور فاضل الجمالي احتضانه قضيتها، وإن تلك الأيادي البيضاء ومساعدة الشقيقة لشقيقتها تزداد وتتضاعف». وفي رسالة وجهها علي البهلوان سنة 1953 من بغداد إلى رفيقه في الكفاح الباهي الأدغم، كتب: «اهتز العراق كله لقضية تونس، واتصلنا بالحكومة وبجميع الأحزاب والهيئات، ولا يمضي وقت إلا والصحافة تطفح بالمقالات والأبحاث والأخبار حول قضيتنا الوطنية». وفي رسالة أخرى في السنة نفسها قال له: «قابلت معالي فاضل الجمالي — وهو نصير حقيقي لقضايا المغرب العربي — وأكد لي تأييده لنضال المجاهدين في تونس ومراكش».
كان للدكتور الجمالي دور كبير في مؤتمر باندونغ عام 1955، حيث ألقى خطابًا بوصفه رئيسًا للوفد العراقي أعرب فيه عن أمله في أن تؤدي المفاوضات الجارية بين فرنسا وتونس إلى تحقيق أماني التونسيين القومية في التحرر والاستقلال.
وفي اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1955، حضر بيير منديس فرانس، رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، الاجتماع وألقى خطابًا تحدث فيه عن منح تونس الحكم الذاتي، واعدًا بأن فرنسا تعمل على تحرير الشعوب وتعترف بحقها في الحياة الحرة. وبعد نزوله من المنصة، وفي طريقه إلى مقعده، وقف إلى جانب الدكتور الجمالي وسأله: «هل أرضاك ما قلته عن تونس؟» فأجابه الجمالي: «والمغرب؟»، فقال له الفرنسي: «انتظر قليلاً». وفي السنة التالية، 1956، حققت كلٌّ من المغرب وتونس استقلالهما.
يقول الدبلوماسي الكبير الشاذلي القليبي:
«فاضل الجمالي من عمالقة تاريخنا العربي الحديث، ومن القلائل الذين ارتقوا — عن جدارة — وهم أحياء، منبر التاريخ. وبعد رحيلهم، بقيت نبضات فكرهم متواصلة الوهج بلا انقطاع».
ووصف الشيخ الراحل محمد المختار السلامي، مفتي الجمهورية التونسية، إنسانية الجمالي بقوله:
«سموت في إنسانيتك، فكنت أخًا للبشرية، وسندًا للمظلومين والمستضعفين، بما أسهمت به في صياغة ميثاق الأمم المتحدة، فدافعت بإيمان لا يرهب أمام قوة البغي عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ونجحت في إدراجه بندًا من بنودها، فلك عند كل شعب تحرر منّة تُذكر».
فهنيئًا لنا بالدبلوماسي الكبير الذي عشق بلده وقضيته، ومهما قيّدت التقاليد والأوامر الصارمة وقواعد الأعراف الدبلوماسية منهجه الوظيفي، يبقَى معيار الانتماء وعقيدة الدبلوماسي الموجّه الحقيقي لعمله وإنجاز واجباته.
ما يجمع العراق وتونس أكثر من مجرد علاقة حضارية وتاريخية وثقافية راسخة منذ عصر التواصل الثقافي الإسلامي والعربي بين بغداد والقيروان، حيث إن تلك العلاقة متجذرة رغم البعد الجغرافي. فقد كانت بغداد عام 1925 موطنًا للزعيم التونسي ومؤسس الحزب الحر الدستوري الشيخ عبد العزيز الثعالبي، الذي جاءها لاجئًا من اضطهاد الفرنسيين، ودُعي لتدريس الفلسفة الإسلامية في جامعة آل البيت التي أسسها الملك فيصل الأول.
فيما أنشد شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري قصيدته الشهيرة في حب أهل تونس، وكتب في شعب قرطاج:
سقى «تونسًا» ما يدفع الخطب، إنها
بخضرتها تُكفى الذي يدفع الجدبا
وحيّا القباب البيض روح كأهلها
رقيق الحواشي يمسح الماء والعشبا
لكن قضية استقلال تونس تُعد واحدة من أهم المحطات التي جمعت الشعبين عبر تقديم الدعم بأشكاله المتعددة، وخاصة خلال المسار الدبلوماسي الطويل. ولعل احتفال الشعب التونسي بذكرى عيد الجلاء يوم 15 أكتوبر من كل عام (والتي مرّت علينا قبل أيام)، يجعله مناسبة لاستعراض هذا التاريخ المشرف. ويرمز عيد الجلاء إلى خروج آخر جندي فرنسي من الأراضي التونسية عام 1963، تحديدًا من قاعدة بنزرت التي كانت آخر معقل للوجود الفرنسي بعد الاستقلال عام 1956. وكان ضغط المقاومة التونسية، والتي رافقها عمل دبلوماسي ومفاوضات مضنية من رجال الاستقلال التونسي، هو ما دفع فرنسا إلى الجلاء التام عن تونس، بعد سنوات قاوم فيها التونسيون الاستعمار بكل بسالة ورباطة جأش.
وكان لأستاذنا الكبير والدبلوماسي العراقي القدير الدكتور محمد فاضل الجمالي دور بارز في الدفاع عن استقلال تونس، في قصة شائعة عن موقفه في الأمم المتحدة، لكن بسردية غير مكتملة الأركان. فقد قدّر «ابن العراق» — وهو اسمه الحركي السري في المنشورات التي يريد أن يعبّر فيها عن نفسه بحرية — أن يقدم أنموذجًا عظيمًا ويترك إرثًا كبيرًا للدبلوماسية العراقية يحق لنا جميعًا كعراقيين وتونسيين وعرب أن نفتخر به.
ولكي نفهم القصة التاريخية بأبعادها نعود إلى ما كتبه الدكتور الجمالي في مذكراته عندما سأل الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة:
«كيف تستطيع دولة صغيرة كتونس أن تتخذ سياسة المواجهة مع فرنسا وهي دولة عظمى؟»
فأجاب: «بالسير وفق سياسة المراحل، أي خذ وطالب».
فقال له الجمالي: «إنني مسرور أن أسمع منك ذلك، فهذه هي السياسة التي اتخذها الملك فيصل الأول مع الإنكليز، وهي سياسة أدت بالنتيجة إلى استقلال العراق».
لهذا نحاول في هذه المقالة تقديم الدور الدبلوماسي الذي قام به الدكتور الجمالي في قضية استقلال تونس في سياق تاريخي متسلسل، وسوف نحتفظ بالتفاصيل والوثائق الكاملة والمصادر التي سوف تُنشر لاحقًا في كتاب سيرة مشترك.
بعد إبعاد بورقيبة إلى مصر، قدّمت المفوضية العراقية في القاهرة التي كان يرأسها الوزير المفوض تحسين العسكري كافة التسهيلات للزعيم التونسي طوال مدة بقائه في مصر.
في جوان 1946 انضم إلى بورقيبة في القاهرة نشطاء آخرون كانوا قد استقروا في برلين بعد ماي 1943، وهم: حبيب ثامر، والطيب سليم، ورشيد إدريس، بعد فرارهم من برلين في مارس 1945، وتعرّضهم المستمر لقبضة الشرطة الفرنسية. رسوا أولًا في مدريد، ثم تمكنوا، بعد أن أنقذتهم السفارة العراقية، من الوصول إلى ملاذ آمن في مصر.
في 20 جانفي عام 1949 سافر يوسف الرويسي والحبيب ثامر رئيس الحزب الدستوري إلى العراق بعد أن التقيا الجمالي وطلبا حث الحكومة العراقية على دعم الاستقلال، إذ كانت مفاوضات الاستقلال بين تونس وفرنسا قد وصلت إلى طريق مسدود.
طلبت تونس عرض قضيتها على الأمم المتحدة خلال اجتماع في باريس عام 1951، فأبدى الجمالي استعداد العراق للمشاركة في هذه المهمة وأكد أن العراق ستكون أول دولة عربية تمثل أمام مجلس الأمن، وسوف ينتهز أول فرصة دولية لإبراز القضية التونسية.
رافق الجمالي عام 1951 أعضاء الوفد التونسي صالح بن يوسف ومحمد بدرة لمقابلة رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة لويس بادييا نرفو، وحثه على طرح القضية على وزير خارجية فرنسا من أجل أن تغيّر فرنسا سياستها إزاء تونس.
في أكتوبر 1952 عقد الجمالي اجتماعًا طويلًا مع وزير الخارجية الأمريكي آنذاك دين آتشيسون، وكان من جملة المسائل التي بُحثت في ذلك الاجتماع قضية تحرير الشمال الإفريقي وتونس تحديدًا.
طلبت تونس من العراق التدخل لدى الولايات المتحدة الأمريكية لتمنح صالح بن يوسف تأشيرة الدخول للولايات المتحدة، فقام بالمهمة الدكتور الجمالي، وحضر بن يوسف اجتماع الجمعية، فضلًا عن محمد بدرة والباهي الأدغم عام 1952.
في جويلية 1954 زار الجمالي العاصمة واشنطن، وكانت قضية تونس من المسائل التي بحثها مع جون فوستر دالاس، وزير الخارجية، ضمن منهج الدبلوماسية العراقية للدفاع عن قضايا الاستقلال.
في الزيارة ذاتها اجتمع الجمالي بالرئيس الأمريكي أيزنهاور، وكانت قضية تونس إحدى القضايا قيد البحث، والتي تحدث فيها بإسهاب عن أهمية الضغط على الجانب الفرنسي.
في 25 مارس عام 1952 أجرت الحكومة العراقية اتصالات مع السفير الأمريكي والبريطاني في بغداد لحثهما على مساندة تونس في نيل حقها بالاستقلال.
قام الدكتور الجمالي باصطحاب الزعيم التونسي صالح بن يوسف إلى داخل قاعة الجمعية العمومية وأجلسه ضمن أعضاء الوفد العراقي، فاعترض مندوب فرنسا على وجود شخص لا يحق له الجلوس في القاعة.
فقام الجمالي بضم صالح بن يوسف ومحمد بدرة إلى الوفد العراقي كعضوين مستشارين ضمن الوفد العراقي، ووجه مذكرة إلى الأمانة العامة للجمعية العامة بذلك. وتروي بعض المصادر التاريخية أن الحكومة العراقية منحت جوازات سفر عراقية لزعماء تونس، والسماح لهم بمرافقة الوفد العراقي في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تكررت احتجاجات الحكومة الفرنسية على الحكومة العراقية، كما أن الرئيس الفرنسي استدعى السفير العراقي في باريس وأبدى انفعاله. ورفض الدكتور الجمالي تلك الضغوطات واعتبرها تدخلاً في شؤون العراق ومسًّا بسيادته.
وصلت برقية من الخارجية الفرنسية تُعرب عن رفضها جلوس صالح بن يوسف ضمن الوفد العراقي، وكانت إجابة الدكتور الجمالي أن المصلحة القومية تستدعي ذلك، وأن العضوية في وفد أية دولة هي من صلاحية تلك الدولة، وهي جزء من سيادتها.
عندما ألقى روبير شومان، مندوب فرنسا في الأمم المتحدة، في الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1952، خطابًا وصف فيه إدراج قضية تونس في جدول أعمال الأمم المتحدة بأنه إجحاف بحق فرنسا، وبأنه ليس من صلاحيات اللجنة السياسية، وطالب المندوب الفرنسي أيضًا بأن تتم تسوية المشاكل المتعلقة بين تونس وفرنسا خارج نطاق الأمم المتحدة، انبرى الدكتور الجمالي للمندوب الفرنسي واتهم بلاده بممارسة الاستبداد المطلق دون أي اعتبار لأماني تونس القومية، وقال ردًّا على اتهامات المندوب الفرنسي: إن شعب تونس ليس إرهابيًا، بل إنه من أسلم وأنظم شعوب العالم، وإن فرنسا هي التي أخضعت هذا الشعب لإجراءات تعسفية وقمعية دفعته إلى أن ينهض دفاعًا عن النفس، وهو بعيد عن العنف والإرهاب.
بعد عودة الجمالي إلى العراق من باريس، كان في استقباله وزير الخارجية الذي عانقه وقال له: «أنت بيّضت وجه العراق بتمسكك بضم صالح بن يوسف إلى الوفد العراقي رغم بعض التحفظ الحكومي».
تحوّل سلوك العراق الدبلوماسي المميز إلى قدوة يُحتذى بها، فقام الوفد الباكستاني الذي يرأسه محمد ظفر الله خان بضم أحمد بلفريج (المغرب) إلى الوفد الباكستاني، كما قام الوفد العراقي لاحقًا بضمّ عباس فرحات وحسين آية أحمد إلى وفده عند عرض قضية الجزائر.
زار بغداد وفد تونسي آخر ضم كلًّا من محمد بدرة وعلي البهلوان (الأمين العام المساعد للحزب الدستوري التونسي) لحث الحكومة العراقية على تأييد عرض القضية التونسية على الأمم المتحدة مجددًا. وبناءً على ذلك قدّم الجمالي طلبًا إلى الكتلة الآسيوية الإفريقية في الأمم المتحدة للاجتماع وبحث تطورات هذه القضية. وقال علي البهلوان، الذي استقر في بغداد وأصبح مدرسًا للفلسفة فيها بمساعدة الجمالي: «إن تونس لن تنسى للعراق أياديها البيضاء، ولن تنسى لوزير خارجيتها معالي الدكتور فاضل الجمالي احتضانه قضيتها، وإن تلك الأيادي البيضاء ومساعدة الشقيقة لشقيقتها تزداد وتتضاعف». وفي رسالة وجهها علي البهلوان سنة 1953 من بغداد إلى رفيقه في الكفاح الباهي الأدغم، كتب: «اهتز العراق كله لقضية تونس، واتصلنا بالحكومة وبجميع الأحزاب والهيئات، ولا يمضي وقت إلا والصحافة تطفح بالمقالات والأبحاث والأخبار حول قضيتنا الوطنية». وفي رسالة أخرى في السنة نفسها قال له: «قابلت معالي فاضل الجمالي — وهو نصير حقيقي لقضايا المغرب العربي — وأكد لي تأييده لنضال المجاهدين في تونس ومراكش».
كان للدكتور الجمالي دور كبير في مؤتمر باندونغ عام 1955، حيث ألقى خطابًا بوصفه رئيسًا للوفد العراقي أعرب فيه عن أمله في أن تؤدي المفاوضات الجارية بين فرنسا وتونس إلى تحقيق أماني التونسيين القومية في التحرر والاستقلال.
وفي اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1955، حضر بيير منديس فرانس، رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، الاجتماع وألقى خطابًا تحدث فيه عن منح تونس الحكم الذاتي، واعدًا بأن فرنسا تعمل على تحرير الشعوب وتعترف بحقها في الحياة الحرة. وبعد نزوله من المنصة، وفي طريقه إلى مقعده، وقف إلى جانب الدكتور الجمالي وسأله: «هل أرضاك ما قلته عن تونس؟» فأجابه الجمالي: «والمغرب؟»، فقال له الفرنسي: «انتظر قليلاً». وفي السنة التالية، 1956، حققت كلٌّ من المغرب وتونس استقلالهما.
يقول الدبلوماسي الكبير الشاذلي القليبي:
«فاضل الجمالي من عمالقة تاريخنا العربي الحديث، ومن القلائل الذين ارتقوا — عن جدارة — وهم أحياء، منبر التاريخ. وبعد رحيلهم، بقيت نبضات فكرهم متواصلة الوهج بلا انقطاع».
ووصف الشيخ الراحل محمد المختار السلامي، مفتي الجمهورية التونسية، إنسانية الجمالي بقوله:
«سموت في إنسانيتك، فكنت أخًا للبشرية، وسندًا للمظلومين والمستضعفين، بما أسهمت به في صياغة ميثاق الأمم المتحدة، فدافعت بإيمان لا يرهب أمام قوة البغي عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ونجحت في إدراجه بندًا من بنودها، فلك عند كل شعب تحرر منّة تُذكر».
فهنيئًا لنا بالدبلوماسي الكبير الذي عشق بلده وقضيته، ومهما قيّدت التقاليد والأوامر الصارمة وقواعد الأعراف الدبلوماسية منهجه الوظيفي، يبقَى معيار الانتماء وعقيدة الدبلوماسي الموجّه الحقيقي لعمله وإنجاز واجباته.