إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قفزة بـ37,5% في القروض الممنوحة للقطاع العام.. البنوك التونسية تدعم الدولة بوتيرة غير مسبوقة!

تشهد الساحة المالية التونسية تحولات متسارعة في علاقة البنوك بتمويل الدولة، حيث أبرزت أحدث الإحصاءات الصادرة عن البنك المركزي التونسي خلال شهر أوت 2025 تصاعدا لافتًا في حجم القروض الموجهة إلى القطاع العام. فقد قفزت هذه القروض بنسبة 37,5% مقارنة بالعام الماضي، وهي الزيادة الأقوى منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، مما يعكس توجها واضحا نحو اعتماد الخزينة العامة على النظام البنكي المحلي لتغطية احتياجاتها التمويلية. وتُظهر المعطيات أن القروض الممنوحة للدولة أصبحت تمثل 17,9% من إجمالي أصول البنوك التونسية، بعد أن كانت في حدود 14,3% خلال الفترة نفسها من سنة 2024، و12,3% في 2021. هذه الأرقام تعبّر عن تحوّل نوعي في هيكلة ميزانيات البنوك التي باتت تحتضن جزءًا متزايدا من الدين العمومي، وذلك في ظل السياسة النقدية الجديدة للدولة والتي تعتمد على التمويل المحلي والتعويل على الذات.

غير أن هذا الاتجاه، وإن كان يعبّر عن دعم قوي من البنوك للدولة في مرحلة اقتصادية دقيقة، يطرح تساؤلات حول التوازن المنشود بين تمويل الميزانية العمومية للدولة من جهة، ودعم الاقتصاد الحقيقي من جهة أخرى. فالمؤشرات الصادرة عن البنك المركزي تظهر أن نسق القروض الموجهة للقطاع الخاص ما يزال متواضعا، حيث لم يتجاوز معدل نموه 3,5 % إلى حدود أوت 2025، مقابل 3,1 % قبل عام ومتوسط 5,7 % خلال السنوات الخمس الماضية. وحسب ما كشفه خبراء الاقتصاد لـ»الصباح»، فإن هذه الأرقام تكشف أن القطاع الخاص لم يستفد بعد بالقدر الكافي من السيولة البنكية المتاحة، رغم كونه المحرك الأساسي للنمو والتشغيل والاستثمار في تونس.

انخراط البنوك في تمويل القطاع الخاص

ومع ذلك، لا يمكن قراءة هذا الوضع قراءة سلبية مطلقة. إذ من الإنصاف الإشارة إلى أن البنوك التونسية، إلى جانب التزامها بدعم الدولة، بدأت تدريجيا في تنويع مجالات تمويلها وإعادة توجيه جزء من مواردها نحو القطاعات المنتجة، خصوصًا القطاع الفلاحي الذي يُعتبر أحد الركائز الحيوية للاقتصاد الوطني. ففي الفترة الأخيرة، أعلنت عدة مؤسسات مالية، من بينها البنك التونسي للتضامن، عن تمويل مئات الفلاحين في مجالات إنتاج الحبوب وزيت الزيتون، مع رفع سقف القروض الموسمية وتحسين شروط منحها لتكون أكثر مرونة وأقل تعقيدا كما أطلق البنك المركزي مبادرات لتشجيع البنوك على دعم منظومة الزيتون بمختلف حلقاتها، من الإنتاج إلى التحويل والتصدير، إلى جانب مراجعة مقاييس القروض الفلاحية وتحيينها لتواكب المتغيرات المناخية والاقتصادية. هذه الخطوات، وإن كانت لا تزال في بداياتها، تمثل مؤشرات إيجابية على وعي متزايد داخل المنظومة البنكية بأهمية توجيه التمويل نحو القطاعات المنتجة والمستدامة.

ويشدد خبراء الاقتصاد، إن توسيع مشاركة البنوك في تمويل الاقتصاد الحقيقي لا يعد فقط استجابة لحاجة آنية، بل هو خيار استراتيجي لتثبيت دعائم التنمية المستدامة في البلاد. فالاقتصاد الذي يعتمد على الاستثمار والإنتاج يولّد الثروة ويخلق فرص العمل ويخفف العبء عن المالية العمومية، في حين أن الاقتصار على تمويل الدولة وحدها يرسّخ نمطا ريعيا يزيد من هشاشة التوازن المالي ويقلّص من ديناميكية النمو. لذلك، فإن المرحلة المقبلة يجب أن تُبنى على رؤية شاملة تجعل من القطاع الخاص شريكًا رئيسيا في التنمية، لا مجرد متلقٍ ثانوي للتمويل.

ضرورة النهوض بالمؤسسات الصغرى والمتوسطة

وفي هذا السياق، تبرز أهمية المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تمثل أكثر من 90% من النسيج الاقتصادي الوطني، وتشغّل مئات الآلاف من العمال. فتمكين هذه المؤسسات من التمويل الكافي بشروط مناسبة يمكن أن يحوّلها إلى محركات حقيقية للنمو، خاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية مثل الصناعات التحويلية، والخدمات الرقمية، والصناعات الغذائية والطاقات المتجددة. وقد بدأت بعض البنوك الوطنية والخاصة تستشعر هذه الفرصة، فبادرت إلى وضع برامج تمويلية موجهة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة، وأطلقت منتجات جديدة تستهدف الفاعلين الاقتصاديين في الجهات الداخلية، في خطوة تهدف إلى تقليص الفوارق الجهوية وتحقيق عدالة اقتصادية أوسع.

تمويل صغار الفلاحين

ولأن الزراعة تبقى رافعة حيوية في تونس، فإن التمويل البنكي للفلاحين والمزارعين الصغار يشكل اليوم أحد مفاتيح استدامة النمو في المناطق الريفية. فالموسم الفلاحي الجديد 2025-2026 يُعتبر اختبارا لقدرة النظام المالي على مواكبة احتياجات هذا القطاع، الذي يواجه تحديات مناخية واقتصادية متزايدة. وتشير البيانات الرسمية التي تحصلت عليها «الصباح»، أن قيمة التمويلات المخصصة للفلاحة ارتفعت بنسبة تقارب 9% مقارنة بالسنة الماضية، مع توجيه جزء هام منها إلى إنتاج الحبوب وزيت الزيتون، وهما قطاعان يمثلان العمود الفقري للأمن الغذائي وللتصدير التونسي. هذه الديناميكية الجديدة، والتي سبق أن أعلن عنها الرئيس المدير العام للبنك الفلاحي أحمد بن مولاهم لـ»الصباح»، تعكس إدراكا بأن استقرار الاقتصاد لا يتحقق إلا من خلال استقرار منظومته الإنتاجية.

وأفاد المدير العام للبنك الوطني الفلاحي، أحمد بن مولاهم، بأن البنك قرّر الترفيع في حجم التمويلات المخصّصة لموسم الحبوب 2025-2026 لتبلغ 140 مليون دينار، موجّهة لفائدة نحو 4700 فلاح، مقابل 120 مليون دينار خلال الموسم الماضي الذي استفاد منه حوالي 4000 فلاح.

وجاء هذا الإعلان خلال فعاليات اليوم الوطني لتقييم موسم الحبوب والاستعداد لموسم البذر الجديد، حيث أكد بن مولاهم التزام البنك بمواصلة أداء دوره المحوري في دعم منظومة الحبوب بجميع مراحلها، من البذر إلى التجميع، باعتبارها إحدى الدعائم الأساسية لتحقيق الأمن الغذائي وتقليص التبعية للأسواق الخارجية.

وبيّن بن مولاهم أن الموسم الفارط شهد تمويلات مباشرة بقيمة 97 مليون دينار استفاد منها 1300 فلاح، إلى جانب 23 مليون دينار أُسندت عبر آليات التمويل الثلاثي ومتعهد القرض، لفائدة 2700 فلاح من صغار المنتجين. أما في ما يتعلق بتمويل عمليات التجميع، فقد بلغت قيمتها نحو 1791 مليون دينار خُصصت لمجمّعي الحبوب وهياكل التخزين، وهو ما يعكس الدور المحوري الذي يضطلع به البنك الوطني الفلاحي في تمويل مختلف حلقات السلسلة الإنتاجية.

وأكد المدير العام أن الترفيع في حجم التمويلات خلال الموسم الجديد يندرج ضمن إستراتيجية البنك لتوسيع قاعدة المستفيدين ودعم الاستثمار الفلاحي، خاصة في ظل ما يشهده القطاع من تحديات مرتبطة بالتقلبات المناخية وارتفاع كلفة المدخلات، مشيرًا إلى أن البنك عازم على تعزيز موقعه كشريك أساسي للفلاحين والمستثمرين في سبيل تطوير الإنتاج وتحقيق الاستدامة.

تمويل ذكي يخدم المجموعة الوطنية

ورغم أهمية التمويل الموجه للدولة في تلبية التزاماتها وسداد ديونها وضمان استمرارية الخدمات العمومية، إلا أن الاقتصاد الوطني لن يحقق توازنا حقيقيا إلا حين يكون للقطاع الخاص نصيب وافر من التمويلات البنكية، بما يسمح له بالاستثمار والتوسع وخلق الثروة. ويشدد عدد من خبراء الاقتصاد على ضرورة تقوية هذا التوجه، بما يساهم في تعزيز النمو الاقتصادي الحقيقي، وتقليص معدلات البطالة، إضافة إلى توسيع القاعدة الجبائية للدولة عبر نشاط اقتصادي أوسع وأكثر ديناميكية.

ومن الضروري الإقرار أيضا، بأن البنوك التونسية أظهرت قدرة كبيرة على الصمود في وجه الأزمات المالية والاقتصادية التي عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة، كما أبدت مرونة في إدارة مواردها والتوفيق بين خدمة المصلحة العامة وتحقيق مردودية مالية. اليوم، وقد أصبح النظام البنكي أكثر استقرارا بفضل إصلاحات البنك المركزي في ما يتعلق بالمراقبة المالية والرقابة على المخاطر، فإن الفرصة مواتية لإطلاق مرحلة جديدة من التمويل الذكي الذي يوازن بين احتياجات الدولة ومتطلبات القطاع الخاص. هذه المرحلة يجب أن تقوم على شراكة فعلية بين الحكومة والبنوك ومؤسسات التمويل البديلة، بما في ذلك شركات رأس المال المخاطر وصناديق الاستثمار الجهوية، قصد توجيه الموارد نحو المشاريع ذات القيمة المضافة العالية.

ضرورة دعم القطاع الخاص

وتمتلك تونس، اليوم، مقومات النجاح في هذا المسار، بنية مصرفية متطورة، وخبرات مالية عالية، وقطاع خاص طموح، وموقع جغرافي استراتيجي يسمح لها بأن تكون مركزا ماليا واستثماريا في شمال إفريقيا. وإذا ما تم تعزيز الثقة بين الأطراف الفاعلة، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتطوير أدوات الضمان والرقمنة المالية، فإن تدفق التمويلات نحو القطاعات المنتجة سيزداد، بما ينعكس إيجابا على التشغيل والنمو والاستقرار الاجتماعي.

من هذا المنطلق، يرى خبراء الاقتصاد، إن السنوات القادمة يمكن أن تشهد تحوّلا نوعيا في دور البنوك من مجرد ممول للميزانية العامة إلى شريك استراتيجي في التنمية المستدامة. فالتحفيزات الجبائية، وتوسيع برامج القروض الميسّرة، وتشجيع التمويل الأخضر والمشاريع الصديقة للبيئة، كلها أدوات يمكن أن تجعل من المنظومة البنكية رافعة حقيقية للاقتصاد الوطني. وإذا ما نجحت تونس في تعميم هذه المقاربة، فستكون أمام نموذج تمويل متوازن يضمن استقرار المالية العمومية، ويمنح في الوقت نفسه للقطاع الخاص القدرة على النمو والابتكار.

إن المشهد المالي في تونس، رغم ما يطرحه من تحديات، يفتح آفاقا واعدة لمستقبل أكثر توازنا وعدالة. فالرهان اليوم لا يقتصر على إدارة الأزمات، بل على بناء اقتصاد مستدام يُموَّل بذكاء ويُدار بكفاءة، يكون فيه البنك رافعة للتنمية لا مجرد وسيط مالي. وما التحولات الأخيرة في تمويل الفلاحة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة إلا خطوة أولى في هذا الاتجاه، بما يؤكد أن تونس قادرة على استعادة توازنها المالي والاقتصادي إذا ما واصلت السير في نهج الإصلاح والابتكار والشراكة.

سفيان المهداوي

قفزة بـ37,5% في القروض الممنوحة للقطاع العام..   البنوك التونسية تدعم الدولة بوتيرة غير مسبوقة!

تشهد الساحة المالية التونسية تحولات متسارعة في علاقة البنوك بتمويل الدولة، حيث أبرزت أحدث الإحصاءات الصادرة عن البنك المركزي التونسي خلال شهر أوت 2025 تصاعدا لافتًا في حجم القروض الموجهة إلى القطاع العام. فقد قفزت هذه القروض بنسبة 37,5% مقارنة بالعام الماضي، وهي الزيادة الأقوى منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، مما يعكس توجها واضحا نحو اعتماد الخزينة العامة على النظام البنكي المحلي لتغطية احتياجاتها التمويلية. وتُظهر المعطيات أن القروض الممنوحة للدولة أصبحت تمثل 17,9% من إجمالي أصول البنوك التونسية، بعد أن كانت في حدود 14,3% خلال الفترة نفسها من سنة 2024، و12,3% في 2021. هذه الأرقام تعبّر عن تحوّل نوعي في هيكلة ميزانيات البنوك التي باتت تحتضن جزءًا متزايدا من الدين العمومي، وذلك في ظل السياسة النقدية الجديدة للدولة والتي تعتمد على التمويل المحلي والتعويل على الذات.

غير أن هذا الاتجاه، وإن كان يعبّر عن دعم قوي من البنوك للدولة في مرحلة اقتصادية دقيقة، يطرح تساؤلات حول التوازن المنشود بين تمويل الميزانية العمومية للدولة من جهة، ودعم الاقتصاد الحقيقي من جهة أخرى. فالمؤشرات الصادرة عن البنك المركزي تظهر أن نسق القروض الموجهة للقطاع الخاص ما يزال متواضعا، حيث لم يتجاوز معدل نموه 3,5 % إلى حدود أوت 2025، مقابل 3,1 % قبل عام ومتوسط 5,7 % خلال السنوات الخمس الماضية. وحسب ما كشفه خبراء الاقتصاد لـ»الصباح»، فإن هذه الأرقام تكشف أن القطاع الخاص لم يستفد بعد بالقدر الكافي من السيولة البنكية المتاحة، رغم كونه المحرك الأساسي للنمو والتشغيل والاستثمار في تونس.

انخراط البنوك في تمويل القطاع الخاص

ومع ذلك، لا يمكن قراءة هذا الوضع قراءة سلبية مطلقة. إذ من الإنصاف الإشارة إلى أن البنوك التونسية، إلى جانب التزامها بدعم الدولة، بدأت تدريجيا في تنويع مجالات تمويلها وإعادة توجيه جزء من مواردها نحو القطاعات المنتجة، خصوصًا القطاع الفلاحي الذي يُعتبر أحد الركائز الحيوية للاقتصاد الوطني. ففي الفترة الأخيرة، أعلنت عدة مؤسسات مالية، من بينها البنك التونسي للتضامن، عن تمويل مئات الفلاحين في مجالات إنتاج الحبوب وزيت الزيتون، مع رفع سقف القروض الموسمية وتحسين شروط منحها لتكون أكثر مرونة وأقل تعقيدا كما أطلق البنك المركزي مبادرات لتشجيع البنوك على دعم منظومة الزيتون بمختلف حلقاتها، من الإنتاج إلى التحويل والتصدير، إلى جانب مراجعة مقاييس القروض الفلاحية وتحيينها لتواكب المتغيرات المناخية والاقتصادية. هذه الخطوات، وإن كانت لا تزال في بداياتها، تمثل مؤشرات إيجابية على وعي متزايد داخل المنظومة البنكية بأهمية توجيه التمويل نحو القطاعات المنتجة والمستدامة.

ويشدد خبراء الاقتصاد، إن توسيع مشاركة البنوك في تمويل الاقتصاد الحقيقي لا يعد فقط استجابة لحاجة آنية، بل هو خيار استراتيجي لتثبيت دعائم التنمية المستدامة في البلاد. فالاقتصاد الذي يعتمد على الاستثمار والإنتاج يولّد الثروة ويخلق فرص العمل ويخفف العبء عن المالية العمومية، في حين أن الاقتصار على تمويل الدولة وحدها يرسّخ نمطا ريعيا يزيد من هشاشة التوازن المالي ويقلّص من ديناميكية النمو. لذلك، فإن المرحلة المقبلة يجب أن تُبنى على رؤية شاملة تجعل من القطاع الخاص شريكًا رئيسيا في التنمية، لا مجرد متلقٍ ثانوي للتمويل.

ضرورة النهوض بالمؤسسات الصغرى والمتوسطة

وفي هذا السياق، تبرز أهمية المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تمثل أكثر من 90% من النسيج الاقتصادي الوطني، وتشغّل مئات الآلاف من العمال. فتمكين هذه المؤسسات من التمويل الكافي بشروط مناسبة يمكن أن يحوّلها إلى محركات حقيقية للنمو، خاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية مثل الصناعات التحويلية، والخدمات الرقمية، والصناعات الغذائية والطاقات المتجددة. وقد بدأت بعض البنوك الوطنية والخاصة تستشعر هذه الفرصة، فبادرت إلى وضع برامج تمويلية موجهة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة، وأطلقت منتجات جديدة تستهدف الفاعلين الاقتصاديين في الجهات الداخلية، في خطوة تهدف إلى تقليص الفوارق الجهوية وتحقيق عدالة اقتصادية أوسع.

تمويل صغار الفلاحين

ولأن الزراعة تبقى رافعة حيوية في تونس، فإن التمويل البنكي للفلاحين والمزارعين الصغار يشكل اليوم أحد مفاتيح استدامة النمو في المناطق الريفية. فالموسم الفلاحي الجديد 2025-2026 يُعتبر اختبارا لقدرة النظام المالي على مواكبة احتياجات هذا القطاع، الذي يواجه تحديات مناخية واقتصادية متزايدة. وتشير البيانات الرسمية التي تحصلت عليها «الصباح»، أن قيمة التمويلات المخصصة للفلاحة ارتفعت بنسبة تقارب 9% مقارنة بالسنة الماضية، مع توجيه جزء هام منها إلى إنتاج الحبوب وزيت الزيتون، وهما قطاعان يمثلان العمود الفقري للأمن الغذائي وللتصدير التونسي. هذه الديناميكية الجديدة، والتي سبق أن أعلن عنها الرئيس المدير العام للبنك الفلاحي أحمد بن مولاهم لـ»الصباح»، تعكس إدراكا بأن استقرار الاقتصاد لا يتحقق إلا من خلال استقرار منظومته الإنتاجية.

وأفاد المدير العام للبنك الوطني الفلاحي، أحمد بن مولاهم، بأن البنك قرّر الترفيع في حجم التمويلات المخصّصة لموسم الحبوب 2025-2026 لتبلغ 140 مليون دينار، موجّهة لفائدة نحو 4700 فلاح، مقابل 120 مليون دينار خلال الموسم الماضي الذي استفاد منه حوالي 4000 فلاح.

وجاء هذا الإعلان خلال فعاليات اليوم الوطني لتقييم موسم الحبوب والاستعداد لموسم البذر الجديد، حيث أكد بن مولاهم التزام البنك بمواصلة أداء دوره المحوري في دعم منظومة الحبوب بجميع مراحلها، من البذر إلى التجميع، باعتبارها إحدى الدعائم الأساسية لتحقيق الأمن الغذائي وتقليص التبعية للأسواق الخارجية.

وبيّن بن مولاهم أن الموسم الفارط شهد تمويلات مباشرة بقيمة 97 مليون دينار استفاد منها 1300 فلاح، إلى جانب 23 مليون دينار أُسندت عبر آليات التمويل الثلاثي ومتعهد القرض، لفائدة 2700 فلاح من صغار المنتجين. أما في ما يتعلق بتمويل عمليات التجميع، فقد بلغت قيمتها نحو 1791 مليون دينار خُصصت لمجمّعي الحبوب وهياكل التخزين، وهو ما يعكس الدور المحوري الذي يضطلع به البنك الوطني الفلاحي في تمويل مختلف حلقات السلسلة الإنتاجية.

وأكد المدير العام أن الترفيع في حجم التمويلات خلال الموسم الجديد يندرج ضمن إستراتيجية البنك لتوسيع قاعدة المستفيدين ودعم الاستثمار الفلاحي، خاصة في ظل ما يشهده القطاع من تحديات مرتبطة بالتقلبات المناخية وارتفاع كلفة المدخلات، مشيرًا إلى أن البنك عازم على تعزيز موقعه كشريك أساسي للفلاحين والمستثمرين في سبيل تطوير الإنتاج وتحقيق الاستدامة.

تمويل ذكي يخدم المجموعة الوطنية

ورغم أهمية التمويل الموجه للدولة في تلبية التزاماتها وسداد ديونها وضمان استمرارية الخدمات العمومية، إلا أن الاقتصاد الوطني لن يحقق توازنا حقيقيا إلا حين يكون للقطاع الخاص نصيب وافر من التمويلات البنكية، بما يسمح له بالاستثمار والتوسع وخلق الثروة. ويشدد عدد من خبراء الاقتصاد على ضرورة تقوية هذا التوجه، بما يساهم في تعزيز النمو الاقتصادي الحقيقي، وتقليص معدلات البطالة، إضافة إلى توسيع القاعدة الجبائية للدولة عبر نشاط اقتصادي أوسع وأكثر ديناميكية.

ومن الضروري الإقرار أيضا، بأن البنوك التونسية أظهرت قدرة كبيرة على الصمود في وجه الأزمات المالية والاقتصادية التي عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة، كما أبدت مرونة في إدارة مواردها والتوفيق بين خدمة المصلحة العامة وتحقيق مردودية مالية. اليوم، وقد أصبح النظام البنكي أكثر استقرارا بفضل إصلاحات البنك المركزي في ما يتعلق بالمراقبة المالية والرقابة على المخاطر، فإن الفرصة مواتية لإطلاق مرحلة جديدة من التمويل الذكي الذي يوازن بين احتياجات الدولة ومتطلبات القطاع الخاص. هذه المرحلة يجب أن تقوم على شراكة فعلية بين الحكومة والبنوك ومؤسسات التمويل البديلة، بما في ذلك شركات رأس المال المخاطر وصناديق الاستثمار الجهوية، قصد توجيه الموارد نحو المشاريع ذات القيمة المضافة العالية.

ضرورة دعم القطاع الخاص

وتمتلك تونس، اليوم، مقومات النجاح في هذا المسار، بنية مصرفية متطورة، وخبرات مالية عالية، وقطاع خاص طموح، وموقع جغرافي استراتيجي يسمح لها بأن تكون مركزا ماليا واستثماريا في شمال إفريقيا. وإذا ما تم تعزيز الثقة بين الأطراف الفاعلة، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتطوير أدوات الضمان والرقمنة المالية، فإن تدفق التمويلات نحو القطاعات المنتجة سيزداد، بما ينعكس إيجابا على التشغيل والنمو والاستقرار الاجتماعي.

من هذا المنطلق، يرى خبراء الاقتصاد، إن السنوات القادمة يمكن أن تشهد تحوّلا نوعيا في دور البنوك من مجرد ممول للميزانية العامة إلى شريك استراتيجي في التنمية المستدامة. فالتحفيزات الجبائية، وتوسيع برامج القروض الميسّرة، وتشجيع التمويل الأخضر والمشاريع الصديقة للبيئة، كلها أدوات يمكن أن تجعل من المنظومة البنكية رافعة حقيقية للاقتصاد الوطني. وإذا ما نجحت تونس في تعميم هذه المقاربة، فستكون أمام نموذج تمويل متوازن يضمن استقرار المالية العمومية، ويمنح في الوقت نفسه للقطاع الخاص القدرة على النمو والابتكار.

إن المشهد المالي في تونس، رغم ما يطرحه من تحديات، يفتح آفاقا واعدة لمستقبل أكثر توازنا وعدالة. فالرهان اليوم لا يقتصر على إدارة الأزمات، بل على بناء اقتصاد مستدام يُموَّل بذكاء ويُدار بكفاءة، يكون فيه البنك رافعة للتنمية لا مجرد وسيط مالي. وما التحولات الأخيرة في تمويل الفلاحة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة إلا خطوة أولى في هذا الاتجاه، بما يؤكد أن تونس قادرة على استعادة توازنها المالي والاقتصادي إذا ما واصلت السير في نهج الإصلاح والابتكار والشراكة.

سفيان المهداوي