إبراهيم بن مراد: «الحركة القصصية في النصف الثاني من القرن العشرين في تونس عرفت حراكًا مميزًا، قاده جيل الستينيات والسبعينيات، من بين أبرز أسمائه عزّ الدين المدني».
الكاتب عزّ الدين المدني: «الكتابة المسرحية العربية الحديثة مطالَبة بأن تتحرّر من ثقل البلاغة القديمة ومن تكرار النماذج الغربية».
شهد «بيت الحكمة» بقرطاج صباح أمس، الجمعة 10 أكتوبر الجاري، ندوة فكرية حملت عنوان «قراءات أدبية ومسرحية»، خُصّصت لتكريم الأديب والمفكر عزّ الدين المدني، أحد أبرز الأعلام الذين طبعوا المشهد الثقافي التونسي والعربي خلال النصف قرن الأخير. اللقاء الذي نظمه المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون تحت عنوان «قراءات أدبية ومسرحية» لم يكن مجرد احتفاء رمزي، بل مناسبة فكرية أعادت طرح الأسئلة الجوهرية حول الأدب والمسرح ودورهما في تشكيل الوعي الجمالي والفكري العربي، من خلال مداخلتين أساسيتين تدرّجت من التكريم إلى القراءة النقدية والتحليل المعمّق لتجربة المدني ومسار السرد والمسرح العربيين.
في كلمته الافتتاحية، عبّر رئيس المجمع التونسي «بيت الحكمة» محمود بن رمضان، عن عمق تقدير المؤسسة لمسيرة عزّ الدين المدني التي تمثّل، بحسب تعبيره، صفحة مضيئة في تاريخ الأدب التونسي الحديث، وركيزة أساسية في تطوّر التجريب الأدبي والمسرحي في العالم العربي. وقال: «المجمع التونسي بيت الحكمة يحتفي اليوم بعلم من أعلامه وأعلام الثقافة التونسية والعربية والعالمية عزّ الدين المدني، وهو أحد عمداء المجمع وأديب من أدباء تونس البارزين».
وأضاف المتحدث قائلًا إنّ المدني «له الريادة في تجارب أدبية متنوعة، وهو رائد حركة الطليعة الأدبية التونسية ورائد الأدب التجريبي في تونس والعالم العربي. أمّا في المسرح فله تجربة مسرحية فريدة تنطلق من التراث وتنفتح على القضايا الراهنة، ولا شكّ أنه جدير بكل تكريم، لذلك نحتفي به وبمسيرة أدبية تعود إلى ستين سنة».
وأكّد الدكتور محمود بن رمضان أنّ «ميزة هذا التكريم أنه يتزامن مع صدور المجلّد الأول من «الأعمال المسرحية الكاملة»، الذي يجمع أربع مسرحيات وهي: «ثورة صاحب الحمار»، «ديوان ثورة الزنج»، «رحلة الحلاج»، و»مولاي الحسن الحفصي».
وهذه النصوص، كما أوضح بن رمضان، تتقاطع في نفسها الثوري، وتؤكد أنّ المسرح عند المدني لم يكن يومًا ترفًا فنيًا، بل أداة فكرية لطرح الأسئلة التي تتجاوز حدود الخشبة إلى عمق الوعي الجمعي.
الكتابة القصصية العربية بين الجذور والتحولات
في سياق متّصل، قدّم الكاتب والباحث إبراهيم بن مراد خلال الندوة مداخلة بعنوان «الكتابة القصصية العربية اليوم»، تناول فيها تطوّر فنّ القصة في الثقافة العربية منذ جذوره القديمة إلى تحوّلاته الحديثة، مبرزًا الخصائص التي ميّزت التجربة التونسية ضمن السياق العربي العام.
واستهلّ بن مراد حديثه بالتأكيد على أنّ فنّ القصة ليس وافدًا على الثقافة العربية، بل له جذور عميقة في التراث الأدبي والشفوي، بدءًا من القصص الشعري ومرورًا بالقصص القرآني الذي بلغ ذروة النضج الفني والرمزي في قوله تعالى: «نحن نقصّ عليك أحسن القصص»، وصولًا إلى المقامات التي عرفت تطوّرًا ملحوظًا في بنائها الحكائي وبلاغتها الفنية. وأشار إلى أنّ هذه الأشكال القديمة مهّدت لظهور القصة الحديثة عبر تراكم سردي طويل سمح للعرب بتطوير حسّ حكائي خاصّ.
ثم انتقل إلى الحديث عن البدايات الحديثة للكتابة القصصية العربية، مؤكدًا أنّها ارتبطت بالاحتكاك بالغرب في القرن التاسع عشر، وبالتحولات الفكرية والاجتماعية التي عرفتها المجتمعات العربية مع بداية عصر النهضة. ومع مطلع القرن العشرين، تطوّرت القصة القصيرة على حساب الرواية الطويلة، إذ وجدت القصة القصيرة في اليوميّ والواقعيّ مادتها الخصبة، فصارت تُعبّر عن الإنسان العربي في بيئته القريبة ومشكلاته المعيشية.
وضرب بن مراد أمثلة بعدد من الرواد مثل نجيب محفوظ، الذي تجاوز الواقعية التقليدية إلى الغوص في النفس البشرية وتحليل الانفعالات الداخلية، مما جعل أعماله تنتقل من وصف الواقع إلى مساءلة الوجود ذاته. هذه النقلة، كما قال، شكّلت منعطفًا في الأدب العربي المعاصر وفتحت آفاقًا جديدة أمام الأجيال اللاحقة.
وفي السياق التونسي، أشار بن مراد إلى أنّ الحركة القصصية في النصف الثاني من القرن العشرين عرفت حراكًا مميزًا، قاده جيل الستينيات والسبعينيات، من أبرز أسمائه عزّ الدين المدني، محمد العروسي المطوي، ومصطفى الفيلالي وغيرهم. وقد مثّل هذا الجيل تيارًا تجديديًا في السرد التونسي، حيث لم يكتفِ بالرصد الاجتماعي، بل سعى إلى التجريب الفني والتعبير الرمزي عن التحولات السياسية والثقافية في البلاد.
ويرى بن مراد أنّ هذا التيار اتّسم بثلاث خصائص رئيسية: أوّلًا، الوعي بالتجريب والقطيعة مع التقليد، إذ رفض كتّابه إعادة إنتاج القوالب القديمة وسعوا إلى كتابة نصوص تُحدث دهشة القارئ وتُعيد النظر في وظيفة الأدب.
والخاصية الثانية تتعلق بالانحياز الفكري والسياسي، حيث كانت القصة أداة للتعبير عن موقف من الواقع وعن التناقضات الاجتماعية والسياسية. فالأديب، في رأيه، لا يكتب من موقع الحياد، بل من موقع الشاهد المنحاز للحقيقة والجمال معًا.
أما الخاصية الثالثة، فتهم التحوّل اللغوي والأسلوبي، إذ استثمر كتّاب هذه المرحلة اللغة العربية الفصحى بأسلوب رمزي وكثيف، وابتعدوا عن العامية إلا في حدود الضرورة الفنية، مما أكسب نصوصهم طابعًا أدبيًا رصينًا دون أن تفقد نبضها الإنساني.
كما أبرز الكاتب القصصي إبراهيم بن مراد أهمية الرمز والتراث في بناء القصة التونسية، مشيرًا إلى أنّ استخدام الأسطورة والحكاية الشعبية والتاريخ العربي شكّل وسيلة لتكثيف المعنى وتجاوز الرقابة السياسية المباشرة. فالقصة الرمزية كانت بالنسبة إلى جيل الستينيات وسيلة للقول من وراء القناع، دون الوقوع في الخطاب المباشر أو التقريري.
وتوقّف بن مراد أيضًا عند العلاقة المعقّدة بين الواقعي والخيالي في القصة الحديثة، معتبرًا أنّ الكتابة القصصية التونسية طوّرت ما سمّاه «الواقعية المزدوجة»، أي الجمع بين الواقع المعيش والواقع الذهني أو النفسي للشخصيات، وهو ما يظهر في أعمال عزّ الدين المدني خاصة، مثل روايته «الهمّامة» التي تُقدَّم فيها تجربة السرد بوصفها مرآة للذات والواقع في آنٍ واحد.
ودعا الباحث إلى إعادة قراءة التجربة القصصية التونسية والعربية بعيون جديدة، معتبرًا أنّ القصة اليوم لم تعد مجرّد «نصّ قصير»، بل أصبحت مختبرًا فكريًا وجماليًا يختبر علاقة الكاتب بالعالم وبذاته وبالمجتمع. فالكتابة القصصية العربية، في رأيه، ليست في أزمة بقدر ما هي في مرحلة تحوّل تقتضي نقدًا واعيًا واستيعابًا أعمق لما يُكتب اليوم في ضوء تراث طويل وتجارب حديثة لا تزال تتجدّد باستمرار.
الكتابة المسرحية العربية... سؤال الحرية والصوت
وقدّم الكاتب عزّ الدين المدني من جهته مداخلة بعنوان «الكتابة المسرحية العربية»، تحدّث فيها عن خصوصية هذا الفنّ، وعن اللغة التي تُكتب بها نصوصه، وعن علاقته بالواقع وبالإنسان العربي المعاصر، مستعرضًا تجربته الشخصية في المسرح إلى جانب تأملاته الفكرية حول طبيعة الكتابة الدرامية.
وأكّد المتحدث أنّ الكتابة المسرحية ليست فرعًا أدبيًا هامشيًا، بل هي من أكثر الأجناس الأدبية قدرةً على تمثّل الحياة والتعبير عن صراعاتها. فالمسرح، كما يقول، «يعيش بالحركة، ويتغذّى من الجدال، ويقوم على الحجاج». إنّه فنّ لا يُكتب في عزلة، لأنّ وجوده مرتبط بالجماعة، وبالإنسان وهو في مواجهة ذاته والعالم. ومن هنا تأتي فرادته بين الأجناس الأدبية الأخرى.
ويرى المدني أنّ الكتابة المسرحية تختلف جوهريًا عن القصة أو الرواية، فهي لا تقوم على السرد بل على الفعل والحوار والصدام. والنصّ المسرحي، في نظره، «كائن حيّ» لا يُقاس بجمال الجملة أو رهافة الوصف، بل بقدرته على الحركة والتوتّر والانفعال. فالكلمة في المسرح ليست مجرّد أداة لغوية، بل هي فعل، تتنفس وتتحرّك وتتصادم، وتخلق إيقاعها الخاص مثل الموسيقى أو الرقص. لذلك فإنّ المسرح، كما يضيف، «لا يعيش في الورق، بل على الركح، حيث الكلمة تُرى وتُسمع وتُجسَّد».
وانتقل المدني إلى الحديث عن لغة المسرح العربي، مشيرًا إلى أنّ اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل موقف جمالي وفكري. فاللغة المسرحية العربية، في رأيه، لا يمكن أن تظل جامدة أو سجينة النحو الكلاسيكي، بل يجب أن تكون حيّة، نابضة، قادرة على استيعاب إيقاع الحياة اليومية من دون أن تفقد رصانتها. هي لغة بين الفصحى والعامية، بين الشعر والنثر، بين الواقع والرمز.
ويرى أنّ بعض التجارب العربية ما تزال تخاف من الحرية اللغوية، فتكتب مسرحها كما تُكتب الخطب، بينما الكتابة المسرحية الحقيقية هي تلك التي تتكلّم لا التي تُلقى، أي التي تتنفّس عبر الجسد والصوت والحركة.
وتوقّف المدني مطوّلًا عند العلاقة بين المسرح والواقع، معتبرًا أنّ المسرح العربي لا يمكن أن يعيش إلا إذا ظلّ قريبًا من قضايا الإنسان العربي، من همومه وأسئلته، من وجعه اليومي. فالمسرح بالنسبة إليه ليس ترفًا ثقافيًا أو احتفالًا شكليًا، بل هو أداة نقد وتغيير، «ضمير المجتمع» كما وصفه.
وأشار إلى أنّ المسرح السياسي والاجتماعي كان ولا يزال من أهمّ أشكال التعبير المسرحي في العالم العربي، لأنّه يمسّ جوهر الإنسان. ومع ذلك، فإنّ قيمة المسرح لا تُقاس بمدى انخراطه في السياسة، بل بقدرته على مساءلة الإنسان في كلّ زمان ومكان.
وفي حديثه عن طبيعة الكتابة المسرحية، شبّهها المدني بالصناعة الفنية الدقيقة التي تتطلّب حرفية وصبرًا وبناءً متوازنًا بين الصوت والصمت، بين الفعل والإيحاء. فالنصّ المسرحي الجيّد، كما يقول، لا يُكتب دفعة واحدة، بل يُنحَت مثل التمثال. الكلمة فيه ليست وحدها ما يصنع الجمال، بل أيضًا الفراغ الذي يفصل بينها، الإيقاع، التنفّس، واللحظة التي يسكت فيها الممثل ليقول ما لا يُقال.
وأضاف أنّ الكاتب المسرحي ينحت الزمن بالحوار، ويخلق الموسيقى من الكلمة، فالمسرح لا يقوم على اللغة وحدها، بل على المشهد المتكامل بين الكلمة والجسد والصوت والضوء.
وشدّد عزّ الدين المدني أيضًا على أنّ الكتابة المسرحية العربية الحديثة مطالَبة بأن تتحرّر من ثقل البلاغة القديمة ومن تكرار النماذج الغربية، لتبحث عن لغتها الخاصة المنبثقة من الواقع العربي ومن التجربة الإنسانية المشتركة. كما أشار إلى أنّ قدر الكتابة المسرحية العربية هو أن تكون صريحة وشجاعة، تواجه الصمت والخوف، وتعبّر عن المكبوتات الجماعية بجرأة فنية لا تخشى الجدل. فالمسرح، كما يراه، ليس مجرد نصّ مكتوب، بل فعل مقاومة ضدّ الخرس وضدّ اللامبالاة، ومجاله الطبيعي هو الحجاج، أي النقاش الحيّ الذي يُعيد إلى الثقافة العربية دورها النقدي والتنويري.
إيمان عبد اللطيف
إبراهيم بن مراد: «الحركة القصصية في النصف الثاني من القرن العشرين في تونس عرفت حراكًا مميزًا، قاده جيل الستينيات والسبعينيات، من بين أبرز أسمائه عزّ الدين المدني».
الكاتب عزّ الدين المدني: «الكتابة المسرحية العربية الحديثة مطالَبة بأن تتحرّر من ثقل البلاغة القديمة ومن تكرار النماذج الغربية».
شهد «بيت الحكمة» بقرطاج صباح أمس، الجمعة 10 أكتوبر الجاري، ندوة فكرية حملت عنوان «قراءات أدبية ومسرحية»، خُصّصت لتكريم الأديب والمفكر عزّ الدين المدني، أحد أبرز الأعلام الذين طبعوا المشهد الثقافي التونسي والعربي خلال النصف قرن الأخير. اللقاء الذي نظمه المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون تحت عنوان «قراءات أدبية ومسرحية» لم يكن مجرد احتفاء رمزي، بل مناسبة فكرية أعادت طرح الأسئلة الجوهرية حول الأدب والمسرح ودورهما في تشكيل الوعي الجمالي والفكري العربي، من خلال مداخلتين أساسيتين تدرّجت من التكريم إلى القراءة النقدية والتحليل المعمّق لتجربة المدني ومسار السرد والمسرح العربيين.
في كلمته الافتتاحية، عبّر رئيس المجمع التونسي «بيت الحكمة» محمود بن رمضان، عن عمق تقدير المؤسسة لمسيرة عزّ الدين المدني التي تمثّل، بحسب تعبيره، صفحة مضيئة في تاريخ الأدب التونسي الحديث، وركيزة أساسية في تطوّر التجريب الأدبي والمسرحي في العالم العربي. وقال: «المجمع التونسي بيت الحكمة يحتفي اليوم بعلم من أعلامه وأعلام الثقافة التونسية والعربية والعالمية عزّ الدين المدني، وهو أحد عمداء المجمع وأديب من أدباء تونس البارزين».
وأضاف المتحدث قائلًا إنّ المدني «له الريادة في تجارب أدبية متنوعة، وهو رائد حركة الطليعة الأدبية التونسية ورائد الأدب التجريبي في تونس والعالم العربي. أمّا في المسرح فله تجربة مسرحية فريدة تنطلق من التراث وتنفتح على القضايا الراهنة، ولا شكّ أنه جدير بكل تكريم، لذلك نحتفي به وبمسيرة أدبية تعود إلى ستين سنة».
وأكّد الدكتور محمود بن رمضان أنّ «ميزة هذا التكريم أنه يتزامن مع صدور المجلّد الأول من «الأعمال المسرحية الكاملة»، الذي يجمع أربع مسرحيات وهي: «ثورة صاحب الحمار»، «ديوان ثورة الزنج»، «رحلة الحلاج»، و»مولاي الحسن الحفصي».
وهذه النصوص، كما أوضح بن رمضان، تتقاطع في نفسها الثوري، وتؤكد أنّ المسرح عند المدني لم يكن يومًا ترفًا فنيًا، بل أداة فكرية لطرح الأسئلة التي تتجاوز حدود الخشبة إلى عمق الوعي الجمعي.
الكتابة القصصية العربية بين الجذور والتحولات
في سياق متّصل، قدّم الكاتب والباحث إبراهيم بن مراد خلال الندوة مداخلة بعنوان «الكتابة القصصية العربية اليوم»، تناول فيها تطوّر فنّ القصة في الثقافة العربية منذ جذوره القديمة إلى تحوّلاته الحديثة، مبرزًا الخصائص التي ميّزت التجربة التونسية ضمن السياق العربي العام.
واستهلّ بن مراد حديثه بالتأكيد على أنّ فنّ القصة ليس وافدًا على الثقافة العربية، بل له جذور عميقة في التراث الأدبي والشفوي، بدءًا من القصص الشعري ومرورًا بالقصص القرآني الذي بلغ ذروة النضج الفني والرمزي في قوله تعالى: «نحن نقصّ عليك أحسن القصص»، وصولًا إلى المقامات التي عرفت تطوّرًا ملحوظًا في بنائها الحكائي وبلاغتها الفنية. وأشار إلى أنّ هذه الأشكال القديمة مهّدت لظهور القصة الحديثة عبر تراكم سردي طويل سمح للعرب بتطوير حسّ حكائي خاصّ.
ثم انتقل إلى الحديث عن البدايات الحديثة للكتابة القصصية العربية، مؤكدًا أنّها ارتبطت بالاحتكاك بالغرب في القرن التاسع عشر، وبالتحولات الفكرية والاجتماعية التي عرفتها المجتمعات العربية مع بداية عصر النهضة. ومع مطلع القرن العشرين، تطوّرت القصة القصيرة على حساب الرواية الطويلة، إذ وجدت القصة القصيرة في اليوميّ والواقعيّ مادتها الخصبة، فصارت تُعبّر عن الإنسان العربي في بيئته القريبة ومشكلاته المعيشية.
وضرب بن مراد أمثلة بعدد من الرواد مثل نجيب محفوظ، الذي تجاوز الواقعية التقليدية إلى الغوص في النفس البشرية وتحليل الانفعالات الداخلية، مما جعل أعماله تنتقل من وصف الواقع إلى مساءلة الوجود ذاته. هذه النقلة، كما قال، شكّلت منعطفًا في الأدب العربي المعاصر وفتحت آفاقًا جديدة أمام الأجيال اللاحقة.
وفي السياق التونسي، أشار بن مراد إلى أنّ الحركة القصصية في النصف الثاني من القرن العشرين عرفت حراكًا مميزًا، قاده جيل الستينيات والسبعينيات، من أبرز أسمائه عزّ الدين المدني، محمد العروسي المطوي، ومصطفى الفيلالي وغيرهم. وقد مثّل هذا الجيل تيارًا تجديديًا في السرد التونسي، حيث لم يكتفِ بالرصد الاجتماعي، بل سعى إلى التجريب الفني والتعبير الرمزي عن التحولات السياسية والثقافية في البلاد.
ويرى بن مراد أنّ هذا التيار اتّسم بثلاث خصائص رئيسية: أوّلًا، الوعي بالتجريب والقطيعة مع التقليد، إذ رفض كتّابه إعادة إنتاج القوالب القديمة وسعوا إلى كتابة نصوص تُحدث دهشة القارئ وتُعيد النظر في وظيفة الأدب.
والخاصية الثانية تتعلق بالانحياز الفكري والسياسي، حيث كانت القصة أداة للتعبير عن موقف من الواقع وعن التناقضات الاجتماعية والسياسية. فالأديب، في رأيه، لا يكتب من موقع الحياد، بل من موقع الشاهد المنحاز للحقيقة والجمال معًا.
أما الخاصية الثالثة، فتهم التحوّل اللغوي والأسلوبي، إذ استثمر كتّاب هذه المرحلة اللغة العربية الفصحى بأسلوب رمزي وكثيف، وابتعدوا عن العامية إلا في حدود الضرورة الفنية، مما أكسب نصوصهم طابعًا أدبيًا رصينًا دون أن تفقد نبضها الإنساني.
كما أبرز الكاتب القصصي إبراهيم بن مراد أهمية الرمز والتراث في بناء القصة التونسية، مشيرًا إلى أنّ استخدام الأسطورة والحكاية الشعبية والتاريخ العربي شكّل وسيلة لتكثيف المعنى وتجاوز الرقابة السياسية المباشرة. فالقصة الرمزية كانت بالنسبة إلى جيل الستينيات وسيلة للقول من وراء القناع، دون الوقوع في الخطاب المباشر أو التقريري.
وتوقّف بن مراد أيضًا عند العلاقة المعقّدة بين الواقعي والخيالي في القصة الحديثة، معتبرًا أنّ الكتابة القصصية التونسية طوّرت ما سمّاه «الواقعية المزدوجة»، أي الجمع بين الواقع المعيش والواقع الذهني أو النفسي للشخصيات، وهو ما يظهر في أعمال عزّ الدين المدني خاصة، مثل روايته «الهمّامة» التي تُقدَّم فيها تجربة السرد بوصفها مرآة للذات والواقع في آنٍ واحد.
ودعا الباحث إلى إعادة قراءة التجربة القصصية التونسية والعربية بعيون جديدة، معتبرًا أنّ القصة اليوم لم تعد مجرّد «نصّ قصير»، بل أصبحت مختبرًا فكريًا وجماليًا يختبر علاقة الكاتب بالعالم وبذاته وبالمجتمع. فالكتابة القصصية العربية، في رأيه، ليست في أزمة بقدر ما هي في مرحلة تحوّل تقتضي نقدًا واعيًا واستيعابًا أعمق لما يُكتب اليوم في ضوء تراث طويل وتجارب حديثة لا تزال تتجدّد باستمرار.
الكتابة المسرحية العربية... سؤال الحرية والصوت
وقدّم الكاتب عزّ الدين المدني من جهته مداخلة بعنوان «الكتابة المسرحية العربية»، تحدّث فيها عن خصوصية هذا الفنّ، وعن اللغة التي تُكتب بها نصوصه، وعن علاقته بالواقع وبالإنسان العربي المعاصر، مستعرضًا تجربته الشخصية في المسرح إلى جانب تأملاته الفكرية حول طبيعة الكتابة الدرامية.
وأكّد المتحدث أنّ الكتابة المسرحية ليست فرعًا أدبيًا هامشيًا، بل هي من أكثر الأجناس الأدبية قدرةً على تمثّل الحياة والتعبير عن صراعاتها. فالمسرح، كما يقول، «يعيش بالحركة، ويتغذّى من الجدال، ويقوم على الحجاج». إنّه فنّ لا يُكتب في عزلة، لأنّ وجوده مرتبط بالجماعة، وبالإنسان وهو في مواجهة ذاته والعالم. ومن هنا تأتي فرادته بين الأجناس الأدبية الأخرى.
ويرى المدني أنّ الكتابة المسرحية تختلف جوهريًا عن القصة أو الرواية، فهي لا تقوم على السرد بل على الفعل والحوار والصدام. والنصّ المسرحي، في نظره، «كائن حيّ» لا يُقاس بجمال الجملة أو رهافة الوصف، بل بقدرته على الحركة والتوتّر والانفعال. فالكلمة في المسرح ليست مجرّد أداة لغوية، بل هي فعل، تتنفس وتتحرّك وتتصادم، وتخلق إيقاعها الخاص مثل الموسيقى أو الرقص. لذلك فإنّ المسرح، كما يضيف، «لا يعيش في الورق، بل على الركح، حيث الكلمة تُرى وتُسمع وتُجسَّد».
وانتقل المدني إلى الحديث عن لغة المسرح العربي، مشيرًا إلى أنّ اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل موقف جمالي وفكري. فاللغة المسرحية العربية، في رأيه، لا يمكن أن تظل جامدة أو سجينة النحو الكلاسيكي، بل يجب أن تكون حيّة، نابضة، قادرة على استيعاب إيقاع الحياة اليومية من دون أن تفقد رصانتها. هي لغة بين الفصحى والعامية، بين الشعر والنثر، بين الواقع والرمز.
ويرى أنّ بعض التجارب العربية ما تزال تخاف من الحرية اللغوية، فتكتب مسرحها كما تُكتب الخطب، بينما الكتابة المسرحية الحقيقية هي تلك التي تتكلّم لا التي تُلقى، أي التي تتنفّس عبر الجسد والصوت والحركة.
وتوقّف المدني مطوّلًا عند العلاقة بين المسرح والواقع، معتبرًا أنّ المسرح العربي لا يمكن أن يعيش إلا إذا ظلّ قريبًا من قضايا الإنسان العربي، من همومه وأسئلته، من وجعه اليومي. فالمسرح بالنسبة إليه ليس ترفًا ثقافيًا أو احتفالًا شكليًا، بل هو أداة نقد وتغيير، «ضمير المجتمع» كما وصفه.
وأشار إلى أنّ المسرح السياسي والاجتماعي كان ولا يزال من أهمّ أشكال التعبير المسرحي في العالم العربي، لأنّه يمسّ جوهر الإنسان. ومع ذلك، فإنّ قيمة المسرح لا تُقاس بمدى انخراطه في السياسة، بل بقدرته على مساءلة الإنسان في كلّ زمان ومكان.
وفي حديثه عن طبيعة الكتابة المسرحية، شبّهها المدني بالصناعة الفنية الدقيقة التي تتطلّب حرفية وصبرًا وبناءً متوازنًا بين الصوت والصمت، بين الفعل والإيحاء. فالنصّ المسرحي الجيّد، كما يقول، لا يُكتب دفعة واحدة، بل يُنحَت مثل التمثال. الكلمة فيه ليست وحدها ما يصنع الجمال، بل أيضًا الفراغ الذي يفصل بينها، الإيقاع، التنفّس، واللحظة التي يسكت فيها الممثل ليقول ما لا يُقال.
وأضاف أنّ الكاتب المسرحي ينحت الزمن بالحوار، ويخلق الموسيقى من الكلمة، فالمسرح لا يقوم على اللغة وحدها، بل على المشهد المتكامل بين الكلمة والجسد والصوت والضوء.
وشدّد عزّ الدين المدني أيضًا على أنّ الكتابة المسرحية العربية الحديثة مطالَبة بأن تتحرّر من ثقل البلاغة القديمة ومن تكرار النماذج الغربية، لتبحث عن لغتها الخاصة المنبثقة من الواقع العربي ومن التجربة الإنسانية المشتركة. كما أشار إلى أنّ قدر الكتابة المسرحية العربية هو أن تكون صريحة وشجاعة، تواجه الصمت والخوف، وتعبّر عن المكبوتات الجماعية بجرأة فنية لا تخشى الجدل. فالمسرح، كما يراه، ليس مجرد نصّ مكتوب، بل فعل مقاومة ضدّ الخرس وضدّ اللامبالاة، ومجاله الطبيعي هو الحجاج، أي النقاش الحيّ الذي يُعيد إلى الثقافة العربية دورها النقدي والتنويري.