تشهد تونس في السنوات الأخيرة انتعاشا ملموسا في قدرة الأطراف الدولية على تمويل برامج تنموية واسعة النطاق، نتيجة مزيج من تحسّن مؤشرات الاستثمار، بعض إشارات التحسّن في تقييمات التصنيف السيادي، ووجود برامج متزامنة لدعم الاستقرار المالي والاقتصادي.
هذا الدعم يتجلّى اليوم في حزم وقروض ومشروعات موجهة للبنية التحتية، والأمن الغذائي، ودعم مؤسسات صغرى ومتوسطة، والطاقة الخضراء، مع برامج أخرى في طور التنفيذ.
قروض فعلية وحزم مُعلنة (2024–2025)
في منتصف مارس 2024، أقرّ البنك الدولي قرضين لتونس بقيمة إجمالية تقارب 520 مليون دولار موجهين أساسا لمواجهة تحديات الأمن الغذائي وتحسين ربط المناطق عبر محاور طرقية، وهي صفقة دلّت على استمرار الشراكة الإستراتيجية بين تونس والمؤسسات متعددة الأطراف.
على ذات المنوال، عزز البنك الأوروبي للاستثمار وجوده في تونس بتوقيع ونشر تمويلات جديدة بقيمة حوالي 415 مليون يورو خلال عام 2024، تركزت على تحديث البنى التحتية الحضرية، الكهربة والطاقة المتجددة، ودعم التحوّل المناخي، وهو مؤشر واضح على رغبة أوروبا في الحفاظ على شراكة استثمارية طويلة المدى.
من جهة أخرى، وفّر البنك الإفريقي للتنمية (BAD) موارد لبرامج تشغيل وريادة أعمال في تونس بتمويل قدره 92.3 مليون يورو، كما قدّم مبادرة منفصلة بقرض نحو 80.16 مليون يورو لمرحلة جديدة من تحديث الطرق، ما يؤكد تعدّد أدوات البنك الإفريقي بين البنى التحتية ودعم المنظومة الاقتصادية المحلية.
أما البنوك العربية والإسلامية، فكان لها دور ملموس، حيث وقّعت مجموعة البنك الإسلامي للتنمية اتفاق تمويل لتونس بقيمة 60 مليون دولار (منها 50 مليونا لدعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة) في ماي 2024، ويعمل الصندوق الإسلامي للتنمية وبرامج التمويل المشترك على توسيع نطاق الدعم التقني والمالي. وعند جمع هذه الحزم المالية وتحويلها إلى العملة الموحدة، يتجاوز إجمالي التمويلات الموجهة لتونس المليار دولار، ما يعكس حجم الثقة الدولية في الاقتصاد التونسي ورغبة المانحين في دعم الإصلاحات وتحفيز النمو المستدام.
برامج تمويلية مستقبلية
التمويلات المعلنة حتى 2025 ليست فقط عمليات إنقاذية قصيرة الأمد، بل تشكل بداية لمشاريع استثمارية أكبر، فالبنك الأوروبي للاستثمار واصل الإعلان عن حزم جديدة وبرامج لدعم التحوّل الأخضر والتهيئة الحضرية، بينما أعد البنك الإفريقي تقريرا ومخطط عمل خاص لتونس لعام 2025 يضع أولويات تمويلية لقطاعات البنية التحتية والاقتصاد الرقمي. كما صادقت مؤسسات إسلامية وصناديق عربية على مشاريع تمويلية منسقة لتقوية سلاسل القيمة ودعم الاقتصاد المحلي على المستوى الجهوي.
بالإضافة إلى ذلك، تتعاون مؤسسات ضمان الاستثمارات، مع الصناديق العربية لتسهيل تدفق الاستثمارات الخاصة إلى تونس عبر تقليل مخاطر المستثمرين، ما يفتح الباب أمام موجات استثمارية جديدة في قطاعات الطاقة المتجددة والخدمات اللوجستية.
لماذا تتجه البنوك الدولية للاستثمار في تونس الآن؟
المؤشرات الاقتصادية الجيدة، وتحسّن توقعات النمو جعلت السوق التونسية أكثر جاذبية، فالتقارير الدولية تشير إلى انتعاش طفيف بنمو متوقع يناهز 2.6 % في 2025 بعد تباطؤ سابق، مما يتيح فضاءً لتمويل مشروعات ذات جدوى متوسطة الأجل. كما ساهم تحسّن صورة تونس في المخاطر السيادية، في مراجعة وكالات تصنيف دولية لتقييمها تجاه تونس خلال 2025 (مثل ترقية من موديز إلى مستوى (Caa1) مع آفاق مستقرة)، وهذا بدوره يقلّل التكلفة الائتمانية ويرفع من استعداد المقرضين لتقديم تسهيلات.
كما ساهمت المبادرات الداخلية، في تسهيل الاستثمار إلى جانب الإعفاءات الضريبية وحوافز للمشروعات الخضراء، إضافةً إلى ظهور مؤشرات على زيادة تدفّق الاستثمارات خلال 2024 (تقرير محلي أشار إلى ارتفاع الاستثمارات بنسبة 15% في الربع الأول من 2024). كل ذلك يُقوّي من رغبة المستثمرين والمقرضين للدخول والاستثمار في تونس.
أثر هذه التمويلات على الاقتصاد التونسي
حسب خبراء الاقتصاد في تصريحات لـ«الصباح»، فإن التدفقات التمويلية الدولية تخفف غالبا من ضغوط السيولة وتوفر تمويلا لمشروعات بنيوية لا تستطيع الخزينة وحدها تمويلها. فالقروض الموجهة للأمن الغذائي، والطرق والطاقة المتجددة لها أثر مباشر على الشمول الاجتماعي وتخفيض تكاليف النقل والطاقة، ما يسهم في تحسين مناخ الأعمال على المدى المتوسط. لكن في الوقت نفسه يجب إدارة التعهدات الخارجية بحذر، فتحويل التمويل إلى استثمارات منتجة يتطلب ضبطا مؤسسيًا وسياسات مالية تضمن الاستدامة.
فرص تونس في الإقلاع الاقتصادي تتجسد
وتدخل تونس اليوم مرحلة جديدة عنوانها الفرص والتجديد، إذ تشهد البلاد ديناميكية اقتصادية متنامية تدعمها الثقة الدولية والإقليمية في قدرتها على تحويل التمويلات المتدفقة إلى مشاريع ذات قيمة مضافة. فالاستقرار النسبي في السياسات الاقتصادية، وتنامي التعاون بين القطاعين العام والخاص، يعززان قدرة تونس على بناء منظومة استثمارية مستدامة تستفيد من نقاط القوة المحلية والموارد البشرية المؤهلة.
كما تمثل البرامج التمويلية الممنوحة من المؤسسات الدولية والإفريقية والعربية رافعة حقيقية لتسريع التحول نحو اقتصاد أكثر انفتاحا وتنوعا، مع تركيز خاص على الطاقة المتجددة، واللوجستيات الحديثة، والسياحة المستدامة. هذا التوجه يعكس ثقة الشركاء الماليين في قدرة تونس على مواصلة الإصلاح الإيجابي، وتحويل التمويلات إلى محركات نموّ وابتكار، مما يضع البلاد في موقع متقدّم ضمن خارطة الاستثمار في المنطقة.
مؤشرات مالية واقتصادية تدعم المسار الإيجابي
وشهدت المؤشرات الاقتصادية في تونس خلال عامي 2024 و2025 تحسّنا ملحوظا يعكس بداية تعافي تدريجي للاقتصاد الوطني. فبحسب تقارير البنك الدولي، يُتوقّع أن يسجل الاقتصاد التونسي نموًا في حدود 2.6 ٪ في سنة 2025، مقابل 1.4 ٪ في 2024، في حين ذهب صندوق النقد العربي إلى تقدير أكثر تفاؤلًا بنمو يناهز 3.2 ٪ خلال السنة المقبلة. هذه الأرقام تعبّر عن استعادة تدريجية للثقة في قدرة تونس على تحقيق نمو متوازن ومستدام مدفوع بالإصلاحات والتحسن في بيئة الأعمال.
كما شهدت معدلات التضخم تراجعا لافتا، إذ انخفضت إلى حوالي 5% في سبتمبر 2025، وهو أدنى مستوى منذ عام 2021، بفضل السياسات النقدية الحذرة والإدارة الرشيدة للنفقات الأساسية. في الوقت نفسه، تقلّص العجز في الحساب الجاري إلى حدود 1.7 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2024، مدعوما بارتفاع عائدات السياحة وتحويلات التونسيين المقيمين بالخارج، ما خفّف الضغط على احتياطي العملة الصعبة وساهم في تحسين التوازنات المالية الكبرى.
انتعاشة في قطاعات السياحةوالفلاحة والصادرات
وشهد قطاع السياحة التونسية انتعاشة قوية خلال موسم 2024، حيث سجّلت العائدات ارتفاعًا ملحوظًا بفضل عودة الأسواق الأوروبية التقليدية وتوسيع عروض السياحة الداخلية والبيئية، مما أسهم في دعم رصيد البلاد من العملة الصعبة وتحسين ميزان المدفوعات. كما ساهم القطاع الفلاحي بدوره في تعزيز النمو، بعد تحسّن إنتاج زيت الزيتون والحبوب وتنامي الطلب الخارجي عليهما، وهو ما منح دفعة جديدة للصادرات التونسية في الأسواق المتوسطية والأوروبية.
هذه النتائج الإيجابية، وإن كانت جزئية، إلا أنها تعبّر عن تحوّل في هيكلة الاقتصاد نحو إنتاج أكثر تنافسية وقدرة على استيعاب الصدمات. فالتحسينات المتوقعة في البنية التحتية، إلى جانب الاستثمارات في النقل والموانئ، ستمنح المنتجات التونسية قدرة أكبر على الوصول إلى الأسواق الخارجية وتقليص تكاليف التوزيع والنقل.
تحسن في جاذبية تونس الاستثمارية
على مستوى مناخ الأعمال، شهدت تونس خلال السنتين الأخيرتين خطوات إصلاحية ملموسة لتبسيط الإجراءات الإدارية وتشجيع الاستثمار الخاص. وقد أثمرت هذه الجهود عن تحسّن في تصنيفات الجدارة الائتمانية، إذ قامت وكالات دولية على غرار «موديز» بمراجعة نظرتها تجاه تونس إلى مستوى (Caa1) بآفاق مستقرة، في إشارة إلى بداية استعادة الثقة في القدرات التمويلية للدولة.
هذا التقدّم ترافق مع إطلاق برامج وطنية لدعم المبادرة الخاصة، وتوفير إعفاءات جبائية للمشروعات الخضراء وتشجيع الاقتصاد الرقمي، ما جعل السوق التونسية أكثر جاذبية للمستثمرين الدوليين. كما شهد عام 2024 ارتفاعًا بنسبة 15 ٪ في الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال الربع الأول، بفضل تحسّن المناخ التشريعي وتنامي التعاون مع المؤسسات الدولية.
ديناميكية جديدة في البنية التحتية والطاقة المتجددة
وتعدّ مشاريع البنية التحتية والنقل والطاقة من أبرز المستفيدين من التمويلات الدولية الأخيرة، إذ يشير تقرير البنك الدولي إلى أن تحسين الربط اللوجستي والموانئ قد يرفع الناتج المحلي الإجمالي لتونس بنسبة تتراوح بين 4 و5 ٪ خلال السنوات الثلاث المقبلة.
كما بدأت مشاريع التحوّل الطاقي تشهد انطلاقة فعلية مع توسّع الاستثمار في الطاقة الشمسية والرياح، وهو ما من شأنه أن يقلّل من تبعية تونس للوقود المستورد ويوفر موارد مالية هامة للدولة.
وفي هذا الإطار، خصّصت مؤسسات مثل البنك الأوروبي للاستثمار والبنك الإفريقي للتنمية تمويلات كبيرة لدعم التحول الأخضر، بينما تعمل صناديق عربية وإسلامية على تمويل مشاريع للطاقة النظيفة في ولايات الجنوب والوسط، ما يسهم في خلق فرص عمل جديدة ويعزز العدالة الجهوية.
شراكات دولية تعزّز الثقة وتدعم الإصلاحات
الاهتمام المتزايد من قبل المؤسسات المالية الدولية بتونس لا يقتصر على الدعم المالي فحسب، بل يشمل أيضًا نقل الخبرات وتبادل التكنولوجيا وتقديم المساعدة الفنية لتحديث الإدارة العمومية.
فالشراكات القائمة بين تونس والبنك الدولي، والبنك الأوروبي للاستثمار، والبنك الإفريقي للتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية، تتجه نحو تمويل مشاريع رقمية وبيئية تُعيد هيكلة الاقتصاد الوطني على أسس أكثر تنافسية واستدامة.
ويرى المراقبون أن هذا التوجّه يعكس قناعة دولية بأن تونس تسير في الاتجاه الصحيح، وأن الإصلاحات الهيكلية التي شرعت فيها الدولة بدأت تؤتي ثمارها. فالتوازن بين الإصلاح الاقتصادي ودعم الفئات الاجتماعية الضعيفة، مع تحسين الحوكمة والشفافية، جعل البلاد وجهة مفضّلة للمستثمرين الباحثين عن بيئة مستقرة وآمنة في شمال إفريقيا.
من مرحلة التمكين إلى مرحلة الانطلاق
وتشير البيانات المالية منذ عام 2024 إلى أن تونس أصبحت وجهة مفضّلة للمؤسسات التمويلية الكبرى، بفضل ما أبدته من التزام بالإصلاحات، ومرونة في إدارة الموارد، وانفتاح على الشراكات الدولية. هذا الزخم في الدعم يعكس إدراك المجتمع الدولي لإمكانات تونس كمنصة اقتصادية واعدة في شمال إفريقيا، قادرة على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.
واليوم، تملك تونس فرصة تاريخية لتحويل التمويلات الممنوحة إلى قصص نجاح تنموية حقيقية، من خلال تطوير البنية التحتية، وتحفيز ريادة الأعمال، وتمكين الشباب والنساء في سوق العمل. ومع تواصل الإصلاحات البنيوية ومواكبة المعايير الدولية للشفافية والحَوكمة، يُنتظر أن تعرف البلاد خلال السنوات القادمة قفزة نوعية في جاذبية الاستثمار ووتيرة النمو المستدام، لترسخ مكانتها كمركز اقتصادي متطور ومفتوح على العالم.
سفيان المهداوي
تشهد تونس في السنوات الأخيرة انتعاشا ملموسا في قدرة الأطراف الدولية على تمويل برامج تنموية واسعة النطاق، نتيجة مزيج من تحسّن مؤشرات الاستثمار، بعض إشارات التحسّن في تقييمات التصنيف السيادي، ووجود برامج متزامنة لدعم الاستقرار المالي والاقتصادي.
هذا الدعم يتجلّى اليوم في حزم وقروض ومشروعات موجهة للبنية التحتية، والأمن الغذائي، ودعم مؤسسات صغرى ومتوسطة، والطاقة الخضراء، مع برامج أخرى في طور التنفيذ.
قروض فعلية وحزم مُعلنة (2024–2025)
في منتصف مارس 2024، أقرّ البنك الدولي قرضين لتونس بقيمة إجمالية تقارب 520 مليون دولار موجهين أساسا لمواجهة تحديات الأمن الغذائي وتحسين ربط المناطق عبر محاور طرقية، وهي صفقة دلّت على استمرار الشراكة الإستراتيجية بين تونس والمؤسسات متعددة الأطراف.
على ذات المنوال، عزز البنك الأوروبي للاستثمار وجوده في تونس بتوقيع ونشر تمويلات جديدة بقيمة حوالي 415 مليون يورو خلال عام 2024، تركزت على تحديث البنى التحتية الحضرية، الكهربة والطاقة المتجددة، ودعم التحوّل المناخي، وهو مؤشر واضح على رغبة أوروبا في الحفاظ على شراكة استثمارية طويلة المدى.
من جهة أخرى، وفّر البنك الإفريقي للتنمية (BAD) موارد لبرامج تشغيل وريادة أعمال في تونس بتمويل قدره 92.3 مليون يورو، كما قدّم مبادرة منفصلة بقرض نحو 80.16 مليون يورو لمرحلة جديدة من تحديث الطرق، ما يؤكد تعدّد أدوات البنك الإفريقي بين البنى التحتية ودعم المنظومة الاقتصادية المحلية.
أما البنوك العربية والإسلامية، فكان لها دور ملموس، حيث وقّعت مجموعة البنك الإسلامي للتنمية اتفاق تمويل لتونس بقيمة 60 مليون دولار (منها 50 مليونا لدعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة) في ماي 2024، ويعمل الصندوق الإسلامي للتنمية وبرامج التمويل المشترك على توسيع نطاق الدعم التقني والمالي. وعند جمع هذه الحزم المالية وتحويلها إلى العملة الموحدة، يتجاوز إجمالي التمويلات الموجهة لتونس المليار دولار، ما يعكس حجم الثقة الدولية في الاقتصاد التونسي ورغبة المانحين في دعم الإصلاحات وتحفيز النمو المستدام.
برامج تمويلية مستقبلية
التمويلات المعلنة حتى 2025 ليست فقط عمليات إنقاذية قصيرة الأمد، بل تشكل بداية لمشاريع استثمارية أكبر، فالبنك الأوروبي للاستثمار واصل الإعلان عن حزم جديدة وبرامج لدعم التحوّل الأخضر والتهيئة الحضرية، بينما أعد البنك الإفريقي تقريرا ومخطط عمل خاص لتونس لعام 2025 يضع أولويات تمويلية لقطاعات البنية التحتية والاقتصاد الرقمي. كما صادقت مؤسسات إسلامية وصناديق عربية على مشاريع تمويلية منسقة لتقوية سلاسل القيمة ودعم الاقتصاد المحلي على المستوى الجهوي.
بالإضافة إلى ذلك، تتعاون مؤسسات ضمان الاستثمارات، مع الصناديق العربية لتسهيل تدفق الاستثمارات الخاصة إلى تونس عبر تقليل مخاطر المستثمرين، ما يفتح الباب أمام موجات استثمارية جديدة في قطاعات الطاقة المتجددة والخدمات اللوجستية.
لماذا تتجه البنوك الدولية للاستثمار في تونس الآن؟
المؤشرات الاقتصادية الجيدة، وتحسّن توقعات النمو جعلت السوق التونسية أكثر جاذبية، فالتقارير الدولية تشير إلى انتعاش طفيف بنمو متوقع يناهز 2.6 % في 2025 بعد تباطؤ سابق، مما يتيح فضاءً لتمويل مشروعات ذات جدوى متوسطة الأجل. كما ساهم تحسّن صورة تونس في المخاطر السيادية، في مراجعة وكالات تصنيف دولية لتقييمها تجاه تونس خلال 2025 (مثل ترقية من موديز إلى مستوى (Caa1) مع آفاق مستقرة)، وهذا بدوره يقلّل التكلفة الائتمانية ويرفع من استعداد المقرضين لتقديم تسهيلات.
كما ساهمت المبادرات الداخلية، في تسهيل الاستثمار إلى جانب الإعفاءات الضريبية وحوافز للمشروعات الخضراء، إضافةً إلى ظهور مؤشرات على زيادة تدفّق الاستثمارات خلال 2024 (تقرير محلي أشار إلى ارتفاع الاستثمارات بنسبة 15% في الربع الأول من 2024). كل ذلك يُقوّي من رغبة المستثمرين والمقرضين للدخول والاستثمار في تونس.
أثر هذه التمويلات على الاقتصاد التونسي
حسب خبراء الاقتصاد في تصريحات لـ«الصباح»، فإن التدفقات التمويلية الدولية تخفف غالبا من ضغوط السيولة وتوفر تمويلا لمشروعات بنيوية لا تستطيع الخزينة وحدها تمويلها. فالقروض الموجهة للأمن الغذائي، والطرق والطاقة المتجددة لها أثر مباشر على الشمول الاجتماعي وتخفيض تكاليف النقل والطاقة، ما يسهم في تحسين مناخ الأعمال على المدى المتوسط. لكن في الوقت نفسه يجب إدارة التعهدات الخارجية بحذر، فتحويل التمويل إلى استثمارات منتجة يتطلب ضبطا مؤسسيًا وسياسات مالية تضمن الاستدامة.
فرص تونس في الإقلاع الاقتصادي تتجسد
وتدخل تونس اليوم مرحلة جديدة عنوانها الفرص والتجديد، إذ تشهد البلاد ديناميكية اقتصادية متنامية تدعمها الثقة الدولية والإقليمية في قدرتها على تحويل التمويلات المتدفقة إلى مشاريع ذات قيمة مضافة. فالاستقرار النسبي في السياسات الاقتصادية، وتنامي التعاون بين القطاعين العام والخاص، يعززان قدرة تونس على بناء منظومة استثمارية مستدامة تستفيد من نقاط القوة المحلية والموارد البشرية المؤهلة.
كما تمثل البرامج التمويلية الممنوحة من المؤسسات الدولية والإفريقية والعربية رافعة حقيقية لتسريع التحول نحو اقتصاد أكثر انفتاحا وتنوعا، مع تركيز خاص على الطاقة المتجددة، واللوجستيات الحديثة، والسياحة المستدامة. هذا التوجه يعكس ثقة الشركاء الماليين في قدرة تونس على مواصلة الإصلاح الإيجابي، وتحويل التمويلات إلى محركات نموّ وابتكار، مما يضع البلاد في موقع متقدّم ضمن خارطة الاستثمار في المنطقة.
مؤشرات مالية واقتصادية تدعم المسار الإيجابي
وشهدت المؤشرات الاقتصادية في تونس خلال عامي 2024 و2025 تحسّنا ملحوظا يعكس بداية تعافي تدريجي للاقتصاد الوطني. فبحسب تقارير البنك الدولي، يُتوقّع أن يسجل الاقتصاد التونسي نموًا في حدود 2.6 ٪ في سنة 2025، مقابل 1.4 ٪ في 2024، في حين ذهب صندوق النقد العربي إلى تقدير أكثر تفاؤلًا بنمو يناهز 3.2 ٪ خلال السنة المقبلة. هذه الأرقام تعبّر عن استعادة تدريجية للثقة في قدرة تونس على تحقيق نمو متوازن ومستدام مدفوع بالإصلاحات والتحسن في بيئة الأعمال.
كما شهدت معدلات التضخم تراجعا لافتا، إذ انخفضت إلى حوالي 5% في سبتمبر 2025، وهو أدنى مستوى منذ عام 2021، بفضل السياسات النقدية الحذرة والإدارة الرشيدة للنفقات الأساسية. في الوقت نفسه، تقلّص العجز في الحساب الجاري إلى حدود 1.7 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2024، مدعوما بارتفاع عائدات السياحة وتحويلات التونسيين المقيمين بالخارج، ما خفّف الضغط على احتياطي العملة الصعبة وساهم في تحسين التوازنات المالية الكبرى.
انتعاشة في قطاعات السياحةوالفلاحة والصادرات
وشهد قطاع السياحة التونسية انتعاشة قوية خلال موسم 2024، حيث سجّلت العائدات ارتفاعًا ملحوظًا بفضل عودة الأسواق الأوروبية التقليدية وتوسيع عروض السياحة الداخلية والبيئية، مما أسهم في دعم رصيد البلاد من العملة الصعبة وتحسين ميزان المدفوعات. كما ساهم القطاع الفلاحي بدوره في تعزيز النمو، بعد تحسّن إنتاج زيت الزيتون والحبوب وتنامي الطلب الخارجي عليهما، وهو ما منح دفعة جديدة للصادرات التونسية في الأسواق المتوسطية والأوروبية.
هذه النتائج الإيجابية، وإن كانت جزئية، إلا أنها تعبّر عن تحوّل في هيكلة الاقتصاد نحو إنتاج أكثر تنافسية وقدرة على استيعاب الصدمات. فالتحسينات المتوقعة في البنية التحتية، إلى جانب الاستثمارات في النقل والموانئ، ستمنح المنتجات التونسية قدرة أكبر على الوصول إلى الأسواق الخارجية وتقليص تكاليف التوزيع والنقل.
تحسن في جاذبية تونس الاستثمارية
على مستوى مناخ الأعمال، شهدت تونس خلال السنتين الأخيرتين خطوات إصلاحية ملموسة لتبسيط الإجراءات الإدارية وتشجيع الاستثمار الخاص. وقد أثمرت هذه الجهود عن تحسّن في تصنيفات الجدارة الائتمانية، إذ قامت وكالات دولية على غرار «موديز» بمراجعة نظرتها تجاه تونس إلى مستوى (Caa1) بآفاق مستقرة، في إشارة إلى بداية استعادة الثقة في القدرات التمويلية للدولة.
هذا التقدّم ترافق مع إطلاق برامج وطنية لدعم المبادرة الخاصة، وتوفير إعفاءات جبائية للمشروعات الخضراء وتشجيع الاقتصاد الرقمي، ما جعل السوق التونسية أكثر جاذبية للمستثمرين الدوليين. كما شهد عام 2024 ارتفاعًا بنسبة 15 ٪ في الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال الربع الأول، بفضل تحسّن المناخ التشريعي وتنامي التعاون مع المؤسسات الدولية.
ديناميكية جديدة في البنية التحتية والطاقة المتجددة
وتعدّ مشاريع البنية التحتية والنقل والطاقة من أبرز المستفيدين من التمويلات الدولية الأخيرة، إذ يشير تقرير البنك الدولي إلى أن تحسين الربط اللوجستي والموانئ قد يرفع الناتج المحلي الإجمالي لتونس بنسبة تتراوح بين 4 و5 ٪ خلال السنوات الثلاث المقبلة.
كما بدأت مشاريع التحوّل الطاقي تشهد انطلاقة فعلية مع توسّع الاستثمار في الطاقة الشمسية والرياح، وهو ما من شأنه أن يقلّل من تبعية تونس للوقود المستورد ويوفر موارد مالية هامة للدولة.
وفي هذا الإطار، خصّصت مؤسسات مثل البنك الأوروبي للاستثمار والبنك الإفريقي للتنمية تمويلات كبيرة لدعم التحول الأخضر، بينما تعمل صناديق عربية وإسلامية على تمويل مشاريع للطاقة النظيفة في ولايات الجنوب والوسط، ما يسهم في خلق فرص عمل جديدة ويعزز العدالة الجهوية.
شراكات دولية تعزّز الثقة وتدعم الإصلاحات
الاهتمام المتزايد من قبل المؤسسات المالية الدولية بتونس لا يقتصر على الدعم المالي فحسب، بل يشمل أيضًا نقل الخبرات وتبادل التكنولوجيا وتقديم المساعدة الفنية لتحديث الإدارة العمومية.
فالشراكات القائمة بين تونس والبنك الدولي، والبنك الأوروبي للاستثمار، والبنك الإفريقي للتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية، تتجه نحو تمويل مشاريع رقمية وبيئية تُعيد هيكلة الاقتصاد الوطني على أسس أكثر تنافسية واستدامة.
ويرى المراقبون أن هذا التوجّه يعكس قناعة دولية بأن تونس تسير في الاتجاه الصحيح، وأن الإصلاحات الهيكلية التي شرعت فيها الدولة بدأت تؤتي ثمارها. فالتوازن بين الإصلاح الاقتصادي ودعم الفئات الاجتماعية الضعيفة، مع تحسين الحوكمة والشفافية، جعل البلاد وجهة مفضّلة للمستثمرين الباحثين عن بيئة مستقرة وآمنة في شمال إفريقيا.
من مرحلة التمكين إلى مرحلة الانطلاق
وتشير البيانات المالية منذ عام 2024 إلى أن تونس أصبحت وجهة مفضّلة للمؤسسات التمويلية الكبرى، بفضل ما أبدته من التزام بالإصلاحات، ومرونة في إدارة الموارد، وانفتاح على الشراكات الدولية. هذا الزخم في الدعم يعكس إدراك المجتمع الدولي لإمكانات تونس كمنصة اقتصادية واعدة في شمال إفريقيا، قادرة على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.
واليوم، تملك تونس فرصة تاريخية لتحويل التمويلات الممنوحة إلى قصص نجاح تنموية حقيقية، من خلال تطوير البنية التحتية، وتحفيز ريادة الأعمال، وتمكين الشباب والنساء في سوق العمل. ومع تواصل الإصلاحات البنيوية ومواكبة المعايير الدولية للشفافية والحَوكمة، يُنتظر أن تعرف البلاد خلال السنوات القادمة قفزة نوعية في جاذبية الاستثمار ووتيرة النمو المستدام، لترسخ مكانتها كمركز اقتصادي متطور ومفتوح على العالم.