إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

من الاقتصاد الأخضر إلى الأدوية البيوتكنولوجية.. تونس وألمانيا.. شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد

في عالم يتغيّر إيقاعه بسرعة قياسية، وتتداخل فيه التحديات الاقتصادية مع المناخية والتكنولوجية، تبرز الشراكة التونسية–الألمانية كنموذج رائد في المنطقة. فقد تجاوزت العلاقات الثنائية بين البلدين مرحلة التعاون التقليدي، لترسي قصة نجاح متعددة الأبعاد، تمتد من دعم التحوّل نحو الاقتصاد الأخضر، إلى الاستثمار في التكوين المهني، وصولا إلى فتح آفاق جديدة في الصناعات الدوائية البيوتكنولوجية.

ما يميز هذه الشراكة أنها لا تقوم فقط على الدعم المالي أو تبادل المصالح، بل تستند إلى رؤية استراتيجية مشتركة تهدف إلى بناء مقومات تنمية شاملة ومستدامة، مما يجعل من التجربة التونسية–الألمانية مثالا يُحتذى به في كيفية تحويل التعاون الثنائي إلى رافعة حقيقية للتنمية والتقدّم.

نموذج جديد للابتكار

في هذا الإطار، تجسدت أحدث فصول هذه الشراكة في مشروع «النمو النوعي» (2022–2026)، الممول من وزارة التشغيل والتعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية والاتحاد الأوروبي، والمنفذ بالتعاون مع وزارة الصناعة والطاقة. ويهدف هذا المشروع إلى مرافقة المؤسسات الصناعية التونسية في تحسين إنتاجيتها، وتعزيز قدرتها التنافسية، وضمان استدامتها، مع فتح آفاق جديدة للتصدير بمنتجات مطابقة للمواصفات العالمية، في القطاعات ذات الأولوية.

وفي هذا السياق، انعقد يوم 30 سبتمبر الماضي، بتونس، حوار قطاعي حول الأدوية البيوتكنولوجية (Biosimilars)، بحضور ممثلين عن الصناعة الدوائية والوزارات المعنية، إلى جانب خبراء من ألمانيا والاتحاد الأوروبي. وقد مثّل اللقاء محطة هامة لمناقشة الفرص والتحديات المرتبطة بتطوير هذه التكنولوجيا الحيوية الاستراتيجية، التي تفتح لتونس آفاقًا جديدة في مجال الصناعات الدوائية المتقدمة.

ويعكس هذا التنوع في مجالات التعاون أنّ الشراكة التونسية–الألمانية لا تقتصر على الطاقات المتجددة أو التكوين المهني فقط، بل تمتد إلى مجالات الابتكار العلمي الأكثر تقدمًا، حيث تلتقي الكفاءات التونسية بخبرة ألمانيا والاتحاد الأوروبي لبناء صناعة دوائية أكثر تنافسية ومطابقة للمعايير الدولية.

الاقتصاد الأخضر.. آلية المستقبل

من جانب آخر، وبعيدا عن التعاون في الصناعات الدوائية البيوتكنولوجية، يُذكر أن التعاون بين تونس وألمانيا شهد خلال السنوات الأخيرة توسّعا ملحوظا ليشمل مجالات حيوية أخرى مثل الاقتصاد الأخضر، والطاقات المتجددة، والتكوين المهني، وهو ما يعكس عمق الثقة المتبادلة بين الجانبين وحرصهما على بناء مقومات تنمية نوعية ومستدامة.

ففي ظل التحديات التي تفرضها التغيرات المناخية، أصبح الانتقال الطاقي ضرورة ملحّة. وفي هذا السياق، تتقاطع أولويات تونس مع التوجهات الألمانية، إذ قدمت برلين دعمًا نوعيًّا من خلال عدد من المشاريع في مجال الطاقة الشمسية، بهدف تقليص التبعية الطاقية من جهة، وفتح سوق جديدة للاستثمار من جهة أخرى.

ولا تقتصر هذه المشاريع على البعد البيئي فحسب، بل تحمل بعدًا اقتصاديًا واجتماعيًا، من خلال خلق مواطن شغل جديدة، ومنح تونس فرصة التحول إلى منصة إقليمية للطاقات البديلة، خاصة بالنظر إلى موقعها الجغرافي القريب من أوروبا التي تبحث بدورها عن بدائل للطاقة التقليدية. ويُمكن القول إنّ التعاون بين تونس وألمانيا في هذا المجال يتجاوز الشراكة التقنية، ليُجسّد رهانًا استراتيجيًا على المستقبل.

العنصر البشري في قلب الشراكة

وبالتوازي مع الاستثمار في الطاقات المتجددة، ركزت الشراكة التونسية–الألمانية على العنصر البشري، باعتباره المحرك الأساسي لأي عملية إصلاح اقتصادي. ومن هذا المنطلق، حرصت ألمانيا على دعم منظومة التكوين المهني، حيث استفاد آلاف الشبان من النموذج الألماني المعروف بـ»التدرّب المزدوج»، الذي يجمع بين التكوين الأكاديمي والخبرة العملية داخل المؤسسات.

وقد ساهم هذا التوجّه في تقليص الفجوة بين مخرجات التعليم وحاجيات الاقتصاد، كما ساعد على رفع تنافسية اليد العاملة التونسية في قطاعات حيوية مثل الصناعة، والتكنولوجيا، والخدمات، والسياحة. وهو ما يؤكد أن الشراكة بين تونس وألمانيا ليست مجرّد مشاريع، بل هي استثمار في الشباب والمستقبل.

شراكة متوازنة ذات أبعاد متعددة

تقوم الشراكة التونسية–الألمانية على بعدين أساسيين:

البعد الاقتصادي: من خلال دعم المؤسسات والقطاعات الواعدة.

 البعد الاجتماعي: عبر توفير فرص عمل وبناء كفاءات بشرية جديدة.

وهذا ما يجعل هذه الشراكة نموذجا فريدا في المنطقة، فهي تقوم على نقل التكنولوجيا، وتبادل الخبرات، وتعزيز الاستدامة، عوض الاكتفاء بآليات الدعم التقليدي، ما يؤشر إلى علاقة استراتيجية طويلة المدى مبنية على الثقة المتبادلة والرؤية المشتركة.

وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بأن العلاقات بين تونس وألمانيا ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها إلى عقود طويلة، حيث كانت برلين من أبرز الشركاء الأوروبيين لتونس منذ الاستقلال. وعلى مرّ السنوات، تعزّزت هذه العلاقة بشكل لافت، حيث دعمت ألمانيا برامج التنمية والبنية التحتية، وساهمت في دفع عجلة الاستثمار وتعزيز التبادل التجاري، إلى جانب دعمها المستمر لبرامج التكوين والتعليم.

نحو آفاق أوسع

هذا التاريخ المشترك منح الشراكة التونسية–الألمانية رصيدا من الثقة والاحترام المتبادل، ما جعلها قادرة أولا على التكيّف مع المستجدات الإقليمية والدولية، وثانيا على مواصلة التقدّم نحو آفاق استراتيجية أوسع تشمل قطاعات واعدة ومجالات ابتكارية.

فمن الاقتصاد الأخضر إلى التكوين المهني، ومن دعم الشباب إلى تطوير الصناعات الدوائية، تتقدم تونس وألمانيا بخطى ثابتة نحو بناء شراكة متكاملة، شراكة لا تقتصر على الحاضر، بل ترسم ملامح المستقبل، وتؤكد أن التعاون الثنائي، متى ارتكز على الثقة، والابتكار، والرؤية الاستراتيجية الواضحة، يمكن أن يكون نموذجا حقيقيا للتنمية المستدامة.

منال حرزي

من الاقتصاد الأخضر إلى الأدوية البيوتكنولوجية..     تونس وألمانيا.. شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد

في عالم يتغيّر إيقاعه بسرعة قياسية، وتتداخل فيه التحديات الاقتصادية مع المناخية والتكنولوجية، تبرز الشراكة التونسية–الألمانية كنموذج رائد في المنطقة. فقد تجاوزت العلاقات الثنائية بين البلدين مرحلة التعاون التقليدي، لترسي قصة نجاح متعددة الأبعاد، تمتد من دعم التحوّل نحو الاقتصاد الأخضر، إلى الاستثمار في التكوين المهني، وصولا إلى فتح آفاق جديدة في الصناعات الدوائية البيوتكنولوجية.

ما يميز هذه الشراكة أنها لا تقوم فقط على الدعم المالي أو تبادل المصالح، بل تستند إلى رؤية استراتيجية مشتركة تهدف إلى بناء مقومات تنمية شاملة ومستدامة، مما يجعل من التجربة التونسية–الألمانية مثالا يُحتذى به في كيفية تحويل التعاون الثنائي إلى رافعة حقيقية للتنمية والتقدّم.

نموذج جديد للابتكار

في هذا الإطار، تجسدت أحدث فصول هذه الشراكة في مشروع «النمو النوعي» (2022–2026)، الممول من وزارة التشغيل والتعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية والاتحاد الأوروبي، والمنفذ بالتعاون مع وزارة الصناعة والطاقة. ويهدف هذا المشروع إلى مرافقة المؤسسات الصناعية التونسية في تحسين إنتاجيتها، وتعزيز قدرتها التنافسية، وضمان استدامتها، مع فتح آفاق جديدة للتصدير بمنتجات مطابقة للمواصفات العالمية، في القطاعات ذات الأولوية.

وفي هذا السياق، انعقد يوم 30 سبتمبر الماضي، بتونس، حوار قطاعي حول الأدوية البيوتكنولوجية (Biosimilars)، بحضور ممثلين عن الصناعة الدوائية والوزارات المعنية، إلى جانب خبراء من ألمانيا والاتحاد الأوروبي. وقد مثّل اللقاء محطة هامة لمناقشة الفرص والتحديات المرتبطة بتطوير هذه التكنولوجيا الحيوية الاستراتيجية، التي تفتح لتونس آفاقًا جديدة في مجال الصناعات الدوائية المتقدمة.

ويعكس هذا التنوع في مجالات التعاون أنّ الشراكة التونسية–الألمانية لا تقتصر على الطاقات المتجددة أو التكوين المهني فقط، بل تمتد إلى مجالات الابتكار العلمي الأكثر تقدمًا، حيث تلتقي الكفاءات التونسية بخبرة ألمانيا والاتحاد الأوروبي لبناء صناعة دوائية أكثر تنافسية ومطابقة للمعايير الدولية.

الاقتصاد الأخضر.. آلية المستقبل

من جانب آخر، وبعيدا عن التعاون في الصناعات الدوائية البيوتكنولوجية، يُذكر أن التعاون بين تونس وألمانيا شهد خلال السنوات الأخيرة توسّعا ملحوظا ليشمل مجالات حيوية أخرى مثل الاقتصاد الأخضر، والطاقات المتجددة، والتكوين المهني، وهو ما يعكس عمق الثقة المتبادلة بين الجانبين وحرصهما على بناء مقومات تنمية نوعية ومستدامة.

ففي ظل التحديات التي تفرضها التغيرات المناخية، أصبح الانتقال الطاقي ضرورة ملحّة. وفي هذا السياق، تتقاطع أولويات تونس مع التوجهات الألمانية، إذ قدمت برلين دعمًا نوعيًّا من خلال عدد من المشاريع في مجال الطاقة الشمسية، بهدف تقليص التبعية الطاقية من جهة، وفتح سوق جديدة للاستثمار من جهة أخرى.

ولا تقتصر هذه المشاريع على البعد البيئي فحسب، بل تحمل بعدًا اقتصاديًا واجتماعيًا، من خلال خلق مواطن شغل جديدة، ومنح تونس فرصة التحول إلى منصة إقليمية للطاقات البديلة، خاصة بالنظر إلى موقعها الجغرافي القريب من أوروبا التي تبحث بدورها عن بدائل للطاقة التقليدية. ويُمكن القول إنّ التعاون بين تونس وألمانيا في هذا المجال يتجاوز الشراكة التقنية، ليُجسّد رهانًا استراتيجيًا على المستقبل.

العنصر البشري في قلب الشراكة

وبالتوازي مع الاستثمار في الطاقات المتجددة، ركزت الشراكة التونسية–الألمانية على العنصر البشري، باعتباره المحرك الأساسي لأي عملية إصلاح اقتصادي. ومن هذا المنطلق، حرصت ألمانيا على دعم منظومة التكوين المهني، حيث استفاد آلاف الشبان من النموذج الألماني المعروف بـ»التدرّب المزدوج»، الذي يجمع بين التكوين الأكاديمي والخبرة العملية داخل المؤسسات.

وقد ساهم هذا التوجّه في تقليص الفجوة بين مخرجات التعليم وحاجيات الاقتصاد، كما ساعد على رفع تنافسية اليد العاملة التونسية في قطاعات حيوية مثل الصناعة، والتكنولوجيا، والخدمات، والسياحة. وهو ما يؤكد أن الشراكة بين تونس وألمانيا ليست مجرّد مشاريع، بل هي استثمار في الشباب والمستقبل.

شراكة متوازنة ذات أبعاد متعددة

تقوم الشراكة التونسية–الألمانية على بعدين أساسيين:

البعد الاقتصادي: من خلال دعم المؤسسات والقطاعات الواعدة.

 البعد الاجتماعي: عبر توفير فرص عمل وبناء كفاءات بشرية جديدة.

وهذا ما يجعل هذه الشراكة نموذجا فريدا في المنطقة، فهي تقوم على نقل التكنولوجيا، وتبادل الخبرات، وتعزيز الاستدامة، عوض الاكتفاء بآليات الدعم التقليدي، ما يؤشر إلى علاقة استراتيجية طويلة المدى مبنية على الثقة المتبادلة والرؤية المشتركة.

وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بأن العلاقات بين تونس وألمانيا ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها إلى عقود طويلة، حيث كانت برلين من أبرز الشركاء الأوروبيين لتونس منذ الاستقلال. وعلى مرّ السنوات، تعزّزت هذه العلاقة بشكل لافت، حيث دعمت ألمانيا برامج التنمية والبنية التحتية، وساهمت في دفع عجلة الاستثمار وتعزيز التبادل التجاري، إلى جانب دعمها المستمر لبرامج التكوين والتعليم.

نحو آفاق أوسع

هذا التاريخ المشترك منح الشراكة التونسية–الألمانية رصيدا من الثقة والاحترام المتبادل، ما جعلها قادرة أولا على التكيّف مع المستجدات الإقليمية والدولية، وثانيا على مواصلة التقدّم نحو آفاق استراتيجية أوسع تشمل قطاعات واعدة ومجالات ابتكارية.

فمن الاقتصاد الأخضر إلى التكوين المهني، ومن دعم الشباب إلى تطوير الصناعات الدوائية، تتقدم تونس وألمانيا بخطى ثابتة نحو بناء شراكة متكاملة، شراكة لا تقتصر على الحاضر، بل ترسم ملامح المستقبل، وتؤكد أن التعاون الثنائي، متى ارتكز على الثقة، والابتكار، والرؤية الاستراتيجية الواضحة، يمكن أن يكون نموذجا حقيقيا للتنمية المستدامة.

منال حرزي