إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قفزة في سندات الخزينة إلى 31.5 مليار دينار.. تونس تراهن على السوق المحلية في تمويل احتياجاتها

شهدت تونس خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري 2025 تحوّلا لافتا في مؤشرات أدائها المالي، في وقت تتزايد فيه الضغوط على المالية العمومية وتتعقد فيه تحديات تمويل الميزانية. فبحسب البيانات الصادرة عن البنك المركزي التونسي، بلغ إجمالي رصيد سندات الخزينة أكثر من 31.5 مليار دينار في نهاية سبتمبر 2025، وهو ما يمثل ارتفاعا سنويا بنحو 15.8 % مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.

ويُعد هذا الارتفاع من أبرز المؤشرات على تزايد اعتماد الدولة على أدوات الدين الداخلي لتغطية حاجياتها التمويلية، في ظل محدودية الموارد الذاتية وصعوبة الولوج إلى الأسواق المالية الدولية.

رهان على السوق المحلية

وتبدو الحكومة التونسية، وفق ما تكشفه هذه الأرقام، قد اختارت بوضوح الرهان على السوق المالية المحلية لتأمين تمويلاتها، خصوصاً بعد تراجع نسق القروض الخارجية وتعقّد المفاوضات مع المؤسسات المالية الدولية.

فأدوات الدين الداخلي، وفي مقدمتها سندات الخزينة، باتت تمثل خيارا عمليا لتعبئة السيولة من المؤسسات البنكية وصناديق الاستثمار المحلية وحتى الأفراد. ويعكس هذا التحول رغبة واضحة في الحفاظ على قدر من الاستقلالية في التمويل، وتقليص الاعتماد على المانحين الخارجيين الذين يربطون مساعداتهم بشروط اقتصادية وإصلاحات هيكلية ثقيلة، فضلا عن تطبيق قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد الرامية إلى التعويل على الذات في مصادر التمويلات للدولة التونسية، في خطوة تهدف إلى الحد من التبعية للخارج وتقليص الدين الخارجي .

تباين حاد بين السندات قصيرة وطويلة الأجل

غير أن التعمق في هيكلة هذه السندات يكشف عن تحول جوهري في تركيبة الدين الداخلي. فقد سجّلت سندات الخزينة قصيرة الأجل تراجعا من 10.52 مليارات دينار إلى 3.02 مليارات دينار فقط، أي بانخفاض قدره 71.3 % في غضون عام واحد. في المقابل، واصلت السندات القابلة للتنظير – وهي أدوات دين متوسطة وطويلة الأجل – ارتفاعها الكبير من 16.69 مليار دينار إلى 28.49 مليار دينار، بزيادة تُقدّر بنحو 70.6 %.

هذا التباين يعكس بوضوح، حسب خبراء الاقتصاد ، توجها جديدا في سياسة التمويل العمومي، يقوم على تقليص الاعتماد على الديون القصيرة الأجل ذات الكلفة العالية، واستبدالها بأدوات أطول أجلا تمنح الخزينة فسحة زمنية أوسع وتقلّص الضغوط المالية الفورية.

كما أنه يشير إلى تغيّر في سلوك المستثمرين المحليين الذين أبدوا إقبالا متزايدا على السندات القابلة للتنظير، لما توفره من أمان واستقرار وسيولة في الأسواق المالية، ولما تعكسه من ثقة متنامية في قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها المستقبلية.

بين الحاجة للتمويل وتحسين هيكلة الدين

ويؤكد خبراء الاقتصاد لـ«الصباح»، إنّ ارتفاع رصيد سندات الخزينة لا يمكن قراءته بمعزل عن الوضع المالي العام للدولة. فهو من جهة يعكس تزايد حاجات التمويل نتيجة استمرار العجز في الميزانية واتساع الفجوة بين الإيرادات والنفقات، ومن جهة أخرى يدل على جهود لإعادة هيكلة الدين العمومي باتجاه أدوات تمويل أكثر استدامة وأقل كلفة.

فالاعتماد على سندات الخزينة القابلة للتنظير، رغم أنه يرفع من حجم الدين الداخلي الإجمالي، إلا أنه يتيح للحكومة إدارة التزاماتها بطريقة أكثر مرونة ويقلّص من مخاطر التداين قصير الأجل الذي غالباً ما يفرض تجديداً متكرراً بأسعار فائدة مرتفعة.

ويُنظر إلى هذا التحول على أنه خطوة إصلاحية في هيكلة الدين العام، حتى وإن ظل مستوى المديونية مرتفعا، إذ يبلغ الدين العمومي التونسي حالياً نحو 135 مليار دينار، أي ما يفوق 80 % من الناتج المحلي الإجمالي تقريبا.

مؤشرات تحقق التوازن النسبي

كما يؤكد خبراء الاقتصاد أن هذا التوازن النسبي يمثّل مكسبا من حيث تخفيف التبعية الخارجية، لكنه في المقابل قد يؤدي إلى ضغط متزايد على الجهاز البنكي المحلي الذي يمتصّ جزءا كبيراً من السيولة لتغطية الاكتتاب في هذه السندات.

من جهة أخرى، تُظهر البيانات أن كلفة خدمة الدين العمومي واصلت ارتفاعها خلال 2025، لتبلغ 9 مليارات دينار مع نهاية مارس، بزيادة 26 % مقارنة بنفس الفترة من 2024. وتوزعت هذه الكلفة بين 7.4 مليارات دينار خُصصت لسداد أصل الدين – بزيادة سنوية كبيرة قدرها 38.6 % – و1.6 مليار دينار للفوائد، التي سجلت تراجعا نسبيا بنسبة 10.4 %.

وتعكس هذه الأرقام نجاح الدولة في تقليص كلفة الفوائد عبر الاعتماد على أدوات دين أقل كلفة، إلا أن ارتفاع حجم الدين الإجمالي جعل خدمة الدين أكثر ثقلا على الميزانية العامة.

ثقة السوق المحلية... عامل حاسم

وتحظى السندات الحكومية عادة بمكانة خاصة في الأسواق المالية، إذ تُعدّ مؤشرا على مستوى الثقة في الدولة المقترضة. وفي الحالة التونسية، تكشف أن ثقة المستثمرين المحليين لا تزال قائمة، وهو ما يفسّر تزايد الإقبال على الاكتتاب في السندات طويلة الأجل. فالمؤسسات البنكية وصناديق الاستثمار تعتبر هذه الأدوات من أكثر الاستثمارات أمانا، رغم محدودية العائد، لأنها مضمونة من الدولة وتوفر سيولة عالية في سوق المال. وفي المقابل، ترى الحكومة في هذا الإقبال وسيلة لتأمين تمويل مستقر دون الحاجة إلى اللجوء إلى الأسواق الدولية أو انتظار صرف قروض خارجية غالبا ما تكون مشروطة بإصلاحات اجتماعية واقتصادية معقدة.

انعكاسات اقتصادية ومالية أوسع

ويُجمع محللون اقتصاديون على أن تطور سندات الخزينة يحمل في طياته دلالات متعددة تتجاوز الجانب المحاسبي. فمن جهة، يُعدّ مؤشرا على قدرة الدولة على تعبئة موارد داخلية في ظرف اقتصادي صعب، ومن جهة أخرى، يعبّر عن تحول هيكلي في سياسات التمويل العمومي.

لكنهم يحذرون في الوقت ذاته من أن الإفراط في الاعتماد على الاقتراض الداخلي قد يؤدي إلى تزاحم التمويل بين الدولة والقطاع الخاص، وهو ما قد يحدّ من قدرة المؤسسات الاقتصادية على الحصول على التمويلات البنكية الضرورية للاستثمار والتشغيل.

نحو رؤية تمويلية أكثر توازنا

وتبدو المرحلة الراهنة مفصلية في مسار إدارة المالية العمومية بتونس. فبين الحاجة الملحّة لتعبئة الموارد وضمان استقرار المالية العامة، وبين السعي لتقليص كلفة الدين وتحسين هيكلته، يظلّ التحدي الأكبر هو تحقيق توازن بين الاقتراض والإصلاح الاقتصادي.

ويؤكد خبراء أن الحل لا يكمن في التوسع في إصدار السندات فقط، بل في رفع كفاءة الإنفاق العمومي وتحسين تعبئة الموارد الجبائية، بما يتيح للدولة تقليص حاجتها إلى التمويل بالدين تدريجيا. وإجمالا، يمثل بلوغ رصيد سندات الخزينة 31.5 مليار دينار نهاية سبتمبر 2025، علامة فارقة في مسار المالية التونسية، ويعكس من جهة قدرة الدولة على تعبئة موارد داخلية مهمة، ومن جهة أخرى استمرار اعتمادها المكثف على أدوات الدين لتغطية التزاماتها. وفيما يُعدّ التحول نحو السندات الطويلة الأجل خطوة إيجابية من حيث إدارة المخاطر وتقليص الأعباء الفورية، إلا أنّ التحدي الأكبر يبقى في السيطرة على نمو الدين العمومي، وإعادة الثقة إلى الاقتصاد الحقيقي، والحد من المديونية الداخلية والخارجية بما يمكن تونس من استعادة توازناتها المالية.

سفيان المهداوي

قفزة في سندات الخزينة إلى 31.5 مليار دينار..   تونس تراهن على السوق المحلية في تمويل احتياجاتها

شهدت تونس خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري 2025 تحوّلا لافتا في مؤشرات أدائها المالي، في وقت تتزايد فيه الضغوط على المالية العمومية وتتعقد فيه تحديات تمويل الميزانية. فبحسب البيانات الصادرة عن البنك المركزي التونسي، بلغ إجمالي رصيد سندات الخزينة أكثر من 31.5 مليار دينار في نهاية سبتمبر 2025، وهو ما يمثل ارتفاعا سنويا بنحو 15.8 % مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.

ويُعد هذا الارتفاع من أبرز المؤشرات على تزايد اعتماد الدولة على أدوات الدين الداخلي لتغطية حاجياتها التمويلية، في ظل محدودية الموارد الذاتية وصعوبة الولوج إلى الأسواق المالية الدولية.

رهان على السوق المحلية

وتبدو الحكومة التونسية، وفق ما تكشفه هذه الأرقام، قد اختارت بوضوح الرهان على السوق المالية المحلية لتأمين تمويلاتها، خصوصاً بعد تراجع نسق القروض الخارجية وتعقّد المفاوضات مع المؤسسات المالية الدولية.

فأدوات الدين الداخلي، وفي مقدمتها سندات الخزينة، باتت تمثل خيارا عمليا لتعبئة السيولة من المؤسسات البنكية وصناديق الاستثمار المحلية وحتى الأفراد. ويعكس هذا التحول رغبة واضحة في الحفاظ على قدر من الاستقلالية في التمويل، وتقليص الاعتماد على المانحين الخارجيين الذين يربطون مساعداتهم بشروط اقتصادية وإصلاحات هيكلية ثقيلة، فضلا عن تطبيق قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد الرامية إلى التعويل على الذات في مصادر التمويلات للدولة التونسية، في خطوة تهدف إلى الحد من التبعية للخارج وتقليص الدين الخارجي .

تباين حاد بين السندات قصيرة وطويلة الأجل

غير أن التعمق في هيكلة هذه السندات يكشف عن تحول جوهري في تركيبة الدين الداخلي. فقد سجّلت سندات الخزينة قصيرة الأجل تراجعا من 10.52 مليارات دينار إلى 3.02 مليارات دينار فقط، أي بانخفاض قدره 71.3 % في غضون عام واحد. في المقابل، واصلت السندات القابلة للتنظير – وهي أدوات دين متوسطة وطويلة الأجل – ارتفاعها الكبير من 16.69 مليار دينار إلى 28.49 مليار دينار، بزيادة تُقدّر بنحو 70.6 %.

هذا التباين يعكس بوضوح، حسب خبراء الاقتصاد ، توجها جديدا في سياسة التمويل العمومي، يقوم على تقليص الاعتماد على الديون القصيرة الأجل ذات الكلفة العالية، واستبدالها بأدوات أطول أجلا تمنح الخزينة فسحة زمنية أوسع وتقلّص الضغوط المالية الفورية.

كما أنه يشير إلى تغيّر في سلوك المستثمرين المحليين الذين أبدوا إقبالا متزايدا على السندات القابلة للتنظير، لما توفره من أمان واستقرار وسيولة في الأسواق المالية، ولما تعكسه من ثقة متنامية في قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها المستقبلية.

بين الحاجة للتمويل وتحسين هيكلة الدين

ويؤكد خبراء الاقتصاد لـ«الصباح»، إنّ ارتفاع رصيد سندات الخزينة لا يمكن قراءته بمعزل عن الوضع المالي العام للدولة. فهو من جهة يعكس تزايد حاجات التمويل نتيجة استمرار العجز في الميزانية واتساع الفجوة بين الإيرادات والنفقات، ومن جهة أخرى يدل على جهود لإعادة هيكلة الدين العمومي باتجاه أدوات تمويل أكثر استدامة وأقل كلفة.

فالاعتماد على سندات الخزينة القابلة للتنظير، رغم أنه يرفع من حجم الدين الداخلي الإجمالي، إلا أنه يتيح للحكومة إدارة التزاماتها بطريقة أكثر مرونة ويقلّص من مخاطر التداين قصير الأجل الذي غالباً ما يفرض تجديداً متكرراً بأسعار فائدة مرتفعة.

ويُنظر إلى هذا التحول على أنه خطوة إصلاحية في هيكلة الدين العام، حتى وإن ظل مستوى المديونية مرتفعا، إذ يبلغ الدين العمومي التونسي حالياً نحو 135 مليار دينار، أي ما يفوق 80 % من الناتج المحلي الإجمالي تقريبا.

مؤشرات تحقق التوازن النسبي

كما يؤكد خبراء الاقتصاد أن هذا التوازن النسبي يمثّل مكسبا من حيث تخفيف التبعية الخارجية، لكنه في المقابل قد يؤدي إلى ضغط متزايد على الجهاز البنكي المحلي الذي يمتصّ جزءا كبيراً من السيولة لتغطية الاكتتاب في هذه السندات.

من جهة أخرى، تُظهر البيانات أن كلفة خدمة الدين العمومي واصلت ارتفاعها خلال 2025، لتبلغ 9 مليارات دينار مع نهاية مارس، بزيادة 26 % مقارنة بنفس الفترة من 2024. وتوزعت هذه الكلفة بين 7.4 مليارات دينار خُصصت لسداد أصل الدين – بزيادة سنوية كبيرة قدرها 38.6 % – و1.6 مليار دينار للفوائد، التي سجلت تراجعا نسبيا بنسبة 10.4 %.

وتعكس هذه الأرقام نجاح الدولة في تقليص كلفة الفوائد عبر الاعتماد على أدوات دين أقل كلفة، إلا أن ارتفاع حجم الدين الإجمالي جعل خدمة الدين أكثر ثقلا على الميزانية العامة.

ثقة السوق المحلية... عامل حاسم

وتحظى السندات الحكومية عادة بمكانة خاصة في الأسواق المالية، إذ تُعدّ مؤشرا على مستوى الثقة في الدولة المقترضة. وفي الحالة التونسية، تكشف أن ثقة المستثمرين المحليين لا تزال قائمة، وهو ما يفسّر تزايد الإقبال على الاكتتاب في السندات طويلة الأجل. فالمؤسسات البنكية وصناديق الاستثمار تعتبر هذه الأدوات من أكثر الاستثمارات أمانا، رغم محدودية العائد، لأنها مضمونة من الدولة وتوفر سيولة عالية في سوق المال. وفي المقابل، ترى الحكومة في هذا الإقبال وسيلة لتأمين تمويل مستقر دون الحاجة إلى اللجوء إلى الأسواق الدولية أو انتظار صرف قروض خارجية غالبا ما تكون مشروطة بإصلاحات اجتماعية واقتصادية معقدة.

انعكاسات اقتصادية ومالية أوسع

ويُجمع محللون اقتصاديون على أن تطور سندات الخزينة يحمل في طياته دلالات متعددة تتجاوز الجانب المحاسبي. فمن جهة، يُعدّ مؤشرا على قدرة الدولة على تعبئة موارد داخلية في ظرف اقتصادي صعب، ومن جهة أخرى، يعبّر عن تحول هيكلي في سياسات التمويل العمومي.

لكنهم يحذرون في الوقت ذاته من أن الإفراط في الاعتماد على الاقتراض الداخلي قد يؤدي إلى تزاحم التمويل بين الدولة والقطاع الخاص، وهو ما قد يحدّ من قدرة المؤسسات الاقتصادية على الحصول على التمويلات البنكية الضرورية للاستثمار والتشغيل.

نحو رؤية تمويلية أكثر توازنا

وتبدو المرحلة الراهنة مفصلية في مسار إدارة المالية العمومية بتونس. فبين الحاجة الملحّة لتعبئة الموارد وضمان استقرار المالية العامة، وبين السعي لتقليص كلفة الدين وتحسين هيكلته، يظلّ التحدي الأكبر هو تحقيق توازن بين الاقتراض والإصلاح الاقتصادي.

ويؤكد خبراء أن الحل لا يكمن في التوسع في إصدار السندات فقط، بل في رفع كفاءة الإنفاق العمومي وتحسين تعبئة الموارد الجبائية، بما يتيح للدولة تقليص حاجتها إلى التمويل بالدين تدريجيا. وإجمالا، يمثل بلوغ رصيد سندات الخزينة 31.5 مليار دينار نهاية سبتمبر 2025، علامة فارقة في مسار المالية التونسية، ويعكس من جهة قدرة الدولة على تعبئة موارد داخلية مهمة، ومن جهة أخرى استمرار اعتمادها المكثف على أدوات الدين لتغطية التزاماتها. وفيما يُعدّ التحول نحو السندات الطويلة الأجل خطوة إيجابية من حيث إدارة المخاطر وتقليص الأعباء الفورية، إلا أنّ التحدي الأكبر يبقى في السيطرة على نمو الدين العمومي، وإعادة الثقة إلى الاقتصاد الحقيقي، والحد من المديونية الداخلية والخارجية بما يمكن تونس من استعادة توازناتها المالية.

سفيان المهداوي