له ثلاث عشرة رواية، آخرها «أيتها القبّرة»، معظمها صدرت عن دار نشر لبنانية . توجت روايته «الاشتياق إلى الجارة» بجائزة كتارا، وكان لثلاث من رواياته حضور لافت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة. وتمّ تدريس بعض رواياته في جامعات في تونس وفرنسا والولايات المتّحدة الأميركيّة، كما نوقشت أطروحة دكتوراه عن روايته «عشّاق بيّة» في جامعة السربون في فرنسا، إلى جانب إنجاز بحوث أكاديميّة كثيرة عن رواياته في عدّة بلدان عربيّة.
هو الكاتب والروائي الحبيب السالمي الذي يتفق النقاد والمهتمون بالشأن السردي في تونس والوطن العربي أنّه أحد المجدّدين في الرواية العربيّة مبنى ومعنى.
الحبيب السالمي التقته «الصباح» في حوار، هذه حصيلته:
*ماذا تحتفظ ذاكرتك مع أوّل نصّ كتبته؟
ـ أوّل نصّ كتبته هو شبه قصّة عنوانها «سوف أكون حدّادا». أذيع النص في برنامج أدبي في الإذاعة الوطنيّة، في برنامج اسمه «هواة الأدب»، كان يشرف عليه الشاعر المعروف أحمد اللغماني. كان البرنامج يذاع ثلاثة أيّام في الأسبوع، وكان يتضمّن قصائد وقصصا قصيرة يقرأها عادل يوسف ثم تناقش من قبل أحمد اللغماني وأحد ضيوفه من الكتّاب المعروفين مثل مصطفى الفارسي والمنجي الشملي. وفي نهاية كل شهر يتمّ اختيار أفضل قصّة قصيرة وأفضل قصيدة، وتمنح لصاحبيهما جائزة ماليّة تقدّر بخمسة عشر دينارا. والأهمّ من ذلك تُنشَر القصّة في مجلّة «الإذاعة والتلفزيون». أذكر أنّي فزت ثلاث مرّات بهذه الجائزة. كنت لا أزال آنذاك تلميذا في السنة الأخيرة من التعليم الثانوي.
أمّا أوّل قصّة حقيقيّة فقد نشرتها في مجلة أدبيّة وهي «قصص»، التي كان يديرها محمد العروسي المطوي. تحمل القصّة عنوان «ضربة العصا». كتبتها وأنا طالب في كليّة الآداب. كنت أتردّد آنذاك على نادي القصّة. كانت هناك كل يوم سبت جلسة أدبيّة مفتوحة يحضرها كتّاب معروفون مثل حسن نصر وصالح الجابري وسمير العيّادي وعز الدين المدني. وأثناء الجلسة يقرأ الكاتب قصّته الجديدة، ثم يبدي الكتّاب رأيهم فيها، وإن أعجبتهم تُنشر في العدد القادم من مجلة «قصص».
*أيّ تأثير للبيئة التي عشت فيها على مسيرتك الإبداعيّة؟
ـ للبيئة تأثير قويّ على ما يكتب الكاتب. الذاكرة تختزل كل شيء: الأمكنة، الروائح، الألوان، الأحداث. في الكثير من رواياتي أستعيد مناخات هذه البيئة أو ما تبقّى منها في الذاكرة. وهذه الاستعادة ليست ذاتها في كل الروايات، وإنما تتّخذ أشكالا عدّة حسب الزمن والحالة النفسيّة أثناء الكتابة، وعوامل أخرى قد لا نتحكّم فيها تماما لأنها تصدر عمّا يخبّئه لنا لاوعينا من أحداث وأحاسيس ورؤى وانطباعات.
لقد أمضيت السبعة عشرة عاما الأولى من حياتي في قرية العلا التي ولدت فيها. ومعظم هذه الأعوام تعود إلى الطفولة، وهي كما تعلم مرحلة أساسيّة جدّا في تكوين وعي الفرد. لذا فإنّ الكثير من رواياتي، حتى تلك التي تدور أحداثها في باريس، تنطوي على مناخات هذه البيئة الريفيّة.
*إلى أي مدى يمكن القول إنّ الجذور هي الملهم الأوّل للكاتب؟
ـ من المؤكّد أنّ الجذور هي أحد ينابيع الكتابة الكبرى. لكن لا أدري إن كانت هي الملهم الأوّل. عمليّة الكتابة عمليّة معقّدة وغامضة، وإن بدت في الظاهر واضحة. فهي تخضع لعوامل مختلفة ومتداخلة، لذا لا نستطيع أن نفصلها عن بعضها البعض وأن نرتّبها وفق تسلسل منطقي فنقول هذا ملهم أوّل وهذا ملهم ثان...
*اخترت العيش والاستقرار في باريس.. أيّ تأثير لذلك في صياغة شخصيّتك الإبداعيّة وأنت تعيش في مناخ منفتح على ثقافات عالميّة متعدّدة ومتنوّعة؟
ـ بدءا أشير إلى أنّه كان من الممكن أن أبقى في تونس. فقد كنت أستاذا في التعليم الثانوي. كنت قد نشرت مجموعتي القصصيّة الأولى «مدن الرجل المهاجر»، التي صدرت عن أكبر دار نشر في تونس آنذاك ، وفازت بجائزة الدولة. قرّرت أن أترك مهنتي وكلّ ما لديّ في تونس وأن أجازف وأغادر إلى بلد أوروبي. كنت أريد أن أخوض مغامرة كبرى تكسبني تجارب وخبرات أخرى وتفتح لي آفاقا جديدة.
طبعا اخترت فرنسا، وتحديدا باريس. في تلك الفترة كنت أتابع الحركة الثقافيّة والأدبيّة في فرنسا من خلال الصحف والمجلاّت الفرنسيّة التي كانت توزّع في تونس، وكنت منبهرا بما أقرأه. في باريس اكتشفت كتّابا ورسامين وسينمائيين وفلاسفة من كل أنحاء العالم لم أكن أعرفهم أو كانت معرفتي بهم محدودة. التقيت بعضهم وأيضا بالكثير من الكتّاب العرب الذين كانوا يتردّدون على باريس أو يقيمون فيها. وفي باريس قرأت العديد من الروايات. في الحقيقة اكتشفت هناك قيمة الرواية. كنت قد كتبت في تونس روايتي الأولى «جبل العنز»، لكني لم أنشرها، وقد أعدت كتابتها في باريس قبل نشرها.
*ما هي مهمّة الكتابة من وجهة نظرك اليوم، هل هي للتحفيز واستشراف المستقبل أم لطرح الأسئلة الحارقة والبحث عن حلول لها؟
ـ الكتابة كما أفهمها لا تستمدّ شرعيتها إلاّ من ذاتها. لا تحتاج في رأيي إلى أن تبحث خارجها عمّا يمكن أن يشكّل لها تبريرا. صراحة حين أكتب لا أفكّر إطلاقا في مثل هذه الأمور. كل جهدي مركّز على النص الذي أريده أن يكون عميقا وممتعا للقارئ. لكن هذا لا يعني أنّ النص الذي نكتبه لا يمكنه أن يكون استشرافا للمستقبل. روايتي *»نساء البساتين»* اعتبرها الكثير من النقّاد تنبّؤا بالثورة. عندما كتبتها لم تكن لديّ أيّ رغبة في التنبؤ، فأنا لست عرّافا ولا قارئ كفّ. أنا كاتب أراقب وأصغي بكل ما لديّ من حوّاس لحياة الناس. أريد أن أكتب نصّا يقول حقيقة هنا والآن. من المؤكّد أنّ الكتابة تحرّض على السؤال وتدفع القارئ إلى التفكير، لكنها لا تقدّم حلولا. الكاتب ليس معنيّا بهذا.
*قلت في أحد حواراتك إنّ «الرواية ليست كيسا من الأحداث». كيف تحدّد تقنياتك الخاصّة بك في الكتابة السرديّة الروائيّة؟
ـ أقصد بهذا أنّ الرواية أعمق بكثير من حكاية أو مجموعة من الحكايات. إنها رؤية ما للعالم. في الرواية هناك تأمّل، هناك فكر. ولا أقصد بالفكر أن تقرأ فيلسوفا مثل نيتشه أو هيدغر مثلا وتتبنّى بعض أفكاره وتدسّها في النص الذي تكتبه، وإنّما موقفك أنت من هذا العالم ورؤيتك له. والكاتب لا يكون له موقف حقيقي من العالم إلاّ إذا اتّسعت ثقافته وكانت له تجربة ثريّة في الحياة. أعتقد أنّ قوّة الرواية الغربيّة التي نعجب بها دائما تكمن في هذه القدرة التي لدى الروائي على تأمّل الحياة. حياة الروائي الغربي ثريّة ومليئة بالأسئلة العميقة، لذا فإنّ الرواية التي يكتبها ثريّة.
يمكن أن نقول الشيء ذاته عن الحداثة التي يتحدّث عنها العرب باستمرار وبهوس يكاد يكون مرضيّا. كيف يمكننا أن نكتب رواية حديثة حقا وحياتنا والمجتمعات التي نعيش فيها تقليديّة حتى النخاع تؤمن بالسحر والخرافات؟ الروائي الغربي يكتب رواية حديثة لأنه هو حديث. أمّا «حداثة» العربي فهي شكليّة لا تستند إلى أيّ رؤية، لذا تقتصر في مجملها على مجرّد تقنيات أسلوبيّة (تعدّد الضمائر، تقطيع الزمن، التشظّي..). لوكليزيو مثلا، الذي فاز بجائزة نوبل للآداب، يكتب رواية تبدو للوهلة الأولى «تقليديّة»، ومع ذلك فإنّها حديثة. يمكن أن نقول نفس الشيء عن الكاتبة أنّي أرنو.
*هل لك مفهوم خاصّ للكتابة الروائيّة؟
ـ كل كاتب له مفهوم للكتابة، وهذا المفهوم هو الذي يجعله مختلفا عن الكتّاب الآخرين. شخصيّا لست من الروائيين الذين يكتبون روايات طويلة وبعشرات الشخصيّات وتتضمّن أحداثا كثيرة. أنا أشتغل على بضع ثيمات فيها شيء من التناغم وتؤدي إلى بعضها البعض. عادة أختار حدثا وأنسج حوله. طبعا هذا الحدث يتّسع ويتطوّر إلى أحداث أخرى كلّما تقدّمت الرواية. أسعى دائما إلى أن أبني عالما متكاملا انطلاقا من أقلّ ما يمكن من الموادّ. وأفضل الروائيين لديّ هم الذين يكتبون على هذا النحو.
الروايات المكثّفة هي برأيي أعمق بكثير من الروايات الطويلة، وكتابتها أصعب خلافا لما يتصوّر البعض. شخصيّا أعتبر «اللصّ والكلاب» من أهمّ روايات نجيب محفوظ، بل إنّي أفضّلها على الثلاثيّة. ومن بين الأمور التي تساعدني على بلوغي هدفي هي اللغة. أشذّبها قدر المستطاع. لا أميل إلى ما يسمّى باللغة «الهادرة». أريدها أن تكون دقيقة إلى أبعد حدّ. اللغة العربيّة لغة جميلة، وحين نستسلم لها تحملنا إلى ما لا نرغب في الذهاب إليه، وهذا يكون في معظم الأحيان على حساب المعنى.
*تمّت ترجمة العديد من رواياتك إلى أكثر من لغة أجنبيّة.. إلى أيّ مدى يمكن اعتبار ذلك وسيلة فنّية هامّة في الحوار والتحاور مع الآخر؟
ـ ترجمت رواياتي إلى ثماني لغات أجنبيّة أهمّها الفرنسيّة والانقليزيّة والألمانيّة والايطاليّة والبرتغاليّة والاسبانيّة. وهناك دور نشر من بلدان تتكلّم لغات أخرى اتّصلت بي وأبدت رغبتها في نقل رواياتي إلى هذه اللغات. لا شيء في رأيي أهمّ من الترجمة في الحوار مع الآخر. قراءة الأدب، وخاصّة الرواية، تمكّن الآخر من أن يدرك خصوصيتك ويتعرّف عليك بعمق، ممّا يلغي سوء التفاهم والأفكار المسبقة. عبقريّة كل شعب تكمن في أدبه، وأعمق حوار هو الذي يتمّ عبر الأدب.
*يتّفق النقّاد والمتابعون لكتاباتك الروائيّة حول تفرّدك بحضور الشعر.. هل من تفسير لهذا التوجّه؟
ـ نعم، للشعر حضور في الرواية. لكني أعتقد أنّ الشعر في الرواية ليس كالشعر في القصيدة. الشعر في القصيدة يأتي في جزء كبير منه من اللغة، وتحديدا من المجازات والاستعارات والتشابيه والصور. والشعر الذي نقرأه في الكثير من الروايات العربيّة هو شعر غنائي. أمّا في الرواية فإنه يتجلّى في المناخات المتفرّدة التي يستطيع الروائي تأسيسها وفي إيقاع الرواية الداخلي.
*انقطعت علاقتك بالقصّة القصيرة منذ أكثر من ثلاثة عقود.. هل كان ذلك اختيارا منك؟
ـ صحيح أنّي لم أنشر أيّ مجموعة قصصيّة بعد مجموعتي الثانية *»امرأة الساعات الأربع»*، لكني لم أنقطع نهائيّا عن كتابة القصّة القصيرة. بين وقت وآخر أكتب قصّة قصيرة. لديّ الآن عدد منها. بعضها نشرته في مجلّة «مواقف» التي كان يديرها أدونيس، وفي مجلة «الكرمل» في الفترة التي كان يديرها محمود درويش وسليم بركات. وبعضها الآخر لم أنشره. أفكّر في جمعها في كتاب وإرساله إلى ناشري.
*هل أنصف النقد مسيرتك الإبداعيّة؟
ـ لا أدري إن كان النقد قد أنصفني أم لا. أترك الإجابة عن هذا السؤال للنقّاد أنفسهم وللباحثين والصحافيّين. كل ما أعرفه هو أنّ نقّادا كبارا كتبوا عني. في تونس أكتفي بذكر توفيق بكّار، الذي كتب تقديما لروايتي «جبل العنز» وأصدرها في سلسلة «عيون المعاصرة» التي كان يديرها في دار الجنوب. وفي العالم العربي كتب عني محمد برادة ويمنى العيد وفيصل درّاج وصلاح فضل وغيرهم.
أجري الحوار: محسن بن أحمد
له ثلاث عشرة رواية، آخرها «أيتها القبّرة»، معظمها صدرت عن دار نشر لبنانية . توجت روايته «الاشتياق إلى الجارة» بجائزة كتارا، وكان لثلاث من رواياته حضور لافت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة. وتمّ تدريس بعض رواياته في جامعات في تونس وفرنسا والولايات المتّحدة الأميركيّة، كما نوقشت أطروحة دكتوراه عن روايته «عشّاق بيّة» في جامعة السربون في فرنسا، إلى جانب إنجاز بحوث أكاديميّة كثيرة عن رواياته في عدّة بلدان عربيّة.
هو الكاتب والروائي الحبيب السالمي الذي يتفق النقاد والمهتمون بالشأن السردي في تونس والوطن العربي أنّه أحد المجدّدين في الرواية العربيّة مبنى ومعنى.
الحبيب السالمي التقته «الصباح» في حوار، هذه حصيلته:
*ماذا تحتفظ ذاكرتك مع أوّل نصّ كتبته؟
ـ أوّل نصّ كتبته هو شبه قصّة عنوانها «سوف أكون حدّادا». أذيع النص في برنامج أدبي في الإذاعة الوطنيّة، في برنامج اسمه «هواة الأدب»، كان يشرف عليه الشاعر المعروف أحمد اللغماني. كان البرنامج يذاع ثلاثة أيّام في الأسبوع، وكان يتضمّن قصائد وقصصا قصيرة يقرأها عادل يوسف ثم تناقش من قبل أحمد اللغماني وأحد ضيوفه من الكتّاب المعروفين مثل مصطفى الفارسي والمنجي الشملي. وفي نهاية كل شهر يتمّ اختيار أفضل قصّة قصيرة وأفضل قصيدة، وتمنح لصاحبيهما جائزة ماليّة تقدّر بخمسة عشر دينارا. والأهمّ من ذلك تُنشَر القصّة في مجلّة «الإذاعة والتلفزيون». أذكر أنّي فزت ثلاث مرّات بهذه الجائزة. كنت لا أزال آنذاك تلميذا في السنة الأخيرة من التعليم الثانوي.
أمّا أوّل قصّة حقيقيّة فقد نشرتها في مجلة أدبيّة وهي «قصص»، التي كان يديرها محمد العروسي المطوي. تحمل القصّة عنوان «ضربة العصا». كتبتها وأنا طالب في كليّة الآداب. كنت أتردّد آنذاك على نادي القصّة. كانت هناك كل يوم سبت جلسة أدبيّة مفتوحة يحضرها كتّاب معروفون مثل حسن نصر وصالح الجابري وسمير العيّادي وعز الدين المدني. وأثناء الجلسة يقرأ الكاتب قصّته الجديدة، ثم يبدي الكتّاب رأيهم فيها، وإن أعجبتهم تُنشر في العدد القادم من مجلة «قصص».
*أيّ تأثير للبيئة التي عشت فيها على مسيرتك الإبداعيّة؟
ـ للبيئة تأثير قويّ على ما يكتب الكاتب. الذاكرة تختزل كل شيء: الأمكنة، الروائح، الألوان، الأحداث. في الكثير من رواياتي أستعيد مناخات هذه البيئة أو ما تبقّى منها في الذاكرة. وهذه الاستعادة ليست ذاتها في كل الروايات، وإنما تتّخذ أشكالا عدّة حسب الزمن والحالة النفسيّة أثناء الكتابة، وعوامل أخرى قد لا نتحكّم فيها تماما لأنها تصدر عمّا يخبّئه لنا لاوعينا من أحداث وأحاسيس ورؤى وانطباعات.
لقد أمضيت السبعة عشرة عاما الأولى من حياتي في قرية العلا التي ولدت فيها. ومعظم هذه الأعوام تعود إلى الطفولة، وهي كما تعلم مرحلة أساسيّة جدّا في تكوين وعي الفرد. لذا فإنّ الكثير من رواياتي، حتى تلك التي تدور أحداثها في باريس، تنطوي على مناخات هذه البيئة الريفيّة.
*إلى أي مدى يمكن القول إنّ الجذور هي الملهم الأوّل للكاتب؟
ـ من المؤكّد أنّ الجذور هي أحد ينابيع الكتابة الكبرى. لكن لا أدري إن كانت هي الملهم الأوّل. عمليّة الكتابة عمليّة معقّدة وغامضة، وإن بدت في الظاهر واضحة. فهي تخضع لعوامل مختلفة ومتداخلة، لذا لا نستطيع أن نفصلها عن بعضها البعض وأن نرتّبها وفق تسلسل منطقي فنقول هذا ملهم أوّل وهذا ملهم ثان...
*اخترت العيش والاستقرار في باريس.. أيّ تأثير لذلك في صياغة شخصيّتك الإبداعيّة وأنت تعيش في مناخ منفتح على ثقافات عالميّة متعدّدة ومتنوّعة؟
ـ بدءا أشير إلى أنّه كان من الممكن أن أبقى في تونس. فقد كنت أستاذا في التعليم الثانوي. كنت قد نشرت مجموعتي القصصيّة الأولى «مدن الرجل المهاجر»، التي صدرت عن أكبر دار نشر في تونس آنذاك ، وفازت بجائزة الدولة. قرّرت أن أترك مهنتي وكلّ ما لديّ في تونس وأن أجازف وأغادر إلى بلد أوروبي. كنت أريد أن أخوض مغامرة كبرى تكسبني تجارب وخبرات أخرى وتفتح لي آفاقا جديدة.
طبعا اخترت فرنسا، وتحديدا باريس. في تلك الفترة كنت أتابع الحركة الثقافيّة والأدبيّة في فرنسا من خلال الصحف والمجلاّت الفرنسيّة التي كانت توزّع في تونس، وكنت منبهرا بما أقرأه. في باريس اكتشفت كتّابا ورسامين وسينمائيين وفلاسفة من كل أنحاء العالم لم أكن أعرفهم أو كانت معرفتي بهم محدودة. التقيت بعضهم وأيضا بالكثير من الكتّاب العرب الذين كانوا يتردّدون على باريس أو يقيمون فيها. وفي باريس قرأت العديد من الروايات. في الحقيقة اكتشفت هناك قيمة الرواية. كنت قد كتبت في تونس روايتي الأولى «جبل العنز»، لكني لم أنشرها، وقد أعدت كتابتها في باريس قبل نشرها.
*ما هي مهمّة الكتابة من وجهة نظرك اليوم، هل هي للتحفيز واستشراف المستقبل أم لطرح الأسئلة الحارقة والبحث عن حلول لها؟
ـ الكتابة كما أفهمها لا تستمدّ شرعيتها إلاّ من ذاتها. لا تحتاج في رأيي إلى أن تبحث خارجها عمّا يمكن أن يشكّل لها تبريرا. صراحة حين أكتب لا أفكّر إطلاقا في مثل هذه الأمور. كل جهدي مركّز على النص الذي أريده أن يكون عميقا وممتعا للقارئ. لكن هذا لا يعني أنّ النص الذي نكتبه لا يمكنه أن يكون استشرافا للمستقبل. روايتي *»نساء البساتين»* اعتبرها الكثير من النقّاد تنبّؤا بالثورة. عندما كتبتها لم تكن لديّ أيّ رغبة في التنبؤ، فأنا لست عرّافا ولا قارئ كفّ. أنا كاتب أراقب وأصغي بكل ما لديّ من حوّاس لحياة الناس. أريد أن أكتب نصّا يقول حقيقة هنا والآن. من المؤكّد أنّ الكتابة تحرّض على السؤال وتدفع القارئ إلى التفكير، لكنها لا تقدّم حلولا. الكاتب ليس معنيّا بهذا.
*قلت في أحد حواراتك إنّ «الرواية ليست كيسا من الأحداث». كيف تحدّد تقنياتك الخاصّة بك في الكتابة السرديّة الروائيّة؟
ـ أقصد بهذا أنّ الرواية أعمق بكثير من حكاية أو مجموعة من الحكايات. إنها رؤية ما للعالم. في الرواية هناك تأمّل، هناك فكر. ولا أقصد بالفكر أن تقرأ فيلسوفا مثل نيتشه أو هيدغر مثلا وتتبنّى بعض أفكاره وتدسّها في النص الذي تكتبه، وإنّما موقفك أنت من هذا العالم ورؤيتك له. والكاتب لا يكون له موقف حقيقي من العالم إلاّ إذا اتّسعت ثقافته وكانت له تجربة ثريّة في الحياة. أعتقد أنّ قوّة الرواية الغربيّة التي نعجب بها دائما تكمن في هذه القدرة التي لدى الروائي على تأمّل الحياة. حياة الروائي الغربي ثريّة ومليئة بالأسئلة العميقة، لذا فإنّ الرواية التي يكتبها ثريّة.
يمكن أن نقول الشيء ذاته عن الحداثة التي يتحدّث عنها العرب باستمرار وبهوس يكاد يكون مرضيّا. كيف يمكننا أن نكتب رواية حديثة حقا وحياتنا والمجتمعات التي نعيش فيها تقليديّة حتى النخاع تؤمن بالسحر والخرافات؟ الروائي الغربي يكتب رواية حديثة لأنه هو حديث. أمّا «حداثة» العربي فهي شكليّة لا تستند إلى أيّ رؤية، لذا تقتصر في مجملها على مجرّد تقنيات أسلوبيّة (تعدّد الضمائر، تقطيع الزمن، التشظّي..). لوكليزيو مثلا، الذي فاز بجائزة نوبل للآداب، يكتب رواية تبدو للوهلة الأولى «تقليديّة»، ومع ذلك فإنّها حديثة. يمكن أن نقول نفس الشيء عن الكاتبة أنّي أرنو.
*هل لك مفهوم خاصّ للكتابة الروائيّة؟
ـ كل كاتب له مفهوم للكتابة، وهذا المفهوم هو الذي يجعله مختلفا عن الكتّاب الآخرين. شخصيّا لست من الروائيين الذين يكتبون روايات طويلة وبعشرات الشخصيّات وتتضمّن أحداثا كثيرة. أنا أشتغل على بضع ثيمات فيها شيء من التناغم وتؤدي إلى بعضها البعض. عادة أختار حدثا وأنسج حوله. طبعا هذا الحدث يتّسع ويتطوّر إلى أحداث أخرى كلّما تقدّمت الرواية. أسعى دائما إلى أن أبني عالما متكاملا انطلاقا من أقلّ ما يمكن من الموادّ. وأفضل الروائيين لديّ هم الذين يكتبون على هذا النحو.
الروايات المكثّفة هي برأيي أعمق بكثير من الروايات الطويلة، وكتابتها أصعب خلافا لما يتصوّر البعض. شخصيّا أعتبر «اللصّ والكلاب» من أهمّ روايات نجيب محفوظ، بل إنّي أفضّلها على الثلاثيّة. ومن بين الأمور التي تساعدني على بلوغي هدفي هي اللغة. أشذّبها قدر المستطاع. لا أميل إلى ما يسمّى باللغة «الهادرة». أريدها أن تكون دقيقة إلى أبعد حدّ. اللغة العربيّة لغة جميلة، وحين نستسلم لها تحملنا إلى ما لا نرغب في الذهاب إليه، وهذا يكون في معظم الأحيان على حساب المعنى.
*تمّت ترجمة العديد من رواياتك إلى أكثر من لغة أجنبيّة.. إلى أيّ مدى يمكن اعتبار ذلك وسيلة فنّية هامّة في الحوار والتحاور مع الآخر؟
ـ ترجمت رواياتي إلى ثماني لغات أجنبيّة أهمّها الفرنسيّة والانقليزيّة والألمانيّة والايطاليّة والبرتغاليّة والاسبانيّة. وهناك دور نشر من بلدان تتكلّم لغات أخرى اتّصلت بي وأبدت رغبتها في نقل رواياتي إلى هذه اللغات. لا شيء في رأيي أهمّ من الترجمة في الحوار مع الآخر. قراءة الأدب، وخاصّة الرواية، تمكّن الآخر من أن يدرك خصوصيتك ويتعرّف عليك بعمق، ممّا يلغي سوء التفاهم والأفكار المسبقة. عبقريّة كل شعب تكمن في أدبه، وأعمق حوار هو الذي يتمّ عبر الأدب.
*يتّفق النقّاد والمتابعون لكتاباتك الروائيّة حول تفرّدك بحضور الشعر.. هل من تفسير لهذا التوجّه؟
ـ نعم، للشعر حضور في الرواية. لكني أعتقد أنّ الشعر في الرواية ليس كالشعر في القصيدة. الشعر في القصيدة يأتي في جزء كبير منه من اللغة، وتحديدا من المجازات والاستعارات والتشابيه والصور. والشعر الذي نقرأه في الكثير من الروايات العربيّة هو شعر غنائي. أمّا في الرواية فإنه يتجلّى في المناخات المتفرّدة التي يستطيع الروائي تأسيسها وفي إيقاع الرواية الداخلي.
*انقطعت علاقتك بالقصّة القصيرة منذ أكثر من ثلاثة عقود.. هل كان ذلك اختيارا منك؟
ـ صحيح أنّي لم أنشر أيّ مجموعة قصصيّة بعد مجموعتي الثانية *»امرأة الساعات الأربع»*، لكني لم أنقطع نهائيّا عن كتابة القصّة القصيرة. بين وقت وآخر أكتب قصّة قصيرة. لديّ الآن عدد منها. بعضها نشرته في مجلّة «مواقف» التي كان يديرها أدونيس، وفي مجلة «الكرمل» في الفترة التي كان يديرها محمود درويش وسليم بركات. وبعضها الآخر لم أنشره. أفكّر في جمعها في كتاب وإرساله إلى ناشري.
*هل أنصف النقد مسيرتك الإبداعيّة؟
ـ لا أدري إن كان النقد قد أنصفني أم لا. أترك الإجابة عن هذا السؤال للنقّاد أنفسهم وللباحثين والصحافيّين. كل ما أعرفه هو أنّ نقّادا كبارا كتبوا عني. في تونس أكتفي بذكر توفيق بكّار، الذي كتب تقديما لروايتي «جبل العنز» وأصدرها في سلسلة «عيون المعاصرة» التي كان يديرها في دار الجنوب. وفي العالم العربي كتب عني محمد برادة ويمنى العيد وفيصل درّاج وصلاح فضل وغيرهم.