إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الشاعر شمس الدين العوني لـ«الصباح»: لو بقي الشابي بيننا إلى اليوم لتجاوز الشابي.. تلك هي حكاية الشعر

❞لا خوف اليوم على الشعر الجميل والعميق والجيد في عالم يعيش الفوضى في كل المجالات❝

❞كنا جيل الأحلام والغيرة على الشعر التونسي والحب الجنوني لبعض تجاربه، وكنا السباقين في ذلك على النطاق العربي❝

عاد بنا الشاعر والناقد شمس الدين العوني في هذا الحوار بالذاكرة إلى البدايات، كاشفا عن اقتحامه مغامرة الكتابة السردية الإبداعية للمرة الأولى، بعد رصيد ثري من الدواوين الشعرية ذات المضامين الإنسانية العميقة. فكان الحديث التالي:

*بماذا تحتفظ ذاكرتك عن بداية العلاقة مع عالم الكتابة والإبداع؟

- بعد هذه العقود الأربعة مع الشعر كتابة وبحثا وسفرا، وبنصف التفاتة إلى الوراء في رحاب الذاكرة، يمكنني تذكر تلك الأصوات والأسماء التي حملت همّ الشعر في منتصف ثمانينات القرن الماضي، زمن التحولات المتعددة والكبرى في العالم العربي وعلى الصعيد الدولي. حيث كانت اللقاءات التلقائية في المقاهي بتونس العاصمة، إذ لم يكن هناك وجود لملتقيات ومهرجانات الشعر والأدب. وقد برزت بعض الصحف، ومن بينها «الصباح» بملحقها الأدبي، وكان منبر جريدة «الصدى» الخاص بالأدب الشبابي، ومن ورائه الراحل محمد بن رجب الذي آمن بهذا الجيل الشعري والأدبي القادم، وبعث «مهرجان الصدى للأدباء الناشئين»، والذي كان مجالا لالتقاء الكتاب والشعراء والقصاصين من أنحاء البلاد. كانت فترة ثرية كابد فيها الشعراء الفتية حبا في الشعر، حيث لم تكن هناك لا ملتقيات ولا جوائز ولا منابر للشعر. لم يكن أمامنا غير جيل شعري سابق لنا وقريب منا، وعالم مفتوح على متغيرات وحبنا للشعر والأدب... إنها ذكريات جميلة حقا مثلت منطلقات جادة لبروز وانبعاث ملتقيات ومهرجانات للشعر والأدب تشكلت ضمنها تجارب شعرية وأدبية وازنة، نرى إبداعاتها وثمار دأبها اليوم والآن وهنا.

*تنتمي إلى جيل تم وصفه بالمتمرد على السائد في تلك الفترة «أواسط الثمانينات والتسعينات» على وجه الخصوص. هل حقق ذلك الجيل ما كان يصبو إليه؟

-التمرد أو السعي للتجاوز أو التغيير أو البحث عن الجديد... كلها حالات شتى ميزت جيلنا في تلك الفترات التي شهدت متغيرات وتحولات سياسية وحضارية وتكنولوجية وغيرها أثرت في الشعر والكتابة، وأعادت النقاش إلى جوهر قضايا الإنسان، وكيف للشعر أن يعبر عن ذلك بجمالياته وفنونه ويعمق جدواه كقيمة ثقافية وجدانية في عوالم متحركة. فكان الاتفاق على كون الشعر ذلك العالم الساحر والجميل والمعبر عن اللحظة في تجلياتها وانفلاتها، قولا بالذات الحالمة... وغير ذلك فقط الوفاء للشعر كشأن جمالي مهما كان الشكل. فكانت تشكلات القصائد وفق هذه المنزع لتبرز المواقف من جيل الثمانينات، ومن حركة الطليعة، ومن ترنح بل غياب الحركة النقدية بالنظر للزخم الشعري. كنا جيل الأحلام والغيرة على الشعر التونسي والحب الجنوني لبعض تجاربه آنذاك في العمودي والحر وقصيدة النثر. نحن من السباقين في ذلك على النطاق العربي، ففي مهرجاناتنا الشعرية بحي الزهور، في بدايات ملتقى الأدباء الناشئين، كانت تلتقي القصائد ومن كل الأنماط والأشكال الشعرية، وحتى في تشكيل لجان التحكيم. هذه ثمار تلك المرحلة نعيشها الآن في تنوع الأشكال الشعرية، حيث يتواصل الجدل بشأن القصيدة وقضاياها ومنها مسألة الشكل.

*أيّ همّ يشغلك لحظة البوح الشعري؟

- يبقى سؤال الشعر مقيما في الدواخل، حيث الكتابة تلك الفكرة المكتظة بالقضايا وبالأسئلة، ومنها سؤال الإنسان هذا الضاج بالأمل والألم والحلم والحب والحنين. إن الشعر هو هذا الضرب من الكتابة المفتوح على النظر والتأويل والقول بالذات في عنفوان حيرتها، والإنسان عموما في تجليات شؤونه وشجونه، قولا بالقيمة ونحتا للكيان، تقصدا للآتي الذي نظل نراه أجمل ونحلم به جميلا. الكتابة الشعرية مثلا لا يمكن أن تنأى بذاتها عن هذه الآلة المتوحشة الصهيونية الأمريكية الغربية التي تقتل ما هو جميل وتكشر عن همجيتها تجاه الناس أصحاب الأرض.

إن صمود غزة وملحمة فلسطين خلال قرن رغم الهوان العربي لا تنسي الكتابة استحقاقاتها الجمالية والوجدانية والإنسانية. الشعر لحظات البوح هو اجتراح للكامن فينا من جمال وبهاء، قتلا للخراب المبين ونحتا للقيمة وللإنسان الجميل الحر والمعبر بعمق عن همومه... كالشعر تماما.

*هل تغير هذا الهم اليوم بعد هذه المسيرة الطويلة؟

- هموم الشعر كثيرة ومتغيرة، ومنها تجدد الكتابة والشكل والتجاوز وما تطرحه قضايا الحداثة الشعرية.. وكل مرحلة من الكتابة لها عناوينها وأسئلتها. إنها لعبة الكتابة الأنيقة في هيجانها الرجيم على الساكن والمطمئن بعيدا عن المسالك والطرق الوعرة... الكتابة مغامرة مدهشة في تغير همومها وأحوالها وأساليبها.

*إلى أي مدى يمكن القول إن القصيد عبّد لك طريق الإنصات إلى ذاتك وطفولتك وأحلامك؟

- القصيد هو رجع الصدى لكل ما يعتمل في الشواسع، والكتابة عموما هي تلك العطور المجتمعة للقول بحدائق الشمس والطفولة والذات والأحلام. ولذلك كانت مختاراتي الشعرية المنشورة سنة 2014 بعنوان «حدائق الشمس». الشعر هو الذهاب عميقا في الإنصات للعالم والعناصر والكائنات والتفاصيل. الكتابة فعل حواس مستيقظة باستمرار.

*هناك من يقول إنه لا وجود لمدارس شعرية في تونس وإنما هي اتجاهات وتيارات، كيف تقرأ هذا الرأي؟

- هناك تجارب ونصوص وأعمال شعرية يغلب عليها الجانب الفردي، حيث كانت هناك تصنيفات في فترات من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وحتى في التسعينيات، وهي لغايات إجرائية دراسية ونقدية. الحديث عن مدارس أمر آخر ومختلف. ثمة اختيارات ونزوع نحو تيارات، ولكن الواقع يغلب عليه ما هو فرداني في الشعر. وفعلا أرى في الشعر شأنا خاصا ومشروعا ذاتيا فنيا وشكليا نحو الإبداع، ولكن يمكن لفئة الشعراء أن تكون في عمق التأثير لأجل القضايا والشواغل الإنسانية والمسائل العادلة، ويجب الإنصات إلى ذلك في تونس والعالمين العربي والدولي. الشعر سلطة جمال ووجدان وقيم لأجل الإنسان والعالم المهدد من قبل الطغاة وأحباء فنون الديكتاتوريات الحديثة. «ترامب سيشتري غزة»؟.... أين شعراء وأحرار أمريكا؟

*احتفت بلادنا مؤخرا بذكرى ميلاد شاعر تونس الخالد أبو القاسم الشابي المتوفي سنة 1934، فماذا بقي منه بعد 90 سنة على رحيله؟

- بقي الشابي... وهذا مهم.

*ما مدى صحة الرأي الذي يقول أصحابه إن شعراء تونس اليوم تجاوزوا الشابي شكلا ومضمونا؟

- وما هو رأيك لو قلت لك مثلا إن الشابي لو بقي بيننا لتجاوز الشابي. تلك هي حكاية الشعر.. الشابي شاعر عميق ومنتبه وذكي. بوسعه فعل ذلك. لو...

*ولكن قارئ الأمس ليس قارئ اليوم وهناك من يعتبر أن القارئ قد انسحب من ساحة الشعر الحديث؟

- هذا غير صحيح. الشعر له جمهوره وأحباؤه، ولكن في مشهديتنا الشعرية العربية يحتاج أمر الشعر إلى مزيد من الاهتمام من قبل وزارات الثقافة مع وزارات أخرى وفق استراتيجيات تعيد للعلاقة بين الثقافة والتربية والتعليم والجامعات ذلك الألق الذي افتقد منذ الثمانينيات، لينحسر معه الشعر وحضوره، فضلا عن البرامج التلفزيونية التي تغيب عنها الفنون الشعرية والتشكيلية مثلا. وبالتالي فالقارئ محتاج إلى إشارات دالة على وجود الكتاب والشعر والرواية، إلى جانب المعاهد والمدارس. هل هناك إرادة فعلا؟

  ثم إن الشعر في النهاية لا يزعجه إن وقع جره نحو أن يكون نخبويا ولجمهور بعينه ومحدد. نحن في زمن الندرة. أليس كذلك؟

*يرى العديد من النقاد والمتابعين للشأن الإبداعي في تونس أننا نعيش اليوم على وقع فوضى شعرية في ظل الانفتاح الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي للنشر؟

- وسائل التواصل الاجتماعي، وبحسب الاستعمال، تكون الجدوى. طبعا هذه وغيرها أثرت في عديد المجالات ومنها الشعرية. الشعر الجيد يفرض حضوره وأهميته مهما كانت وسائل التتفيه والتزييف. لا خوف، إنه السيد المحترم «الشعر». ولعل الكثرة تفرض الجدوى.. العالم في أوج حفلة فوضاه في كل المجالات، ورغم ذلك فإنه لا خوف على الشعر الجميل والعميق والجيد.

*برزت بقراءاتك النقدية للمعارض الخاصة بالفنون التشكيلية، إلى أي مدى يمكن القول إن هذه القراءات ساهمت في إثراء لغتك الشعرية؟

- على الشاعر أن ينوع من كتاباته نظرا وتأملا تجاه كتابات وفنون أخرى، وهذا فيه إغناء وثراء للتجربة. الشعر يتغذى من علاقاتنا بالألوان والرسم والمسرح والسينما، وهناك حالات شعرية في ما ينجزه الفنانون التشكيليون من خلال الألوان والخطوط والمساحات وغيرها في كثير من شعرية الذات والحال، حال الفنان التي هي في علاقة بحال الشاعر. إنها لعبة الجمال والإبداع والأعماق. من هنا كانت كتاباتي عن أعمال وتجارب فنية تشكيلية تونسية وعربية وعالمية. ويظل الجمال مبثوثا هنا وهناك في عوالم هذه المنجزات الفنية التشكيلية. في النظر للأعمال الفنية ومحاورتها متعة لا تضاهى، وبالتالي كانت كتاباتي بمثابة النظر بعين القلب لا بعين الوجه. إنه الشعر الآخر الكامن فينا.

*أي دور للمهرجانات الشعرية يمكن أن تقدمه للمشارك فيها؟

- المهرجانات الشعرية العربية والدولية مهمة في ربط العلاقات بين الشعراء، فضلا عن فرص الاطلاع على الجديد الشعري إلى جانب الدراسات والمداخلات النقدية المعنية بالتجارب. هناك مهرجانات عريقة ساهمت في الحراك الشعري الثقافي العربي والدولي، على غرار مهرجان المربد الشعري في العراق الذي كان محطة مهمة في تجربتي خلال التسعينيات من القرن الماضي لأتعرف على تجارب في الشعر العربي المعاصر، ومنه كانت محطاتي الشعرية في بلاد عديدة من العالم. إنه الشعر في سفره المفتوح... ونحن إلى اليوم ننتظر انتظام الدورة الثالثة لمهرجان أيام قرطاج الشعرية والذي كان حلما من أحلامنا منذ التسعينيات من القرن الماضي. أتمنى عودة هذا المهرجان وكذلك عودة عديد الملتقيات والمهرجانات الشعرية والأدبية بمختلف جهات البلاد التونسية التي اندثرت في غفلة من الجميع، وقد كان لها دور في بروز أسماء جديدة.

*جمعت بين الكتابات السردية النقدية للإصدارات الجديدة والشعر، ألم تثر الرواية اهتمامك؟

- أنا بصدد التعاطي مع رواية منذ سنوات، وعنوانها «ريح ترقد في النهر». كل ذلك في سياق مفتوح على الذات والأمكنة والألوان والأصوات والشعر. إنها لعبة الكتابة خارج الضجيج وبعيدا عن المألوف والمفتعل.. الكتابة سفر دائم ومغامرة من الذات وإليها ونحو العالم.

حوار: محسن بن أحمد

الشاعر شمس الدين العوني لـ«الصباح»:   لو بقي الشابي بيننا إلى اليوم لتجاوز الشابي.. تلك هي حكاية الشعر

❞لا خوف اليوم على الشعر الجميل والعميق والجيد في عالم يعيش الفوضى في كل المجالات❝

❞كنا جيل الأحلام والغيرة على الشعر التونسي والحب الجنوني لبعض تجاربه، وكنا السباقين في ذلك على النطاق العربي❝

عاد بنا الشاعر والناقد شمس الدين العوني في هذا الحوار بالذاكرة إلى البدايات، كاشفا عن اقتحامه مغامرة الكتابة السردية الإبداعية للمرة الأولى، بعد رصيد ثري من الدواوين الشعرية ذات المضامين الإنسانية العميقة. فكان الحديث التالي:

*بماذا تحتفظ ذاكرتك عن بداية العلاقة مع عالم الكتابة والإبداع؟

- بعد هذه العقود الأربعة مع الشعر كتابة وبحثا وسفرا، وبنصف التفاتة إلى الوراء في رحاب الذاكرة، يمكنني تذكر تلك الأصوات والأسماء التي حملت همّ الشعر في منتصف ثمانينات القرن الماضي، زمن التحولات المتعددة والكبرى في العالم العربي وعلى الصعيد الدولي. حيث كانت اللقاءات التلقائية في المقاهي بتونس العاصمة، إذ لم يكن هناك وجود لملتقيات ومهرجانات الشعر والأدب. وقد برزت بعض الصحف، ومن بينها «الصباح» بملحقها الأدبي، وكان منبر جريدة «الصدى» الخاص بالأدب الشبابي، ومن ورائه الراحل محمد بن رجب الذي آمن بهذا الجيل الشعري والأدبي القادم، وبعث «مهرجان الصدى للأدباء الناشئين»، والذي كان مجالا لالتقاء الكتاب والشعراء والقصاصين من أنحاء البلاد. كانت فترة ثرية كابد فيها الشعراء الفتية حبا في الشعر، حيث لم تكن هناك لا ملتقيات ولا جوائز ولا منابر للشعر. لم يكن أمامنا غير جيل شعري سابق لنا وقريب منا، وعالم مفتوح على متغيرات وحبنا للشعر والأدب... إنها ذكريات جميلة حقا مثلت منطلقات جادة لبروز وانبعاث ملتقيات ومهرجانات للشعر والأدب تشكلت ضمنها تجارب شعرية وأدبية وازنة، نرى إبداعاتها وثمار دأبها اليوم والآن وهنا.

*تنتمي إلى جيل تم وصفه بالمتمرد على السائد في تلك الفترة «أواسط الثمانينات والتسعينات» على وجه الخصوص. هل حقق ذلك الجيل ما كان يصبو إليه؟

-التمرد أو السعي للتجاوز أو التغيير أو البحث عن الجديد... كلها حالات شتى ميزت جيلنا في تلك الفترات التي شهدت متغيرات وتحولات سياسية وحضارية وتكنولوجية وغيرها أثرت في الشعر والكتابة، وأعادت النقاش إلى جوهر قضايا الإنسان، وكيف للشعر أن يعبر عن ذلك بجمالياته وفنونه ويعمق جدواه كقيمة ثقافية وجدانية في عوالم متحركة. فكان الاتفاق على كون الشعر ذلك العالم الساحر والجميل والمعبر عن اللحظة في تجلياتها وانفلاتها، قولا بالذات الحالمة... وغير ذلك فقط الوفاء للشعر كشأن جمالي مهما كان الشكل. فكانت تشكلات القصائد وفق هذه المنزع لتبرز المواقف من جيل الثمانينات، ومن حركة الطليعة، ومن ترنح بل غياب الحركة النقدية بالنظر للزخم الشعري. كنا جيل الأحلام والغيرة على الشعر التونسي والحب الجنوني لبعض تجاربه آنذاك في العمودي والحر وقصيدة النثر. نحن من السباقين في ذلك على النطاق العربي، ففي مهرجاناتنا الشعرية بحي الزهور، في بدايات ملتقى الأدباء الناشئين، كانت تلتقي القصائد ومن كل الأنماط والأشكال الشعرية، وحتى في تشكيل لجان التحكيم. هذه ثمار تلك المرحلة نعيشها الآن في تنوع الأشكال الشعرية، حيث يتواصل الجدل بشأن القصيدة وقضاياها ومنها مسألة الشكل.

*أيّ همّ يشغلك لحظة البوح الشعري؟

- يبقى سؤال الشعر مقيما في الدواخل، حيث الكتابة تلك الفكرة المكتظة بالقضايا وبالأسئلة، ومنها سؤال الإنسان هذا الضاج بالأمل والألم والحلم والحب والحنين. إن الشعر هو هذا الضرب من الكتابة المفتوح على النظر والتأويل والقول بالذات في عنفوان حيرتها، والإنسان عموما في تجليات شؤونه وشجونه، قولا بالقيمة ونحتا للكيان، تقصدا للآتي الذي نظل نراه أجمل ونحلم به جميلا. الكتابة الشعرية مثلا لا يمكن أن تنأى بذاتها عن هذه الآلة المتوحشة الصهيونية الأمريكية الغربية التي تقتل ما هو جميل وتكشر عن همجيتها تجاه الناس أصحاب الأرض.

إن صمود غزة وملحمة فلسطين خلال قرن رغم الهوان العربي لا تنسي الكتابة استحقاقاتها الجمالية والوجدانية والإنسانية. الشعر لحظات البوح هو اجتراح للكامن فينا من جمال وبهاء، قتلا للخراب المبين ونحتا للقيمة وللإنسان الجميل الحر والمعبر بعمق عن همومه... كالشعر تماما.

*هل تغير هذا الهم اليوم بعد هذه المسيرة الطويلة؟

- هموم الشعر كثيرة ومتغيرة، ومنها تجدد الكتابة والشكل والتجاوز وما تطرحه قضايا الحداثة الشعرية.. وكل مرحلة من الكتابة لها عناوينها وأسئلتها. إنها لعبة الكتابة الأنيقة في هيجانها الرجيم على الساكن والمطمئن بعيدا عن المسالك والطرق الوعرة... الكتابة مغامرة مدهشة في تغير همومها وأحوالها وأساليبها.

*إلى أي مدى يمكن القول إن القصيد عبّد لك طريق الإنصات إلى ذاتك وطفولتك وأحلامك؟

- القصيد هو رجع الصدى لكل ما يعتمل في الشواسع، والكتابة عموما هي تلك العطور المجتمعة للقول بحدائق الشمس والطفولة والذات والأحلام. ولذلك كانت مختاراتي الشعرية المنشورة سنة 2014 بعنوان «حدائق الشمس». الشعر هو الذهاب عميقا في الإنصات للعالم والعناصر والكائنات والتفاصيل. الكتابة فعل حواس مستيقظة باستمرار.

*هناك من يقول إنه لا وجود لمدارس شعرية في تونس وإنما هي اتجاهات وتيارات، كيف تقرأ هذا الرأي؟

- هناك تجارب ونصوص وأعمال شعرية يغلب عليها الجانب الفردي، حيث كانت هناك تصنيفات في فترات من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وحتى في التسعينيات، وهي لغايات إجرائية دراسية ونقدية. الحديث عن مدارس أمر آخر ومختلف. ثمة اختيارات ونزوع نحو تيارات، ولكن الواقع يغلب عليه ما هو فرداني في الشعر. وفعلا أرى في الشعر شأنا خاصا ومشروعا ذاتيا فنيا وشكليا نحو الإبداع، ولكن يمكن لفئة الشعراء أن تكون في عمق التأثير لأجل القضايا والشواغل الإنسانية والمسائل العادلة، ويجب الإنصات إلى ذلك في تونس والعالمين العربي والدولي. الشعر سلطة جمال ووجدان وقيم لأجل الإنسان والعالم المهدد من قبل الطغاة وأحباء فنون الديكتاتوريات الحديثة. «ترامب سيشتري غزة»؟.... أين شعراء وأحرار أمريكا؟

*احتفت بلادنا مؤخرا بذكرى ميلاد شاعر تونس الخالد أبو القاسم الشابي المتوفي سنة 1934، فماذا بقي منه بعد 90 سنة على رحيله؟

- بقي الشابي... وهذا مهم.

*ما مدى صحة الرأي الذي يقول أصحابه إن شعراء تونس اليوم تجاوزوا الشابي شكلا ومضمونا؟

- وما هو رأيك لو قلت لك مثلا إن الشابي لو بقي بيننا لتجاوز الشابي. تلك هي حكاية الشعر.. الشابي شاعر عميق ومنتبه وذكي. بوسعه فعل ذلك. لو...

*ولكن قارئ الأمس ليس قارئ اليوم وهناك من يعتبر أن القارئ قد انسحب من ساحة الشعر الحديث؟

- هذا غير صحيح. الشعر له جمهوره وأحباؤه، ولكن في مشهديتنا الشعرية العربية يحتاج أمر الشعر إلى مزيد من الاهتمام من قبل وزارات الثقافة مع وزارات أخرى وفق استراتيجيات تعيد للعلاقة بين الثقافة والتربية والتعليم والجامعات ذلك الألق الذي افتقد منذ الثمانينيات، لينحسر معه الشعر وحضوره، فضلا عن البرامج التلفزيونية التي تغيب عنها الفنون الشعرية والتشكيلية مثلا. وبالتالي فالقارئ محتاج إلى إشارات دالة على وجود الكتاب والشعر والرواية، إلى جانب المعاهد والمدارس. هل هناك إرادة فعلا؟

  ثم إن الشعر في النهاية لا يزعجه إن وقع جره نحو أن يكون نخبويا ولجمهور بعينه ومحدد. نحن في زمن الندرة. أليس كذلك؟

*يرى العديد من النقاد والمتابعين للشأن الإبداعي في تونس أننا نعيش اليوم على وقع فوضى شعرية في ظل الانفتاح الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي للنشر؟

- وسائل التواصل الاجتماعي، وبحسب الاستعمال، تكون الجدوى. طبعا هذه وغيرها أثرت في عديد المجالات ومنها الشعرية. الشعر الجيد يفرض حضوره وأهميته مهما كانت وسائل التتفيه والتزييف. لا خوف، إنه السيد المحترم «الشعر». ولعل الكثرة تفرض الجدوى.. العالم في أوج حفلة فوضاه في كل المجالات، ورغم ذلك فإنه لا خوف على الشعر الجميل والعميق والجيد.

*برزت بقراءاتك النقدية للمعارض الخاصة بالفنون التشكيلية، إلى أي مدى يمكن القول إن هذه القراءات ساهمت في إثراء لغتك الشعرية؟

- على الشاعر أن ينوع من كتاباته نظرا وتأملا تجاه كتابات وفنون أخرى، وهذا فيه إغناء وثراء للتجربة. الشعر يتغذى من علاقاتنا بالألوان والرسم والمسرح والسينما، وهناك حالات شعرية في ما ينجزه الفنانون التشكيليون من خلال الألوان والخطوط والمساحات وغيرها في كثير من شعرية الذات والحال، حال الفنان التي هي في علاقة بحال الشاعر. إنها لعبة الجمال والإبداع والأعماق. من هنا كانت كتاباتي عن أعمال وتجارب فنية تشكيلية تونسية وعربية وعالمية. ويظل الجمال مبثوثا هنا وهناك في عوالم هذه المنجزات الفنية التشكيلية. في النظر للأعمال الفنية ومحاورتها متعة لا تضاهى، وبالتالي كانت كتاباتي بمثابة النظر بعين القلب لا بعين الوجه. إنه الشعر الآخر الكامن فينا.

*أي دور للمهرجانات الشعرية يمكن أن تقدمه للمشارك فيها؟

- المهرجانات الشعرية العربية والدولية مهمة في ربط العلاقات بين الشعراء، فضلا عن فرص الاطلاع على الجديد الشعري إلى جانب الدراسات والمداخلات النقدية المعنية بالتجارب. هناك مهرجانات عريقة ساهمت في الحراك الشعري الثقافي العربي والدولي، على غرار مهرجان المربد الشعري في العراق الذي كان محطة مهمة في تجربتي خلال التسعينيات من القرن الماضي لأتعرف على تجارب في الشعر العربي المعاصر، ومنه كانت محطاتي الشعرية في بلاد عديدة من العالم. إنه الشعر في سفره المفتوح... ونحن إلى اليوم ننتظر انتظام الدورة الثالثة لمهرجان أيام قرطاج الشعرية والذي كان حلما من أحلامنا منذ التسعينيات من القرن الماضي. أتمنى عودة هذا المهرجان وكذلك عودة عديد الملتقيات والمهرجانات الشعرية والأدبية بمختلف جهات البلاد التونسية التي اندثرت في غفلة من الجميع، وقد كان لها دور في بروز أسماء جديدة.

*جمعت بين الكتابات السردية النقدية للإصدارات الجديدة والشعر، ألم تثر الرواية اهتمامك؟

- أنا بصدد التعاطي مع رواية منذ سنوات، وعنوانها «ريح ترقد في النهر». كل ذلك في سياق مفتوح على الذات والأمكنة والألوان والأصوات والشعر. إنها لعبة الكتابة خارج الضجيج وبعيدا عن المألوف والمفتعل.. الكتابة سفر دائم ومغامرة من الذات وإليها ونحو العالم.

حوار: محسن بن أحمد