في مشهد يُجسّد تحوّلاً لافتًا في خارطة الاستثمارات الصناعية بمنطقة جنوب المتوسط، احتضنت العاصمة التونسية مؤخرا لقاء نوعيا خُصّص لقطاع مكوّنات السيارات، شارك فيه وفد يضمّ عشرة مورّدين صينيين، إلى جانب مهنيين وممثلين عن الهياكل العمومية، وذلك وفق ما أعلنته الهيئة التونسية للاستثمار (TIA).
وقد حاز هذا اللقاء على اهتمام أكثر من 100 مشارك، إضافة إلى اصطفاف مؤسسي واقتصادي نادر حول أهداف واضحة، في مقدّمتها تسريع وتيرة استقطاب المستثمرين، دعم مشاريع صناعية ذات قيمة مضافة عالية، وخلق فرص عمل مستدامة في واحدة من أكثر السلاسل العالمية تنافسية وديناميكية.
الزيارة، التي نظّمتها مجموعة متخصصة في أنظمة الميكاترونيك الدقيقة لصناعة السيارات، حملت رسائل متعددة المستويات. أولاً، اعتراف ضمني بقدرة تونس على لعب دور منصة إقليمية في صناعة مكوّنات السيارات، مستفيدة من موقع جغرافي استثنائي يربط أوروبا بأفريقيا، ومن قاعدة صناعية قائمة تضم شركات دولية ومورّدين محليين راكموا خبرة في الالتزام بالمعايير الأوروبية. ثانيا، تجسّد الزيارة رغبة صينية متنامية في تنويع نقاط الارتكاز للمصانع والمورّدين، بما يلبّي متطلبات سلاسل توريد باتت تميل أكثر نحو إعادة التموضع الجغرافي وتقليص المسافات نحو أسواق الاستهلاك النهائية.
دلالات اقتصادية تتجاوز الصورة البروتوكولية
لم يكن الحضور المكثف للهيئات العمومية والمنظمات المهنية مجرّد مجاملة بروتوكولية، بل يعكس وعيا رسميا بأن النافذة الزمنية لترسيخ موقع تونس كحلقة موثوقة في سلاسل القيمة العالمية لمكوّنات السيارات قد لا تدوم طويلا، في ظل تزاحم الوجهات المنافسة. وقد أظهر الحدث تعبئة استثنائية للنظام الاقتصادي الوطني، تجسّدت في تناغم واضح بين صانعي القرار والقطاع الخاص، بهدف مرافقة المستثمرين عبر مجموعة من التسهيلات الإجرائية والتنسيقية.
وفي هذا السياق، برزت أهمية الجلسات الثنائية التي جمعت تسع شركات صينية تمثل حلقات مختلفة من سلسلة القيمة – من الكابلات والإلكترونيات إلى المكوّنات الميكانيكية والبلاستيكية – بأكثر من عشر شركات تونسية وفروع شركات دولية مستقرة في البلاد، ما فتح قنوات فورية للشراكات الصناعية ونقل المعرفة.
العرض الذي قُدّم حول القيمة المضافة التونسية في القطاع، تلاه عرض شهادات لمستثمرين دوليين، شكّل حجر الزاوية في إبراز عناصر الجاذبية: يد عاملة ماهرة قادرة على استيعاب العمليات الدقيقة في مجال الميكاترونيك، تكاليف إنتاج تنافسية، بنية تحتية لوجستية متنامية تشمل موانئ قريبة من ممرات التجارة الأوروبية، إلى جانب إطار تنظيمي يسعى إلى التوافق مع المعايير الأوروبية في مجالات السلامة والجودة والبيئة.
هذه العناصر مجتمعة تمنح تونس أفضلية في عمليات التجميع المتقدّم، تصنيع الرقائق الكهربائية، القطع البلاستيكية الفنية، والمكوّنات الإلكترونية التي تتطلب دقة وامتثالاً صارمًا للمواصفات.
دخول صيني قوي
تكتسي مشاركة المورّدين الصينيين في هذا التوقيت أهمية خاصة. فالصين، بوصفها مركزا عالميا لحلول التصنيع واسع النطاق والمدعوم بسلسلة مورّدين عميقة، قادرة على نقل جزء من هذه القوة إلى تونس عبر شراكات تصنيع مشتركة، وإدماج المصانع التونسية في شبكات توريد تمتد إلى أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط.
وبالنسبة إلى تونس، فإن هذا يعادل اختصار سنوات من التطوير الذاتي عبر التعلم بالممارسة، وتبنّي منهجيات إنتاج عالية الجودة، وتحسين المؤشرات الإنتاجية، والارتقاء بمستوى التصنيع والاختبارات.
تشير التوجهات الصناعية العالمية إلى أن نقل تقنيات الإنتاج والرقمنة الخفيفة في خطوط المكوّنات الدقيقة يمكن أن يرفع الإنتاجية بنسبة تتراوح بين 20 % و35 % خلال فترة تتراوح بين 18 و24 شهرًا، مع تقليص زمن الدورة بنسبة تصل إلى 30 %.
ومن شأن دخول شركات صينية متخصصة في الإلكترونيات الدقيقة والميكاترونيك أن يُسرّع من تحقيق هذا الأثر، من خلال نقل المعدات والمعارف التنظيمية. وبالنظر إلى الطلب الأوروبي المتزايد على مكوّنات الكابلات والأنظمة الإلكترونية للسيارات، فإن مضاعفة القدرة الإنتاجية لمواقع مختارة في تونس خلال ثلاث سنوات يُعدّ هدفا واقعيا، خاصة إذا تم توزيع الاستثمارات على مراحل تشمل تحديث خطوط الإنتاج، تركيب منصات رقمية متقدمة لتعزيز الإنتاج، وإطلاق وحدات اختبار محلية للموثوقية البيئية والكهربائية.
مضاعفة الإنتاج وتقليص زمن التوريد
يمثّل القرب الجغرافي من أوروبا نقطة قوة حاسمة لتونس، من خلال تقليص زمن التوريد وخفض التكاليف اللوجستية مقارنة بالمورّدين البعيدين، وهو ما يُتيح للمصنّعين الأوروبيين إدارة مخزون أقل ويقلّل من مخاطر الاضطرابات في أوقات الأزمات.
في المقابل، يُمكّن المستثمر الصيني من تقديم عرض قيمة مركّب: تكلفة إنتاج تنافسية، زمن تسليم محسّن، ومعايير جودة متوافقة مع المواصفات الأوروبية، وهو ما يعزّز موقع تونس كمركز إقليمي يُعاد من خلاله توزيع المكوّنات نحو مصانع التجميع في جنوب أوروبا وشمال إفريقيا.
على صعيد آخر، تشكل التحولات الجارية في صناعة السيارات، ولا سيما الانتقال نحو الكهرباء والأنظمة الذكية، فرصة لتونس للتخصص في شرائح تقنية محددة، مثل: وحدات التحكّم الإلكترونية منخفضة إلى متوسطة التعقيد، ضفائر الجهد المنخفض للسيارات الكهربائية الهجينة، ومكوّنات السلامة التي تتطلب دقة وجودة ثابتة في التصنيع.
ويُعد التعاون مع الشركات الصينية والأوروبية – بما تمتلكه من خبرات صارمة في أنظمة السلامة – أمرا حيويا، من شأنه أن يرفع سقف المعايير المعتمدة محليا ويفتح المجال أمام شهادات مطابقة أوروبية تُعزّز قدرة التصدير.
تاريخيا، تتركّز صادرات مكوّنات السيارات من شمال أفريقيا نحو أوروبا. غير أن دخول لاعبين صينيين يمتلكون شبكات توزيع عالمية يُوسّع تلقائيا خارطة الأسواق المستهدفة، لتشمل شرق أوروبا، الشرق الأوسط، وبعض أسواق أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تنمو قدرات تجميع المركبات.
هذا التوسّع يُولّد طلبا أوسع على خطوط إنتاج متعددة المواصفات، ويبرّر استثمارات في الأدوات والقوالب وأنظمة الاختبار وفق معايير مختلفة، مما يُعزّز نمو القيمة المضافة محليا.
وتقديريا، يمكن لتفعيل شراكات تصنيع مع مورّدين صينيين أن يرفع نسبة التصدير خارج الاتحاد الأوروبي بما يتراوح بين 10 و15 نقطة مائوية خلال ثلاث إلى خمس سنوات، مع فتح قنوات لبرامج تصنيع حسب الطلب لمشاريع التجميع الناشئة في إفريقيا.
انعكاسات على سوق العمل والمهارات
لم يقتصر اللقاء على الحوارات العامة، بل شمل تنظيم جلسات ثنائية جمعت تسع شركات صينية تمثل حلقات محورية في سلسلة القيمة – من الكابلات والإلكترونيات إلى المكوّنات الميكانيكية والبلاستيكية – مع أكثر من عشر شركات تونسية، بالإضافة إلى فروع شركات دولية مستقرة في البلاد.
وفي مثل هذه الترتيبات، تُختصر الفجوات التقنية من خلال دورات تدريبية مشتركة، ومرافقة ميدانية من قبل خبراء، واتفاقات توريد مرحلية تتزايد حجمًا ونطاقًا مع تحقيق مؤشرات الجودة.
ومن بين الأهداف الرئيسية، خلق فرص عمل عالية القيمة في أنشطة الميكاترونيك الدقيقة، حيث يتراوح الأثر التشغيلي بين 40 و80 وظيفة مباشرة لكل خط إنتاج متكامل، إضافة إلى وظائف غير مباشرة في مجالات الخدمات اللوجستية، الصيانة، ومعامل الأدوات.
لكن الأهم من ذلك هو بناء مسارات مهنية تقنية متقدمة تشمل فنيين في مراقبة الجودة، مبرمجي روبوتات، ومختصين في اختبارات الموثوقية الحرارية والاهتزازية.
وتجدر الإشارة إلى أن الشراكات الصينية يمكن أن تسرّع من إطلاق برامج تدريب مشتركة مع المعاهد التقنية التونسية، وربما إنشاء حاضنات صغيرة داخل المصانع، وهو ما يعزّز قابلية الابتكار المحلي ويُنشئ حلقة تغذية عكسية إيجابية بين الصناعة والتعليم التطبيقي.
منصّة إقليمية بأفق تعاون متعدد الطبقات
تُقدّم تونس نفسها، من خلال هذا الحراك، كمنصة إقليمية بامتياز، وهو طرح يجد صداه لدى مستثمرين يبحثون عن «مراكز» قريبة من الأسواق النهائية وقادرة على الالتزام بمعايير صارمة.
وعلى المستوى المؤسسي، فإن استمرار التنسيق بين الهيئة التونسية للاستثمار، والوزارات المعنية، والهيئات التنظيمية، يُعدّ أمرًا ضروريًا لتقليص زمن الترخيص، وتبسيط الإجراءات الجمركية، ودعم المناطق الصناعية الذكية المجهزة بخدمات الطاقة والبيانات.
وبات الحديث عن مضاعفة الإنتاج ليس مجرّد شعار، بل خريطة طريق واضحة، إذ إن الطلب العالمي على المكونات الإلكترونية يتزايد بنسبة 7 % سنويا، مدفوعا بانتشار الأنظمة المساعدة للسائق والتحوّل نحو السيارات الكهربائية.
وتجدر الإشارة إلى أن مصانع الأسلاك والكابلات تمثّل ما بين 30 % و50 % من اليد العاملة في سلاسل مكوّنات السيارات في دول مماثلة، وهو مجال تمتلك فيه تونس خبرة تراكمية قابلة للتطوير التقني، إلى جانب إمكانية تطبيق مبادئ الجودة الشاملة وتقنيات الصيانة الإنتاجية الشاملة، ما يُساهم عادة في خفض معدلات العيوب بنسبة تتراوح بين 30 % و50 % خلال عامين، وهو ما ينعكس مباشرة على الكلفة والقدرة التصديرية.
تتلاقى هذه المؤشرات مع رهانات الزيارة الصينية، وتمنح الثقة في أن السوق التونسي يمتلك من المقوّمات ما يسمح بتحويل هذا الاهتمام إلى استثمارات فعلية.
شراكة بآفاق واسعة
وفي المحصّلة، فإن حضور عشرة مورّدين صينيين في لقاء مخصّص لمكوّنات السيارات في تونس ليس حدثًا عابرًا، بل يُعدّ مؤشّرًا على تحوّل في بوصلة الاستثمارات نحو منصّات قريبة من أوروبا، تمتاز بالكفاءة البشرية والتنظيمية.
وفي المقابل، يشكّل هذا اللقاء اختبارا لقدرة المنظومة التونسية – من هيئات الاستثمار إلى الجامعات والمناطق الصناعية – على تحويل هذه الشراكة إلى مصانع قائمة، وخطوط إنتاج قابلة للتوسّع، وشراكات طويلة الأمد تُراكم الخبرة والقيمة.
وهو ما يمكن تونس من مضاعفة طاقتها الإنتاجية في غضون ثلاث سنوات، وتوسيع أسواقها خارج الاتحاد الأوروبي، وترسيخ مكانتها كمنصّة إقليمية لصناعة مكوّنات السيارات الدقيقة.
ومن شأن هذا التعاون أن يشكّل البذرة الأولى لاقتصاد صناعي أكثر توازنا، تتجاور فيه الدقة التقنية مع المرونة اللوجستية، وتلتقي فيه الخبرات الصينية مع الطموح التونسي لصناعة مستقبل أكثر تنافسية واندماجا في سلاسل القيمة العالمية.
سفيان المهداوي
في مشهد يُجسّد تحوّلاً لافتًا في خارطة الاستثمارات الصناعية بمنطقة جنوب المتوسط، احتضنت العاصمة التونسية مؤخرا لقاء نوعيا خُصّص لقطاع مكوّنات السيارات، شارك فيه وفد يضمّ عشرة مورّدين صينيين، إلى جانب مهنيين وممثلين عن الهياكل العمومية، وذلك وفق ما أعلنته الهيئة التونسية للاستثمار (TIA).
وقد حاز هذا اللقاء على اهتمام أكثر من 100 مشارك، إضافة إلى اصطفاف مؤسسي واقتصادي نادر حول أهداف واضحة، في مقدّمتها تسريع وتيرة استقطاب المستثمرين، دعم مشاريع صناعية ذات قيمة مضافة عالية، وخلق فرص عمل مستدامة في واحدة من أكثر السلاسل العالمية تنافسية وديناميكية.
الزيارة، التي نظّمتها مجموعة متخصصة في أنظمة الميكاترونيك الدقيقة لصناعة السيارات، حملت رسائل متعددة المستويات. أولاً، اعتراف ضمني بقدرة تونس على لعب دور منصة إقليمية في صناعة مكوّنات السيارات، مستفيدة من موقع جغرافي استثنائي يربط أوروبا بأفريقيا، ومن قاعدة صناعية قائمة تضم شركات دولية ومورّدين محليين راكموا خبرة في الالتزام بالمعايير الأوروبية. ثانيا، تجسّد الزيارة رغبة صينية متنامية في تنويع نقاط الارتكاز للمصانع والمورّدين، بما يلبّي متطلبات سلاسل توريد باتت تميل أكثر نحو إعادة التموضع الجغرافي وتقليص المسافات نحو أسواق الاستهلاك النهائية.
دلالات اقتصادية تتجاوز الصورة البروتوكولية
لم يكن الحضور المكثف للهيئات العمومية والمنظمات المهنية مجرّد مجاملة بروتوكولية، بل يعكس وعيا رسميا بأن النافذة الزمنية لترسيخ موقع تونس كحلقة موثوقة في سلاسل القيمة العالمية لمكوّنات السيارات قد لا تدوم طويلا، في ظل تزاحم الوجهات المنافسة. وقد أظهر الحدث تعبئة استثنائية للنظام الاقتصادي الوطني، تجسّدت في تناغم واضح بين صانعي القرار والقطاع الخاص، بهدف مرافقة المستثمرين عبر مجموعة من التسهيلات الإجرائية والتنسيقية.
وفي هذا السياق، برزت أهمية الجلسات الثنائية التي جمعت تسع شركات صينية تمثل حلقات مختلفة من سلسلة القيمة – من الكابلات والإلكترونيات إلى المكوّنات الميكانيكية والبلاستيكية – بأكثر من عشر شركات تونسية وفروع شركات دولية مستقرة في البلاد، ما فتح قنوات فورية للشراكات الصناعية ونقل المعرفة.
العرض الذي قُدّم حول القيمة المضافة التونسية في القطاع، تلاه عرض شهادات لمستثمرين دوليين، شكّل حجر الزاوية في إبراز عناصر الجاذبية: يد عاملة ماهرة قادرة على استيعاب العمليات الدقيقة في مجال الميكاترونيك، تكاليف إنتاج تنافسية، بنية تحتية لوجستية متنامية تشمل موانئ قريبة من ممرات التجارة الأوروبية، إلى جانب إطار تنظيمي يسعى إلى التوافق مع المعايير الأوروبية في مجالات السلامة والجودة والبيئة.
هذه العناصر مجتمعة تمنح تونس أفضلية في عمليات التجميع المتقدّم، تصنيع الرقائق الكهربائية، القطع البلاستيكية الفنية، والمكوّنات الإلكترونية التي تتطلب دقة وامتثالاً صارمًا للمواصفات.
دخول صيني قوي
تكتسي مشاركة المورّدين الصينيين في هذا التوقيت أهمية خاصة. فالصين، بوصفها مركزا عالميا لحلول التصنيع واسع النطاق والمدعوم بسلسلة مورّدين عميقة، قادرة على نقل جزء من هذه القوة إلى تونس عبر شراكات تصنيع مشتركة، وإدماج المصانع التونسية في شبكات توريد تمتد إلى أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط.
وبالنسبة إلى تونس، فإن هذا يعادل اختصار سنوات من التطوير الذاتي عبر التعلم بالممارسة، وتبنّي منهجيات إنتاج عالية الجودة، وتحسين المؤشرات الإنتاجية، والارتقاء بمستوى التصنيع والاختبارات.
تشير التوجهات الصناعية العالمية إلى أن نقل تقنيات الإنتاج والرقمنة الخفيفة في خطوط المكوّنات الدقيقة يمكن أن يرفع الإنتاجية بنسبة تتراوح بين 20 % و35 % خلال فترة تتراوح بين 18 و24 شهرًا، مع تقليص زمن الدورة بنسبة تصل إلى 30 %.
ومن شأن دخول شركات صينية متخصصة في الإلكترونيات الدقيقة والميكاترونيك أن يُسرّع من تحقيق هذا الأثر، من خلال نقل المعدات والمعارف التنظيمية. وبالنظر إلى الطلب الأوروبي المتزايد على مكوّنات الكابلات والأنظمة الإلكترونية للسيارات، فإن مضاعفة القدرة الإنتاجية لمواقع مختارة في تونس خلال ثلاث سنوات يُعدّ هدفا واقعيا، خاصة إذا تم توزيع الاستثمارات على مراحل تشمل تحديث خطوط الإنتاج، تركيب منصات رقمية متقدمة لتعزيز الإنتاج، وإطلاق وحدات اختبار محلية للموثوقية البيئية والكهربائية.
مضاعفة الإنتاج وتقليص زمن التوريد
يمثّل القرب الجغرافي من أوروبا نقطة قوة حاسمة لتونس، من خلال تقليص زمن التوريد وخفض التكاليف اللوجستية مقارنة بالمورّدين البعيدين، وهو ما يُتيح للمصنّعين الأوروبيين إدارة مخزون أقل ويقلّل من مخاطر الاضطرابات في أوقات الأزمات.
في المقابل، يُمكّن المستثمر الصيني من تقديم عرض قيمة مركّب: تكلفة إنتاج تنافسية، زمن تسليم محسّن، ومعايير جودة متوافقة مع المواصفات الأوروبية، وهو ما يعزّز موقع تونس كمركز إقليمي يُعاد من خلاله توزيع المكوّنات نحو مصانع التجميع في جنوب أوروبا وشمال إفريقيا.
على صعيد آخر، تشكل التحولات الجارية في صناعة السيارات، ولا سيما الانتقال نحو الكهرباء والأنظمة الذكية، فرصة لتونس للتخصص في شرائح تقنية محددة، مثل: وحدات التحكّم الإلكترونية منخفضة إلى متوسطة التعقيد، ضفائر الجهد المنخفض للسيارات الكهربائية الهجينة، ومكوّنات السلامة التي تتطلب دقة وجودة ثابتة في التصنيع.
ويُعد التعاون مع الشركات الصينية والأوروبية – بما تمتلكه من خبرات صارمة في أنظمة السلامة – أمرا حيويا، من شأنه أن يرفع سقف المعايير المعتمدة محليا ويفتح المجال أمام شهادات مطابقة أوروبية تُعزّز قدرة التصدير.
تاريخيا، تتركّز صادرات مكوّنات السيارات من شمال أفريقيا نحو أوروبا. غير أن دخول لاعبين صينيين يمتلكون شبكات توزيع عالمية يُوسّع تلقائيا خارطة الأسواق المستهدفة، لتشمل شرق أوروبا، الشرق الأوسط، وبعض أسواق أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تنمو قدرات تجميع المركبات.
هذا التوسّع يُولّد طلبا أوسع على خطوط إنتاج متعددة المواصفات، ويبرّر استثمارات في الأدوات والقوالب وأنظمة الاختبار وفق معايير مختلفة، مما يُعزّز نمو القيمة المضافة محليا.
وتقديريا، يمكن لتفعيل شراكات تصنيع مع مورّدين صينيين أن يرفع نسبة التصدير خارج الاتحاد الأوروبي بما يتراوح بين 10 و15 نقطة مائوية خلال ثلاث إلى خمس سنوات، مع فتح قنوات لبرامج تصنيع حسب الطلب لمشاريع التجميع الناشئة في إفريقيا.
انعكاسات على سوق العمل والمهارات
لم يقتصر اللقاء على الحوارات العامة، بل شمل تنظيم جلسات ثنائية جمعت تسع شركات صينية تمثل حلقات محورية في سلسلة القيمة – من الكابلات والإلكترونيات إلى المكوّنات الميكانيكية والبلاستيكية – مع أكثر من عشر شركات تونسية، بالإضافة إلى فروع شركات دولية مستقرة في البلاد.
وفي مثل هذه الترتيبات، تُختصر الفجوات التقنية من خلال دورات تدريبية مشتركة، ومرافقة ميدانية من قبل خبراء، واتفاقات توريد مرحلية تتزايد حجمًا ونطاقًا مع تحقيق مؤشرات الجودة.
ومن بين الأهداف الرئيسية، خلق فرص عمل عالية القيمة في أنشطة الميكاترونيك الدقيقة، حيث يتراوح الأثر التشغيلي بين 40 و80 وظيفة مباشرة لكل خط إنتاج متكامل، إضافة إلى وظائف غير مباشرة في مجالات الخدمات اللوجستية، الصيانة، ومعامل الأدوات.
لكن الأهم من ذلك هو بناء مسارات مهنية تقنية متقدمة تشمل فنيين في مراقبة الجودة، مبرمجي روبوتات، ومختصين في اختبارات الموثوقية الحرارية والاهتزازية.
وتجدر الإشارة إلى أن الشراكات الصينية يمكن أن تسرّع من إطلاق برامج تدريب مشتركة مع المعاهد التقنية التونسية، وربما إنشاء حاضنات صغيرة داخل المصانع، وهو ما يعزّز قابلية الابتكار المحلي ويُنشئ حلقة تغذية عكسية إيجابية بين الصناعة والتعليم التطبيقي.
منصّة إقليمية بأفق تعاون متعدد الطبقات
تُقدّم تونس نفسها، من خلال هذا الحراك، كمنصة إقليمية بامتياز، وهو طرح يجد صداه لدى مستثمرين يبحثون عن «مراكز» قريبة من الأسواق النهائية وقادرة على الالتزام بمعايير صارمة.
وعلى المستوى المؤسسي، فإن استمرار التنسيق بين الهيئة التونسية للاستثمار، والوزارات المعنية، والهيئات التنظيمية، يُعدّ أمرًا ضروريًا لتقليص زمن الترخيص، وتبسيط الإجراءات الجمركية، ودعم المناطق الصناعية الذكية المجهزة بخدمات الطاقة والبيانات.
وبات الحديث عن مضاعفة الإنتاج ليس مجرّد شعار، بل خريطة طريق واضحة، إذ إن الطلب العالمي على المكونات الإلكترونية يتزايد بنسبة 7 % سنويا، مدفوعا بانتشار الأنظمة المساعدة للسائق والتحوّل نحو السيارات الكهربائية.
وتجدر الإشارة إلى أن مصانع الأسلاك والكابلات تمثّل ما بين 30 % و50 % من اليد العاملة في سلاسل مكوّنات السيارات في دول مماثلة، وهو مجال تمتلك فيه تونس خبرة تراكمية قابلة للتطوير التقني، إلى جانب إمكانية تطبيق مبادئ الجودة الشاملة وتقنيات الصيانة الإنتاجية الشاملة، ما يُساهم عادة في خفض معدلات العيوب بنسبة تتراوح بين 30 % و50 % خلال عامين، وهو ما ينعكس مباشرة على الكلفة والقدرة التصديرية.
تتلاقى هذه المؤشرات مع رهانات الزيارة الصينية، وتمنح الثقة في أن السوق التونسي يمتلك من المقوّمات ما يسمح بتحويل هذا الاهتمام إلى استثمارات فعلية.
شراكة بآفاق واسعة
وفي المحصّلة، فإن حضور عشرة مورّدين صينيين في لقاء مخصّص لمكوّنات السيارات في تونس ليس حدثًا عابرًا، بل يُعدّ مؤشّرًا على تحوّل في بوصلة الاستثمارات نحو منصّات قريبة من أوروبا، تمتاز بالكفاءة البشرية والتنظيمية.
وفي المقابل، يشكّل هذا اللقاء اختبارا لقدرة المنظومة التونسية – من هيئات الاستثمار إلى الجامعات والمناطق الصناعية – على تحويل هذه الشراكة إلى مصانع قائمة، وخطوط إنتاج قابلة للتوسّع، وشراكات طويلة الأمد تُراكم الخبرة والقيمة.
وهو ما يمكن تونس من مضاعفة طاقتها الإنتاجية في غضون ثلاث سنوات، وتوسيع أسواقها خارج الاتحاد الأوروبي، وترسيخ مكانتها كمنصّة إقليمية لصناعة مكوّنات السيارات الدقيقة.
ومن شأن هذا التعاون أن يشكّل البذرة الأولى لاقتصاد صناعي أكثر توازنا، تتجاور فيه الدقة التقنية مع المرونة اللوجستية، وتلتقي فيه الخبرات الصينية مع الطموح التونسي لصناعة مستقبل أكثر تنافسية واندماجا في سلاسل القيمة العالمية.