رحيل الفنان التونسي الكبير فاضل الجزيري لم يكن مجرد فقدان شخصية فنية بارزة، بل هو خسارة فادحة للثقافة التونسية برمّتها. فقد كان الرجل أكثر من مبدع على الركح أو في السينما، وأكثر من مخرج مسرحي أو سينمائي، كان مشروعا ثقافيا كاملا. لذلك، فإن استعادة مسيرته عبر شهادات رفاق دربه ومحللين وناقدين وأصدقاء، ليست فقط وفاء لذاكرته، بل هي محاولة لفهم كيف استطاع فرد واحد أن يجسد روح جيل كامل وأن يرسم ملامح حداثة تونسية ذات خصوصية، متجذرة في التراث ومنفتحة على العالم.
انطلق مساء الجمعة 19 سبتمبر الجاري بدار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة موكب أربعينية فقيد الساحة المسرحية والفنية الفاضل الجزيري، التي نظمتها كل من المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بولاية تونس ومؤسسة المسرح الوطني، وكانت وفاء لروح أحد أبرز المبدعين في تاريخ المسرح والفن التونسي. وتواصلت يوم السبت بقاعة الفن الرابع بعرض مسرحية «جرانتي العزيزة».
حضر في اليوم الأول عدد قليل من الوجوه الثقافية من بينهم مدير عام المسرح الوطني معز المرابط، و مدير المعهد العالي للفن المسرحي والناقد عبد الحليم المسعودي، والمخرج المسرحي حمادي المزي، والمخرج السينمائي إبراهيم اللطيف، والفنان هيثم الحذيري، والشاعر الجليدي العويني وغيرهم. وتضمن المعرض عرضا فنيا وشريطا وثائقيا، كما وُزّع كتيب تضمن بعض الشهادات.
والحقيقة أن فعاليات اليوم الأول من إحياء أربعينية الراحل فاضل الجزيري لم تكن بالمستوى المنتظر أو المفترض أن يكون أو يليق بمسيرة الفنان الذي أسس لتاريخ إبداعي فريد من نوعه. غير أن ما جاء في الشريط الوثائقي – على بساطته من حيث الجانب التقني والإخراجي – كان بأهمية بالغة لما تضمنه من تفاصيل وذكريات في الشهادات التي رواها رفاقه وأصدقاؤه ونقاد واكبوا مسيرته الفنية التي استمرت على مدى عقود، إلى جانب مقتطفات من حوار إعلامي مصور للجزيري على احدى المحطات الاذاعية ، اختيرت منه لقطات ترجمت عمق تفكيره وفلسفته الفنية والحياتية.
جذور المسيرة وبدايات التكوين
وقد شارك في هذا الفيلم – الذي أنتجته المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بولاية تونس وأعده محمد المي وقام بتصويره نور جلولي – كل من عبد الحليم المسعودي، فوزية المزي، الشاذلي بن يونس، حمادي المزي، محمد منير العرقي، أمان نصيري، فتحي خراط، رؤوف بن عمر، فتحي زغندة، ولمين النهدي.
وهذه الشهادات، التي وُثّق بعضها في كتيب صغير، تراوحت بين سرد الذكريات وبعض التفاصيل الطريفة للحظات جمعتهم مع الفنان الراحل، وبين استعراض بداياته وقراءة وتحليل لفكر الرجل وفلسفته وتوجهاته الفنية ورؤيته للحياة.
وفي قراءة لمسيرة الجزيري، قالت الناقدة المسرحية فوزية بلحاج المزي في شهادتها إن اختياره للمسرح لم يكن وليد شغف عابر، بل جاء كتجسيد لمسار معرفي وفكري طويل. فقد تربى منذ طفولته على حب المعرفة، بفضل مؤسسات التعليم التي انخرط فيها، وبفضل مكتبة والده التي شكّلت له فضاء أوليا للانفتاح على الفكر والفن. هذا التكوين المبكر منحه رؤية شاملة للثقافة، انعكست لاحقا في بصماته المسرحية التي بلغت ذروتها في أعمال خالدة مثل «النوبة» و»الحضرة».
وأبرزت المتحدثة أن فاضل الجزيري استطاع أن يحول القيم الفكرية والاجتماعية التي عاشها في طفولته إلى مشروع إبداعي متكامل. فارتباطه بنادي المسرح بمدرسة الصادقية تحت إشراف محسن بن عبد الله لم يكن تجربة عابرة، بل كان مرحلة تأسيسية سرعان ما تجاوزها ليضيف أبعادا جديدة. فقد ساهم مع زملائه في تكوين جيل كامل من الفاعلين في الساحة الثقافية، من بينهم محمد رؤوف الباسطي، محمد إدريس، والشاذلي يونس...
المخرج المسرحي حمادي المزي في شهادته المدونة بالكتيب شبّه الجزيري بـ»طائر النورس» الذي ينسجم مع البشر، يستمد منهم قوة ثم يحلّق نحو فضاءات أبعد. في نظره، كانت قوة الجزيري تكمن في ابتسامة هادئة تسكن ذاكرته، وفي قدرته على استنباط روح المدينة العتيقة التي صهرت أعماله المسرحية، وخاصة مسرحية «غسالة النوادر». هذه العلاقة الحميمة بين الذاكرة الشعبية وبين الركح جعلت من فاضل الجزيري صوتا متفردا، يتغذى من جذور مدينته ويقدّمها في قالب معاصر.
ومن جهته، قال مدير المعهد العالي للفن المسرحي عبد الحليم المسعودي في شهادته المصورة إن فاضل الجزيري كان على علاقة وثيقة بالكتّاب وأصحاب الفكر. لم يكن يقتصر على نصوص جاهزة، بل كان يجالسهم ويصغي إليهم ويستفيد من رؤاهم بشكل عجيب. وكان يؤمن بالكتابة والذين يكتبون، ويعتبر أن الفنان الحقيقي هو من يحوّل الأفكار إلى فعل مسرحي حي.
وأكد أن «فاضل الجزيري التفت باكرا إلى الذاكرة الشعبية التونسية، فجعلها مادة أساسية في عروضه الفرجوية. لم يكن يتعامل مع الموسيقى الشعبية كتزيين، بل كوعي جمالي جديد. كان يرى أن اللغة التونسية المحكية، بمخيالها وصورها، قادرة على حمل الشعر والمسرح. لهذا استلهم من بحوث أنثروبولوجية حول الثقافة الشعبية ليحوّلها إلى عمل مسرحي حي، جامع بين التعبيرات المختلفة، ومؤسس لوعي جديد بالهوية».
وأضاف المسعودي أن الجزيري «كان سينوغرافيا بارعا، وفنانا ذا ذوق رفيع. لم يكن المسرح بالنسبة له مجرد خشبة، بل مشروعا جماليا شاملا. كان يتحدث يوميا عن الجماليات، لا باعتبارها تخص المسرح فقط، بل كجزء من المخيال التونسي: في طريقة الكلام، في حركة الناس، في تفاصيل «المدينة العربي». لقد عاش في قلب المدينة العتيقة بالعاصمة، وعايش خفاياها حتى جعل منها مصدرا لإلهامه. حلمه الدائم كان أن ينقل ما هو محلي إلى فضاءات عالمية».
التجارب المبكرة.. «أصل الغول»
أما الشاذلي بن يونس، رئيس جمعية قدماء الصادقية، فقد وصف في شهادته المكتوبة الفقيد كصديق عميق الإخلاص، يستمد طاقته من محيطه لكنه يحوّل المألوف إلى غير مألوف. كان يراه دائم البحث عن الخلاص، ممتلكا «صندوق أسرار» في التعليم، وذاكرة مرئية وروحا صافية. ابتسامته الهادئة لم تكن مجرد سمة شخصية، بل كانت مرآة لفلسفته في الفن: أن يكون الفن همزة وصل بين الإنسان والعالم، وأن يكون الإبداع طريقا للخلاص.
وفي شهادته المصوّرة، قال بن يونس: «اشتغلنا معًا في تجربة مسرحية بعنوان «أصل الغول» . كانت التجربة في إطار المسرح المدرسي، لكن العمل لم ير النور لأنه مُنع من العرض. ورغم ذلك، ظلّت التجربة مهمة جدًا، لأنها كشفت مبكرًا عن شغف فاضل بالمسرح الجماعي، وعن رغبته في الانفتاح على كل الأشكال المسرحية، من المدرسة إلى الفضاءات الكبرى».
إرث فاضل الجزيري.. بين الذاكرة والمستقبل
أما المسرحي محمد منير العرقي فقال في شهادته المصورة: «فاضل الجزيري كان يعرف كيف يفتح حوارًا مع الموسيقيين والفنانين والمبدعين. وكان هو بنفسه يعد شخصيته في الواقع العادي وكممثل على الخشبة أو كمخرج بشخوص عديدة. ورأيت طريقة تعامله التي فيها الكثير من التقدير، مثل تعامله مع الهادي دنيا والهادي حبوبه ولطفي بوشناق ونور الدين الباجي. وهي كلها حكايات حدثت بين «الحضرة» و»النوبة». ورأيته في «زغندة وعزوز» كيف تعامل مع كبار «العوادجية»، ومع «جماعة» الرشيدية، وأيضا كيفية تعامله مع الشباب عندما اشتغلنا في العمل «نجوم» مثل سناء السويسي ومنير الطرودي».
أما الممثل عبد الرؤوف بن عمر فأكد بدوره على ما تحدث عنه كثيرون بأن للراحل «الكثير من الذوق، وكان يعشق الدارجة التونسية، ويعتبرها لغة مهذبة قادرة على حمل الشعر. واشتغل عليها كما كان الأمر في مسرحية «غسالة النوادر» التي فيها الكثير من «الطريزة»، حيث جعل من الدارجة فنا راقيا. وكان فيها ثراء في اللغة حتى أن هناك كلمات نُسيت، واستحضرت بدقة في المسرحية فكان لها وقع خاص على الجمهور».
وعن لمسات الجزيري وكيفية نظرته للأشياء والتعبير عن تصوراته وأحلامه قال رؤوف بن عمر: «في إحدى المرات كنا في لندن، في أكبر ساحاتها وهي ساحة «ترافلغار سكوار». لم يكن معنا حتى ثمن المترو. لكن فاضل وقف يتأمل المكان وقال لي: «هنا نضع خمسين طبالا، وهناك الزكرة، وهناك المنشدون...» ضحكت وقلت له: يا فاضل، نحن لا نملك سوى ثمن «سندويتش»! لكنه ظل يحلم ويخطط. وبعد 30 سنة رأيت ذلك الحلم يتحقق في عروضه الفرجوية الكبرى. كان رجلا يحلم حتى في أشد الأزمات، وهذا ما جعله مختلفا».
وهو ما أكده بدوره الممثل لمين النهدي بـ«أن الجزيري كان ينظر للأمور بـ»عين كبيرة»، مستحضرا تفاصيل طريفة في لندن، وكان فنانا طيبا وله من الحنية ما لا يمكن وصفه، والجميع يحبونه».
«الفن الشعبي» من الهامش إلى المركز
في سياق متصل تحدث الفنان والملحن فتحي زغندة عن علاقة الفاضل الجزيري بالفن الشعبي، وقال إن نشأته بحي باب سويقة وعلي البهلول وغيرها من الأحياء، وإنتاجه للعمل الفني «النوبة» قد أعاد الاعتبار للفن الشعبي الذي كان يُنظر إليه بنظرة دونية باعتباره مرتبطا بأجواء معينة. كان يؤمن بأن هذا الفن أعمق وأغنى من كثير من الأشكال المصنفة «كلاسيكية».
الكاتب محمد المي تناول شخصية الفاضل الجزيري من زاوية التسامح والعزيمة، معتبرا أنه كان يحمل قلبا كبيرا، لا يعرف الضغينة، ويصر على إبراز رسالته بنفسه. كان يرى الأشياء امتدادا لقامته الفارعة، ويتطلع دائما إلى أهداف أبعد مما يدركه الآخرون. قراءته كانت مستمرة، ومعرفته لا تنقطع، حتى بلغ أسمى المعارف الإنسانية. في طموحاته، كان يسعى لبناء مراكز ثقافية تستوعب المثقفين وتوفر للشباب فضاء لإنجاز مشاريعهم.
الفنان فاضل الجزيري لم يكن مجرد مسرحي أو مخرج سينمائي، بل كان واحدا من أبرز من صاغوا أفق الحداثة التونسية. في هذا السياق جاءت شهادة الباحثة والسينمائية أنس كمون، التي أكدت أن فاضل الجزيري فتح «بوابة جديدة في السينما التونسية بفيلمه «ثلاثون» (2008)، إذ صاغ عملا فريدا لا يكتفي بسرد وقائع، بل يشيد مجازا بصريا عن فجر الحداثة في تونس المستعمرة زمن العشرينات والثلاثينات».
كل الشهادات – من النقاد والأصدقاء والباحثين والممثلين والملحنين والمسرحيين – أكدت أن فاضل الجزيري لم يكن شخصية عادية. هو نموذج للفنان الذي تجاوز حدود الفن ليصبح مشروعا مجتمعيا. ابتسامته الهادئة، إيمانه بالتسامح، انفتاحه على الآخر، شغفه بالمعرفة، قدرته على الجمع بين التراث والحداثة، كلها عناصر جعلت منه رمزا فنيا فريدا.
اليوم، وبعد رحيله، يبقى السؤال: كيف نحافظ على هذا الإرث؟ كيف نستعيد مشروع الجزيري لا كذكرى، بل كإرادة مستمرة؟ فإن رحل الفنان كجسد، فإن المشروع باق، يذكّر الأجيال الجديدة بأن الثقافة ليست ترفا، بل هي قدر، كما جاء في شهادات رفاقه.
إيمان عبد اللطيف
رحيل الفنان التونسي الكبير فاضل الجزيري لم يكن مجرد فقدان شخصية فنية بارزة، بل هو خسارة فادحة للثقافة التونسية برمّتها. فقد كان الرجل أكثر من مبدع على الركح أو في السينما، وأكثر من مخرج مسرحي أو سينمائي، كان مشروعا ثقافيا كاملا. لذلك، فإن استعادة مسيرته عبر شهادات رفاق دربه ومحللين وناقدين وأصدقاء، ليست فقط وفاء لذاكرته، بل هي محاولة لفهم كيف استطاع فرد واحد أن يجسد روح جيل كامل وأن يرسم ملامح حداثة تونسية ذات خصوصية، متجذرة في التراث ومنفتحة على العالم.
انطلق مساء الجمعة 19 سبتمبر الجاري بدار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة موكب أربعينية فقيد الساحة المسرحية والفنية الفاضل الجزيري، التي نظمتها كل من المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بولاية تونس ومؤسسة المسرح الوطني، وكانت وفاء لروح أحد أبرز المبدعين في تاريخ المسرح والفن التونسي. وتواصلت يوم السبت بقاعة الفن الرابع بعرض مسرحية «جرانتي العزيزة».
حضر في اليوم الأول عدد قليل من الوجوه الثقافية من بينهم مدير عام المسرح الوطني معز المرابط، و مدير المعهد العالي للفن المسرحي والناقد عبد الحليم المسعودي، والمخرج المسرحي حمادي المزي، والمخرج السينمائي إبراهيم اللطيف، والفنان هيثم الحذيري، والشاعر الجليدي العويني وغيرهم. وتضمن المعرض عرضا فنيا وشريطا وثائقيا، كما وُزّع كتيب تضمن بعض الشهادات.
والحقيقة أن فعاليات اليوم الأول من إحياء أربعينية الراحل فاضل الجزيري لم تكن بالمستوى المنتظر أو المفترض أن يكون أو يليق بمسيرة الفنان الذي أسس لتاريخ إبداعي فريد من نوعه. غير أن ما جاء في الشريط الوثائقي – على بساطته من حيث الجانب التقني والإخراجي – كان بأهمية بالغة لما تضمنه من تفاصيل وذكريات في الشهادات التي رواها رفاقه وأصدقاؤه ونقاد واكبوا مسيرته الفنية التي استمرت على مدى عقود، إلى جانب مقتطفات من حوار إعلامي مصور للجزيري على احدى المحطات الاذاعية ، اختيرت منه لقطات ترجمت عمق تفكيره وفلسفته الفنية والحياتية.
جذور المسيرة وبدايات التكوين
وقد شارك في هذا الفيلم – الذي أنتجته المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بولاية تونس وأعده محمد المي وقام بتصويره نور جلولي – كل من عبد الحليم المسعودي، فوزية المزي، الشاذلي بن يونس، حمادي المزي، محمد منير العرقي، أمان نصيري، فتحي خراط، رؤوف بن عمر، فتحي زغندة، ولمين النهدي.
وهذه الشهادات، التي وُثّق بعضها في كتيب صغير، تراوحت بين سرد الذكريات وبعض التفاصيل الطريفة للحظات جمعتهم مع الفنان الراحل، وبين استعراض بداياته وقراءة وتحليل لفكر الرجل وفلسفته وتوجهاته الفنية ورؤيته للحياة.
وفي قراءة لمسيرة الجزيري، قالت الناقدة المسرحية فوزية بلحاج المزي في شهادتها إن اختياره للمسرح لم يكن وليد شغف عابر، بل جاء كتجسيد لمسار معرفي وفكري طويل. فقد تربى منذ طفولته على حب المعرفة، بفضل مؤسسات التعليم التي انخرط فيها، وبفضل مكتبة والده التي شكّلت له فضاء أوليا للانفتاح على الفكر والفن. هذا التكوين المبكر منحه رؤية شاملة للثقافة، انعكست لاحقا في بصماته المسرحية التي بلغت ذروتها في أعمال خالدة مثل «النوبة» و»الحضرة».
وأبرزت المتحدثة أن فاضل الجزيري استطاع أن يحول القيم الفكرية والاجتماعية التي عاشها في طفولته إلى مشروع إبداعي متكامل. فارتباطه بنادي المسرح بمدرسة الصادقية تحت إشراف محسن بن عبد الله لم يكن تجربة عابرة، بل كان مرحلة تأسيسية سرعان ما تجاوزها ليضيف أبعادا جديدة. فقد ساهم مع زملائه في تكوين جيل كامل من الفاعلين في الساحة الثقافية، من بينهم محمد رؤوف الباسطي، محمد إدريس، والشاذلي يونس...
المخرج المسرحي حمادي المزي في شهادته المدونة بالكتيب شبّه الجزيري بـ»طائر النورس» الذي ينسجم مع البشر، يستمد منهم قوة ثم يحلّق نحو فضاءات أبعد. في نظره، كانت قوة الجزيري تكمن في ابتسامة هادئة تسكن ذاكرته، وفي قدرته على استنباط روح المدينة العتيقة التي صهرت أعماله المسرحية، وخاصة مسرحية «غسالة النوادر». هذه العلاقة الحميمة بين الذاكرة الشعبية وبين الركح جعلت من فاضل الجزيري صوتا متفردا، يتغذى من جذور مدينته ويقدّمها في قالب معاصر.
ومن جهته، قال مدير المعهد العالي للفن المسرحي عبد الحليم المسعودي في شهادته المصورة إن فاضل الجزيري كان على علاقة وثيقة بالكتّاب وأصحاب الفكر. لم يكن يقتصر على نصوص جاهزة، بل كان يجالسهم ويصغي إليهم ويستفيد من رؤاهم بشكل عجيب. وكان يؤمن بالكتابة والذين يكتبون، ويعتبر أن الفنان الحقيقي هو من يحوّل الأفكار إلى فعل مسرحي حي.
وأكد أن «فاضل الجزيري التفت باكرا إلى الذاكرة الشعبية التونسية، فجعلها مادة أساسية في عروضه الفرجوية. لم يكن يتعامل مع الموسيقى الشعبية كتزيين، بل كوعي جمالي جديد. كان يرى أن اللغة التونسية المحكية، بمخيالها وصورها، قادرة على حمل الشعر والمسرح. لهذا استلهم من بحوث أنثروبولوجية حول الثقافة الشعبية ليحوّلها إلى عمل مسرحي حي، جامع بين التعبيرات المختلفة، ومؤسس لوعي جديد بالهوية».
وأضاف المسعودي أن الجزيري «كان سينوغرافيا بارعا، وفنانا ذا ذوق رفيع. لم يكن المسرح بالنسبة له مجرد خشبة، بل مشروعا جماليا شاملا. كان يتحدث يوميا عن الجماليات، لا باعتبارها تخص المسرح فقط، بل كجزء من المخيال التونسي: في طريقة الكلام، في حركة الناس، في تفاصيل «المدينة العربي». لقد عاش في قلب المدينة العتيقة بالعاصمة، وعايش خفاياها حتى جعل منها مصدرا لإلهامه. حلمه الدائم كان أن ينقل ما هو محلي إلى فضاءات عالمية».
التجارب المبكرة.. «أصل الغول»
أما الشاذلي بن يونس، رئيس جمعية قدماء الصادقية، فقد وصف في شهادته المكتوبة الفقيد كصديق عميق الإخلاص، يستمد طاقته من محيطه لكنه يحوّل المألوف إلى غير مألوف. كان يراه دائم البحث عن الخلاص، ممتلكا «صندوق أسرار» في التعليم، وذاكرة مرئية وروحا صافية. ابتسامته الهادئة لم تكن مجرد سمة شخصية، بل كانت مرآة لفلسفته في الفن: أن يكون الفن همزة وصل بين الإنسان والعالم، وأن يكون الإبداع طريقا للخلاص.
وفي شهادته المصوّرة، قال بن يونس: «اشتغلنا معًا في تجربة مسرحية بعنوان «أصل الغول» . كانت التجربة في إطار المسرح المدرسي، لكن العمل لم ير النور لأنه مُنع من العرض. ورغم ذلك، ظلّت التجربة مهمة جدًا، لأنها كشفت مبكرًا عن شغف فاضل بالمسرح الجماعي، وعن رغبته في الانفتاح على كل الأشكال المسرحية، من المدرسة إلى الفضاءات الكبرى».
إرث فاضل الجزيري.. بين الذاكرة والمستقبل
أما المسرحي محمد منير العرقي فقال في شهادته المصورة: «فاضل الجزيري كان يعرف كيف يفتح حوارًا مع الموسيقيين والفنانين والمبدعين. وكان هو بنفسه يعد شخصيته في الواقع العادي وكممثل على الخشبة أو كمخرج بشخوص عديدة. ورأيت طريقة تعامله التي فيها الكثير من التقدير، مثل تعامله مع الهادي دنيا والهادي حبوبه ولطفي بوشناق ونور الدين الباجي. وهي كلها حكايات حدثت بين «الحضرة» و»النوبة». ورأيته في «زغندة وعزوز» كيف تعامل مع كبار «العوادجية»، ومع «جماعة» الرشيدية، وأيضا كيفية تعامله مع الشباب عندما اشتغلنا في العمل «نجوم» مثل سناء السويسي ومنير الطرودي».
أما الممثل عبد الرؤوف بن عمر فأكد بدوره على ما تحدث عنه كثيرون بأن للراحل «الكثير من الذوق، وكان يعشق الدارجة التونسية، ويعتبرها لغة مهذبة قادرة على حمل الشعر. واشتغل عليها كما كان الأمر في مسرحية «غسالة النوادر» التي فيها الكثير من «الطريزة»، حيث جعل من الدارجة فنا راقيا. وكان فيها ثراء في اللغة حتى أن هناك كلمات نُسيت، واستحضرت بدقة في المسرحية فكان لها وقع خاص على الجمهور».
وعن لمسات الجزيري وكيفية نظرته للأشياء والتعبير عن تصوراته وأحلامه قال رؤوف بن عمر: «في إحدى المرات كنا في لندن، في أكبر ساحاتها وهي ساحة «ترافلغار سكوار». لم يكن معنا حتى ثمن المترو. لكن فاضل وقف يتأمل المكان وقال لي: «هنا نضع خمسين طبالا، وهناك الزكرة، وهناك المنشدون...» ضحكت وقلت له: يا فاضل، نحن لا نملك سوى ثمن «سندويتش»! لكنه ظل يحلم ويخطط. وبعد 30 سنة رأيت ذلك الحلم يتحقق في عروضه الفرجوية الكبرى. كان رجلا يحلم حتى في أشد الأزمات، وهذا ما جعله مختلفا».
وهو ما أكده بدوره الممثل لمين النهدي بـ«أن الجزيري كان ينظر للأمور بـ»عين كبيرة»، مستحضرا تفاصيل طريفة في لندن، وكان فنانا طيبا وله من الحنية ما لا يمكن وصفه، والجميع يحبونه».
«الفن الشعبي» من الهامش إلى المركز
في سياق متصل تحدث الفنان والملحن فتحي زغندة عن علاقة الفاضل الجزيري بالفن الشعبي، وقال إن نشأته بحي باب سويقة وعلي البهلول وغيرها من الأحياء، وإنتاجه للعمل الفني «النوبة» قد أعاد الاعتبار للفن الشعبي الذي كان يُنظر إليه بنظرة دونية باعتباره مرتبطا بأجواء معينة. كان يؤمن بأن هذا الفن أعمق وأغنى من كثير من الأشكال المصنفة «كلاسيكية».
الكاتب محمد المي تناول شخصية الفاضل الجزيري من زاوية التسامح والعزيمة، معتبرا أنه كان يحمل قلبا كبيرا، لا يعرف الضغينة، ويصر على إبراز رسالته بنفسه. كان يرى الأشياء امتدادا لقامته الفارعة، ويتطلع دائما إلى أهداف أبعد مما يدركه الآخرون. قراءته كانت مستمرة، ومعرفته لا تنقطع، حتى بلغ أسمى المعارف الإنسانية. في طموحاته، كان يسعى لبناء مراكز ثقافية تستوعب المثقفين وتوفر للشباب فضاء لإنجاز مشاريعهم.
الفنان فاضل الجزيري لم يكن مجرد مسرحي أو مخرج سينمائي، بل كان واحدا من أبرز من صاغوا أفق الحداثة التونسية. في هذا السياق جاءت شهادة الباحثة والسينمائية أنس كمون، التي أكدت أن فاضل الجزيري فتح «بوابة جديدة في السينما التونسية بفيلمه «ثلاثون» (2008)، إذ صاغ عملا فريدا لا يكتفي بسرد وقائع، بل يشيد مجازا بصريا عن فجر الحداثة في تونس المستعمرة زمن العشرينات والثلاثينات».
كل الشهادات – من النقاد والأصدقاء والباحثين والممثلين والملحنين والمسرحيين – أكدت أن فاضل الجزيري لم يكن شخصية عادية. هو نموذج للفنان الذي تجاوز حدود الفن ليصبح مشروعا مجتمعيا. ابتسامته الهادئة، إيمانه بالتسامح، انفتاحه على الآخر، شغفه بالمعرفة، قدرته على الجمع بين التراث والحداثة، كلها عناصر جعلت منه رمزا فنيا فريدا.
اليوم، وبعد رحيله، يبقى السؤال: كيف نحافظ على هذا الإرث؟ كيف نستعيد مشروع الجزيري لا كذكرى، بل كإرادة مستمرة؟ فإن رحل الفنان كجسد، فإن المشروع باق، يذكّر الأجيال الجديدة بأن الثقافة ليست ترفا، بل هي قدر، كما جاء في شهادات رفاقه.