ثلاثة أحداث حصلت بعد العدوان الصهيوني على الدوحة جعلت منطقة الشرق الأوسط أمام تغييرات جيوسياسية عنيفة. آخر هذه الأحداث قد يكون نتاجا للحدثين اللذين سبقاه: خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» نعيم قاسم، ودعوته الصريحة لفتح صفحة جديدة مع السعودية، بما يحمله من إشارات إلى تحول في لغة المحاور وتوازنات النفوذ.
وقبله كان الإعلان عن اتفاقية دفاع مشترك بين باكستان والمملكة، وهو اتفاق بدا للوهلة الأولى عسكريا، لكنه في العمق رسالة تتجاوز الخليج والشرق الأوسط إلى بحر اليابان وقمم الهمالايا وأعماق حقول النفط في الإحساء وفي الخليج.
أما الحدث الأول، فقد تجلى في زيارة غير معتادة إلى الرياض، لضيف يعد ظل المرشد الإيراني علي خامنئي، وأحد صقور المحافظين، جاء حاملا بخطاب يتحدث عن «دفاع مشترك» مع دولة طالما فرقها عن إيران أكثر مما جمعها. هذا التسلسل لا يعكس مجرد أحداث متفرقة، بل يرسم خيوط لوحة كبرى تتداخل فيها مصالح الإقليم مع رهانات القوى العالمية، وتوحي بأن المنطقة مقبلة على إعادة رسم خرائطها الإستراتيجية بأدوات جديدة.
خطاب قاسم.. اقتراح علني
لقد حمل خطاب الأمين العام لـ«حزب الله»، نعيم قاسم، جرعة غير معتادة من المكاشفة، خرج ليقدم «اقتراحا علنيا» لا يكتفي بإعادة توصيف العدو والصديق، بل يدعو السعودية مباشرة إلى فتح صفحة جديدة مع الحزب.
لم يكن خطاب قاسم، خطابا عابرا أو مجرد تكرار لنفس الخطاب المعتاد، الرجل الذي وجد نفسه في مقعد قيادة «حزب الله» بعد اغتيال حسن نصر الله في سبتمبر 2024، يعرف أن المرحلة التي دخلها الحزب ليست كسابقاتها.
لقد مثل اغتيال نصر الله ومعظم قيادة الحزب زلزالا سياسيا ونفسيا وتنظيميا، أرادت تل أبيب من خلاله ضرب الرأس الذي طالما رسم البوصلة ورمز «الهيبة» في «محور المقاومة».
ولكن انتقال القيادة إلى نعيم قاسم وضع الحزب في اختبار إثبات أن «مشروع المقاومة» لا يقوم على فرد، بل على مؤسسة ممتدة في الزمان والمكان.
لذلك، فإن دعوة قاسم العلنية إلى فتح صفحة جديدة مع السعودية لا يمكن قراءتها على أنها مجرد مبادرة بروتوكولية، بل إعلان نوايا سياسي يقرأ بدقة متغيرات المنطقة، فقاسم يعرف أن الحوار مع الرياض ليس أمرا ثانويا، بل هو مفصل يمكن أن يغير طبيعة الاصطفافات الكبرى، خصوصا بعد زيارة رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني للرياض حيث جرى حديث عن «الدفاع المشترك»، واتفاقية خارقة للعادة للدفاع المشترك بين الرياض وإسلام أباد.
في جوهر خطابه، ثلاثة مستويات أساسية يمكن استخلاصها تتمحور حول «إعادة تعريف العدو» بإدراج الكيان الصهيوني كخطر مشترك، لا كعدو لقوى المقاومة وحدها، وتجميد الخلافات مع الرياض ولو مرحليا، باعتبار اللحظة استثنائية التي تعيشها المنطقة بعد العدوان على وفد حركة «حماس» في قطر، وكذلك التأكيد على أن سلاح «حزب الله» موجه فقط نحو تل أبيب، لا نحو الداخل اللبناني أو العربي.
بهذا، قدم قاسم عرضا سياسيا يتجاوز مجرد خطاب تعبوي، فهو أراد توجيه رسالة مضمونها السياسي صريح «لسنا خصوما بالفطرة، بل يمكن أن نلتقي على قاعدة مواجهة الكيان الصهيوني»، وهو خطاب مغاير تماما للغة التصعيد التي طغت في سنوات الحرب السورية وما تلاها.
بالنسبة لـ»حزب الله»، الانفتاح على السعودية ليس خيارا رومانسيا، بل ضرورة سياسية، فلبنان يختنق اقتصاديا، والعلاقة مع الرياض تعتبر مدخلا لأي دعم خليجي واسع. الحزب، تحت ضغط جمهوره والداخل اللبناني، يبحث عن معادلة جديدة، الحفاظ على سلاحه تحت شعار مقاومة الاحتلال، مقابل تطبيع علاقته مع الخليج.
أما السعودية، فهي تدرك أن لبنان لن يستقر دون تفاهم مع «حزب الله»، مهما حاولت الأطراف الداخلية أو الدولية الالتفاف على الواقع. وهنا يلتقي الطرفان على أرضية براغماتية تتلخص في إيجاد تهدئة متبادلة، لا تحالفا عضويا صعب التحقق فكريا وإيديولوجيا.
بين السعودية وإيران وباكستان وأمريكا
ويأتي خطاب قاسم في لحظة وجدت السعودية نفسها أمام حتمية إعادة قراءة ما يحدث وإجراء مراجعة عميقة جدا لما حدث بعد العدوان على الدوحة.
فالهجوم الإسرائيلي على عاصمة خليجية – بغض النظر عن التوصيفات القانونية والدبلوماسية – مثل كسرا للخطوط الحمراء. فالرياض التي لطالما استندت إلى المظلة الأمريكية أمنية وعسكرية- منذ اتفاق بارجة كوينزي في 14 فيفري 1945 بين الملك المؤسس للمملكة عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفيلت- باتت أقل يقينا بفعاليتها، بالرغم من مفاوضات لإبرام اتفاقية أمنية بدأت منذ ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى، وتواصلت مع جو بايدن، ولم تجد طريقها للإمضاء بالرغم من زيارة تاريخية للرئيس الأمريكي الحالي ترامب التي توجت باتفاقيات اقتصادية مليارية، يبدو أنها لم تكن مفيدة في تعديل بوصلة الإدارة الجمهورية من الدعم المطلق لتل أبيب في حربها على غزة، والذي تحول إلى جنون بالحرب ضرب كل المنطقة، هدفه المعلن توسعي.
يبدو أن تراكم هذه الأحداث دفع الرياض للتحرك على ثلاثة مسارات جديدة:
-المسار الإيراني: فبالرغم من أن إستراتيجية طهران في المنطقة هي التي قادت الرياض للبحث عن توازنات جديدة لحمايتها، وخصوصا من تقدم الحوثيين -حلفاء إيران- في الخاصرة الجنوبية للملكة العربية السعودية، اليمن، إلا أنها اختارت، بعد عدوان الدوحة استقبال رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني الذي يمثل أقصى اليمين المحافظ وظل المرشد الإيراني، علي لاريجاني (سحب لاريجاني البساط من تحت الإصلاحيين بعد تداعيات حرب الـ12 يوما بين إيران والكيان وأصبحت ملفات القضايا الحارقة كالملف النووي والبالستي ضمن صلاحيات المجلس مباشرة وليست ضمن صلاحيات الحكومة التي يقودها الإصلاحيون) في الرياض في زيارة لم تكن بروتوكولية، فالرجل حمل ملفات التعاون الدفاعي مباشرة، وهذا في حد ذاته كسر لمحرمات كانت قائمة قبل سنوات قليلة، والرسالة السعودية–الإيرانية المشتركة هي أن العدوان الإسرائيلي يفرض تنسيقا أوسع، حتى وإن ظل محدودا ومشروطا، وهو ما يبدو قد دفع «حزب الله» للمبادرة بخطاب مد اليد للرياض في هذه اللحظة بالذات.
-المسار الباكستاني: يشكل توقيع اتفاقية دفاعية إستراتيجية مع إسلام آباد، وفتح الباب علنا أمام إمكانية مشاركة الترسانة النووية الباكستانية في حماية السعودية، شكل قفزة نوعية، ليس فقط لأنه أعاد تعريف معادلة الردع في الخليج، بل لأنه أوصل رسالة واضحة إلى واشنطن وتل أبيب بأن الرياض تملك بدائل.
-المسار الأمريكي: رغم الاستياء، لا يمكن للسعودية أن تدير ظهرها للولايات المتحدة، لكن اللهجة تغيرت، فلم تعد واشنطن الضامن الأوحد للأمن، بل طرفا ضمن معادلة متعددة الأضلاع.
وهذا التحول في المزاج السعودي يعكس إدراكا بأن العالم يدخل مرحلة «تعدد المظلات»، وأن الاعتماد على مظلة أمنية وعسكرية واحدة يعتبر مغامرة.
باكستان و«لعبة الردع»
لم تكن الاتفاقية الدفاعية السعودية–الباكستانية مجرد ورقة تعاون عادية، فالتصريحات العلنية من وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف حول إمكانية مشاركة القدرات النووية وضعت باكستان في قلب المعادلة الخليجية.
ويكتسب هذا التطور أهمية لعدة أسباب، خصوصا وأن باكستان هي الدولة الإسلامية الوحيدة المالكة للسلاح النووي، وجيشها يتمتع بخبرة طويلة اكتسبها من الصراع مع الهند وعمليات الكر والفر مع الجماعات الجهادية في وزيرستان، ولديه عقيدة عسكرية قتالية لا يمكن التقليل منها، كم أن التقارب مع السعودية يمنحها ثقلا ماليا واقتصاديا، فيما يمنح الرياض ثقلا استراتيجيا غير مسبوق.
والأهم أن هذه الخطوة لا تنفصل عن المشهد الآسيوي، فالصين التي تربطها علاقات عميقة بإسلام آباد، تراقب ما يحدث من بعيد وتبتسم، فبكين تدرك أن أي تعزيز لدور باكستان في الخليج يعني عمليا تقليص الهيمنة الأمريكية، بالرغم من وجود علاقات كبيرة تجمع واشنطن بإسلام أباد.
سقوط «الرواق الهندي»
الصين التي لم تتدخل مباشرة بعد ضربة الدوحة، كانت حاضرة بصمتها، فبكين هي المستفيد الأكبر من كل تقارب سعودي–إيراني أو سعودي–باكستاني.
ومن زاوية أخرى، فإن وجود باكستان كقوة ردع داعمة للسعودية يمنح الصين ضمانة إضافية بأن المنطقة لن تسقط بالكامل في الفوضى، التي تجر ارتفاع أسعار النفط الذي يضرب آلتها الصناعية، وهذا يفسر «الابتسامة الصامتة» التي تنسب لبكين فهي حاضرة بلا ضجيج، ولكن بتأثير بعيد المدى.
وإذا كان العدوان على الدوحة قد أطلق ديناميات جديدة في الخليج، فإن انعكاساته تتجاوز المنطقة إلى قلب التنافس الآسيوي، فالصين من موقع المراقب المبتسم، رأت في ما جرى مكسبا لإستراتيجية «الحزام والطريق»؛ إذ أن أي تقارب سعودي–إيراني–باكستاني يعزز المسار الأوراسي للطريق التجاري الذي ترعاه بكين.
لكن في المقابل، فإن مشروع «الرواق الهندي»، الذي كان يسوق له في واشنطن وتل أبيب كبديل استراتيجي لطريق الحرير، من خلال خط يربط نيودلهي بحيفا عبر الإمارات والسعودية والأردن، انهار عمليا.
ودفع العدوان على الدوحة، والتحولات في الرياض، بهذا المشروع إلى الخلفية، وأضعفت إمكانية اعتماده كبنية موازية لطريق الحرير.
ويبدو أن الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان تعزز هذا المسار، فهي بمثل ما دخلت في معادلة ردع في الشرق الأوسط، فهي موجهة أولا ضد الهند، الخصم التاريخي لإسلام آباد، لكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها بعدا جيوسياسيا أعمق يتلخص في أن السعودية تسعى لتكريس نفسها زعيمة إقليمية، فيما تتنازع تل أبيب معها هذا الموقع.
وليس أدل على ذلك من أن تل أبيب، والتي تعتبر حليفة للهند، لم تتردد في إعلان عدائها العلني للسعودية مؤخرا، بعدما أصرت الرياض على الاعتراف بالدولة الفلسطينية وقيادة هذا المسعى داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
فالخطوة السعودية أعادت إحياء ملف الدولة الفلسطينية في المحافل الدولية، وخلقت زخما جديدا، فدول كانت تعتبر داعمة تقليديا لتل أبيب مالت فجأة إلى الموقف السعودي، ما أدى إلى مزيد من عزلة تل أبيب.
بالنسبة لحكومة بنيامين نتنياهو، هذا التطور لا يقل خطورة عن الصواريخ أو الانتفاضات، إنه ضربة سياسية على المستوى الدولي تعمق حصارها الدبلوماسي.
بهذا، تبدو المعادلة أوضح، بأن كل مكسب صيني في الخليج يقابله خسارة هندية – إسرائيلية، وأن كل خطوة سعودية باتجاه بناء زعامة دبلوماسية عبر الاعتراف بفلسطين، تعني عزلة متزايدة لتل أبيب التي حاولت طويلا تقديم نفسها كقوة قادرة على قيادة المنطقة عبر التطبيع.
هل انتهى مسار التطبيع؟
ولعل من الأسئلة الجوهرية والملحة، بعد كل هذه التطورات، هل قبر مسار التطبيع بين الرياض وتل أبيب، خصوصا وأن واشنطن ربطت ذلك ضمن أي اتفاق أمني يمكن أن تتوصل إليه الرياض وواشنطن؟
الجواب ليس بسيطا، فمن جهة، شكل الهجوم الإسرائيلي إحراجا كبيرا لراعي هذا المسار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأظهر أن تل أبيب لا تحترم خطوط حلفائها المحتملين في منطقة الخليج، بالرغم من توقيع عدة اتفاقيات تطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب وقبلها مع الأردن ومصر.
ومن جهة أخرى، كانت هناك مشاريع أمريكية ضخمة تراهن على إدخال السعودية في «اتفاقيات إبراهيم» كالتتويج الأكبر.
لكن عمليا، يبدو أن التطبيع لم يلغ، بل جمد إلى حين، أي أنه لم يعد أولوية، بل أصبح عبئا سياسيا، والرياض في اللحظة الحالية تميل إلى إعادة بناء صورتها كقوة إقليمية مستقلة، لا كطرف في محور تقوده تل أبيب.
قلق مزدوج بين واشنطن وتل أبيب
بالنسبة للولايات المتحدة، ما يحدث في الرياض مزعج، فالاتفاقية مع باكستان تقلص هامش السيطرة الأمريكية، وهامش التحرك العسكري لتل أبيب، والميل السعودي نحو براغماتية أكبر مع إيران يفتح الباب أمام نظام أمني إقليمي لا تديره واشنطن بالكامل.
أما تل أبيب، فهي الخاسر الأكبر على المدى القصير، الهجوم على الدوحة الذي كان يفترض أن يثبت قوتها الردعية، أدى إلى نتيجة معاكسة، ودفع السعودية إلى مراجعة علاقتها بها، وأعطى حزب الله فرصة ليقدم نفسه كشريك محتمل لا كعدو مطلق.
ما بعد العدوان على الدوحة
إذا أردنا أن نلخص اللحظة، يمكن القول إن العدوان على الدوحة كان «زلزالا جيوسياسيا»، من رحم هذا الزلزال خرجت معادلات جديدة.
فالرياض لم تعد أسيرة المظلة الأمريكية، وطهران دخلت إلى الخليج من بوابة الحوار الدفاعي، وباكستان وضعت ترسانتها النووية على الطاولة، و»حزب الله» يمد يده إلى السعودية من موقع القوة، والصين تراقب وتنتظر، فيما واشنطن وتل أبيب تعيدان حساباتهما.
وبعد هذا الزلزال يدخل الشرق الأوسط مرحلة إعادة تشكيل عميقة، الإشكالية لم تعد تتعلق بمن يقود المنطقة فقط، بل هل يمكن إيجاد معادلة أمنية يمكن أن تضمن توازن القوى وتمنع تل أبيب من فرض مشروعها التوسعي بالقوة.
قد لا نكون أمام تحالف عضوي بين الرياض و»حزب الله» أو بين السعودية وإيران، لكننا بالتأكيد أمام لحظة «إعادة تعريف»، وأن «العدو» كما قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة «هو إسرائيل»، لا الآخر العربي أو الإسلامي. وهذا وحده كفيل بتغيير وجه المنطقة.
بقلم: نزار مقني
ثلاثة أحداث حصلت بعد العدوان الصهيوني على الدوحة جعلت منطقة الشرق الأوسط أمام تغييرات جيوسياسية عنيفة. آخر هذه الأحداث قد يكون نتاجا للحدثين اللذين سبقاه: خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» نعيم قاسم، ودعوته الصريحة لفتح صفحة جديدة مع السعودية، بما يحمله من إشارات إلى تحول في لغة المحاور وتوازنات النفوذ.
وقبله كان الإعلان عن اتفاقية دفاع مشترك بين باكستان والمملكة، وهو اتفاق بدا للوهلة الأولى عسكريا، لكنه في العمق رسالة تتجاوز الخليج والشرق الأوسط إلى بحر اليابان وقمم الهمالايا وأعماق حقول النفط في الإحساء وفي الخليج.
أما الحدث الأول، فقد تجلى في زيارة غير معتادة إلى الرياض، لضيف يعد ظل المرشد الإيراني علي خامنئي، وأحد صقور المحافظين، جاء حاملا بخطاب يتحدث عن «دفاع مشترك» مع دولة طالما فرقها عن إيران أكثر مما جمعها. هذا التسلسل لا يعكس مجرد أحداث متفرقة، بل يرسم خيوط لوحة كبرى تتداخل فيها مصالح الإقليم مع رهانات القوى العالمية، وتوحي بأن المنطقة مقبلة على إعادة رسم خرائطها الإستراتيجية بأدوات جديدة.
خطاب قاسم.. اقتراح علني
لقد حمل خطاب الأمين العام لـ«حزب الله»، نعيم قاسم، جرعة غير معتادة من المكاشفة، خرج ليقدم «اقتراحا علنيا» لا يكتفي بإعادة توصيف العدو والصديق، بل يدعو السعودية مباشرة إلى فتح صفحة جديدة مع الحزب.
لم يكن خطاب قاسم، خطابا عابرا أو مجرد تكرار لنفس الخطاب المعتاد، الرجل الذي وجد نفسه في مقعد قيادة «حزب الله» بعد اغتيال حسن نصر الله في سبتمبر 2024، يعرف أن المرحلة التي دخلها الحزب ليست كسابقاتها.
لقد مثل اغتيال نصر الله ومعظم قيادة الحزب زلزالا سياسيا ونفسيا وتنظيميا، أرادت تل أبيب من خلاله ضرب الرأس الذي طالما رسم البوصلة ورمز «الهيبة» في «محور المقاومة».
ولكن انتقال القيادة إلى نعيم قاسم وضع الحزب في اختبار إثبات أن «مشروع المقاومة» لا يقوم على فرد، بل على مؤسسة ممتدة في الزمان والمكان.
لذلك، فإن دعوة قاسم العلنية إلى فتح صفحة جديدة مع السعودية لا يمكن قراءتها على أنها مجرد مبادرة بروتوكولية، بل إعلان نوايا سياسي يقرأ بدقة متغيرات المنطقة، فقاسم يعرف أن الحوار مع الرياض ليس أمرا ثانويا، بل هو مفصل يمكن أن يغير طبيعة الاصطفافات الكبرى، خصوصا بعد زيارة رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني للرياض حيث جرى حديث عن «الدفاع المشترك»، واتفاقية خارقة للعادة للدفاع المشترك بين الرياض وإسلام أباد.
في جوهر خطابه، ثلاثة مستويات أساسية يمكن استخلاصها تتمحور حول «إعادة تعريف العدو» بإدراج الكيان الصهيوني كخطر مشترك، لا كعدو لقوى المقاومة وحدها، وتجميد الخلافات مع الرياض ولو مرحليا، باعتبار اللحظة استثنائية التي تعيشها المنطقة بعد العدوان على وفد حركة «حماس» في قطر، وكذلك التأكيد على أن سلاح «حزب الله» موجه فقط نحو تل أبيب، لا نحو الداخل اللبناني أو العربي.
بهذا، قدم قاسم عرضا سياسيا يتجاوز مجرد خطاب تعبوي، فهو أراد توجيه رسالة مضمونها السياسي صريح «لسنا خصوما بالفطرة، بل يمكن أن نلتقي على قاعدة مواجهة الكيان الصهيوني»، وهو خطاب مغاير تماما للغة التصعيد التي طغت في سنوات الحرب السورية وما تلاها.
بالنسبة لـ»حزب الله»، الانفتاح على السعودية ليس خيارا رومانسيا، بل ضرورة سياسية، فلبنان يختنق اقتصاديا، والعلاقة مع الرياض تعتبر مدخلا لأي دعم خليجي واسع. الحزب، تحت ضغط جمهوره والداخل اللبناني، يبحث عن معادلة جديدة، الحفاظ على سلاحه تحت شعار مقاومة الاحتلال، مقابل تطبيع علاقته مع الخليج.
أما السعودية، فهي تدرك أن لبنان لن يستقر دون تفاهم مع «حزب الله»، مهما حاولت الأطراف الداخلية أو الدولية الالتفاف على الواقع. وهنا يلتقي الطرفان على أرضية براغماتية تتلخص في إيجاد تهدئة متبادلة، لا تحالفا عضويا صعب التحقق فكريا وإيديولوجيا.
بين السعودية وإيران وباكستان وأمريكا
ويأتي خطاب قاسم في لحظة وجدت السعودية نفسها أمام حتمية إعادة قراءة ما يحدث وإجراء مراجعة عميقة جدا لما حدث بعد العدوان على الدوحة.
فالهجوم الإسرائيلي على عاصمة خليجية – بغض النظر عن التوصيفات القانونية والدبلوماسية – مثل كسرا للخطوط الحمراء. فالرياض التي لطالما استندت إلى المظلة الأمريكية أمنية وعسكرية- منذ اتفاق بارجة كوينزي في 14 فيفري 1945 بين الملك المؤسس للمملكة عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفيلت- باتت أقل يقينا بفعاليتها، بالرغم من مفاوضات لإبرام اتفاقية أمنية بدأت منذ ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى، وتواصلت مع جو بايدن، ولم تجد طريقها للإمضاء بالرغم من زيارة تاريخية للرئيس الأمريكي الحالي ترامب التي توجت باتفاقيات اقتصادية مليارية، يبدو أنها لم تكن مفيدة في تعديل بوصلة الإدارة الجمهورية من الدعم المطلق لتل أبيب في حربها على غزة، والذي تحول إلى جنون بالحرب ضرب كل المنطقة، هدفه المعلن توسعي.
يبدو أن تراكم هذه الأحداث دفع الرياض للتحرك على ثلاثة مسارات جديدة:
-المسار الإيراني: فبالرغم من أن إستراتيجية طهران في المنطقة هي التي قادت الرياض للبحث عن توازنات جديدة لحمايتها، وخصوصا من تقدم الحوثيين -حلفاء إيران- في الخاصرة الجنوبية للملكة العربية السعودية، اليمن، إلا أنها اختارت، بعد عدوان الدوحة استقبال رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني الذي يمثل أقصى اليمين المحافظ وظل المرشد الإيراني، علي لاريجاني (سحب لاريجاني البساط من تحت الإصلاحيين بعد تداعيات حرب الـ12 يوما بين إيران والكيان وأصبحت ملفات القضايا الحارقة كالملف النووي والبالستي ضمن صلاحيات المجلس مباشرة وليست ضمن صلاحيات الحكومة التي يقودها الإصلاحيون) في الرياض في زيارة لم تكن بروتوكولية، فالرجل حمل ملفات التعاون الدفاعي مباشرة، وهذا في حد ذاته كسر لمحرمات كانت قائمة قبل سنوات قليلة، والرسالة السعودية–الإيرانية المشتركة هي أن العدوان الإسرائيلي يفرض تنسيقا أوسع، حتى وإن ظل محدودا ومشروطا، وهو ما يبدو قد دفع «حزب الله» للمبادرة بخطاب مد اليد للرياض في هذه اللحظة بالذات.
-المسار الباكستاني: يشكل توقيع اتفاقية دفاعية إستراتيجية مع إسلام آباد، وفتح الباب علنا أمام إمكانية مشاركة الترسانة النووية الباكستانية في حماية السعودية، شكل قفزة نوعية، ليس فقط لأنه أعاد تعريف معادلة الردع في الخليج، بل لأنه أوصل رسالة واضحة إلى واشنطن وتل أبيب بأن الرياض تملك بدائل.
-المسار الأمريكي: رغم الاستياء، لا يمكن للسعودية أن تدير ظهرها للولايات المتحدة، لكن اللهجة تغيرت، فلم تعد واشنطن الضامن الأوحد للأمن، بل طرفا ضمن معادلة متعددة الأضلاع.
وهذا التحول في المزاج السعودي يعكس إدراكا بأن العالم يدخل مرحلة «تعدد المظلات»، وأن الاعتماد على مظلة أمنية وعسكرية واحدة يعتبر مغامرة.
باكستان و«لعبة الردع»
لم تكن الاتفاقية الدفاعية السعودية–الباكستانية مجرد ورقة تعاون عادية، فالتصريحات العلنية من وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف حول إمكانية مشاركة القدرات النووية وضعت باكستان في قلب المعادلة الخليجية.
ويكتسب هذا التطور أهمية لعدة أسباب، خصوصا وأن باكستان هي الدولة الإسلامية الوحيدة المالكة للسلاح النووي، وجيشها يتمتع بخبرة طويلة اكتسبها من الصراع مع الهند وعمليات الكر والفر مع الجماعات الجهادية في وزيرستان، ولديه عقيدة عسكرية قتالية لا يمكن التقليل منها، كم أن التقارب مع السعودية يمنحها ثقلا ماليا واقتصاديا، فيما يمنح الرياض ثقلا استراتيجيا غير مسبوق.
والأهم أن هذه الخطوة لا تنفصل عن المشهد الآسيوي، فالصين التي تربطها علاقات عميقة بإسلام آباد، تراقب ما يحدث من بعيد وتبتسم، فبكين تدرك أن أي تعزيز لدور باكستان في الخليج يعني عمليا تقليص الهيمنة الأمريكية، بالرغم من وجود علاقات كبيرة تجمع واشنطن بإسلام أباد.
سقوط «الرواق الهندي»
الصين التي لم تتدخل مباشرة بعد ضربة الدوحة، كانت حاضرة بصمتها، فبكين هي المستفيد الأكبر من كل تقارب سعودي–إيراني أو سعودي–باكستاني.
ومن زاوية أخرى، فإن وجود باكستان كقوة ردع داعمة للسعودية يمنح الصين ضمانة إضافية بأن المنطقة لن تسقط بالكامل في الفوضى، التي تجر ارتفاع أسعار النفط الذي يضرب آلتها الصناعية، وهذا يفسر «الابتسامة الصامتة» التي تنسب لبكين فهي حاضرة بلا ضجيج، ولكن بتأثير بعيد المدى.
وإذا كان العدوان على الدوحة قد أطلق ديناميات جديدة في الخليج، فإن انعكاساته تتجاوز المنطقة إلى قلب التنافس الآسيوي، فالصين من موقع المراقب المبتسم، رأت في ما جرى مكسبا لإستراتيجية «الحزام والطريق»؛ إذ أن أي تقارب سعودي–إيراني–باكستاني يعزز المسار الأوراسي للطريق التجاري الذي ترعاه بكين.
لكن في المقابل، فإن مشروع «الرواق الهندي»، الذي كان يسوق له في واشنطن وتل أبيب كبديل استراتيجي لطريق الحرير، من خلال خط يربط نيودلهي بحيفا عبر الإمارات والسعودية والأردن، انهار عمليا.
ودفع العدوان على الدوحة، والتحولات في الرياض، بهذا المشروع إلى الخلفية، وأضعفت إمكانية اعتماده كبنية موازية لطريق الحرير.
ويبدو أن الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان تعزز هذا المسار، فهي بمثل ما دخلت في معادلة ردع في الشرق الأوسط، فهي موجهة أولا ضد الهند، الخصم التاريخي لإسلام آباد، لكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها بعدا جيوسياسيا أعمق يتلخص في أن السعودية تسعى لتكريس نفسها زعيمة إقليمية، فيما تتنازع تل أبيب معها هذا الموقع.
وليس أدل على ذلك من أن تل أبيب، والتي تعتبر حليفة للهند، لم تتردد في إعلان عدائها العلني للسعودية مؤخرا، بعدما أصرت الرياض على الاعتراف بالدولة الفلسطينية وقيادة هذا المسعى داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
فالخطوة السعودية أعادت إحياء ملف الدولة الفلسطينية في المحافل الدولية، وخلقت زخما جديدا، فدول كانت تعتبر داعمة تقليديا لتل أبيب مالت فجأة إلى الموقف السعودي، ما أدى إلى مزيد من عزلة تل أبيب.
بالنسبة لحكومة بنيامين نتنياهو، هذا التطور لا يقل خطورة عن الصواريخ أو الانتفاضات، إنه ضربة سياسية على المستوى الدولي تعمق حصارها الدبلوماسي.
بهذا، تبدو المعادلة أوضح، بأن كل مكسب صيني في الخليج يقابله خسارة هندية – إسرائيلية، وأن كل خطوة سعودية باتجاه بناء زعامة دبلوماسية عبر الاعتراف بفلسطين، تعني عزلة متزايدة لتل أبيب التي حاولت طويلا تقديم نفسها كقوة قادرة على قيادة المنطقة عبر التطبيع.
هل انتهى مسار التطبيع؟
ولعل من الأسئلة الجوهرية والملحة، بعد كل هذه التطورات، هل قبر مسار التطبيع بين الرياض وتل أبيب، خصوصا وأن واشنطن ربطت ذلك ضمن أي اتفاق أمني يمكن أن تتوصل إليه الرياض وواشنطن؟
الجواب ليس بسيطا، فمن جهة، شكل الهجوم الإسرائيلي إحراجا كبيرا لراعي هذا المسار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأظهر أن تل أبيب لا تحترم خطوط حلفائها المحتملين في منطقة الخليج، بالرغم من توقيع عدة اتفاقيات تطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب وقبلها مع الأردن ومصر.
ومن جهة أخرى، كانت هناك مشاريع أمريكية ضخمة تراهن على إدخال السعودية في «اتفاقيات إبراهيم» كالتتويج الأكبر.
لكن عمليا، يبدو أن التطبيع لم يلغ، بل جمد إلى حين، أي أنه لم يعد أولوية، بل أصبح عبئا سياسيا، والرياض في اللحظة الحالية تميل إلى إعادة بناء صورتها كقوة إقليمية مستقلة، لا كطرف في محور تقوده تل أبيب.
قلق مزدوج بين واشنطن وتل أبيب
بالنسبة للولايات المتحدة، ما يحدث في الرياض مزعج، فالاتفاقية مع باكستان تقلص هامش السيطرة الأمريكية، وهامش التحرك العسكري لتل أبيب، والميل السعودي نحو براغماتية أكبر مع إيران يفتح الباب أمام نظام أمني إقليمي لا تديره واشنطن بالكامل.
أما تل أبيب، فهي الخاسر الأكبر على المدى القصير، الهجوم على الدوحة الذي كان يفترض أن يثبت قوتها الردعية، أدى إلى نتيجة معاكسة، ودفع السعودية إلى مراجعة علاقتها بها، وأعطى حزب الله فرصة ليقدم نفسه كشريك محتمل لا كعدو مطلق.
ما بعد العدوان على الدوحة
إذا أردنا أن نلخص اللحظة، يمكن القول إن العدوان على الدوحة كان «زلزالا جيوسياسيا»، من رحم هذا الزلزال خرجت معادلات جديدة.
فالرياض لم تعد أسيرة المظلة الأمريكية، وطهران دخلت إلى الخليج من بوابة الحوار الدفاعي، وباكستان وضعت ترسانتها النووية على الطاولة، و»حزب الله» يمد يده إلى السعودية من موقع القوة، والصين تراقب وتنتظر، فيما واشنطن وتل أبيب تعيدان حساباتهما.
وبعد هذا الزلزال يدخل الشرق الأوسط مرحلة إعادة تشكيل عميقة، الإشكالية لم تعد تتعلق بمن يقود المنطقة فقط، بل هل يمكن إيجاد معادلة أمنية يمكن أن تضمن توازن القوى وتمنع تل أبيب من فرض مشروعها التوسعي بالقوة.
قد لا نكون أمام تحالف عضوي بين الرياض و»حزب الله» أو بين السعودية وإيران، لكننا بالتأكيد أمام لحظة «إعادة تعريف»، وأن «العدو» كما قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة «هو إسرائيل»، لا الآخر العربي أو الإسلامي. وهذا وحده كفيل بتغيير وجه المنطقة.