إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

استعادت ثقة أسواق المال العالمية.. وكالات التصنيف تكافئ تونس على ضبط العجز وتثبيت الاستقرار

 منذ أشهر، تتقدّم تونس بخطى محسوبة على مسار استعادة الثقة في أسواق المال العالمية، مسار تُوّج بمحطة لافتة مع إعلان وكالة فيتش رايتينغ، في تقريرها الصادر يوم 12 سبتمبر 2025، رفع التصنيف الائتماني طويل الأجل لتونس بالعملة الأجنبية والمحلية من +CCC إلى B- مع الإبقاء على نظرة مستقبلية مستقرة. هذا التطور، وإن بدا تقنياً للوهلة الأولى، يحمل رسائل اقتصادية وسياسية عميقة تتعلق بمتانة الاقتصاد الكلي، وقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، ومناخ الجاذبية للاستثمار، فضلًا عن كونه مؤشراً لما ينتظر البلاد في الشهور والسنوات المقبلة.

التصنيفات الائتمانية ليست درجات مدرسية بقدر ما هي لغة مخاطبة بين الدول والأسواق. وفق شرح أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية رضا الشكندالي، تعتمد فيتش سلّماً من 23 درجة لتقييم مخاطر التخلف عن السداد. ويعني الوصول إلى B- أنّ هناك مخاطر جوهرية لا تزال قائمة، لكنّ هامش الأمان آخذ في الاتساع مقارنة بالمستوى السابق +CCC بتعبير أبسط، تُشير الدرجة الجديدة إلى انتقال تونس من منطقة شديدة الهشاشة إلى أخرى أقل خطورة، حيث باتت قدرة الدولة على مواصلة السداد أكثر ترجيحاً، وإن ظلت مشروطة بحسن إدارة المخاطر ودوام التدفقات المالية.

هذه النقلة ليست قفزة نوعية تُخرج البلاد من خانة المخاطر، لكنها ترسّخ منحىً إيجابيا يؤسس لاحتمال تحسين الكلفة التمويلية على المدى المتوسط، ويعزز قدرة المؤسسات التونسية—سيادية كانت أو شبه سيادية—على ولوج أسواق الدين بشروط أكثر معقولية متى توفرت نوافذ الإصدار.

العودة إلى الإشارات الإيجابية من بقية الوكالات

لا تأتي خطوة فيتش من فراغ، فقد سبقتها خلال العامين الماضيين إشارات متفرقة من وكالات أخرى باتجاه تثبيت النظرة أو تخفيف حدة السلبية، ما عكس حينها بداية استقرار نسبي في مؤشرات الاقتصاد الكلي وانحسار الضغوط القصوى على السيولة الخارجية. ومع أن المسارات بين الوكالات لا تتطابق زمنياً ولا منهجيا، فلكل وكالة نموذجها التحليلي ومعاييرها الخاصة، إلا أنّ التقاطعات حول تحسن محددات المخاطر السيادية باتت أوضح، تقلص العجز الخارجي، صلابة تحويلات التونسيين بالخارج، وانضباط نسبي في إدارة المالية العامة قياسا بسنوات الذروة. هذا الترابط بين قراءات الوكالات يمنح صورة أكثر اتزانا عن الاتجاه العام، ويقلص خطر اعتبار تحسن فيتش حالة معزولة أو استثناءً ظرفيا.

ميزان خارجي أكثر توازنا وتمويلات صامدة

يقدّم الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي قراءة مفصلة لأسباب رفع التصنيف، تتقدمها عناصر من صلب الحسابات الخارجية. فقد تراجع عجز الحساب الجاري إلى 1.5 % من الناتج المحلي سنة 2024، بفضل ارتفاع عائدات الخدمات، وفي القلب منها السياحة والخدمات الرقمية، وتعاظم تحويلات المغتربين التي شكّلت صمام أمان متكرر في دورات الأزمات. هذه المرونة في مصادر العملة الصعبة قلّصت الضغوط على الاحتياطي وساعدت على تفادي احتكاكات حادة في سوق الصرف.

وعلى الرغم من غياب برنامج فعّال مع صندوق النقد الدولي منذ 2021، لم تنقطع شرايين التمويل الخارجي، بل سجّل النصف الأول من 2025 زيادة بنحو 54 % في تدفقات التمويل الثنائية ومتعددة الأطراف مقارنة بالفترة نفسها من 2024. هذا الصمود في الدعم الخارجي، سواء من شركاء أوروبيين أو مؤسسات تنموية، أمّن لتونس مساحة للتنفس، وخفّف من وطأة استحقاقات الدين القصيرة الأجل، ورسّخ مسار تقليص التدفقات السلبية الصافية من 3.7 % من الناتج في 2024 إلى 1 % بحلول 2027 وفق التوقعات.

على جانب المالية العمومية، تتوقع التقديرات تراجع عجز الميزانية إلى 5.3 % في 2025 ثم إلى 4 % في 2027، مدفوعاً بمزيج من التحكم في كتلة الأجور وانكماش كلفة الدعم. هذا الانضباط، وإن كان جزئيا، أرسل إشارة ائتمانية مطمئنة مفادها أن المقاربة التونسية تتجنب الانزلاقات الكبرى وتطارد تدريجيا مكامن الاختلال.

ومع ذلك، يذكّر الشكندالي بأن تحسن المؤشرات لا يلغي هشاشة البنية المالية للدولة. فالأجور والدعم وخدمة الدين تلتهم نحو 93 % من الإيرادات، ما يبقي هامش المناورة محدوداً ويجعل الاستثمار العمومي رهينة بحسابات دقيقة. كما يظل الدين العام مرتفعاً بحدود 83% من الناتج، وهي نسبة تُبقي المخاطر قائمة في حال تعرّض الاقتصاد لصدمات خارجية، كارتفاع أسعار الطاقة أو داخلية، مثل صدمات مناخية تؤثر على الإنتاج الفلاحي.

والغياب المستمر لإصلاح شامل لمنظومة الدعم يُعدّ نقطة ضعف مركزية. ففي ظل تقلب أسعار الطاقة والمواد الأساسية، يظل العجز عُرضة للاتساع سريعا إن لم تُفعّل آليات استهداف ذكية تحمي الفئات الهشة من دون استنزاف الخزينة. كما أن أي تعثّر في تمويل خارجي ميسّر قد يضغط على الاحتياطي ويدفع كلفة الاقتراض إلى الارتفاع مجدداً.

لماذا يهم التصنيف المستثمرين؟

التصنيفات الائتمانية موجّهة بالأساس إلى المستثمرين والمؤسسات المالية، وهي بالنسبة لهم أشبه ببوصلة تحدد التسعير والمخاطر. وتحسين تصنيف تونس إلى B- يفتح بابا لتوسيع قاعدة المستثمرين القادرين على حمل سنداتها، إذ إن بعض الصناديق تستلزم حداً أدنى من التصنيف للدخول، كما قد يُسهم في تخفيف هوامش المخاطر على الإصدارات السيادية المستقبلية إذا تواصل المنحى الإيجابي وتعمّق.

ولطالما شكّلت درجة التصنيف السيادي عتبة نفسية وتشغيلية للمستثمرين الأجانب المباشرين. فكل خطوة صعودية، حتى وإن كانت محدودة، تُقلّص إدراك المخاطر السيادية وتزيد احتمالات إنجاز صفقات تمويل واستثمار كانت مترددة. بالنسبة لتونس، يمنح التحسن الجاري فرصة لإعادة تسويق استثماراتها، واقتصاد متنوع نسبيّاً في الخدمات والصناعة التحويلية، وموقع جغرافي موصول بأوروبا وأفريقيا، ورأسمال بشري مؤهل في قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات والمكونات الصناعية والسياحة المستدامة.

لكن هذه الفرصة مشروطة بقدرة تونس على تثبيت مصداقية سياساتها، وتبسيط مسارات الترخيص، وتأمين اليقين التنظيمي، وتسريع الربط اللوجستي. فالمستثمر الأجنبي لا يقرأ التصنيف بمعزل عن منظومة أوسع، مثل سرعة تسوية النزاعات، واستقرار التشريعات الجبائية، وشفافية الشراءات العمومية، وحوكمة المؤسسات العمومية. وعليه، يمكن أن يتحول التصنيف الأفضل إلى رافعة قوية إذا ترافق مع إصلاحات قطاعية وتشغيلية تخفف كلفة ممارسة الأعمال وتضمن قابلية الإصلاحات.

تثبيت المكاسب وتوسيعها

وحتى لا يتحول التحسن الحالي إلى محطة عابرة، تحتاج تونس وفق ما أشار إليه بعض خبراء الاقتصاد لـ«الصباح» إلى تثبيت ثلاث ركائز، تتعلق الأولى بإصلاح نظام الدعم باستهداف دقيق، والانتقال من دعم الأسعار إلى دعم الدخل للأسر الهشة، عبر منصات رقمية وقواعد بيانات موثوقة، يحمي القوة الشرائية ويقلص الهدر ويُحصّن الميزانية من صدمات السلع العالمية. إلى جانب ذلك من الضروري العمل على تعميق قاعدة التمويل وتنويعها، وتوسيع الشراكات مع مؤسسات تمويل التنمية، وإحياء قنوات تمويل طويلة الأجل للمؤسسات، وتطوير سوق سندات محلية بعملات مدعومة، وإطالة آجال الاستحقاق لتخفيف مخاطر  السداد، فضلا عن تعزيز تنافسية مناخ الأعمال، وتبسيط الإجراءات، ورقمنة المسارات الإدارية، وتسريع التحكيم التجاري، وتمكين الاستثمار الخاص في البنية التحتية عبر صيغ الشراكة بين القطاعين العام والخاص بضوابط حوكمة صارمة.

في المقابل، ينبغي إدارة المخاطر بحساسية عالية، مثل متابعة مستمرة لتطورات أسعار الطاقة والغذاء، وفرض خطط تحوّط لاستدامة الإمدادات، وإبقاء قنوات التفاهم مع المؤسسات المالية الدولية مفتوحة، سواء لإطار تمويلي جديد أو لآليات مكمّلة. فالمستثمرون يثمّنون ليس فقط الأرقام الإيجابية، بل أيضا القدرة على الاستجابة السريعة عندما تتغير الظروف.

نقطة مضيئة على طريق طويل

وسيبقى مؤشر وكالة فيتش رايتنغ الأخير في ذاكرة السياسات الاقتصادية التونسية، لأنه وثّق انتقالاً من هامش الخطر الأقصى إلى مربع أكثر أماناً. رفع التصنيف إلى B- بنظرة مستقرة يترجم تحسنا حقيقيا في ميزان المخاطر، بفضل أداء خارجي متماسك وتدفقات تمويلية ثابتة، وخطوات أولية في ضبط المالية العامة. لكنه في الآن ذاته تذكير بأن الطريق لا يزال طويلاً، ودين عام مرتفع، وهامش مالي ضيق، وإصلاحات اجتماعية واقتصادية لم تكتمل بعد. والجدير بالذكر، فإن تونس شهدت خلال سنة 2025 تطورا ملحوظا في تصنيفاتها الائتمانية الصادرة عن وكالات التصنيف العالمية، حيث عكست هذه التغييرات تحسنا نسبيا في المؤشرات الاقتصادية والمالية، رغم استمرار التحديات البنيوية التي يواجهها الاقتصاد الوطني. فقد أعلنت وكالة «موديز» في شهر فيفري عن رفع التصنيف السيادي طويل المدى لتونس من Caa2 إلى Caa1 مع نظرة مستقبلية مستقرة. وأوضحت الوكالة أن هذا القرار يعود إلى تحسن قدرة البلاد على سداد ديونها الخارجية الخاصة واستقرار مستوى احتياطي العملة الصعبة، إضافة إلى تقلص العجز الخارجي وتحسن نسبي في التمويل الخارجي. كما رفعت الوكالة في السياق ذاته تصنيف البنك المركزي غير المضمون إلى نفس الدرجة، معتبرة أن الوضع المالي أصبح أكثر توازنا مما كان عليه في السنوات السابقة.

من جهتها، أعلنت وكالة فيتش في سبتمبر عن ترقية التصنيف السيادي لتونس من CCC+ إلى B-، مع الإبقاء على نظرة مستقرة. واعتبرت الوكالة أن هذا التطور يعكس تحسناً واضحاً في الوضع الخارجي للبلاد من خلال انخفاض عجز الحساب الجاري وتواصل تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمساعدات الدولية، وهو ما ساهم في دعم احتياطي النقد الأجنبي وضمان حدّ أدنى من الاستقرار المالي. غير أن فيتش أشارت أيضاً إلى أن تونس ما تزال تواجه صعوبات كبيرة أبرزها ضعف قدرتها على النفاذ إلى الأسواق المالية الدولية، واعتمادها الكبير على التمويل الخارجي المضمون بالمساعدات، إضافة إلى بطء الإصلاحات في مجال دعم الطاقة والمالية العمومية.

أما وكالة ستاندرد آند بورز فقد أبقت على موقف أكثر حذراً، حيث لم تُعلن عن تغييرات كبيرة في تصنيف تونس خلال 2025 لكنها أشارت إلى وجود مؤشرات إيجابية على المدى القصير، من بينها تراجع محدود في العجز المالي وتحسن طفيف في الحساب الجاري بفضل ارتفاع إيرادات القطاع السياحي. ومع ذلك، شددت الوكالة على أن معدلات النمو تبقى ضعيفة وأن التحديات الهيكلية، مثل ارتفاع كتلة الأجور وضعف مناخ الاستثمار، لا تزال قائمة وتشكل عائقا أمام استدامة التحسن الاقتصادي.

ويأتي هذا التحسن النسبي في التصنيفات في سياق اقتصادي صعب، إذ تشير التوقعات إلى أن النمو في تونس لن يتجاوز نسبة 1 إلى 2 بالمائة خلال العام، في ظل ارتفاع التضخم وإن كان في منحى تراجعي نسبي. كما ساهمت المساعدات الثنائية والمتعددة الأطراف إلى جانب انتعاش السياحة في تخفيف الضغوط على ميزان المدفوعات ودعم السيولة الخارجية.

ورغم هذه التطورات الإيجابية، يبقى الوضع المالي هشا بفعل استمرار الاعتماد الكبير على القروض الخارجية لمواجهة التزامات الدولة، إلى جانب المخاطر المرتبطة بتقلب أسعار الطاقة والمواد الأساسية التي قد تؤثر سلبا على التوازنات المالية.

وبوجه عام، يعكس تحسن التصنيفات الائتمانية لتونس خلال 2025 إشارات إيجابية من المجتمع المالي الدولي حول قدرة البلاد على تسيير التزاماتها في الأمد القصير، لكنه في الوقت نفسه يسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى إصلاحات اقتصادية عميقة لضمان استدامة هذه المكاسب وتحقيق نمو أكثر قوة واستقرارا في السنوات القادمة.

سفيان المهداوي

استعادت  ثقة أسواق المال العالمية..   وكالات التصنيف تكافئ تونس على ضبط العجز وتثبيت الاستقرار

 منذ أشهر، تتقدّم تونس بخطى محسوبة على مسار استعادة الثقة في أسواق المال العالمية، مسار تُوّج بمحطة لافتة مع إعلان وكالة فيتش رايتينغ، في تقريرها الصادر يوم 12 سبتمبر 2025، رفع التصنيف الائتماني طويل الأجل لتونس بالعملة الأجنبية والمحلية من +CCC إلى B- مع الإبقاء على نظرة مستقبلية مستقرة. هذا التطور، وإن بدا تقنياً للوهلة الأولى، يحمل رسائل اقتصادية وسياسية عميقة تتعلق بمتانة الاقتصاد الكلي، وقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، ومناخ الجاذبية للاستثمار، فضلًا عن كونه مؤشراً لما ينتظر البلاد في الشهور والسنوات المقبلة.

التصنيفات الائتمانية ليست درجات مدرسية بقدر ما هي لغة مخاطبة بين الدول والأسواق. وفق شرح أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية رضا الشكندالي، تعتمد فيتش سلّماً من 23 درجة لتقييم مخاطر التخلف عن السداد. ويعني الوصول إلى B- أنّ هناك مخاطر جوهرية لا تزال قائمة، لكنّ هامش الأمان آخذ في الاتساع مقارنة بالمستوى السابق +CCC بتعبير أبسط، تُشير الدرجة الجديدة إلى انتقال تونس من منطقة شديدة الهشاشة إلى أخرى أقل خطورة، حيث باتت قدرة الدولة على مواصلة السداد أكثر ترجيحاً، وإن ظلت مشروطة بحسن إدارة المخاطر ودوام التدفقات المالية.

هذه النقلة ليست قفزة نوعية تُخرج البلاد من خانة المخاطر، لكنها ترسّخ منحىً إيجابيا يؤسس لاحتمال تحسين الكلفة التمويلية على المدى المتوسط، ويعزز قدرة المؤسسات التونسية—سيادية كانت أو شبه سيادية—على ولوج أسواق الدين بشروط أكثر معقولية متى توفرت نوافذ الإصدار.

العودة إلى الإشارات الإيجابية من بقية الوكالات

لا تأتي خطوة فيتش من فراغ، فقد سبقتها خلال العامين الماضيين إشارات متفرقة من وكالات أخرى باتجاه تثبيت النظرة أو تخفيف حدة السلبية، ما عكس حينها بداية استقرار نسبي في مؤشرات الاقتصاد الكلي وانحسار الضغوط القصوى على السيولة الخارجية. ومع أن المسارات بين الوكالات لا تتطابق زمنياً ولا منهجيا، فلكل وكالة نموذجها التحليلي ومعاييرها الخاصة، إلا أنّ التقاطعات حول تحسن محددات المخاطر السيادية باتت أوضح، تقلص العجز الخارجي، صلابة تحويلات التونسيين بالخارج، وانضباط نسبي في إدارة المالية العامة قياسا بسنوات الذروة. هذا الترابط بين قراءات الوكالات يمنح صورة أكثر اتزانا عن الاتجاه العام، ويقلص خطر اعتبار تحسن فيتش حالة معزولة أو استثناءً ظرفيا.

ميزان خارجي أكثر توازنا وتمويلات صامدة

يقدّم الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي قراءة مفصلة لأسباب رفع التصنيف، تتقدمها عناصر من صلب الحسابات الخارجية. فقد تراجع عجز الحساب الجاري إلى 1.5 % من الناتج المحلي سنة 2024، بفضل ارتفاع عائدات الخدمات، وفي القلب منها السياحة والخدمات الرقمية، وتعاظم تحويلات المغتربين التي شكّلت صمام أمان متكرر في دورات الأزمات. هذه المرونة في مصادر العملة الصعبة قلّصت الضغوط على الاحتياطي وساعدت على تفادي احتكاكات حادة في سوق الصرف.

وعلى الرغم من غياب برنامج فعّال مع صندوق النقد الدولي منذ 2021، لم تنقطع شرايين التمويل الخارجي، بل سجّل النصف الأول من 2025 زيادة بنحو 54 % في تدفقات التمويل الثنائية ومتعددة الأطراف مقارنة بالفترة نفسها من 2024. هذا الصمود في الدعم الخارجي، سواء من شركاء أوروبيين أو مؤسسات تنموية، أمّن لتونس مساحة للتنفس، وخفّف من وطأة استحقاقات الدين القصيرة الأجل، ورسّخ مسار تقليص التدفقات السلبية الصافية من 3.7 % من الناتج في 2024 إلى 1 % بحلول 2027 وفق التوقعات.

على جانب المالية العمومية، تتوقع التقديرات تراجع عجز الميزانية إلى 5.3 % في 2025 ثم إلى 4 % في 2027، مدفوعاً بمزيج من التحكم في كتلة الأجور وانكماش كلفة الدعم. هذا الانضباط، وإن كان جزئيا، أرسل إشارة ائتمانية مطمئنة مفادها أن المقاربة التونسية تتجنب الانزلاقات الكبرى وتطارد تدريجيا مكامن الاختلال.

ومع ذلك، يذكّر الشكندالي بأن تحسن المؤشرات لا يلغي هشاشة البنية المالية للدولة. فالأجور والدعم وخدمة الدين تلتهم نحو 93 % من الإيرادات، ما يبقي هامش المناورة محدوداً ويجعل الاستثمار العمومي رهينة بحسابات دقيقة. كما يظل الدين العام مرتفعاً بحدود 83% من الناتج، وهي نسبة تُبقي المخاطر قائمة في حال تعرّض الاقتصاد لصدمات خارجية، كارتفاع أسعار الطاقة أو داخلية، مثل صدمات مناخية تؤثر على الإنتاج الفلاحي.

والغياب المستمر لإصلاح شامل لمنظومة الدعم يُعدّ نقطة ضعف مركزية. ففي ظل تقلب أسعار الطاقة والمواد الأساسية، يظل العجز عُرضة للاتساع سريعا إن لم تُفعّل آليات استهداف ذكية تحمي الفئات الهشة من دون استنزاف الخزينة. كما أن أي تعثّر في تمويل خارجي ميسّر قد يضغط على الاحتياطي ويدفع كلفة الاقتراض إلى الارتفاع مجدداً.

لماذا يهم التصنيف المستثمرين؟

التصنيفات الائتمانية موجّهة بالأساس إلى المستثمرين والمؤسسات المالية، وهي بالنسبة لهم أشبه ببوصلة تحدد التسعير والمخاطر. وتحسين تصنيف تونس إلى B- يفتح بابا لتوسيع قاعدة المستثمرين القادرين على حمل سنداتها، إذ إن بعض الصناديق تستلزم حداً أدنى من التصنيف للدخول، كما قد يُسهم في تخفيف هوامش المخاطر على الإصدارات السيادية المستقبلية إذا تواصل المنحى الإيجابي وتعمّق.

ولطالما شكّلت درجة التصنيف السيادي عتبة نفسية وتشغيلية للمستثمرين الأجانب المباشرين. فكل خطوة صعودية، حتى وإن كانت محدودة، تُقلّص إدراك المخاطر السيادية وتزيد احتمالات إنجاز صفقات تمويل واستثمار كانت مترددة. بالنسبة لتونس، يمنح التحسن الجاري فرصة لإعادة تسويق استثماراتها، واقتصاد متنوع نسبيّاً في الخدمات والصناعة التحويلية، وموقع جغرافي موصول بأوروبا وأفريقيا، ورأسمال بشري مؤهل في قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات والمكونات الصناعية والسياحة المستدامة.

لكن هذه الفرصة مشروطة بقدرة تونس على تثبيت مصداقية سياساتها، وتبسيط مسارات الترخيص، وتأمين اليقين التنظيمي، وتسريع الربط اللوجستي. فالمستثمر الأجنبي لا يقرأ التصنيف بمعزل عن منظومة أوسع، مثل سرعة تسوية النزاعات، واستقرار التشريعات الجبائية، وشفافية الشراءات العمومية، وحوكمة المؤسسات العمومية. وعليه، يمكن أن يتحول التصنيف الأفضل إلى رافعة قوية إذا ترافق مع إصلاحات قطاعية وتشغيلية تخفف كلفة ممارسة الأعمال وتضمن قابلية الإصلاحات.

تثبيت المكاسب وتوسيعها

وحتى لا يتحول التحسن الحالي إلى محطة عابرة، تحتاج تونس وفق ما أشار إليه بعض خبراء الاقتصاد لـ«الصباح» إلى تثبيت ثلاث ركائز، تتعلق الأولى بإصلاح نظام الدعم باستهداف دقيق، والانتقال من دعم الأسعار إلى دعم الدخل للأسر الهشة، عبر منصات رقمية وقواعد بيانات موثوقة، يحمي القوة الشرائية ويقلص الهدر ويُحصّن الميزانية من صدمات السلع العالمية. إلى جانب ذلك من الضروري العمل على تعميق قاعدة التمويل وتنويعها، وتوسيع الشراكات مع مؤسسات تمويل التنمية، وإحياء قنوات تمويل طويلة الأجل للمؤسسات، وتطوير سوق سندات محلية بعملات مدعومة، وإطالة آجال الاستحقاق لتخفيف مخاطر  السداد، فضلا عن تعزيز تنافسية مناخ الأعمال، وتبسيط الإجراءات، ورقمنة المسارات الإدارية، وتسريع التحكيم التجاري، وتمكين الاستثمار الخاص في البنية التحتية عبر صيغ الشراكة بين القطاعين العام والخاص بضوابط حوكمة صارمة.

في المقابل، ينبغي إدارة المخاطر بحساسية عالية، مثل متابعة مستمرة لتطورات أسعار الطاقة والغذاء، وفرض خطط تحوّط لاستدامة الإمدادات، وإبقاء قنوات التفاهم مع المؤسسات المالية الدولية مفتوحة، سواء لإطار تمويلي جديد أو لآليات مكمّلة. فالمستثمرون يثمّنون ليس فقط الأرقام الإيجابية، بل أيضا القدرة على الاستجابة السريعة عندما تتغير الظروف.

نقطة مضيئة على طريق طويل

وسيبقى مؤشر وكالة فيتش رايتنغ الأخير في ذاكرة السياسات الاقتصادية التونسية، لأنه وثّق انتقالاً من هامش الخطر الأقصى إلى مربع أكثر أماناً. رفع التصنيف إلى B- بنظرة مستقرة يترجم تحسنا حقيقيا في ميزان المخاطر، بفضل أداء خارجي متماسك وتدفقات تمويلية ثابتة، وخطوات أولية في ضبط المالية العامة. لكنه في الآن ذاته تذكير بأن الطريق لا يزال طويلاً، ودين عام مرتفع، وهامش مالي ضيق، وإصلاحات اجتماعية واقتصادية لم تكتمل بعد. والجدير بالذكر، فإن تونس شهدت خلال سنة 2025 تطورا ملحوظا في تصنيفاتها الائتمانية الصادرة عن وكالات التصنيف العالمية، حيث عكست هذه التغييرات تحسنا نسبيا في المؤشرات الاقتصادية والمالية، رغم استمرار التحديات البنيوية التي يواجهها الاقتصاد الوطني. فقد أعلنت وكالة «موديز» في شهر فيفري عن رفع التصنيف السيادي طويل المدى لتونس من Caa2 إلى Caa1 مع نظرة مستقبلية مستقرة. وأوضحت الوكالة أن هذا القرار يعود إلى تحسن قدرة البلاد على سداد ديونها الخارجية الخاصة واستقرار مستوى احتياطي العملة الصعبة، إضافة إلى تقلص العجز الخارجي وتحسن نسبي في التمويل الخارجي. كما رفعت الوكالة في السياق ذاته تصنيف البنك المركزي غير المضمون إلى نفس الدرجة، معتبرة أن الوضع المالي أصبح أكثر توازنا مما كان عليه في السنوات السابقة.

من جهتها، أعلنت وكالة فيتش في سبتمبر عن ترقية التصنيف السيادي لتونس من CCC+ إلى B-، مع الإبقاء على نظرة مستقرة. واعتبرت الوكالة أن هذا التطور يعكس تحسناً واضحاً في الوضع الخارجي للبلاد من خلال انخفاض عجز الحساب الجاري وتواصل تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمساعدات الدولية، وهو ما ساهم في دعم احتياطي النقد الأجنبي وضمان حدّ أدنى من الاستقرار المالي. غير أن فيتش أشارت أيضاً إلى أن تونس ما تزال تواجه صعوبات كبيرة أبرزها ضعف قدرتها على النفاذ إلى الأسواق المالية الدولية، واعتمادها الكبير على التمويل الخارجي المضمون بالمساعدات، إضافة إلى بطء الإصلاحات في مجال دعم الطاقة والمالية العمومية.

أما وكالة ستاندرد آند بورز فقد أبقت على موقف أكثر حذراً، حيث لم تُعلن عن تغييرات كبيرة في تصنيف تونس خلال 2025 لكنها أشارت إلى وجود مؤشرات إيجابية على المدى القصير، من بينها تراجع محدود في العجز المالي وتحسن طفيف في الحساب الجاري بفضل ارتفاع إيرادات القطاع السياحي. ومع ذلك، شددت الوكالة على أن معدلات النمو تبقى ضعيفة وأن التحديات الهيكلية، مثل ارتفاع كتلة الأجور وضعف مناخ الاستثمار، لا تزال قائمة وتشكل عائقا أمام استدامة التحسن الاقتصادي.

ويأتي هذا التحسن النسبي في التصنيفات في سياق اقتصادي صعب، إذ تشير التوقعات إلى أن النمو في تونس لن يتجاوز نسبة 1 إلى 2 بالمائة خلال العام، في ظل ارتفاع التضخم وإن كان في منحى تراجعي نسبي. كما ساهمت المساعدات الثنائية والمتعددة الأطراف إلى جانب انتعاش السياحة في تخفيف الضغوط على ميزان المدفوعات ودعم السيولة الخارجية.

ورغم هذه التطورات الإيجابية، يبقى الوضع المالي هشا بفعل استمرار الاعتماد الكبير على القروض الخارجية لمواجهة التزامات الدولة، إلى جانب المخاطر المرتبطة بتقلب أسعار الطاقة والمواد الأساسية التي قد تؤثر سلبا على التوازنات المالية.

وبوجه عام، يعكس تحسن التصنيفات الائتمانية لتونس خلال 2025 إشارات إيجابية من المجتمع المالي الدولي حول قدرة البلاد على تسيير التزاماتها في الأمد القصير، لكنه في الوقت نفسه يسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى إصلاحات اقتصادية عميقة لضمان استدامة هذه المكاسب وتحقيق نمو أكثر قوة واستقرارا في السنوات القادمة.

سفيان المهداوي