تراجعت خدمة الدين الخارجي لتونس إلى 9.8 مليارات دينار خلال الفترة الأخيرة، بانخفاض نسبته 4.3 بالمائة مقارنة بـ10.2 مليارات دينار في الفترة نفسها من 2024، في وقت قفز فيه إجمالي عائدات السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج إلى نحو 11.8 مليار دينار، أي ما يعادل 120 بالمائة من خدمة الدين، وفق مؤشرات نشرها البنك المركزي التونسي. كما استقرت مدخرات العملة الأجنبية عند 25.5 مليار دينار في 12 سبتمبر 2025، بما يوازي 110 أيام توريد.
يأتي هذا التحول في ميزان التدفقات بالعملة الصعبة ليمنح الاقتصاد الوطني متنفسا ماليا ومعنويا مهما. فالارتفاع المتزامن لعائدات السياحة بنسبة 8.7 بالمائة إلى 5.7 مليارات دينار، وتحويلات التونسيين بالخارج بنسبة 8.3 بالمائة متجاوزةً 6 مليارات دينار، يعكس تحسنا في مصادر تمويل قادرة على تغطية الالتزامات الخارجية دون استنزاف للاحتياطي. وبذلك، تتعزز قدرة تونس على الإيفاء باستحقاقاتها وتقليص حاجتها المالية، ما يدعم استقرار سعر الصرف ويحد من الضغوط التضخمية المستوردة.
مؤشرات ايجابية
ووفقًا لبيانات البنك المركزي التونسي المنشورة، أمس، فإن إجمالي عائدات السياحة والعمل بلغ نحو 11.8 مليار دينار حتى 10 سبتمبر 2025، أي ما يعادل 120 بالمائة من إجمالي خدمة الدين الخارجي المسجلة في التاريخ نفسه. هذا التطور لا يحمل دلالة رقمية فحسب، بل يمهد لتحول نوعي في موازين التدفقات بالعملة الصعبة، حيث باتت موارد خارجية ذات طابع ذاتي قادرة على تغطية كامل المدفوعات المستحقة تقريبًا على الدين الخارجي خلال الفترة المذكورة.
وفي مشهد اقتصادي إقليمي يتّسم بالضبابية وارتفاع كلفة التمويل الخارجي وتباطؤ التجارة العالمية، تبرز تونس خلال 2025 بمؤشّر لافت، يؤكد قدرة الاقتصاد على التقاط أنفاسه وإعادة ترتيب أولوياته التمويلية، بما ساهم في تراجع خدمة الدين الخارجي بنسبة 4.3 بالمائة، من 10.2 مليارات دينار في 10 سبتمبر 2024 إلى 9.8 مليارات دينار في 10 سبتمبر 2025، وذلك تزامنًا مع نمو قوي ومستدام لعائدات السياحة وتحويلات التونسيين المقيمين بالخارج.
خدمة الدين التحدي الأكبر
وحسب ما كشفه خبراء الاقتصاد لـ«الصباح»، فإنه تاريخيًا، مثلت خدمة الدين الخارجي أحد أكبر التحديات التي تواجه المالية العمومية، وميزان المدفوعات في تونس. فخدمة الدين بما تتضمنه من أقساط أصل، وفوائد مستحقة بالعملة الأجنبية، تستنزف جزءًا معتبرا من الاحتياطي وتضغط على السيولة الخارجية، ما ينعكس على سعر الصرف ومخاطر التمويل. وحين ترتفع هذه الخدمة بوتيرة تفوق نمو موارد النقد الأجنبي، يتحول الضغط إلى عامل كابح للنمو والاستثمار، سواء عبر رفع علاوات المخاطر أو عبر اضطرار السلطات إلى إجراءات تقشفية. في المقابل، يقود المسار المعاكس الذي تشهد تونس مؤشراته الأولى في 2025 إلى انفراج تدريجي في خدمة الدين، تزامنا مع ارتفاع موارد السياحة والتحويلات، بما يعزّز قدرة البلاد على الإيفاء بالالتزامات دون تقليص هامش المناورة في إدارة الاحتياطي.
وعند تفكيك المعطيات، يتضح أن عائدات السياحة زادت بنسبة 8.7 بالمائة لتبلغ 5.7 مليارات دينار منذ بداية 2025 إلى 10 سبتمبر مقارنة بالفترة نفسها من 2024. هذا النمو يعكس موسما سياحيا نشطا، وتحسنًا في معدل إنفاق السائح وإطالة مدة الإقامة، إضافة إلى استعادة جزء من الأسواق التقليدية إلى جانب انفتاح تدريجي على أسواق جديدة. وفي المقابل، تجاوزت عائدات العمل، أي تحويلات التونسيين بالخارج، عتبة 6 مليارات دينار بزيادة 8.3 بالمائة، وهي زيادة متناسقة مع اتجاه عالمي رصدته المؤسسات الدولية مفاده ارتفاع التحويلات إلى البلدان النامية رغم التحديات، وساهمت هذه العوامل في تراجع خدمة الدين الخارجي بنسبة 20 بالمائة، وهو فارق معنوي يؤكد أن الاقتصاد التونسي بات أقل هشاشة في مواجهة استحقاقات السداد قصيرة الأجل.
متنفس للخزينة العامة
ويشدد خبراء الاقتصاد على أهمية هذا التحوّل، حيث يتجلى أولًا في ميزان المدفوعات. فتغطية خدمة الدين عبر موارد بعيدة عن الاقتراض الخارجي، تخفف من الحاجة إلى تمويلات جديدة مكلفة أو إلى تآكل الاحتياطي، علما وأن البنك المركزي أعلن استقرار المدخرات من العملة الأجنبية عند نحو 25.5 مليار دينار بتاريخ 12 سبتمبر 2025، ما يوازي 110 أيام توريد. هذا المستوى يعتبر مريحا نسبيًا وفق مقاييس تغطية الواردات، ويوفر صمام أمان لامتصاص الصدمات، سواء كانت صدمات أسعار الطاقة أو الحبوب أو حتى اضطرابات سلاسل الإمداد. الأهم أن الاستقرار في الاحتياطي يأتي رغم استحقاقات سداد فعلية، ما يعني أن هامش المناورة النقدي لم يتقلص بل يتجه للتماسك، وهو ما ينعكس على توقعات السوق بشأن استقرار سعر الصرف وتراجع الضغوط التضخمية المستوردة.
ثانيا، على صعيد المالية العمومية، فإن تراجع خدمة الدين الخارجي يترجم مباشرة إلى انخفاض في مدفوعات الفوائد والأقساط بالعملة الصعبة خلال الفترة المعنية، ما يمنح الخزينة متنفسا لإعادة توجيه الموارد نحو النفقات ذات المردودية الاقتصادية والاجتماعية. فحين تقل كلفة خدمة الدين، يصبح من الممكن رفع الإنفاق الاستثماري في البنية التحتية أو دعم البرامج الموجهة إلى المؤسسات الصغرى والمتوسطة دون تعريض التوازنات الكبرى إلى اختلالات حادة. كما يمكن لهذا الهامش أن يدعم جهود الإصلاح الضريبي، وتحسين توجيه الدعم، بتكلفة انتقالية أقل على الفئات الهشة. ولا بد من الإشارة إلى أن أسواق المال الدولية ترصد هذه المؤشرات عن كثب، فتحسن التدفقات الجارية واستقرار الاحتياطي ينعكسان عادة في تقلص علاوات المخاطر وتخفيض كلفة الاقتراض السيادي، ما يعزز حلقة إيجابية تمتد من الثقة إلى الاستثمار فنمو فرص العمل.
ثالثا، يكتسي نمو عائدات السياحة وتحويلات الخارج بعدًا بنيويا إذا ما استُثمر في رفع القيمة المضافة والقدرة التنافسية. أما مكاسب السياحة، إذا وُظفت في ترقية الجودة والخدمات، ستدفع نحو تمديد الموسم السياحي وتوسيع الإيرادات من السياحة الشاطئية إلى الثقافية والبيئية والصحية والرياضية، بما يخفّض حساسية القطاع للتقلبات الدورية. وبالنسبة للتحويلات، فإن تحويل جزء أكبر منها من الاستهلاك الفوري إلى الادخار المنتج وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، عبر حوافز مصرفية وضريبية وقنوات رقمية منخفضة الكلفة، يمكن أن يحوّلها إلى محرك استثماري محلي مستدام. ذلك من شأنه أن يخلق وظائف نوعية، ويحدّ من الهجرة القسرية بدفع روح المبادرة لدى الشباب.
ومع أن التراجع المسجل في خدمة الدين يبقى طفيفا بمقياس 4.3 بالمائة، فإن قيمته الإشهارية بالغة. فهو يدلّ على بداية انحناء المنحنى، وعلى قدرة صانع القرار النقدي والمالي على ضبط الإيقاع بين الاستحقاقات والتدفقات. هذا الانحسار، إذا ترافق مع إدارة نشطة لمحفظة الدين، من خلال إعادة جدولة آجال الاستحقاق وتمديد متوسط الآجال وتغليب القروض الميسّرة على التجارية، يمكن أن يترجم في 2026 وما بعدها إلى انخفاض ملموس في كلفة التمويل الكلية. عندئذ، يصبح النمو أقل تبعية للدين، وأكثر اعتمادا على الاستثمار بما يرفع من الإنتاج والصادرات ذات القيمة المضافة، بدلاً من الاعتماد على التمويل الاستهلاكي أو على الديون قصيرة الأجل.
مباشرة الإصلاحات الهيكلية
في المقابل، يُشدد الخبراء على أن هذه المؤشرات الإيجابية،لا تغني عن الإصلاحات الهيكلية الضرورية. فالسياحة قطاع شديد الحساسية للأمن والأسعار والبنية التحتية والخدمات اللوجستية. أي تراجع في جودة العرض أو انقطاع في سلاسل النقل الجوي والبحري قد يبدد مكاسب موسم أو أكثر. كذلك، فإن التحويلات مرتبطة بدورة اقتصاديات الإقامة للتونسيين بالخارج، وبكلفة التحويل ونزاهة ومسارات الوساطة المالية. للحفاظ على المنحى الصاعد، يلزم تعميق التحول الرقمي للقطاع المالي، وخفض رسوم التحويل، وتوسيع المنتجات الادخارية والاستثمارية الموجهة للجالية، مع شفافية أكبر في تتبع أثر هذه الأموال على التنمية المحلية. وضمن الإطار نفسه، يتعين تحسين مناخ الأعمال لجذب استثمارات مرتبطة بالسياحة والخدمات المساندة والصناعات الثقافية، بما يخلق روابط أقوى بين التدفقات الخارجية وسلاسل القيمة الوطنية.
كما ينعكس توازن النقد الأجنبي المستند إلى موارد مستدامة على التضخم. كلما تقلصت الضغوط على سعر الصرف، تراجعت وطأة التضخم المستورد، خصوصًا في مكونات أساسية مثل الطاقة والحبوب والمواد الأولية الصناعية. ومع استقرار الاحتياطي عند 110 أيام توريد، يستطيع البنك المركزي إدارة سياسة سعر الفائدة وسعر الصرف بدرجة أعلى من المرونة، بما يدعم النشاط الاقتصادي دون التفريط في هدف استقرار الأسعار. هذا التوازن الدقيق بين استقرار الأسعار وتحفيز النمو يتطلب تنسيقا وثيقا بين السياسة النقدية والمالية، خاصة في ظل استمرار ضغوط عالمية على كلفة الشحن وأسعار المواد الأساسية.
ومن زاوية اجتماعية، يساهم نمو السياحة والتحويلات في ضخ سيولة مباشرة داخل النسيج الاقتصادي المحلي. فنفقات السائحين توزّع أثرها عبر سلسلة طويلة من المورّدين، النقل، والإيواء، والمطاعم، والصناعات التقليدية، والخدمات الثقافية والترفيهية. كما أن تحويلات الجالية تمثل مصدر دخل ثابتا لمئات الآلاف من الأسر، ما يدعم الاستهلاك ويخفف هشاشة الطبقات الوسطى والدنيا. وحين تتعزز هذه القنوات، تتراجع الضغوط على برامج الدعم المباشر، وتزداد القدرة على توجيه الإنفاق العمومي نحو الاستثمار الاجتماعي المنتج في التعليم والصحة والتكوين المهني، وهو ما يراكم الرأسمال البشري ويغذّي دورة نمو أكثر شمولا.
ولا يمكن أيضًا إغفال الجانب المعنوي والسيادي لهذه المؤشرات. فعندما تغطي موارد السياحة والعمل 120 بالمائة من خدمة الدين الخارجي خلال فترة مرجعية، تُرسل تونس إشارة ثقة إلى الدائنين والمستثمرين مفادها أن قدرة البلاد على توليد النقد الأجنبي ليس ظرفية فحسب، بل قابلة للاستمرار مع الإدارة الرشيدة. هذه الثقة تُترجم تدريجيا في تحسن التصنيفات الائتمانية أو في نظرة مستقبلية أكثر استقرارا، وتنعكس في شهية أكبر للاستثمار المباشر، خاصة في القطاعات القابلة للتصدير ذات القيمة المضافة العالية، من مكونات السيارات والطائرات إلى تكنولوجيا المعلومات والخدمات العابرة للحدود.
ويضع تراجع خدمة الدين الخارجي بالتوازي مع صعود عائدات السياحة، وتحويلات المقيمين بالخارج، تونس أمام فرصة نادرة، تعيد التوازن لمعادلة التمويل الخارجي بوسائل أقل كلفة وأكثر استدامة. فالأرقام التي أعلنها البنك المركزي، مقابل 9.8 مليارات دينار لخدمة الدين، واستقرار احتياطي النقد الأجنبي عند 25.5 مليار دينار بما يعادل 110 أيام توريد، تؤسس لمسار اقتصادي مختلف عنوانه تخفيف المخاطر وتعزيز المناعة المالية. والتحدي المقبل يتمثل في تحويل هذا التحسن الظرفي إلى مسار هيكلي، يعمل على تثمين عائدات السياحة عبر الجودة والتنويع، وتوجيه تحويلات الجالية نحو الاستثمار المنتج، وإدارة دين نشطة وشفافة، وتنسيق وثيق بين السياسات لدعم الاستقرار والنمو الشامل. وبترجمة هذه الإجراءات على أرض الواقع لن يكون انخفاض خدمة الدين مجرد رقم عابر في نشرة دورية، بل محطة مفصلية على طريق استعادة الثقة والقدرة على التمويل الذاتي، وتكريس اقتصاد وطني أقل هشاشة وأكثر قدرة على خلق القيمة والفرص.
سفيان المهداوي
تراجعت خدمة الدين الخارجي لتونس إلى 9.8 مليارات دينار خلال الفترة الأخيرة، بانخفاض نسبته 4.3 بالمائة مقارنة بـ10.2 مليارات دينار في الفترة نفسها من 2024، في وقت قفز فيه إجمالي عائدات السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج إلى نحو 11.8 مليار دينار، أي ما يعادل 120 بالمائة من خدمة الدين، وفق مؤشرات نشرها البنك المركزي التونسي. كما استقرت مدخرات العملة الأجنبية عند 25.5 مليار دينار في 12 سبتمبر 2025، بما يوازي 110 أيام توريد.
يأتي هذا التحول في ميزان التدفقات بالعملة الصعبة ليمنح الاقتصاد الوطني متنفسا ماليا ومعنويا مهما. فالارتفاع المتزامن لعائدات السياحة بنسبة 8.7 بالمائة إلى 5.7 مليارات دينار، وتحويلات التونسيين بالخارج بنسبة 8.3 بالمائة متجاوزةً 6 مليارات دينار، يعكس تحسنا في مصادر تمويل قادرة على تغطية الالتزامات الخارجية دون استنزاف للاحتياطي. وبذلك، تتعزز قدرة تونس على الإيفاء باستحقاقاتها وتقليص حاجتها المالية، ما يدعم استقرار سعر الصرف ويحد من الضغوط التضخمية المستوردة.
مؤشرات ايجابية
ووفقًا لبيانات البنك المركزي التونسي المنشورة، أمس، فإن إجمالي عائدات السياحة والعمل بلغ نحو 11.8 مليار دينار حتى 10 سبتمبر 2025، أي ما يعادل 120 بالمائة من إجمالي خدمة الدين الخارجي المسجلة في التاريخ نفسه. هذا التطور لا يحمل دلالة رقمية فحسب، بل يمهد لتحول نوعي في موازين التدفقات بالعملة الصعبة، حيث باتت موارد خارجية ذات طابع ذاتي قادرة على تغطية كامل المدفوعات المستحقة تقريبًا على الدين الخارجي خلال الفترة المذكورة.
وفي مشهد اقتصادي إقليمي يتّسم بالضبابية وارتفاع كلفة التمويل الخارجي وتباطؤ التجارة العالمية، تبرز تونس خلال 2025 بمؤشّر لافت، يؤكد قدرة الاقتصاد على التقاط أنفاسه وإعادة ترتيب أولوياته التمويلية، بما ساهم في تراجع خدمة الدين الخارجي بنسبة 4.3 بالمائة، من 10.2 مليارات دينار في 10 سبتمبر 2024 إلى 9.8 مليارات دينار في 10 سبتمبر 2025، وذلك تزامنًا مع نمو قوي ومستدام لعائدات السياحة وتحويلات التونسيين المقيمين بالخارج.
خدمة الدين التحدي الأكبر
وحسب ما كشفه خبراء الاقتصاد لـ«الصباح»، فإنه تاريخيًا، مثلت خدمة الدين الخارجي أحد أكبر التحديات التي تواجه المالية العمومية، وميزان المدفوعات في تونس. فخدمة الدين بما تتضمنه من أقساط أصل، وفوائد مستحقة بالعملة الأجنبية، تستنزف جزءًا معتبرا من الاحتياطي وتضغط على السيولة الخارجية، ما ينعكس على سعر الصرف ومخاطر التمويل. وحين ترتفع هذه الخدمة بوتيرة تفوق نمو موارد النقد الأجنبي، يتحول الضغط إلى عامل كابح للنمو والاستثمار، سواء عبر رفع علاوات المخاطر أو عبر اضطرار السلطات إلى إجراءات تقشفية. في المقابل، يقود المسار المعاكس الذي تشهد تونس مؤشراته الأولى في 2025 إلى انفراج تدريجي في خدمة الدين، تزامنا مع ارتفاع موارد السياحة والتحويلات، بما يعزّز قدرة البلاد على الإيفاء بالالتزامات دون تقليص هامش المناورة في إدارة الاحتياطي.
وعند تفكيك المعطيات، يتضح أن عائدات السياحة زادت بنسبة 8.7 بالمائة لتبلغ 5.7 مليارات دينار منذ بداية 2025 إلى 10 سبتمبر مقارنة بالفترة نفسها من 2024. هذا النمو يعكس موسما سياحيا نشطا، وتحسنًا في معدل إنفاق السائح وإطالة مدة الإقامة، إضافة إلى استعادة جزء من الأسواق التقليدية إلى جانب انفتاح تدريجي على أسواق جديدة. وفي المقابل، تجاوزت عائدات العمل، أي تحويلات التونسيين بالخارج، عتبة 6 مليارات دينار بزيادة 8.3 بالمائة، وهي زيادة متناسقة مع اتجاه عالمي رصدته المؤسسات الدولية مفاده ارتفاع التحويلات إلى البلدان النامية رغم التحديات، وساهمت هذه العوامل في تراجع خدمة الدين الخارجي بنسبة 20 بالمائة، وهو فارق معنوي يؤكد أن الاقتصاد التونسي بات أقل هشاشة في مواجهة استحقاقات السداد قصيرة الأجل.
متنفس للخزينة العامة
ويشدد خبراء الاقتصاد على أهمية هذا التحوّل، حيث يتجلى أولًا في ميزان المدفوعات. فتغطية خدمة الدين عبر موارد بعيدة عن الاقتراض الخارجي، تخفف من الحاجة إلى تمويلات جديدة مكلفة أو إلى تآكل الاحتياطي، علما وأن البنك المركزي أعلن استقرار المدخرات من العملة الأجنبية عند نحو 25.5 مليار دينار بتاريخ 12 سبتمبر 2025، ما يوازي 110 أيام توريد. هذا المستوى يعتبر مريحا نسبيًا وفق مقاييس تغطية الواردات، ويوفر صمام أمان لامتصاص الصدمات، سواء كانت صدمات أسعار الطاقة أو الحبوب أو حتى اضطرابات سلاسل الإمداد. الأهم أن الاستقرار في الاحتياطي يأتي رغم استحقاقات سداد فعلية، ما يعني أن هامش المناورة النقدي لم يتقلص بل يتجه للتماسك، وهو ما ينعكس على توقعات السوق بشأن استقرار سعر الصرف وتراجع الضغوط التضخمية المستوردة.
ثانيا، على صعيد المالية العمومية، فإن تراجع خدمة الدين الخارجي يترجم مباشرة إلى انخفاض في مدفوعات الفوائد والأقساط بالعملة الصعبة خلال الفترة المعنية، ما يمنح الخزينة متنفسا لإعادة توجيه الموارد نحو النفقات ذات المردودية الاقتصادية والاجتماعية. فحين تقل كلفة خدمة الدين، يصبح من الممكن رفع الإنفاق الاستثماري في البنية التحتية أو دعم البرامج الموجهة إلى المؤسسات الصغرى والمتوسطة دون تعريض التوازنات الكبرى إلى اختلالات حادة. كما يمكن لهذا الهامش أن يدعم جهود الإصلاح الضريبي، وتحسين توجيه الدعم، بتكلفة انتقالية أقل على الفئات الهشة. ولا بد من الإشارة إلى أن أسواق المال الدولية ترصد هذه المؤشرات عن كثب، فتحسن التدفقات الجارية واستقرار الاحتياطي ينعكسان عادة في تقلص علاوات المخاطر وتخفيض كلفة الاقتراض السيادي، ما يعزز حلقة إيجابية تمتد من الثقة إلى الاستثمار فنمو فرص العمل.
ثالثا، يكتسي نمو عائدات السياحة وتحويلات الخارج بعدًا بنيويا إذا ما استُثمر في رفع القيمة المضافة والقدرة التنافسية. أما مكاسب السياحة، إذا وُظفت في ترقية الجودة والخدمات، ستدفع نحو تمديد الموسم السياحي وتوسيع الإيرادات من السياحة الشاطئية إلى الثقافية والبيئية والصحية والرياضية، بما يخفّض حساسية القطاع للتقلبات الدورية. وبالنسبة للتحويلات، فإن تحويل جزء أكبر منها من الاستهلاك الفوري إلى الادخار المنتج وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، عبر حوافز مصرفية وضريبية وقنوات رقمية منخفضة الكلفة، يمكن أن يحوّلها إلى محرك استثماري محلي مستدام. ذلك من شأنه أن يخلق وظائف نوعية، ويحدّ من الهجرة القسرية بدفع روح المبادرة لدى الشباب.
ومع أن التراجع المسجل في خدمة الدين يبقى طفيفا بمقياس 4.3 بالمائة، فإن قيمته الإشهارية بالغة. فهو يدلّ على بداية انحناء المنحنى، وعلى قدرة صانع القرار النقدي والمالي على ضبط الإيقاع بين الاستحقاقات والتدفقات. هذا الانحسار، إذا ترافق مع إدارة نشطة لمحفظة الدين، من خلال إعادة جدولة آجال الاستحقاق وتمديد متوسط الآجال وتغليب القروض الميسّرة على التجارية، يمكن أن يترجم في 2026 وما بعدها إلى انخفاض ملموس في كلفة التمويل الكلية. عندئذ، يصبح النمو أقل تبعية للدين، وأكثر اعتمادا على الاستثمار بما يرفع من الإنتاج والصادرات ذات القيمة المضافة، بدلاً من الاعتماد على التمويل الاستهلاكي أو على الديون قصيرة الأجل.
مباشرة الإصلاحات الهيكلية
في المقابل، يُشدد الخبراء على أن هذه المؤشرات الإيجابية،لا تغني عن الإصلاحات الهيكلية الضرورية. فالسياحة قطاع شديد الحساسية للأمن والأسعار والبنية التحتية والخدمات اللوجستية. أي تراجع في جودة العرض أو انقطاع في سلاسل النقل الجوي والبحري قد يبدد مكاسب موسم أو أكثر. كذلك، فإن التحويلات مرتبطة بدورة اقتصاديات الإقامة للتونسيين بالخارج، وبكلفة التحويل ونزاهة ومسارات الوساطة المالية. للحفاظ على المنحى الصاعد، يلزم تعميق التحول الرقمي للقطاع المالي، وخفض رسوم التحويل، وتوسيع المنتجات الادخارية والاستثمارية الموجهة للجالية، مع شفافية أكبر في تتبع أثر هذه الأموال على التنمية المحلية. وضمن الإطار نفسه، يتعين تحسين مناخ الأعمال لجذب استثمارات مرتبطة بالسياحة والخدمات المساندة والصناعات الثقافية، بما يخلق روابط أقوى بين التدفقات الخارجية وسلاسل القيمة الوطنية.
كما ينعكس توازن النقد الأجنبي المستند إلى موارد مستدامة على التضخم. كلما تقلصت الضغوط على سعر الصرف، تراجعت وطأة التضخم المستورد، خصوصًا في مكونات أساسية مثل الطاقة والحبوب والمواد الأولية الصناعية. ومع استقرار الاحتياطي عند 110 أيام توريد، يستطيع البنك المركزي إدارة سياسة سعر الفائدة وسعر الصرف بدرجة أعلى من المرونة، بما يدعم النشاط الاقتصادي دون التفريط في هدف استقرار الأسعار. هذا التوازن الدقيق بين استقرار الأسعار وتحفيز النمو يتطلب تنسيقا وثيقا بين السياسة النقدية والمالية، خاصة في ظل استمرار ضغوط عالمية على كلفة الشحن وأسعار المواد الأساسية.
ومن زاوية اجتماعية، يساهم نمو السياحة والتحويلات في ضخ سيولة مباشرة داخل النسيج الاقتصادي المحلي. فنفقات السائحين توزّع أثرها عبر سلسلة طويلة من المورّدين، النقل، والإيواء، والمطاعم، والصناعات التقليدية، والخدمات الثقافية والترفيهية. كما أن تحويلات الجالية تمثل مصدر دخل ثابتا لمئات الآلاف من الأسر، ما يدعم الاستهلاك ويخفف هشاشة الطبقات الوسطى والدنيا. وحين تتعزز هذه القنوات، تتراجع الضغوط على برامج الدعم المباشر، وتزداد القدرة على توجيه الإنفاق العمومي نحو الاستثمار الاجتماعي المنتج في التعليم والصحة والتكوين المهني، وهو ما يراكم الرأسمال البشري ويغذّي دورة نمو أكثر شمولا.
ولا يمكن أيضًا إغفال الجانب المعنوي والسيادي لهذه المؤشرات. فعندما تغطي موارد السياحة والعمل 120 بالمائة من خدمة الدين الخارجي خلال فترة مرجعية، تُرسل تونس إشارة ثقة إلى الدائنين والمستثمرين مفادها أن قدرة البلاد على توليد النقد الأجنبي ليس ظرفية فحسب، بل قابلة للاستمرار مع الإدارة الرشيدة. هذه الثقة تُترجم تدريجيا في تحسن التصنيفات الائتمانية أو في نظرة مستقبلية أكثر استقرارا، وتنعكس في شهية أكبر للاستثمار المباشر، خاصة في القطاعات القابلة للتصدير ذات القيمة المضافة العالية، من مكونات السيارات والطائرات إلى تكنولوجيا المعلومات والخدمات العابرة للحدود.
ويضع تراجع خدمة الدين الخارجي بالتوازي مع صعود عائدات السياحة، وتحويلات المقيمين بالخارج، تونس أمام فرصة نادرة، تعيد التوازن لمعادلة التمويل الخارجي بوسائل أقل كلفة وأكثر استدامة. فالأرقام التي أعلنها البنك المركزي، مقابل 9.8 مليارات دينار لخدمة الدين، واستقرار احتياطي النقد الأجنبي عند 25.5 مليار دينار بما يعادل 110 أيام توريد، تؤسس لمسار اقتصادي مختلف عنوانه تخفيف المخاطر وتعزيز المناعة المالية. والتحدي المقبل يتمثل في تحويل هذا التحسن الظرفي إلى مسار هيكلي، يعمل على تثمين عائدات السياحة عبر الجودة والتنويع، وتوجيه تحويلات الجالية نحو الاستثمار المنتج، وإدارة دين نشطة وشفافة، وتنسيق وثيق بين السياسات لدعم الاستقرار والنمو الشامل. وبترجمة هذه الإجراءات على أرض الواقع لن يكون انخفاض خدمة الدين مجرد رقم عابر في نشرة دورية، بل محطة مفصلية على طريق استعادة الثقة والقدرة على التمويل الذاتي، وتكريس اقتصاد وطني أقل هشاشة وأكثر قدرة على خلق القيمة والفرص.