إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

6 آلاف مشارك و200 شركة ناشئة.. تونس تحتضن أول مؤتمر للذكاء الاصطناعي في شمال إفريقيا

تتحول مدينة سوسة من 17 إلى 19 نوفمبر المقبل، إلى قبلة إقليمية ودولية لرواد الذكاء الاصطناعي، مع احتضانها أول مؤتمر من نوعه في شمال إفريقيا مخصص لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في القارة. التظاهرة، التي ستُقام في مقر القطب التكنولوجي بسوسة، تُعدّ محطة مفصلية لتونس ولكامل المنطقة، بالنظر إلى زخم المشاركة وحجم الرهانات الاقتصادية والعلمية المرتبطة بها. الأرقام تعكس الطموح: ستة آلاف مشارك متوقَّعون، وأكثر من 110 عارضين، وحضور 200 شركة ناشئة، إلى جانب نخبة من الباحثين والخبراء من الولايات المتحدة وأوروبا ومن مختلف الدول الإفريقية.

لا تقتصر أهمية المؤتمر على كونه تظاهرة لعرض واستكشاف المنتجات والمبتكرات، بل هو مساحة لتصميم السياسات، وبناء الشراكات، وتحديد الأولويات التقنية والاستثمارية في مرحلة دقيقة تتسارع فيها تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتتقاطع مع قطاعات حيوية كـالطاقة، والصحة، والصناعة، والمالية، والخدمات الحكومية. وبهذه الأهداف، تمثل سوسة خلال ثلاثة أيام غرفة عمليات إقليمية، حيث تُصاغ فيها ملامح خارطة طريق تونسية - إفريقية للذكاء الاصطناعي.

منصة جامعة للباحثين والشركات الناشئة

يؤكد المنظمون أن المؤتمر رُصد له مسار مزدوج يجمع بين العمق العلمي والجدوى الاقتصادية. فبالإضافة إلى جلسات علمية رفيعة المستوى وندوات متخصصة، ستُتاح للباحثين الشبان فرصة تقديم أفكارهم ونماذجهم الأولية أمام لجنة من الخبراء والمستثمرين، في صيغة تسمح بالانتقال من البرهان العلمي إلى المنتج القابل للتسويق. وستُعقد لقاءات مباشرة بين فرق بحثية من إفريقيا وحوض المتوسط لتبادل الخبرات، وبناء مشاريع مشتركة في مجالات مثل الرؤية الحاسوبية، ومعالجة الأنظمة العاملة بالذكاء الاصطناعي وتطويرها لتشمل مجالات مثل الصناعة والخدمات.

ولا تقل أهمية مشاركة الشركات الناشئة عن القيمة العلمية للمؤتمر، فحضور نحو 200 شركة ناشئة تونسية ينطوي على رسالة واضحة، مفادها أن تونس لا تكتفي باستهلاك التكنولوجيا، بل تعمل على إنتاجها وتوطينها وتصديرها إلى أسواق إفريقية تتّسع بوتيرة متسارعة. كما يكشف حرص المنظمين على هذه التظاهرة، أن المنظومة التكنولوجية التونسية باتت جاهزة للعب دور محوري في سلاسل القيمة الرقمية الإفريقية.

رؤية تنظيمية تركّز على المواكبة والاستثمار

المدير العام للقطب التكنولوجي بسوسة، هشام التركي، شدّد في تصريح لـ«الصباح» أمس، خلال ندوة صحفية بمعرض الكرم بتونس لعرض محاور المؤتمر، على أن استضافة تونس لهذا الحدث بين 17 و19 نوفمبر هي خطوة أولى تؤسس لدورة سنوية ذات إشعاع إقليمي. وأوضح أن البرنامج سيجمع مداخلات علمية رفيعة، ومعرضًا لآخر ما بلغه الذكاء الاصطناعي من حلول وتقنيات، مع حضور الشركات الناشئة إلى جانب شركات صناعية كبرى تبحث عن إدماج الذكاء الاصطناعي في عملياتها الإنتاجية والخدمية. وأكّد التركي أن التظاهرة تستهدف استقبال ستة آلاف مشارك، وأن المنظمين يعوّلون على مشاركة 200 شركة ناشئة تونسية تعمل في التقنيات المتقدمة.

في صلب هذه الرؤية، يبرز الحرص على بناء جسور تعاون مع دول إفريقية، من خلال مفاوضات ومناقشات عملية ترمي إلى تطوير وترويج تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي في القارة، التي تبدو سوقًا واعدة على المدى المنظور. ويشير التركي إلى أن مواكبة تونس لهذا النسق التقني لم تعد ترفًا، بل ضرورة اقتصادية وتنموية، وأن توفّر التمويل يشكّل حجر الزاوية لتسريع التحول. لذلك، يجري العمل مع عدد من الصناديق المحلية، فضلًا عن مؤسسات دولية على غرار البنك الدولي، لتوفير أدوات تمويل مناسبة ومبتكرة تدعم الشركات الناشئة والبرامج البحثية، وتُخفف الفجوة بين الابتكار المخبري والتطبيق الصناعي.

تظاهرة بحجم القارة وبوصلة إفريقية واضحة

بدوره، كشف أنس رشدي، مدير التجديد في القطب التكنولوجي بسوسة، في تصريح لـ«الصباح»، أن تظاهرة GAICA تُعدّ أول حدث عالمي تُنظمه تونس موجهٌ صراحة إلى إفريقيا، بمشاركة دول من شمال القارة وغربها وشرقها، من الجزائر والمغرب وليبيا إلى الكوت ديفوار ونيجيريا وكينيا، إلى جانب حضور أوروبي مميز من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. ويصف رشدي التظاهرة بأنها فريدة بحجمها وتركيبتها، إذ ستتخللها مؤتمرات على مدى يومين كاملين، وعروض مباشرة لآخر التقنيات، إلى جانب دورات تدريبية عملية على استخدامات الذكاء الاصطناعي في قطاعات متعددة.

ولعلّ الحضور المنتظر لممثلي شركات تكنولوجية عملاقة، مثل «إنفيديا» و«ميتا»، يعكس الجاذبية المتزايدة للسوق التونسية والإفريقية على حدّ سواء، ويؤكد أن منظومة الابتكار المحلية قادرة على التحاور مع الفاعلين العالميين على أرضية مشتركة. الهدف، كما يُلخصه رشدي، هو تمكين تونس من الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي ودعم تموقعها إفريقيًا وعالميًا في حلول هذا المجال، بما يفتح أبواب أسواق جديدة أمام المنتجات التكنولوجية التونسية ويزيد قدرتها على النفاذ والمنافسة.

من المختبر إلى السوق.. رهان التحويل الصناعي

المؤتمر لا يكتفي بالنقاش النظري، بل يضع التحويل الصناعي في صلب اهتماماته، ويُسلّط الضوء على كيفية الاستفادة من حلول الذكاء الاصطناعي، وتحويلها إلى قيمة مضافة ملموسة في قطاعات مثل الصناعات الميكانيكية والكهربائية، وصناعة الأدوية، والخدمات اللوجستية، والسياحة الذكية، والزراعة الدقيقة.

ولتحقيق هذه الأهداف، سيتخلل المؤتمر دورات مكثفة تركز على أدوات الذكاء الاصطناعي الحديثة، من تطوير النماذج إلى حوكمتها، بهدف سد فجوة المهارات وتزويد الشركات بمنفذين قادرين على بناء ونشر حلول قابلة للتوسع، فضلًا عن جلسات مطابقة بين الشركات الناشئة والمؤسسات الصناعية لتطوير مشاريع مشتركة قصيرة الأمد تُظهر جدوى الحلول وتُسرّع اعتمادها.

هذا النهج التنفيذي يُعزز حظوظ تونس في تحويل مخزونها من المواهب والبحث العلمي إلى منتجات قابلة للتصدير، ويجعل من السوق الإفريقية مجالًا اختباريًا واسع النطاق لتوسيع نطاق الحلول وتكييفها مع خصوصيات كل بلد.

إفريقيا كسوق استراتيجية وحقل ابتكار

وتتعامل التظاهرة مع إفريقيا ليس بوصفها مجرد وجهة للتصدير، بل باعتبارها شريكًا في الابتكار المشترك. فتنوع التحديات عبر القارة، من إدارة الشبكات الكهربائية اللامركزية إلى الصحة الرقمية والهوية السيبرانية والحوكمة الذكية، يوفر مختبرًا واقعيًا لنماذج أعمال قادرة على التوسع خارجيًا. هذا المنظور ينسجم مع رؤية تونس في تحويل موقعها الجغرافي وعمقها المغاربي والمتوسطي إلى بوابة تنافسية، عبر بوابة التعاون جنوب-جنوب وشمال-جنوب في آنٍ واحد.

وفي هذا السياق، تأتي المداولات بين تونس وعدة دول إفريقية لتطوير وترويج تقنيات الذكاء الاصطناعي كخطوة عملية نحو بناء منصات مشتركة، سواء كانت أسواق بيانات آمنة ومتوافقة مع التشريعات، أو أطر معايير مفتوحة تضمن قابلية التشغيل البيني، أو برامج تمويل مشتركة للمشاريع العابرة للحدود. ويُعدّ بناء هذه البنية التحتية الناعمة أولوية لتسريع الانتقال الرقمي، وفتح المجال أمام شركات ناشئة تونسية لتقديم حلولها على نطاق قاري.

ويدرك القائمون على المؤتمر أن نجاح تطبيقات الذكاء الاصطناعي لا يُقاس فقط بقدرتها التقنية، بل أيضًا بامتثالها لمعايير الحوكمة والأخلاقيات وحماية المعطيات. لذلك، تشتمل الجلسات على نقاشات حول مواضيع المسؤولية الخوارزمية، وشفافية النماذج، والحد من الانحيازات، وأمن البيانات، بما يضمن ثقة المستخدمين والمؤسسات. هذه المقاربة تُعزز فرص الاندماج في سلاسل القيمة العالمية، حيث تزداد أهمية المطابقة التنظيمية، وتضع تونس على مسار مستدام يتماشى مع أفضل الممارسات الدولية.

تونس تزخر برأس المال البشري

إحدى الركائز التي يُعوّل عليها المنظمون تتمثل في الاستثمار في رأس المال البشري. فالمؤتمر يشجع الجامعات ومراكز البحوث على تطوير برامج دراسية حديثة تجمع بين علوم البيانات، وهندسة البرمجيات، ومفاهيم الأمن السيبراني، وحقوق البيانات. كما ستُطرح مبادرات لشهادات مهنية معترف بها إقليميًا، بما يسمح للمهندسين والخبراء التونسيين بتثبيت حضورهم في السوق الإفريقية، ويخلق جسرًا بين الشهادات الأكاديمية والمهارات العملية. هذا الربط بين الدراسة والعمل يُعدّ حاسمًا لتقليص زمن الانتقال من مقاعد الدراسة إلى ميادين الإنتاج.

تونس كمحرّك لمنظومة ابتكار إقليمية

اختيار سوسة ليس اعتباطيًا. فالقطب التكنولوجي بالمدينة يُمثّل بيئة متكاملة تجمع بين البحث الأكاديمي، وريادة الأعمال، والخدمات الداعمة، من فضاءات العمل المشتركة إلى حاضنات ومسرّعات الأعمال. هذه المنظومة تمنح المؤتمر عمقًا وظيفيًا يضمن أن ما يدور داخل القاعات يمكن أن يجد امتدادًا مباشرًا في المختبرات والشركات، وأن الشراكات التي تُوقَّع لا تبقى حبرًا على ورق. وبذلك، تتكرّس سوسة بوصفها نقطة التقاء بين المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء، ومَعبرًا لتكنولوجيا تم تصميمها محليًا وبأفق عالمي.

رسائل المنظمين.. مواكبة واستثمار وشراكة

في تصريحاتهم، يُوجّه المنظمون ثلاث رسائل أساسية. أولًا، ضرورة مواكبة تونس لنسق التطورات في الذكاء الاصطناعي، عبر سياسات عمومية داعمة للبحث وللشركات الناشئة، وبنية تحتية رقمية حديثة، وتشريعات تشجّع الابتكار دون التفريط في الحماية. ثانيًا، أن التمويل لم يعد خيارًا ثانويًا، بل عنصرًا تمكينيًا لا غنى عنه، وهو ما يُفسّر العمل مع صناديق محلية ومؤسسات دولية، وفي مقدمتها البنك الدولي، لوضع برامج تمويلية متناسبة مع دورة حياة الابتكار. ثالثًا، أن الشراكات الإفريقية هي المفتاح، ليس فقط لتوسيع الأسواق، بل أيضًا لتطوير حلول تلائم السياقات المحلية وتتميّز بقدرتها على التعميم.

نحو إشعاع صورة تونس عالميًا

ويتجاوز ما ستحتضنه سوسة بين 17 و19 نوفمبر، حدود حدث تقني عابر. فنجاح المؤتمر يمكن أن يُشكّل نقطة تحول في تموقع تونس، من بلد يملك كفاءات واعدة إلى مركز إقليمي يُصدّر الحلول ويقود مشاريع مشتركة على مستوى القارة. ويعمل القائمون على المؤتمر التكنولوجي على تثبيت هذا الموعد سنويًا وتطويعه ليُواكب تغيّرات المشهد التقني العالمي، بما يسمح لتونس باستقطاب المزيد من الاستثمارات، وتوسيع قاعدة شركاتها الناشئة، وتبني سلاسل توريد رقمية تتكامل فيها القدرات المحلية مع الخبرات الدولية.

وفي المحصّلة، يحمل مؤتمر الذكاء الاصطناعي في إفريقيا بسوسة آفاقًا كبيرة، أولها علم جاد يُواكب الحداثة، واقتصاد مبتكر يصنع القيمة، وشراكات إقليمية تقود إلى أسواق واسعة. وبينما تتجه أنظار الباحثين والمستثمرين إلى سوسة، تتجه آمال التونسيين إلى رؤية ملموسة تُترجم حضورهم في هذا القطاع إلى فرص عمل ونمو واستدامة. ويُعدّ هذا المؤتمر موعدًا فريدًا من نوعه لتُثبت من خلاله تونس أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد عنوان لثورة تقنية جديدة، بل رافعة تنموية قادرة على إعادة رسم مكانتها في الخريطة الإفريقية والعالمية.

سفيان المهداوي

 6     آلاف مشارك و200 شركة ناشئة..     تونس تحتضن أول مؤتمر للذكاء الاصطناعي في شمال إفريقيا

تتحول مدينة سوسة من 17 إلى 19 نوفمبر المقبل، إلى قبلة إقليمية ودولية لرواد الذكاء الاصطناعي، مع احتضانها أول مؤتمر من نوعه في شمال إفريقيا مخصص لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في القارة. التظاهرة، التي ستُقام في مقر القطب التكنولوجي بسوسة، تُعدّ محطة مفصلية لتونس ولكامل المنطقة، بالنظر إلى زخم المشاركة وحجم الرهانات الاقتصادية والعلمية المرتبطة بها. الأرقام تعكس الطموح: ستة آلاف مشارك متوقَّعون، وأكثر من 110 عارضين، وحضور 200 شركة ناشئة، إلى جانب نخبة من الباحثين والخبراء من الولايات المتحدة وأوروبا ومن مختلف الدول الإفريقية.

لا تقتصر أهمية المؤتمر على كونه تظاهرة لعرض واستكشاف المنتجات والمبتكرات، بل هو مساحة لتصميم السياسات، وبناء الشراكات، وتحديد الأولويات التقنية والاستثمارية في مرحلة دقيقة تتسارع فيها تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتتقاطع مع قطاعات حيوية كـالطاقة، والصحة، والصناعة، والمالية، والخدمات الحكومية. وبهذه الأهداف، تمثل سوسة خلال ثلاثة أيام غرفة عمليات إقليمية، حيث تُصاغ فيها ملامح خارطة طريق تونسية - إفريقية للذكاء الاصطناعي.

منصة جامعة للباحثين والشركات الناشئة

يؤكد المنظمون أن المؤتمر رُصد له مسار مزدوج يجمع بين العمق العلمي والجدوى الاقتصادية. فبالإضافة إلى جلسات علمية رفيعة المستوى وندوات متخصصة، ستُتاح للباحثين الشبان فرصة تقديم أفكارهم ونماذجهم الأولية أمام لجنة من الخبراء والمستثمرين، في صيغة تسمح بالانتقال من البرهان العلمي إلى المنتج القابل للتسويق. وستُعقد لقاءات مباشرة بين فرق بحثية من إفريقيا وحوض المتوسط لتبادل الخبرات، وبناء مشاريع مشتركة في مجالات مثل الرؤية الحاسوبية، ومعالجة الأنظمة العاملة بالذكاء الاصطناعي وتطويرها لتشمل مجالات مثل الصناعة والخدمات.

ولا تقل أهمية مشاركة الشركات الناشئة عن القيمة العلمية للمؤتمر، فحضور نحو 200 شركة ناشئة تونسية ينطوي على رسالة واضحة، مفادها أن تونس لا تكتفي باستهلاك التكنولوجيا، بل تعمل على إنتاجها وتوطينها وتصديرها إلى أسواق إفريقية تتّسع بوتيرة متسارعة. كما يكشف حرص المنظمين على هذه التظاهرة، أن المنظومة التكنولوجية التونسية باتت جاهزة للعب دور محوري في سلاسل القيمة الرقمية الإفريقية.

رؤية تنظيمية تركّز على المواكبة والاستثمار

المدير العام للقطب التكنولوجي بسوسة، هشام التركي، شدّد في تصريح لـ«الصباح» أمس، خلال ندوة صحفية بمعرض الكرم بتونس لعرض محاور المؤتمر، على أن استضافة تونس لهذا الحدث بين 17 و19 نوفمبر هي خطوة أولى تؤسس لدورة سنوية ذات إشعاع إقليمي. وأوضح أن البرنامج سيجمع مداخلات علمية رفيعة، ومعرضًا لآخر ما بلغه الذكاء الاصطناعي من حلول وتقنيات، مع حضور الشركات الناشئة إلى جانب شركات صناعية كبرى تبحث عن إدماج الذكاء الاصطناعي في عملياتها الإنتاجية والخدمية. وأكّد التركي أن التظاهرة تستهدف استقبال ستة آلاف مشارك، وأن المنظمين يعوّلون على مشاركة 200 شركة ناشئة تونسية تعمل في التقنيات المتقدمة.

في صلب هذه الرؤية، يبرز الحرص على بناء جسور تعاون مع دول إفريقية، من خلال مفاوضات ومناقشات عملية ترمي إلى تطوير وترويج تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي في القارة، التي تبدو سوقًا واعدة على المدى المنظور. ويشير التركي إلى أن مواكبة تونس لهذا النسق التقني لم تعد ترفًا، بل ضرورة اقتصادية وتنموية، وأن توفّر التمويل يشكّل حجر الزاوية لتسريع التحول. لذلك، يجري العمل مع عدد من الصناديق المحلية، فضلًا عن مؤسسات دولية على غرار البنك الدولي، لتوفير أدوات تمويل مناسبة ومبتكرة تدعم الشركات الناشئة والبرامج البحثية، وتُخفف الفجوة بين الابتكار المخبري والتطبيق الصناعي.

تظاهرة بحجم القارة وبوصلة إفريقية واضحة

بدوره، كشف أنس رشدي، مدير التجديد في القطب التكنولوجي بسوسة، في تصريح لـ«الصباح»، أن تظاهرة GAICA تُعدّ أول حدث عالمي تُنظمه تونس موجهٌ صراحة إلى إفريقيا، بمشاركة دول من شمال القارة وغربها وشرقها، من الجزائر والمغرب وليبيا إلى الكوت ديفوار ونيجيريا وكينيا، إلى جانب حضور أوروبي مميز من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. ويصف رشدي التظاهرة بأنها فريدة بحجمها وتركيبتها، إذ ستتخللها مؤتمرات على مدى يومين كاملين، وعروض مباشرة لآخر التقنيات، إلى جانب دورات تدريبية عملية على استخدامات الذكاء الاصطناعي في قطاعات متعددة.

ولعلّ الحضور المنتظر لممثلي شركات تكنولوجية عملاقة، مثل «إنفيديا» و«ميتا»، يعكس الجاذبية المتزايدة للسوق التونسية والإفريقية على حدّ سواء، ويؤكد أن منظومة الابتكار المحلية قادرة على التحاور مع الفاعلين العالميين على أرضية مشتركة. الهدف، كما يُلخصه رشدي، هو تمكين تونس من الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي ودعم تموقعها إفريقيًا وعالميًا في حلول هذا المجال، بما يفتح أبواب أسواق جديدة أمام المنتجات التكنولوجية التونسية ويزيد قدرتها على النفاذ والمنافسة.

من المختبر إلى السوق.. رهان التحويل الصناعي

المؤتمر لا يكتفي بالنقاش النظري، بل يضع التحويل الصناعي في صلب اهتماماته، ويُسلّط الضوء على كيفية الاستفادة من حلول الذكاء الاصطناعي، وتحويلها إلى قيمة مضافة ملموسة في قطاعات مثل الصناعات الميكانيكية والكهربائية، وصناعة الأدوية، والخدمات اللوجستية، والسياحة الذكية، والزراعة الدقيقة.

ولتحقيق هذه الأهداف، سيتخلل المؤتمر دورات مكثفة تركز على أدوات الذكاء الاصطناعي الحديثة، من تطوير النماذج إلى حوكمتها، بهدف سد فجوة المهارات وتزويد الشركات بمنفذين قادرين على بناء ونشر حلول قابلة للتوسع، فضلًا عن جلسات مطابقة بين الشركات الناشئة والمؤسسات الصناعية لتطوير مشاريع مشتركة قصيرة الأمد تُظهر جدوى الحلول وتُسرّع اعتمادها.

هذا النهج التنفيذي يُعزز حظوظ تونس في تحويل مخزونها من المواهب والبحث العلمي إلى منتجات قابلة للتصدير، ويجعل من السوق الإفريقية مجالًا اختباريًا واسع النطاق لتوسيع نطاق الحلول وتكييفها مع خصوصيات كل بلد.

إفريقيا كسوق استراتيجية وحقل ابتكار

وتتعامل التظاهرة مع إفريقيا ليس بوصفها مجرد وجهة للتصدير، بل باعتبارها شريكًا في الابتكار المشترك. فتنوع التحديات عبر القارة، من إدارة الشبكات الكهربائية اللامركزية إلى الصحة الرقمية والهوية السيبرانية والحوكمة الذكية، يوفر مختبرًا واقعيًا لنماذج أعمال قادرة على التوسع خارجيًا. هذا المنظور ينسجم مع رؤية تونس في تحويل موقعها الجغرافي وعمقها المغاربي والمتوسطي إلى بوابة تنافسية، عبر بوابة التعاون جنوب-جنوب وشمال-جنوب في آنٍ واحد.

وفي هذا السياق، تأتي المداولات بين تونس وعدة دول إفريقية لتطوير وترويج تقنيات الذكاء الاصطناعي كخطوة عملية نحو بناء منصات مشتركة، سواء كانت أسواق بيانات آمنة ومتوافقة مع التشريعات، أو أطر معايير مفتوحة تضمن قابلية التشغيل البيني، أو برامج تمويل مشتركة للمشاريع العابرة للحدود. ويُعدّ بناء هذه البنية التحتية الناعمة أولوية لتسريع الانتقال الرقمي، وفتح المجال أمام شركات ناشئة تونسية لتقديم حلولها على نطاق قاري.

ويدرك القائمون على المؤتمر أن نجاح تطبيقات الذكاء الاصطناعي لا يُقاس فقط بقدرتها التقنية، بل أيضًا بامتثالها لمعايير الحوكمة والأخلاقيات وحماية المعطيات. لذلك، تشتمل الجلسات على نقاشات حول مواضيع المسؤولية الخوارزمية، وشفافية النماذج، والحد من الانحيازات، وأمن البيانات، بما يضمن ثقة المستخدمين والمؤسسات. هذه المقاربة تُعزز فرص الاندماج في سلاسل القيمة العالمية، حيث تزداد أهمية المطابقة التنظيمية، وتضع تونس على مسار مستدام يتماشى مع أفضل الممارسات الدولية.

تونس تزخر برأس المال البشري

إحدى الركائز التي يُعوّل عليها المنظمون تتمثل في الاستثمار في رأس المال البشري. فالمؤتمر يشجع الجامعات ومراكز البحوث على تطوير برامج دراسية حديثة تجمع بين علوم البيانات، وهندسة البرمجيات، ومفاهيم الأمن السيبراني، وحقوق البيانات. كما ستُطرح مبادرات لشهادات مهنية معترف بها إقليميًا، بما يسمح للمهندسين والخبراء التونسيين بتثبيت حضورهم في السوق الإفريقية، ويخلق جسرًا بين الشهادات الأكاديمية والمهارات العملية. هذا الربط بين الدراسة والعمل يُعدّ حاسمًا لتقليص زمن الانتقال من مقاعد الدراسة إلى ميادين الإنتاج.

تونس كمحرّك لمنظومة ابتكار إقليمية

اختيار سوسة ليس اعتباطيًا. فالقطب التكنولوجي بالمدينة يُمثّل بيئة متكاملة تجمع بين البحث الأكاديمي، وريادة الأعمال، والخدمات الداعمة، من فضاءات العمل المشتركة إلى حاضنات ومسرّعات الأعمال. هذه المنظومة تمنح المؤتمر عمقًا وظيفيًا يضمن أن ما يدور داخل القاعات يمكن أن يجد امتدادًا مباشرًا في المختبرات والشركات، وأن الشراكات التي تُوقَّع لا تبقى حبرًا على ورق. وبذلك، تتكرّس سوسة بوصفها نقطة التقاء بين المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء، ومَعبرًا لتكنولوجيا تم تصميمها محليًا وبأفق عالمي.

رسائل المنظمين.. مواكبة واستثمار وشراكة

في تصريحاتهم، يُوجّه المنظمون ثلاث رسائل أساسية. أولًا، ضرورة مواكبة تونس لنسق التطورات في الذكاء الاصطناعي، عبر سياسات عمومية داعمة للبحث وللشركات الناشئة، وبنية تحتية رقمية حديثة، وتشريعات تشجّع الابتكار دون التفريط في الحماية. ثانيًا، أن التمويل لم يعد خيارًا ثانويًا، بل عنصرًا تمكينيًا لا غنى عنه، وهو ما يُفسّر العمل مع صناديق محلية ومؤسسات دولية، وفي مقدمتها البنك الدولي، لوضع برامج تمويلية متناسبة مع دورة حياة الابتكار. ثالثًا، أن الشراكات الإفريقية هي المفتاح، ليس فقط لتوسيع الأسواق، بل أيضًا لتطوير حلول تلائم السياقات المحلية وتتميّز بقدرتها على التعميم.

نحو إشعاع صورة تونس عالميًا

ويتجاوز ما ستحتضنه سوسة بين 17 و19 نوفمبر، حدود حدث تقني عابر. فنجاح المؤتمر يمكن أن يُشكّل نقطة تحول في تموقع تونس، من بلد يملك كفاءات واعدة إلى مركز إقليمي يُصدّر الحلول ويقود مشاريع مشتركة على مستوى القارة. ويعمل القائمون على المؤتمر التكنولوجي على تثبيت هذا الموعد سنويًا وتطويعه ليُواكب تغيّرات المشهد التقني العالمي، بما يسمح لتونس باستقطاب المزيد من الاستثمارات، وتوسيع قاعدة شركاتها الناشئة، وتبني سلاسل توريد رقمية تتكامل فيها القدرات المحلية مع الخبرات الدولية.

وفي المحصّلة، يحمل مؤتمر الذكاء الاصطناعي في إفريقيا بسوسة آفاقًا كبيرة، أولها علم جاد يُواكب الحداثة، واقتصاد مبتكر يصنع القيمة، وشراكات إقليمية تقود إلى أسواق واسعة. وبينما تتجه أنظار الباحثين والمستثمرين إلى سوسة، تتجه آمال التونسيين إلى رؤية ملموسة تُترجم حضورهم في هذا القطاع إلى فرص عمل ونمو واستدامة. ويُعدّ هذا المؤتمر موعدًا فريدًا من نوعه لتُثبت من خلاله تونس أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد عنوان لثورة تقنية جديدة، بل رافعة تنموية قادرة على إعادة رسم مكانتها في الخريطة الإفريقية والعالمية.

سفيان المهداوي