يُعدّ ميناء رادس البوابة البحرية الأولى لتونس، حيث تمرّ عبره النسبة الأكبر من الحاويات والبضائع المستوردة والمُصدّرة. هذا الموقع الاستراتيجي جعله محورا حيويا للاقتصاد الوطني، لكنه في السنوات الأخيرة تحوّل من محرّك للتجارة إلى مصدر قلق لأغلب المتعاملين الاقتصاديين.
الاكتظاظ، وطول آجال المكوث، وتكاليف الانتظار الباهظة، كلها مشاكل تراكمت حتى باتت تُهدد تنافسية المؤسسات التونسية وقدرتها على الالتزام بمواعيدها في الأسواق الدولية.
منظمة «كونكت»، التي تضم في صفوفها فاعلين رئيسيين في النقل واللوجستيك، حذّرت مؤخرا من خطورة الوضع، مؤكدة أنّ إصلاح الميناء لم يعد مجرد مطلب قطاعي، بل ضرورة وطنية عاجلة. وفي إطار البحث عن حلول عملية، أوضحت «كونكت» أنّ اجتماعات تنسيقية عُقدت مع الإدارة العامة للديوانة والشركة التونسية للشحن والتفريغ. وتم خلال هذه اللقاءات مناقشة العراقيل المزمنة، بدءا من البطء في الإجراءات الديوانية، وصولا إلى ضعف التجهيزات اللوجستية. وقدّمت الشركة التونسية للشحن والتفريغ بدورها لمحة عن برنامجها الاستثماري المستقبلي، لكن الفاعلين الاقتصاديين شدّدوا على أنّ الإصلاحات يجب أن تكون عاجلة وجذرية لتفادي خسائر إضافية.
اكتظاظ يفوق الطاقة
تكشف الأرقام التي قدّمتها «كونكت» حجم المعضلة بوضوح. فالميناء يستوعب حاليا نحو 11 ألف حاوية، بينما لا تتجاوز طاقته القصوى 12 ألفا. هذا الاكتظاظ يعني أنّ المرفأ يشتغل بما يفوق 90 % من طاقته، وهو ما أدى إلى تعطيل عمليات التفريغ والتسليم.
المشكلة لا تقف عند هذا الحد؛ فبينما تُحدد المعايير الدولية سقفا لمكوث الحاويات لا يتجاوز أسبوعا واحدا، بلغت المدة في ميناء رادس 21 يومًا، وكانت هذه المدة لا تتجاوز 11 يوما.
كلفة الانتظار.. ضربة موجعة للمؤسسات
هذه التأخيرات لا تُترجم فقط إلى وقت ضائع، بل أيضا إلى خسائر مالية مباشرة. فبعد 12 يوما من مكوث الحاويات، تُفرض خطايا تأخير تُدفع بالعملة الصعبة، ما يزيد من الضغط على الشركات التونسية في ظل نقص الموارد من النقد الأجنبي. تُقدّر «كونكت» أنّ كلفة كل يوم تأخير تتراوح بين 40 و50 دينارا للحاوية، وقد تصل أحيانا إلى 100 أو حتى 150 دينارا. هذه الأعباء تُضعف القدرة التنافسية للمؤسسات وتحدّ من قدرتها على النفاذ إلى الأسواق الخارجية، في وقت تحتاج فيه تونس إلى دعم صادراتها أكثر من أي وقت مضى.
مقترحات لتقليص مدة المكوث إلى أسبوع
أمام هذه الوضعية، تدعو «كونكت»، التي تضم مجموعة كبيرة من ممثلي الشركات التونسية ورجال الأعمال، إلى تنفيذ سلسلة من الإجراءات العملية لتقليص مدة مكوث الحاويات إلى خمسة أيام أو أسبوع كحد أقصى. وتشمل هذه الإجراءات: إعادة تنظيم المسارات التشغيلية، رقمنة العمليات الجمركية لتسريع الإجراءات، تحسين تجهيزات المناولة، وتوسيع طاقة التخزين والربط بالميناء. وترى المنظمة أنّ مثل هذه الإصلاحات ليست فقط ضرورية لتخفيف الاكتظاظ الحالي، بل هي أيضا شرط أساسي لجعل الموانئ التونسية قادرة على استيعاب الزيادة المستقبلية في حجم المبادلات التجارية.
البنك الدولي: إصلاح الموانئ مفتاح لنمو إضافي
وتتقاطع دعوات «كونكت» مع توصيات البنك الدولي، الذي أكد في تقريره الصادر في ماي الماضي بعنوان «ربط أفضل من أجل نمو أفضل»، أنّ تونس يمكن أن تحقق مكاسب إضافية تتراوح بين 4 و5 % من ناتجها المحلي الخام خلال ثلاث إلى أربع سنوات، إذا تمكنت من تطوير موانئها وتقليص آجال التوريد ومكوث البضائع.
وأشار التقرير إلى أنّ الموانئ التونسية مجهزة نسبيا، لكنها متأخرة في تجهيزات مناولة الحاويات، وصغيرة الحجم مقارنة بموانئ متوسطية منافسة. هذا الضعف يؤثر على مستوى الربط والتخزين والكفاءة التشغيلية، ويُضعف موقع تونس على خارطة سلاسل التوريد الدولية.
ولميناء رادس، اليوم، دور محوري في الاقتصاد التونسي، فمعظم القطاعات الصناعية الكبرى مثل الميكانيك، والإلكترونيك، والنسيج، والصناعات الغذائية، تعتمد عليه في استيراد المواد الأولية وتصدير المنتجات النهائية. أي تعطيل في نشاطه ينعكس مباشرة على آلاف الشركات، وعلى صورة تونس في الأسواق العالمية.
لكنّ الوضع الحالي يجعل الميناء عائقا أكثر منه أداة دعم، وهو ما دفع منظمة «كونكت» ومنظمة الأعراف إلى دق ناقوس الخطر، والمطالبة بتحرك عاجل لتفادي خسارة المزيد من فرص النمو.
إصلاح الميناء.. ضرورة وطنية
ويؤكد خبراء الاقتصاد لـ»الصباح»، أنّ الإصلاح لا يجب أن يُنظر إليه كخيار ثانوي أو كخطوة تقنية بحتة، بل أولوية وطنية تتعلق بمستقبل التنافسية الاقتصادية للبلاد.
تحسين أداء الميناء يعني تقليص الكلفة، تسريع نسق التصدير، واستقطاب استثمارات أجنبية تبحث عن بيئة لوجستية فعّالة.
ويرى جزء واسع من الخبراء أنّ الإصلاح يجب أن يتم في إطار رؤية شاملة، تشمل: تطوير البنية التحتية، تحديث المعدات، رقمنة الإجراءات، توسيع الربط البري والسككي.
كما يطالب البعض بفتح المجال أمام شراكات مع القطاع الخاص، لجلب استثمارات وخبرات جديدة، على غرار ما قامت به دول متوسطية منافسة مثل المغرب وتركيا، التي حولت موانئها إلى مراكز إقليمية للتجارة البحرية.
واليوم، يقف ميناء رادس عند مفترق طرق حاسم؛ فإما أن يتحول عبر إصلاحات هيكلية جريئة إلى رافعة حقيقية للنمو والتصدير، وإما أن يبقى عائقا يُثقل كاهل المؤسسات ويُكبّل الاقتصاد الوطني.
سفيان المهداوي
يُعدّ ميناء رادس البوابة البحرية الأولى لتونس، حيث تمرّ عبره النسبة الأكبر من الحاويات والبضائع المستوردة والمُصدّرة. هذا الموقع الاستراتيجي جعله محورا حيويا للاقتصاد الوطني، لكنه في السنوات الأخيرة تحوّل من محرّك للتجارة إلى مصدر قلق لأغلب المتعاملين الاقتصاديين.
الاكتظاظ، وطول آجال المكوث، وتكاليف الانتظار الباهظة، كلها مشاكل تراكمت حتى باتت تُهدد تنافسية المؤسسات التونسية وقدرتها على الالتزام بمواعيدها في الأسواق الدولية.
منظمة «كونكت»، التي تضم في صفوفها فاعلين رئيسيين في النقل واللوجستيك، حذّرت مؤخرا من خطورة الوضع، مؤكدة أنّ إصلاح الميناء لم يعد مجرد مطلب قطاعي، بل ضرورة وطنية عاجلة. وفي إطار البحث عن حلول عملية، أوضحت «كونكت» أنّ اجتماعات تنسيقية عُقدت مع الإدارة العامة للديوانة والشركة التونسية للشحن والتفريغ. وتم خلال هذه اللقاءات مناقشة العراقيل المزمنة، بدءا من البطء في الإجراءات الديوانية، وصولا إلى ضعف التجهيزات اللوجستية. وقدّمت الشركة التونسية للشحن والتفريغ بدورها لمحة عن برنامجها الاستثماري المستقبلي، لكن الفاعلين الاقتصاديين شدّدوا على أنّ الإصلاحات يجب أن تكون عاجلة وجذرية لتفادي خسائر إضافية.
اكتظاظ يفوق الطاقة
تكشف الأرقام التي قدّمتها «كونكت» حجم المعضلة بوضوح. فالميناء يستوعب حاليا نحو 11 ألف حاوية، بينما لا تتجاوز طاقته القصوى 12 ألفا. هذا الاكتظاظ يعني أنّ المرفأ يشتغل بما يفوق 90 % من طاقته، وهو ما أدى إلى تعطيل عمليات التفريغ والتسليم.
المشكلة لا تقف عند هذا الحد؛ فبينما تُحدد المعايير الدولية سقفا لمكوث الحاويات لا يتجاوز أسبوعا واحدا، بلغت المدة في ميناء رادس 21 يومًا، وكانت هذه المدة لا تتجاوز 11 يوما.
كلفة الانتظار.. ضربة موجعة للمؤسسات
هذه التأخيرات لا تُترجم فقط إلى وقت ضائع، بل أيضا إلى خسائر مالية مباشرة. فبعد 12 يوما من مكوث الحاويات، تُفرض خطايا تأخير تُدفع بالعملة الصعبة، ما يزيد من الضغط على الشركات التونسية في ظل نقص الموارد من النقد الأجنبي. تُقدّر «كونكت» أنّ كلفة كل يوم تأخير تتراوح بين 40 و50 دينارا للحاوية، وقد تصل أحيانا إلى 100 أو حتى 150 دينارا. هذه الأعباء تُضعف القدرة التنافسية للمؤسسات وتحدّ من قدرتها على النفاذ إلى الأسواق الخارجية، في وقت تحتاج فيه تونس إلى دعم صادراتها أكثر من أي وقت مضى.
مقترحات لتقليص مدة المكوث إلى أسبوع
أمام هذه الوضعية، تدعو «كونكت»، التي تضم مجموعة كبيرة من ممثلي الشركات التونسية ورجال الأعمال، إلى تنفيذ سلسلة من الإجراءات العملية لتقليص مدة مكوث الحاويات إلى خمسة أيام أو أسبوع كحد أقصى. وتشمل هذه الإجراءات: إعادة تنظيم المسارات التشغيلية، رقمنة العمليات الجمركية لتسريع الإجراءات، تحسين تجهيزات المناولة، وتوسيع طاقة التخزين والربط بالميناء. وترى المنظمة أنّ مثل هذه الإصلاحات ليست فقط ضرورية لتخفيف الاكتظاظ الحالي، بل هي أيضا شرط أساسي لجعل الموانئ التونسية قادرة على استيعاب الزيادة المستقبلية في حجم المبادلات التجارية.
البنك الدولي: إصلاح الموانئ مفتاح لنمو إضافي
وتتقاطع دعوات «كونكت» مع توصيات البنك الدولي، الذي أكد في تقريره الصادر في ماي الماضي بعنوان «ربط أفضل من أجل نمو أفضل»، أنّ تونس يمكن أن تحقق مكاسب إضافية تتراوح بين 4 و5 % من ناتجها المحلي الخام خلال ثلاث إلى أربع سنوات، إذا تمكنت من تطوير موانئها وتقليص آجال التوريد ومكوث البضائع.
وأشار التقرير إلى أنّ الموانئ التونسية مجهزة نسبيا، لكنها متأخرة في تجهيزات مناولة الحاويات، وصغيرة الحجم مقارنة بموانئ متوسطية منافسة. هذا الضعف يؤثر على مستوى الربط والتخزين والكفاءة التشغيلية، ويُضعف موقع تونس على خارطة سلاسل التوريد الدولية.
ولميناء رادس، اليوم، دور محوري في الاقتصاد التونسي، فمعظم القطاعات الصناعية الكبرى مثل الميكانيك، والإلكترونيك، والنسيج، والصناعات الغذائية، تعتمد عليه في استيراد المواد الأولية وتصدير المنتجات النهائية. أي تعطيل في نشاطه ينعكس مباشرة على آلاف الشركات، وعلى صورة تونس في الأسواق العالمية.
لكنّ الوضع الحالي يجعل الميناء عائقا أكثر منه أداة دعم، وهو ما دفع منظمة «كونكت» ومنظمة الأعراف إلى دق ناقوس الخطر، والمطالبة بتحرك عاجل لتفادي خسارة المزيد من فرص النمو.
إصلاح الميناء.. ضرورة وطنية
ويؤكد خبراء الاقتصاد لـ»الصباح»، أنّ الإصلاح لا يجب أن يُنظر إليه كخيار ثانوي أو كخطوة تقنية بحتة، بل أولوية وطنية تتعلق بمستقبل التنافسية الاقتصادية للبلاد.
تحسين أداء الميناء يعني تقليص الكلفة، تسريع نسق التصدير، واستقطاب استثمارات أجنبية تبحث عن بيئة لوجستية فعّالة.
ويرى جزء واسع من الخبراء أنّ الإصلاح يجب أن يتم في إطار رؤية شاملة، تشمل: تطوير البنية التحتية، تحديث المعدات، رقمنة الإجراءات، توسيع الربط البري والسككي.
كما يطالب البعض بفتح المجال أمام شراكات مع القطاع الخاص، لجلب استثمارات وخبرات جديدة، على غرار ما قامت به دول متوسطية منافسة مثل المغرب وتركيا، التي حولت موانئها إلى مراكز إقليمية للتجارة البحرية.
واليوم، يقف ميناء رادس عند مفترق طرق حاسم؛ فإما أن يتحول عبر إصلاحات هيكلية جريئة إلى رافعة حقيقية للنمو والتصدير، وإما أن يبقى عائقا يُثقل كاهل المؤسسات ويُكبّل الاقتصاد الوطني.