إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

للحد من «فاتورة» الاستيراد.. الغاز الطبيعي في تونس على طاولة الأولويات

تواجه تونس اليوم واحدة من أخطر أزماتها الطاقية بعد أن تراجع إنتاجها من الغاز الطبيعي إلى نحو 1.8 مليار متر مكعب سنة 2024، مقابل استهلاك يفوق بكثير هذا المستوى، ما أجبر البلاد على تغطية ما يقارب نصف حاجياتها بالاستيراد، أساسًا من الجزائر. هذا العجز الحاد في التزويد انعكس مباشرة على الميزان الطاقي الذي سجل عجزًا يناهز 10.8 مليارات دينار في نفس السنة، لتصبح الدعوات إلى تكثيف الاستكشاف والاستثمار في الغاز مسألة حيوية تفرض نفسها على طاولة الحكومة والفاعلين الاقتصاديين، في وقت ترتفع فيه المخاوف من تفاقم التبعية للخارج وانعكاساتها المالية والاجتماعية.

وإلى وقت قريب، كانت تونس قادرة على تغطية جزء هام من حاجياتها الطاقية من الغاز الطبيعي، لتجد نفسها اليوم في وضع بالغ الدقة. الإنتاج المحلي يتراجع عامًا بعد عام، والاستهلاك يزداد بوتيرة لا تهدأ، فيما ترتفع الفاتورة المالية للواردات إلى مستويات خانقة. الغاز الذي يشكل شريان المنظومة الكهربائية الوطنية، ويغذي الصناعة والخدمات، أصبح عنوانًا لأزمة طاقية شاملة تدفع البلاد إلى البحث عن حلول عاجلة، أبرزها العودة بقوة إلى الاستثمار والاستكشاف، وتبني خطة محكمة توازن بين الواقع الصعب والطموحات المستقبلية.

تراجع الإنتاج

الأرقام تكشف عمق المأزق. ففي سنة 2024، لم يتجاوز إنتاج تونس من الغاز نحو 1.8 مليار متر مكعب، وهو مستوى أدنى بكثير مما تحقق قبل عقد ونصف، حين بلغ الإنتاج ما يقارب 3.8 مليارات متر مكعب. مسار التراجع هذا ليس جديدًا، لكنه أصبح أكثر وضوحًا في السنوات الأخيرة بفعل نضوب عدد من الحقول، وبطء الاستثمارات، وتأخر عمليات الاستكشاف، وذلك وفق ما كشفه عدد من خبراء الطاقة لـ«الصباح»، في وقت سابق. حقل نوّارة الذي دخل حيز الإنتاج في 2020 أعطى نفسًا جديدًا للقطاع، بطاقة يومية تراوحت بين مليوني وثلاثة ملايين متر مكعب، وأنبوب يمتد على 371 كيلومترًا بطاقة تصميمية تبلغ عشرة ملايين متر مكعب يوميًا، لكن هذه الإضافة لم تكن كافية لإيقاف النزيف أو تعويض الحقول القديمة التي استنزفت قدراتها.

تزايد الطلب المحلي

في المقابل، يتزايد الطلب الداخلي بوتيرة متسارعة، حيث كشفت آخر الإحصائيات الرسمية أن أكثر من 97 في المائة من الكهرباء المولدة في تونس سنة 2024 جاءت من الوقود الأحفوري، ومعظمها من الغاز الطبيعي. هذا الاعتماد الكبير يجعل أي خلل في الإمدادات أو تقلب في الأسعار العالمية يرتد مباشرة على فاتورة الكهرباء وعلى المالية العمومية. الأدهى أن قرابة 47 في المائة من الحاجيات الغازية كانت مغطاة بالاستيراد حتى منتصف 2023، ومعظمها من الجزائر، ما يعني أن نصف الطاقة الكهربائية تقريبًا مرهونة لقرارات وإمدادات خارج الحدود.

ومثل العجز الطاقي في 2023 أكثر من نصف العجز التجاري لتونس، فيما التهمت كلفة الطاقة نحو 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحسب البنك الدولي. وفي سنة 2024 بلغ عجز الميزان الطاقي قرابة 10.8 مليارات دينار، وهو رقم يعكس هشاشة منظومة قائمة على التوريد المكثف. حتى مع تراجع نسبي للأسعار العالمية في 2025، لم يتحسن الوضع إلا قليلاً، إذ انخفض معدل الاكتفاء الذاتي إلى نحو 39 في المائة فقط. الأرقام المعلنة تكشف أيضًا عن ارتفاع واردات الغاز الجزائري بنحو 19 في المائة سنة 2024، ما يعزز التبعية ويزيد الضغط على العملة الصعبة.

البحث عن الحلول الناجعة

لكن رغم هذه الصورة القاتمة، تبرز مؤشرات إيجابية صغيرة إذا ما أُحسن استثمارها. ففي جانفي 2025 تم الإعلان عن اتفاق ثلاثي بين الحكومة التونسية وشركة «إيني» الإيطالية وشركة «سيتب» التونسية الإيطالية يقضي بحفر تسع آبار جديدة في حقل البرمة العريق إلى حدود سنة 2030. وقد رُصد استثمار أولي بقيمة 19 مليون دولار لسنة 2025 كدفعة أولى. هذا البرنامج ليس ضخمًا، لكنه يمثل إشارة قوية إلى أن الحقول القديمة ما زالت قادرة على رفع مردودها عبر تقنيات الاستخلاص المحسن واستثمارات محدودة التكلفة نسبيًا.

ويظل الاستكشاف البحري والحدودي، ورقة أخرى مهمة لم تُلعبها تونس بعد كما يجب. وحسب ما كشفه خبراء الطاقة لـ»الصباح»، فإن مناطق الجنوب وبعض السواحل ما زالت أقل اختراقًا جيولوجيًا، وهناك إمكانات كامنة لم تُختبر بالشكل الكافي. شركات الخدمات ترى فرصًا في مشاريع صغيرة وسريعة الإنجاز، مثل حفر آبار تقييمية، وإعادة دخول آبار متوقفة منذ سنوات. هذا النوع من العمليات قد يعطي مؤشرات إيجابية في غضون عامين فقط، إذا توفرت إرادة سياسية واضحة وتم تجاوز بطء الإجراءات البيروقراطية.

أهمية هذه الخطوات لا تنبع فقط من بعدها الاقتصادي المباشر، بل من ارتباطها الوثيق بالأمن الطاقي للبلاد، فالغاز الطبيعي ليس وقودًا عاديًا، بل هو العمود الفقري لشبكة الكهرباء التونسية، التي لا تحتمل انقطاعات أو قفزات كبيرة في الأسعار. أي زيادة في الإنتاج المحلي، وإن كانت متواضعة، تعني تقليص التبعية للخارج، وتخفيف الضغط على ميزانية الدولة، وتوفير متنفس مالي لشركة الكهرباء والغاز المثقلة بالديون نتيجة الفجوة بين كلفة التزود وسعر البيع المدعوم.

كما أن الاستثمار في الغاز لا يتعارض مع التحول الطاقي نحو الطاقات المتجددة، بل بالعكس، الغاز يمثل الوقود الانتقالي الأنسب لتونس خلال العقد القادم. الشبكة الكهربائية التي تشرع في استقبال مشاريع شمسية وريحية جديدة تحتاج إلى مصدر ثابت ومرن في الوقت ذاته لتأمين التوازن. الحكومة التونسية حددت هدفًا يتمثل في بلوغ 35 في المائة من القدرة المركبة من الطاقات المتجددة بحلول 2030، لكن الواقع يؤكد أن مساهمة هذه المصادر ما زالت متواضعة، وهو ما يجعل الغاز عنصرًا لا غنى عنه في مرحلة الانتقال.

الاستغناء عن الغاز خطأ استراتيجي

ورغم أهمية الرهان على الطاقات البديلة، فإن التركيز المفرط على هذا الملف دون حل جذري لمعضلة الغاز سيكون خطأ استراتيجيًا وفق ما كشفه خبراء الطاقة في وقت سابق لـ»الصباح». فالمشاريع الشمسية والريحية تحتاج إلى وقت طويل حتى تدخل مرحلة الإنتاج، كما أنها تتطلب استثمارات ضخمة قد لا تتوفر بسرعة، ناهيك عن محدودية قدرة الشبكة الوطنية على استيعاب الطاقات المتقطعة دون مصدر حمولة أساسي مثل الغاز. بذلك يصبح الغاز ليس فقط وقودًا تقليديًا، بل عنصر تمكين حقيقي للتحول الطاقي، إذ يضمن استقرار التزويد ويمنح الوقت اللازم لتوسيع الطاقات النظيفة.

الأزمة أيضًا ذات بعد اجتماعي لا يقل أهمية. كل ارتفاع في أسعار الغاز المستورد ينعكس مباشرة على فواتير الكهرباء المنزلية، ما يثير موجات استياء شعبي في بلد يرزح تحت أعباء اقتصادية واجتماعية ثقيلة. الدولة التي تحاول الموازنة بين تثبيت الأسعار وحماية قدرتها المالية تجد نفسها في معادلة صعبة، فكل دعم إضافي يزيد العجز وكل رفع للأسعار يولد ضغطًا اجتماعيًا. هذه المعادلة لن تجد حلًا إلا عبر تعزيز الإنتاج المحلي وتقليص التبعية، وهو ما يجعل الاستكشاف استثمارًا في الاستقرار الاجتماعي بقدر ما هو في الاستقرار الاقتصادي.

البعد الجيوسياسي حاضر بقوة كذلك. اعتماد تونس شبه الكلي على الغاز الجزائري يعكس علاقة تعاون تاريخية لكنها في الوقت نفسه تعني تبعية لا مفر منها. أي اضطراب في الإمدادات أو إعادة تفاوض حول الأسعار قد يضع تونس في وضع حرج. ورغم أن العلاقات بين البلدين توصف بالمتينة، إلا أن منطق السيادة يفرض على تونس البحث عن بدائل وتوسيع قاعدة إنتاجها الذاتي حتى لا تبقى رهينة مصدر واحد. هذه الاعتبارات تكتسي أهمية أكبر في سياق إقليمي ودولي مضطرب، حيث تتحول الطاقة إلى أداة ضغط ومساومة.

في المحصلة، كل سنة تمر دون قرارات حاسمة تزيد التبعية وتعمق العجز. لكن في المقابل، كل استثمار صغير يُنفذ اليوم يمكن أن يحدث فارقًا كبيرًا غدًا. الغاز الطبيعي ليس عصا سحرية، لكنه الجسر الواقعي الذي يمكن أن يعبر بالبلاد نحو مزيج طاقي متوازن، كهرباء مستقرة بأسعار مقبولة، واقتصاد يتنفس بعيدًا عن تقلبات الأسواق العالمية. النجاح في هذا الملف لن يكون ثمرة قرار معزول، بل نتيجة برنامج دولة متكامل يضع أمن الطاقة على رأس أولوياته، إدراكًا بأن ضمان تدفق الغاز يعني في الجوهر ضمان استقرار البلاد.

لذلك أصبح من الضروري اليوم أن تتحرك الحكومة التونسية بخطوات عملية لدراسة كل فرص الاستثمار المجدية في مجال استخراج الغاز الطبيعي مع مراعاة الجوانب البيئية، وتسريع نسق إسناد رخص الاستكشاف، وحفر الآبار الجديدة. الهدف واضح، رفع الإنتاج الوطني، وتقليص فاتورة الواردات، وتخفيف الارتهان إلى الخارج، في مسار يعزز السيادة الوطنية، ويضمن أمن البلاد الطاقي، ويستجيب لحاجيات ملايين التونسيين.

سفيان المهداوي

للحد من «فاتورة» الاستيراد..   الغاز الطبيعي في تونس على طاولة الأولويات

تواجه تونس اليوم واحدة من أخطر أزماتها الطاقية بعد أن تراجع إنتاجها من الغاز الطبيعي إلى نحو 1.8 مليار متر مكعب سنة 2024، مقابل استهلاك يفوق بكثير هذا المستوى، ما أجبر البلاد على تغطية ما يقارب نصف حاجياتها بالاستيراد، أساسًا من الجزائر. هذا العجز الحاد في التزويد انعكس مباشرة على الميزان الطاقي الذي سجل عجزًا يناهز 10.8 مليارات دينار في نفس السنة، لتصبح الدعوات إلى تكثيف الاستكشاف والاستثمار في الغاز مسألة حيوية تفرض نفسها على طاولة الحكومة والفاعلين الاقتصاديين، في وقت ترتفع فيه المخاوف من تفاقم التبعية للخارج وانعكاساتها المالية والاجتماعية.

وإلى وقت قريب، كانت تونس قادرة على تغطية جزء هام من حاجياتها الطاقية من الغاز الطبيعي، لتجد نفسها اليوم في وضع بالغ الدقة. الإنتاج المحلي يتراجع عامًا بعد عام، والاستهلاك يزداد بوتيرة لا تهدأ، فيما ترتفع الفاتورة المالية للواردات إلى مستويات خانقة. الغاز الذي يشكل شريان المنظومة الكهربائية الوطنية، ويغذي الصناعة والخدمات، أصبح عنوانًا لأزمة طاقية شاملة تدفع البلاد إلى البحث عن حلول عاجلة، أبرزها العودة بقوة إلى الاستثمار والاستكشاف، وتبني خطة محكمة توازن بين الواقع الصعب والطموحات المستقبلية.

تراجع الإنتاج

الأرقام تكشف عمق المأزق. ففي سنة 2024، لم يتجاوز إنتاج تونس من الغاز نحو 1.8 مليار متر مكعب، وهو مستوى أدنى بكثير مما تحقق قبل عقد ونصف، حين بلغ الإنتاج ما يقارب 3.8 مليارات متر مكعب. مسار التراجع هذا ليس جديدًا، لكنه أصبح أكثر وضوحًا في السنوات الأخيرة بفعل نضوب عدد من الحقول، وبطء الاستثمارات، وتأخر عمليات الاستكشاف، وذلك وفق ما كشفه عدد من خبراء الطاقة لـ«الصباح»، في وقت سابق. حقل نوّارة الذي دخل حيز الإنتاج في 2020 أعطى نفسًا جديدًا للقطاع، بطاقة يومية تراوحت بين مليوني وثلاثة ملايين متر مكعب، وأنبوب يمتد على 371 كيلومترًا بطاقة تصميمية تبلغ عشرة ملايين متر مكعب يوميًا، لكن هذه الإضافة لم تكن كافية لإيقاف النزيف أو تعويض الحقول القديمة التي استنزفت قدراتها.

تزايد الطلب المحلي

في المقابل، يتزايد الطلب الداخلي بوتيرة متسارعة، حيث كشفت آخر الإحصائيات الرسمية أن أكثر من 97 في المائة من الكهرباء المولدة في تونس سنة 2024 جاءت من الوقود الأحفوري، ومعظمها من الغاز الطبيعي. هذا الاعتماد الكبير يجعل أي خلل في الإمدادات أو تقلب في الأسعار العالمية يرتد مباشرة على فاتورة الكهرباء وعلى المالية العمومية. الأدهى أن قرابة 47 في المائة من الحاجيات الغازية كانت مغطاة بالاستيراد حتى منتصف 2023، ومعظمها من الجزائر، ما يعني أن نصف الطاقة الكهربائية تقريبًا مرهونة لقرارات وإمدادات خارج الحدود.

ومثل العجز الطاقي في 2023 أكثر من نصف العجز التجاري لتونس، فيما التهمت كلفة الطاقة نحو 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحسب البنك الدولي. وفي سنة 2024 بلغ عجز الميزان الطاقي قرابة 10.8 مليارات دينار، وهو رقم يعكس هشاشة منظومة قائمة على التوريد المكثف. حتى مع تراجع نسبي للأسعار العالمية في 2025، لم يتحسن الوضع إلا قليلاً، إذ انخفض معدل الاكتفاء الذاتي إلى نحو 39 في المائة فقط. الأرقام المعلنة تكشف أيضًا عن ارتفاع واردات الغاز الجزائري بنحو 19 في المائة سنة 2024، ما يعزز التبعية ويزيد الضغط على العملة الصعبة.

البحث عن الحلول الناجعة

لكن رغم هذه الصورة القاتمة، تبرز مؤشرات إيجابية صغيرة إذا ما أُحسن استثمارها. ففي جانفي 2025 تم الإعلان عن اتفاق ثلاثي بين الحكومة التونسية وشركة «إيني» الإيطالية وشركة «سيتب» التونسية الإيطالية يقضي بحفر تسع آبار جديدة في حقل البرمة العريق إلى حدود سنة 2030. وقد رُصد استثمار أولي بقيمة 19 مليون دولار لسنة 2025 كدفعة أولى. هذا البرنامج ليس ضخمًا، لكنه يمثل إشارة قوية إلى أن الحقول القديمة ما زالت قادرة على رفع مردودها عبر تقنيات الاستخلاص المحسن واستثمارات محدودة التكلفة نسبيًا.

ويظل الاستكشاف البحري والحدودي، ورقة أخرى مهمة لم تُلعبها تونس بعد كما يجب. وحسب ما كشفه خبراء الطاقة لـ»الصباح»، فإن مناطق الجنوب وبعض السواحل ما زالت أقل اختراقًا جيولوجيًا، وهناك إمكانات كامنة لم تُختبر بالشكل الكافي. شركات الخدمات ترى فرصًا في مشاريع صغيرة وسريعة الإنجاز، مثل حفر آبار تقييمية، وإعادة دخول آبار متوقفة منذ سنوات. هذا النوع من العمليات قد يعطي مؤشرات إيجابية في غضون عامين فقط، إذا توفرت إرادة سياسية واضحة وتم تجاوز بطء الإجراءات البيروقراطية.

أهمية هذه الخطوات لا تنبع فقط من بعدها الاقتصادي المباشر، بل من ارتباطها الوثيق بالأمن الطاقي للبلاد، فالغاز الطبيعي ليس وقودًا عاديًا، بل هو العمود الفقري لشبكة الكهرباء التونسية، التي لا تحتمل انقطاعات أو قفزات كبيرة في الأسعار. أي زيادة في الإنتاج المحلي، وإن كانت متواضعة، تعني تقليص التبعية للخارج، وتخفيف الضغط على ميزانية الدولة، وتوفير متنفس مالي لشركة الكهرباء والغاز المثقلة بالديون نتيجة الفجوة بين كلفة التزود وسعر البيع المدعوم.

كما أن الاستثمار في الغاز لا يتعارض مع التحول الطاقي نحو الطاقات المتجددة، بل بالعكس، الغاز يمثل الوقود الانتقالي الأنسب لتونس خلال العقد القادم. الشبكة الكهربائية التي تشرع في استقبال مشاريع شمسية وريحية جديدة تحتاج إلى مصدر ثابت ومرن في الوقت ذاته لتأمين التوازن. الحكومة التونسية حددت هدفًا يتمثل في بلوغ 35 في المائة من القدرة المركبة من الطاقات المتجددة بحلول 2030، لكن الواقع يؤكد أن مساهمة هذه المصادر ما زالت متواضعة، وهو ما يجعل الغاز عنصرًا لا غنى عنه في مرحلة الانتقال.

الاستغناء عن الغاز خطأ استراتيجي

ورغم أهمية الرهان على الطاقات البديلة، فإن التركيز المفرط على هذا الملف دون حل جذري لمعضلة الغاز سيكون خطأ استراتيجيًا وفق ما كشفه خبراء الطاقة في وقت سابق لـ»الصباح». فالمشاريع الشمسية والريحية تحتاج إلى وقت طويل حتى تدخل مرحلة الإنتاج، كما أنها تتطلب استثمارات ضخمة قد لا تتوفر بسرعة، ناهيك عن محدودية قدرة الشبكة الوطنية على استيعاب الطاقات المتقطعة دون مصدر حمولة أساسي مثل الغاز. بذلك يصبح الغاز ليس فقط وقودًا تقليديًا، بل عنصر تمكين حقيقي للتحول الطاقي، إذ يضمن استقرار التزويد ويمنح الوقت اللازم لتوسيع الطاقات النظيفة.

الأزمة أيضًا ذات بعد اجتماعي لا يقل أهمية. كل ارتفاع في أسعار الغاز المستورد ينعكس مباشرة على فواتير الكهرباء المنزلية، ما يثير موجات استياء شعبي في بلد يرزح تحت أعباء اقتصادية واجتماعية ثقيلة. الدولة التي تحاول الموازنة بين تثبيت الأسعار وحماية قدرتها المالية تجد نفسها في معادلة صعبة، فكل دعم إضافي يزيد العجز وكل رفع للأسعار يولد ضغطًا اجتماعيًا. هذه المعادلة لن تجد حلًا إلا عبر تعزيز الإنتاج المحلي وتقليص التبعية، وهو ما يجعل الاستكشاف استثمارًا في الاستقرار الاجتماعي بقدر ما هو في الاستقرار الاقتصادي.

البعد الجيوسياسي حاضر بقوة كذلك. اعتماد تونس شبه الكلي على الغاز الجزائري يعكس علاقة تعاون تاريخية لكنها في الوقت نفسه تعني تبعية لا مفر منها. أي اضطراب في الإمدادات أو إعادة تفاوض حول الأسعار قد يضع تونس في وضع حرج. ورغم أن العلاقات بين البلدين توصف بالمتينة، إلا أن منطق السيادة يفرض على تونس البحث عن بدائل وتوسيع قاعدة إنتاجها الذاتي حتى لا تبقى رهينة مصدر واحد. هذه الاعتبارات تكتسي أهمية أكبر في سياق إقليمي ودولي مضطرب، حيث تتحول الطاقة إلى أداة ضغط ومساومة.

في المحصلة، كل سنة تمر دون قرارات حاسمة تزيد التبعية وتعمق العجز. لكن في المقابل، كل استثمار صغير يُنفذ اليوم يمكن أن يحدث فارقًا كبيرًا غدًا. الغاز الطبيعي ليس عصا سحرية، لكنه الجسر الواقعي الذي يمكن أن يعبر بالبلاد نحو مزيج طاقي متوازن، كهرباء مستقرة بأسعار مقبولة، واقتصاد يتنفس بعيدًا عن تقلبات الأسواق العالمية. النجاح في هذا الملف لن يكون ثمرة قرار معزول، بل نتيجة برنامج دولة متكامل يضع أمن الطاقة على رأس أولوياته، إدراكًا بأن ضمان تدفق الغاز يعني في الجوهر ضمان استقرار البلاد.

لذلك أصبح من الضروري اليوم أن تتحرك الحكومة التونسية بخطوات عملية لدراسة كل فرص الاستثمار المجدية في مجال استخراج الغاز الطبيعي مع مراعاة الجوانب البيئية، وتسريع نسق إسناد رخص الاستكشاف، وحفر الآبار الجديدة. الهدف واضح، رفع الإنتاج الوطني، وتقليص فاتورة الواردات، وتخفيف الارتهان إلى الخارج، في مسار يعزز السيادة الوطنية، ويضمن أمن البلاد الطاقي، ويستجيب لحاجيات ملايين التونسيين.

سفيان المهداوي