إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بدأت «تختفي» منذ سنوات.. «العولة».. موروث تقليدي بين مخاطر الاندثار واستعادة «البريق»

- أستاذ في علم الاجتماع والانتروبولوجيا لـ «الصباح»: «العولة» تدل على التعاون العائلي وانتشار «الأسرة النواتية»

- دكتور مختص في التغذية، لـ «الصباح» : تقليد «العولة» له دور هام في تحقيق الأمن الغذائي العائلي

 

ظلت تقاليد التونسيين في «العولة» في السنوات الأخيرة محتشمة، حتى أصبحت مهددة بالاندثار، لكن الملفت للنظر مؤخرا، أن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في استعادة هذا التقليد بريقه وصار هذا الموروث من أولويات العائلة التونسية، حول هذه الظاهرة الغذائية والاجتماعية والاقتصادية تحدثت «الصباح» مع عدد من المختصين مع شهادات حية، للوقوف عند أهمية «العولة» ودور وسائل التواصل الاجتماعي في عودتها وسبل تثمينها وخاصة كيفية الحفاظ عليها كموروث ثقافي تونسي ...

في باحة منزل الخالة «هادية» في جهة قليبية من ولاية نابل، تعترضك منذ الوهلة الأولى عند الدخول، ثلة من النساء والأطفال، تتوسطهم أواني فضية مختلفة الأحجام وأخرى خزفية، وأكياس من مادة السميد ولوازم «العولة»، وفي مشهد حركي نشيط، يتقاسم فيه الحضور تجهيز وإعداد «الكسكسي» للتخزين وسط قهقهات النساء ولعب الأطفال وتوصيات  الخالة «هادية» الدقيقة ..

وفي حديثها لـ«الصباح»، قالت الخالة «هادية» البالغة من العمر الـ 74 عاما إن تقاليد «العولة» في بيتها عادة مقدسة، حافظت عليها منذ سنوات وتُورّثها اليوم لبناتها وأحفادها حتى تظل موروثا للأجيال القادمة في عائلتها الموسعة، مؤكدة أن هذا التقليد سر نجاحها في حسن التصرف في مصاريف البيت لسنوات طويلة، والأهم حسب الخالة «هادية» أنه كان دافعا ايجابيا لتجميع كل أفراد العائلة سنويا رغم التزاماتهم ومشاغلهم، وهي التي تعد الجدة لعشرة أحفاد وأم لخمس بنات وولدين...

في أحد أركان المنزل الذي زارته «الصباح»، تحدثنا إلى ابنة الخالة «هادية»، الصغرى، شابة تبلغ من العمر 42 سنة، أكدت أنها من بين النساء المحافظات على تقاليد «العولة» في بيتها الصغير في العاصمة تونس، مبينة أن «العولة الكبيرة»،  كما وصفتها تكون مع العائلة الموسعة في فصل الصيف، في حين أنها تقوم بـ»العولة الصغيرة» في شقتها الصغيرة بوسائل عصرية  بشكل متواصل على كامل أشهر السنة...

وأكدت «مريم» البنت الصغرى للخالة «هادية» أنها تعتبر نفسها من بين أفضل الشابات اللواتي في سنها، في مجال تجفيف وتخزين الفواكه والغلال، حتى أنها أطلقت محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي «الانستراغرام» في هذا الغرض وتستقطب اليوم الآلاف من المعجبين على صفحتها الرسمية على مواقع الانترنت، مبينة أن هذا التوجه يؤكد أهمية تثمين هذا الموروث الثقافي التونسي أو ما يعرف بـ»العولة» حتى يتواصل مع الأجيال القادمة، حسب تعبيرها.

«العولة» موروث اجتماعي وثقافي واقتصادي  

اليوم يفسر خبراء علم الاجتماع الظاهرة على أنها تقليد يجسد فلسفة الاكتفاء الذاتي والاستعداد للمستقبل، ويحمل أبعادا ثقافية واقتصادية وصحية عميقة، وبالتالي فنحن نراه من الناحية الاجتماعية مكسبا وموروثا اجتماعيا ثريا، فسره الأستاذ في علم الاجتماع والانتروبولوجيا، نجيب بوطالب في حديثه لـ «الصباح» بأنه ظاهرة اجتماعية تعرفها العديد من البلدان الخارجية، وحافظت عليها تونس  لعقود طويلة، مبينا أن هذه الظاهرة تدل في الأصل على التعاون العائلي في إعداد وتمويل الأكلات بأنواعها المختلفة للمستقبل.

وأضاف الأستاذ بوطالب أن «العولة» هو تقليد يدل على عقلانية الاقتصاد العائلي رغم أنها تراجعت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ في ظل توسع آليات ووسائل الإغراء التسويقي للسلع، إلى جانب ارتفاع تكاليف «العولة» وضيق الوقت بالنسبة للنساء العاملات، إلا أنها مازالت موجودة في عدة جهات من البلاد ...

وأوضح بوطالب في ذات السياق أن أبرز العوامل والأسباب المباشرة وراء تراجع الظاهرة هي التي تتعلق بقوة اقتصاد السوق خاصة في المدن الصغيرة والأرياف، وخروج المرأة التونسية إلى العمل ولم يتسن لها التصرف الصحيح في الوقت، فضلا عن ارتفاع تكاليف «العولة» من شراء وتخزين وحفظ وكذلك  نقص المواد الخام بسبب الجفاف ...

كما يظل عامل انتشار «الأسرة النواتية» المتكونة من أب وأم وأبناء فقط أبرز أسباب تراجع الظاهرة لأن هذا النوع من الأسر يخير التوجه إلى السوق، حسب تعبير بوطالب، فضلا عن تغير أنماط العيش واختفاء «بيت المؤونة» في المساكن الحديثة  ..

أما من الناحية الغذائية والصحية، فقد أكد الدكتور والمختص في التغذية، الطاهر الغربي في تصريح لـ»الصباح» على أهمية تقليد «العولة» من الناحية الغذائية بفضل الحفظ السليم للمواد الغذائية التي هي في الأصل طبيعية، بدءا من عملية اقتنائها من المنتج مباشرة، مرورا بالتخزين، وصولا إلى استهلاكها وهي محافظة على قيمتها الغذائية ونكهاتها الطبيعية الأصلية،حسب قوله.

وأشار الدكتور الغربي في ذات السياق إلى الأهمية البالغة التي أولتها المنظمة العالمية للأغذية والزراعة «الفاو» لظاهرة «العولة» في بلداننا نظرا لأهمية دورها في تحقيق الأمن الغذائي العائلي باعتبار أن العائلة هي النواة الأولى لتوفير الأمن الغذائي وهي التي تؤمن الغذاء على طول السنة.

كما لا ننسى هنا دور «العولة» وأهميتها الاقتصادية، من خلال ترشيد النفقات للأسر التونسية بفضل تخزين المواد بأسعار منخفضة في مواسم الوفرة يوفر في ما بين 30 و50 في المائة من مصاريف العائلة التونسية في فصل الصيف،  وتمثل من جهة أخرى للعديد من ربات البيوت مصدر دخل، والأهم أنها تظل وسيلة مثلى لمواجهة الأزمات المالية التي قد تواجه أية أسرة تونسية.

مواقع التواصل الاجتماعي وعودة الظاهرة

ما يلفت الانتباه في تناولنا لظاهرة «العولة» بالدرس، هو دخول مواقع التواصل الاجتماعي على الخط، كوسيلة لإعادة هذا الموروث في المجتمع، فاليوم نرى العديد من صناع المحتوى يسلطون الضوء على الظاهرة بأشكال مختلفة، فنجد من يستعين بنساء كبيرات في السن ونقصد هنا «الجدة» لتقديم محتوى تحضير أكلات «زمنية» وتقليدية وإعداد «العولة» حسب تقاليد كل جهة من جهات البلاد.

كما نجد شقا آخر من صناع المحتوى الذين يقدمون آليات ووسائل حديثة مبتكرة لتثمين تقاليد العولة، ونذكر هنا على سبيل المثال تقنية التسخين البارد عبر تجهيزات حديثة للمواد الغذائية وتجفيف عصري للفواكه والغلال، والتي تتسابق كبرى شركات الأجهزة الكهربائية والالكترونية لدعم ومساندة هذا المحتوى ...

وحول دور وسائل التواصل الاجتماعي في تغذية الظاهرة، اعتبر الأستاذ في علم الاجتماع والانتروبولوجيا، نجيب بوطالب في حديثة لـ»الصباح»، «أن نزيف التسويق والإغراءات عبر هذه القنوات طمس تقاليد «العولة» في تونس، وحتى أننا اليوم نجد في بعض الصفحات الاستعانة بنساء كبار في السن لتقديم محتوى يثمن تقاليد «العولة»، لكنه في الأصل لا يتعدى العشرة، وهو عدد ضئيل لا يمكن أن يعيد الظاهرة إلى سالف عهدها ولا يمكن أن يجاري نزيف التسويق والتجارة الالكترونية التي تبدو قنوات استهلاك أسهل بكثير من القنوات التقليدية»، حسب تعبيره.

من جهته، أكد الدكتور في التغذية الطاهر الغربي إن ما يمرر من محتوى يتعلق بـ»العولة» والتخزين عبر وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي، مازال محتشما، لكن بالمقابل نجد عودة قوية عبر هذه القنوات للصناعة الغذائية  الأصلية والطبيعية مما يمكن لهذا التوجه أن يثمن تقاليد «العولة» وحفظ المواد الغذائية وحسن التصرف في تخزينها مستقبلا.

«العولة» ودورها الصحي والغذائي

أجمع الخبراء في مجال الصحة والتغذية، أن تقليد «العولة» يعد من أهم العادات الغذائية التي تجنب المستهلكين من الإصابة بالأمراض المزمنة، حيث فسر الدكتور الغربي في هذا السياق، أن المواد المخزنة والتي تخزنها العائلات التونسية  بما يعرف بـ»العولة» هي بالأساس مواد غذائية طبيعية قابلة للتخزين دون مواد حافظة تفقدها قيمتها الغذائية على غرار الحبوب والزيوت والفواكه والغلال...

وأكد الدكتور في حديثه لـ«الصباح» أن هذه المواد تعرف بمكونات «الحمية الغذائية المتوسطية» التي أثبتت الدراسات العلمية مدى جودتها وأهميتها الصحية، بما من شأنها الحد من توسع أمراض العصر على غرار السكري وارتفاع ضغط الدم والسمنة.

ودعا الغربي في ذات السياق إلى ضرورة استعمال مواد التخزين التقليدية هي في تخزين وحفظ «العولة» على غرار الخزف وكل المواد المصنوعة طبيعيا وفي البيوت،  بعيدا عن استعمالات المواد المعاد تدويرها والمواد البلاستيكية نظرا لخطورتها على صحة المستهلك،حسب قوله.

بحسب الأستاذ في علم الاجتماع، فإن المطلوب اليوم لعودة هذه التقاليد لدى المجتمع التونسي، هو بناء إستراتيجية وطنية تتشارك فيها كل الجهات المتداخلة من صحة وتعليم ومجتمع مدني، والتفكير في إدراج هذه العادة باعتبارها جزءا من الموروث الثقافي التونسي في البرامج التعليمية للوقوف عند أهميتها ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا.

وفي نفس الاتجاه، ذهب الدكتور الغربي إلى ضرورة إدراج هذه الثقافة وسلوكيات الغذاء السليم مع التركيز على العولة ودورها الغذائي والصحي والاقتصادي والاجتماعي في البرامج التعليمية في تونس منذ المراحل التحضيرية ورياض الأطفال، حسب تعبيره.

كما يرى الأستاذ بوطالب أن الظاهرة في اتجاه الاندثار مما يستوجب التسريع في تثمينها ومزيد نشرها في النسيج الاجتماعي عبر تكوين جمعيات خاصة بها وإدخالها في البرامج التعليمية، دون أن ننسى دور وسائل الإعلام وحتى قنوات التواصل الاجتماعي التي من المهم أن تشتغل كل هذه الجهات في إعادة هذا الموروث للحفاظ عليه من الاندثار في قادم الأيام، حسب ما أفاد به بوطالب.

مفهوم «العولة» في سطور

للوقوف عند مفهوم «العولة» نجد أنها تقليد تونسي قديم لتخزين المواد الغذائية خلال أشهر فصل الصيف،  بهدف استهلاكها في فصل الشتاء، لتجنب الخصاصة ونقص الغذاء  في أوقات الأزمات أو مواسم الجفاف، وهي تقليد يعتمد أساسا على تجفيف الأغذية طبيعيًا بالشمس وحفظها في أوانٍ فخارية داخل غرف مخصصة تسمى «بيت المؤونة».

وقد نشأت الممارسة التقليدية لتخزين المحاصيل المحصودة، والمعروفة أيضا باسم “العولة”، من الحاجة إلى التوفير وأيضا العيش الكريم والخصاصة، والواقع أن “العولة” تهدف إلى ضمان حصول الأسر على اكتفائها الغذائي الذاتي.. تكون مكوناتها بالأساس؛ الكسكسي المنزلي، الذي  يُجفف بالشمس ويُخزن بكميات كبيرة وهو العمود الفقري لـ»العولة»، تليه الحبوب والبقوليات ومواد أخرى على غرار زيت الزيتون والزيتون والفواكه والتوابل واللحوم المجففة...

وتختلف عادات التونسيين في حفظ وتخزين المواد الغذائية من جهة إلى أخرى، لكن تواصل تواجدها إلى اليوم اقتصر على بعض المناطق التي أصرت على المحافظة على هذه العادة والموروث الثقافي والاجتماعي، على غرار مناطق الساحل والجنوب الغربي والجنوب الشرقي بالأخص.

وأهم المواد الغذائية اليوم التي مازالت تخزن وتعتمدها العائلات التونسية في «العولة»، هي الزيتون وزيت الزيتون والتمور وغيره...

وفاء بن محمد

بدأت «تختفي» منذ سنوات..   «العولة».. موروث تقليدي بين مخاطر الاندثار واستعادة «البريق»

- أستاذ في علم الاجتماع والانتروبولوجيا لـ «الصباح»: «العولة» تدل على التعاون العائلي وانتشار «الأسرة النواتية»

- دكتور مختص في التغذية، لـ «الصباح» : تقليد «العولة» له دور هام في تحقيق الأمن الغذائي العائلي

 

ظلت تقاليد التونسيين في «العولة» في السنوات الأخيرة محتشمة، حتى أصبحت مهددة بالاندثار، لكن الملفت للنظر مؤخرا، أن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في استعادة هذا التقليد بريقه وصار هذا الموروث من أولويات العائلة التونسية، حول هذه الظاهرة الغذائية والاجتماعية والاقتصادية تحدثت «الصباح» مع عدد من المختصين مع شهادات حية، للوقوف عند أهمية «العولة» ودور وسائل التواصل الاجتماعي في عودتها وسبل تثمينها وخاصة كيفية الحفاظ عليها كموروث ثقافي تونسي ...

في باحة منزل الخالة «هادية» في جهة قليبية من ولاية نابل، تعترضك منذ الوهلة الأولى عند الدخول، ثلة من النساء والأطفال، تتوسطهم أواني فضية مختلفة الأحجام وأخرى خزفية، وأكياس من مادة السميد ولوازم «العولة»، وفي مشهد حركي نشيط، يتقاسم فيه الحضور تجهيز وإعداد «الكسكسي» للتخزين وسط قهقهات النساء ولعب الأطفال وتوصيات  الخالة «هادية» الدقيقة ..

وفي حديثها لـ«الصباح»، قالت الخالة «هادية» البالغة من العمر الـ 74 عاما إن تقاليد «العولة» في بيتها عادة مقدسة، حافظت عليها منذ سنوات وتُورّثها اليوم لبناتها وأحفادها حتى تظل موروثا للأجيال القادمة في عائلتها الموسعة، مؤكدة أن هذا التقليد سر نجاحها في حسن التصرف في مصاريف البيت لسنوات طويلة، والأهم حسب الخالة «هادية» أنه كان دافعا ايجابيا لتجميع كل أفراد العائلة سنويا رغم التزاماتهم ومشاغلهم، وهي التي تعد الجدة لعشرة أحفاد وأم لخمس بنات وولدين...

في أحد أركان المنزل الذي زارته «الصباح»، تحدثنا إلى ابنة الخالة «هادية»، الصغرى، شابة تبلغ من العمر 42 سنة، أكدت أنها من بين النساء المحافظات على تقاليد «العولة» في بيتها الصغير في العاصمة تونس، مبينة أن «العولة الكبيرة»،  كما وصفتها تكون مع العائلة الموسعة في فصل الصيف، في حين أنها تقوم بـ»العولة الصغيرة» في شقتها الصغيرة بوسائل عصرية  بشكل متواصل على كامل أشهر السنة...

وأكدت «مريم» البنت الصغرى للخالة «هادية» أنها تعتبر نفسها من بين أفضل الشابات اللواتي في سنها، في مجال تجفيف وتخزين الفواكه والغلال، حتى أنها أطلقت محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي «الانستراغرام» في هذا الغرض وتستقطب اليوم الآلاف من المعجبين على صفحتها الرسمية على مواقع الانترنت، مبينة أن هذا التوجه يؤكد أهمية تثمين هذا الموروث الثقافي التونسي أو ما يعرف بـ»العولة» حتى يتواصل مع الأجيال القادمة، حسب تعبيرها.

«العولة» موروث اجتماعي وثقافي واقتصادي  

اليوم يفسر خبراء علم الاجتماع الظاهرة على أنها تقليد يجسد فلسفة الاكتفاء الذاتي والاستعداد للمستقبل، ويحمل أبعادا ثقافية واقتصادية وصحية عميقة، وبالتالي فنحن نراه من الناحية الاجتماعية مكسبا وموروثا اجتماعيا ثريا، فسره الأستاذ في علم الاجتماع والانتروبولوجيا، نجيب بوطالب في حديثه لـ «الصباح» بأنه ظاهرة اجتماعية تعرفها العديد من البلدان الخارجية، وحافظت عليها تونس  لعقود طويلة، مبينا أن هذه الظاهرة تدل في الأصل على التعاون العائلي في إعداد وتمويل الأكلات بأنواعها المختلفة للمستقبل.

وأضاف الأستاذ بوطالب أن «العولة» هو تقليد يدل على عقلانية الاقتصاد العائلي رغم أنها تراجعت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ في ظل توسع آليات ووسائل الإغراء التسويقي للسلع، إلى جانب ارتفاع تكاليف «العولة» وضيق الوقت بالنسبة للنساء العاملات، إلا أنها مازالت موجودة في عدة جهات من البلاد ...

وأوضح بوطالب في ذات السياق أن أبرز العوامل والأسباب المباشرة وراء تراجع الظاهرة هي التي تتعلق بقوة اقتصاد السوق خاصة في المدن الصغيرة والأرياف، وخروج المرأة التونسية إلى العمل ولم يتسن لها التصرف الصحيح في الوقت، فضلا عن ارتفاع تكاليف «العولة» من شراء وتخزين وحفظ وكذلك  نقص المواد الخام بسبب الجفاف ...

كما يظل عامل انتشار «الأسرة النواتية» المتكونة من أب وأم وأبناء فقط أبرز أسباب تراجع الظاهرة لأن هذا النوع من الأسر يخير التوجه إلى السوق، حسب تعبير بوطالب، فضلا عن تغير أنماط العيش واختفاء «بيت المؤونة» في المساكن الحديثة  ..

أما من الناحية الغذائية والصحية، فقد أكد الدكتور والمختص في التغذية، الطاهر الغربي في تصريح لـ»الصباح» على أهمية تقليد «العولة» من الناحية الغذائية بفضل الحفظ السليم للمواد الغذائية التي هي في الأصل طبيعية، بدءا من عملية اقتنائها من المنتج مباشرة، مرورا بالتخزين، وصولا إلى استهلاكها وهي محافظة على قيمتها الغذائية ونكهاتها الطبيعية الأصلية،حسب قوله.

وأشار الدكتور الغربي في ذات السياق إلى الأهمية البالغة التي أولتها المنظمة العالمية للأغذية والزراعة «الفاو» لظاهرة «العولة» في بلداننا نظرا لأهمية دورها في تحقيق الأمن الغذائي العائلي باعتبار أن العائلة هي النواة الأولى لتوفير الأمن الغذائي وهي التي تؤمن الغذاء على طول السنة.

كما لا ننسى هنا دور «العولة» وأهميتها الاقتصادية، من خلال ترشيد النفقات للأسر التونسية بفضل تخزين المواد بأسعار منخفضة في مواسم الوفرة يوفر في ما بين 30 و50 في المائة من مصاريف العائلة التونسية في فصل الصيف،  وتمثل من جهة أخرى للعديد من ربات البيوت مصدر دخل، والأهم أنها تظل وسيلة مثلى لمواجهة الأزمات المالية التي قد تواجه أية أسرة تونسية.

مواقع التواصل الاجتماعي وعودة الظاهرة

ما يلفت الانتباه في تناولنا لظاهرة «العولة» بالدرس، هو دخول مواقع التواصل الاجتماعي على الخط، كوسيلة لإعادة هذا الموروث في المجتمع، فاليوم نرى العديد من صناع المحتوى يسلطون الضوء على الظاهرة بأشكال مختلفة، فنجد من يستعين بنساء كبيرات في السن ونقصد هنا «الجدة» لتقديم محتوى تحضير أكلات «زمنية» وتقليدية وإعداد «العولة» حسب تقاليد كل جهة من جهات البلاد.

كما نجد شقا آخر من صناع المحتوى الذين يقدمون آليات ووسائل حديثة مبتكرة لتثمين تقاليد العولة، ونذكر هنا على سبيل المثال تقنية التسخين البارد عبر تجهيزات حديثة للمواد الغذائية وتجفيف عصري للفواكه والغلال، والتي تتسابق كبرى شركات الأجهزة الكهربائية والالكترونية لدعم ومساندة هذا المحتوى ...

وحول دور وسائل التواصل الاجتماعي في تغذية الظاهرة، اعتبر الأستاذ في علم الاجتماع والانتروبولوجيا، نجيب بوطالب في حديثة لـ»الصباح»، «أن نزيف التسويق والإغراءات عبر هذه القنوات طمس تقاليد «العولة» في تونس، وحتى أننا اليوم نجد في بعض الصفحات الاستعانة بنساء كبار في السن لتقديم محتوى يثمن تقاليد «العولة»، لكنه في الأصل لا يتعدى العشرة، وهو عدد ضئيل لا يمكن أن يعيد الظاهرة إلى سالف عهدها ولا يمكن أن يجاري نزيف التسويق والتجارة الالكترونية التي تبدو قنوات استهلاك أسهل بكثير من القنوات التقليدية»، حسب تعبيره.

من جهته، أكد الدكتور في التغذية الطاهر الغربي إن ما يمرر من محتوى يتعلق بـ»العولة» والتخزين عبر وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي، مازال محتشما، لكن بالمقابل نجد عودة قوية عبر هذه القنوات للصناعة الغذائية  الأصلية والطبيعية مما يمكن لهذا التوجه أن يثمن تقاليد «العولة» وحفظ المواد الغذائية وحسن التصرف في تخزينها مستقبلا.

«العولة» ودورها الصحي والغذائي

أجمع الخبراء في مجال الصحة والتغذية، أن تقليد «العولة» يعد من أهم العادات الغذائية التي تجنب المستهلكين من الإصابة بالأمراض المزمنة، حيث فسر الدكتور الغربي في هذا السياق، أن المواد المخزنة والتي تخزنها العائلات التونسية  بما يعرف بـ»العولة» هي بالأساس مواد غذائية طبيعية قابلة للتخزين دون مواد حافظة تفقدها قيمتها الغذائية على غرار الحبوب والزيوت والفواكه والغلال...

وأكد الدكتور في حديثه لـ«الصباح» أن هذه المواد تعرف بمكونات «الحمية الغذائية المتوسطية» التي أثبتت الدراسات العلمية مدى جودتها وأهميتها الصحية، بما من شأنها الحد من توسع أمراض العصر على غرار السكري وارتفاع ضغط الدم والسمنة.

ودعا الغربي في ذات السياق إلى ضرورة استعمال مواد التخزين التقليدية هي في تخزين وحفظ «العولة» على غرار الخزف وكل المواد المصنوعة طبيعيا وفي البيوت،  بعيدا عن استعمالات المواد المعاد تدويرها والمواد البلاستيكية نظرا لخطورتها على صحة المستهلك،حسب قوله.

بحسب الأستاذ في علم الاجتماع، فإن المطلوب اليوم لعودة هذه التقاليد لدى المجتمع التونسي، هو بناء إستراتيجية وطنية تتشارك فيها كل الجهات المتداخلة من صحة وتعليم ومجتمع مدني، والتفكير في إدراج هذه العادة باعتبارها جزءا من الموروث الثقافي التونسي في البرامج التعليمية للوقوف عند أهميتها ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا.

وفي نفس الاتجاه، ذهب الدكتور الغربي إلى ضرورة إدراج هذه الثقافة وسلوكيات الغذاء السليم مع التركيز على العولة ودورها الغذائي والصحي والاقتصادي والاجتماعي في البرامج التعليمية في تونس منذ المراحل التحضيرية ورياض الأطفال، حسب تعبيره.

كما يرى الأستاذ بوطالب أن الظاهرة في اتجاه الاندثار مما يستوجب التسريع في تثمينها ومزيد نشرها في النسيج الاجتماعي عبر تكوين جمعيات خاصة بها وإدخالها في البرامج التعليمية، دون أن ننسى دور وسائل الإعلام وحتى قنوات التواصل الاجتماعي التي من المهم أن تشتغل كل هذه الجهات في إعادة هذا الموروث للحفاظ عليه من الاندثار في قادم الأيام، حسب ما أفاد به بوطالب.

مفهوم «العولة» في سطور

للوقوف عند مفهوم «العولة» نجد أنها تقليد تونسي قديم لتخزين المواد الغذائية خلال أشهر فصل الصيف،  بهدف استهلاكها في فصل الشتاء، لتجنب الخصاصة ونقص الغذاء  في أوقات الأزمات أو مواسم الجفاف، وهي تقليد يعتمد أساسا على تجفيف الأغذية طبيعيًا بالشمس وحفظها في أوانٍ فخارية داخل غرف مخصصة تسمى «بيت المؤونة».

وقد نشأت الممارسة التقليدية لتخزين المحاصيل المحصودة، والمعروفة أيضا باسم “العولة”، من الحاجة إلى التوفير وأيضا العيش الكريم والخصاصة، والواقع أن “العولة” تهدف إلى ضمان حصول الأسر على اكتفائها الغذائي الذاتي.. تكون مكوناتها بالأساس؛ الكسكسي المنزلي، الذي  يُجفف بالشمس ويُخزن بكميات كبيرة وهو العمود الفقري لـ»العولة»، تليه الحبوب والبقوليات ومواد أخرى على غرار زيت الزيتون والزيتون والفواكه والتوابل واللحوم المجففة...

وتختلف عادات التونسيين في حفظ وتخزين المواد الغذائية من جهة إلى أخرى، لكن تواصل تواجدها إلى اليوم اقتصر على بعض المناطق التي أصرت على المحافظة على هذه العادة والموروث الثقافي والاجتماعي، على غرار مناطق الساحل والجنوب الغربي والجنوب الشرقي بالأخص.

وأهم المواد الغذائية اليوم التي مازالت تخزن وتعتمدها العائلات التونسية في «العولة»، هي الزيتون وزيت الزيتون والتمور وغيره...

وفاء بن محمد