في سهرة الإثنين 28 جويلية الجاري، احتفى مهرجان الحمامات الدولي في دورته التاسعة والخمسين – 59 – بعرض مسرحي تاريخي مميز حمل عنوان «سيدة كركوان»، الذي استعاد لحظة مفصلية من تاريخ مدينة كركوان الفينيقية (يوجد موقع كركوان الأثري الذي يعود تاريخه إلى العصر البوني بولاية نابل)، حين تعرضت تلك الحاضرة البونية ذات الأهمية الاستثنائية لهجوم روماني عنيف في سنة 256 قبل الميلاد. هذا العمل الذي أخرجه كل من وجدي القايدي وحسام الساحلي، وشارك فيه فريق يضم أكثر من أربعين ممثلا وراقصا ومغنيا من ولاية نابل، تمكّن من بناء تجربة فنية شاملة جمعت بين المضمون التاريخي العميق والأداء الفني المعاصر بتقنيات سينوغرافية متطورة.
في قلب العرض، تقف مريم العريّض مجسّدة دور «سيدة كركوان» بأداء مُلفت، لا يعتمد فقط على النص المنطوق، بل على تعبير جسدي داخلي يشي بالصلابة والعزة والقوة الناعمة. تمكّنت الممثلة من تجسيد رمزية المرأة – المدينة، التي لا تستسلم رغم الخراب، وتحوّل فقدها إلى شهادة.
بقية الممثلين، ومنهم منتصر بزّاز، وعزيز بوسلام، ونور عوينات، وديما الساحلي، قدّموا أداء جماعيا منسجما، جسّد الصراعات الاجتماعية والسياسية والعاطفية التي تعيشها المدينة. تميزت العلاقات الدرامية بالتوتر والحيوية، ما أضفى ديناميكية مشهدية متجددة.
فبدا الأداء التمثيلي وكأنه امتداد طبيعي للنص، إذ تميّز بالجدية والحميمية في آن واحد، حيث جسّد الممثلون شخصياتهم بعمق نفسي إنساني، مع التأكيد على التنوع الطبقي والاجتماعي ضمن المدينة. تألق مريم العريّض في دور «سيدة كركوان» لم يكن بالكلمات وحدها، بل بحركة الجسد وتعبيرات الوجه التي عكست صلابة المرأة الفينيقية التي تحمل ذاكرة الحضارة المنسية، وحوّلتها إلى صوت تاريخي ينبض بالحياة.
الموسيقى والأزياء.. أدوات إحياء الرماد
أما الموسيقى التي رافقت العرض، فقد مثّلت جسرا بين الماضي والحاضر، فتوزّعت الألحان بين الطابع الطقوسي في مشاهد العبادة، والحربي في لحظات الغزو، والحزين في لحظات الوداع والفقد.
أما الأزياء، فكانت درامية بامتياز. استندت إلى مصادر تاريخية دقيقة لتجسيد اللباس الفينيقي، من زيّ الكهنة إلى ملابس النساء، ومن دروع الجنود إلى لباس التجار والعامة. وقد ساعدت هذه الملابس في التعبير عن الطبقية، والتنوع العقائدي، بل وحتى الحالة النفسية للشخصيات، فكانت الأزياء بدورها مشاركة في بناء الدلالة.
ويأتي توظيف الإضاءة في العرض كعنصر محوري من عناصر السينوغرافيا التي تساهم في صياغة المزاج الدرامي، والتحولات الزمنية بين مشاهد الازدهار والسلام، ومشاهد الحرب والدمار. استخدم فريق الإضاءة تقنيات متقدمة في التنقل بين ألوان دافئة تعكس حياة المدينة ونشاطها التجاري والثقافي، وألوان قاتمة توحي بالتهديد العسكري والرعب الذي يفرضه الاجتياح الروماني، مركزين على الديناميكية في التغيرات الطارئة على الأحداث.
وبالتالي، فإن توظيف الإضاءة لم يكن فقط عسكريا أو تاريخيا، بل كان مقترنا بلمسات فنية تبرز الحزن والأسى في اللحظات المفصلية، كما في المشاهد الأخيرة التي جمعت بين مأساة المدينة وهزلية المصير الشخصي.
ولعبت السينوغرافيا الرقمية دورا أساسيا في إعادة بناء المدينة الفينيقية والصورة المعمارية ذات التفرد بجمالها وبراعتها التقنية. استخدمت الخلفيات المتحركة بشكل مدروس، عكست أحياء كركوان، وأزقتها، وأسواقها، وموانيها، مما منح المتفرج شعورا بالغوص في فضاء تاريخي حقيقي. هذه الخلفيات لم تكن فقط زخرفة بصرية، بل عنصرا سرديا يحمل دلالات زمنية ووظيفية متعددة، ساهمت في الانتقال السلس بين حالات السلم والحرب.
نص المسرحية وقراءته العميقة
وقدّم النص المشترك بإمضاء كلّ من الباحثة خولة بن نور، وشادية الطرودي، وأمين خماسي، تأريخا محكما مستندا إلى مصادر تاريخية، لكنه لم يكتفِ بسرد الوقائع السياسية والعسكرية، بل ترك مساحة واسعة لتخييل إنساني عاطفي، عبر العلاقة المأساوية بين شخصيتين من طبقتين أرستقراطيتين متنازعتين، لتُفسح المجال لقراءة نقدية للصراع الطبقي والاجتماعي في ذلك الزمن. تفادى النص تقديم الحب كمثال للخلاص السهل، بل رسمه كحالة هشاشة إنسانية في قلب زلزال الأحداث السياسية والاجتماعية.
لم تكن «سيدة كركوان» مجرد استعراض تاريخي، بل عمل فني متكامل يستثمر في تناغم الفنون المسرحية من تمثيل وكوريغرافيا وغناء، مدعوم بعناصر سينوغرافية رقمية وإضاءة ذكية، بحيث يتحقق فيه انسجام يجسد ذاكرة حضارة منسية بأبعادها الاقتصادية، الدينية، السياسية والاجتماعية.
كما تميّز العرض بمراوحة ذكية بين المشاهد الناطقة باللهجة التونسية، والمقاطع المقدّمة باللغة الفينيقية، ما أضفى على العمل طابعا فنيا مركبا، يجمع بين التقرّب من المتفرج المعاصر والوفاء للأصل التاريخي. شكّلت هذه الازدواجية اللغوية جسرا رمزيا بين زمنين: الحاضر التونسي بلهجته اليومية، والماضي البونيقي بلغته المندثرة، وهو ما دفع بالجمهور إلى تفاعل حيّ تعدّى حدود الفهم اللغوي، خاصة مع حضور الترجمة الفورية على الشاشة العلوية. وقد تجلّى هذا التفاعل بشكل خاص في المشاهد التي أعادت تمثيل الحياة في الأسواق الشعبية، حيث عبق الألوان والأصوات وحركة الباعة، وهي مشاهد بُنيت بعناية لتجسيد الحيوية الاقتصادية والاجتماعية لكركوان في لحظات ازدهارها.
وقد تكون مسرحية «سيدة كركوان»، بكل بساطة، دعوة إلى إعادة التفكير في الذاكرة التاريخية عبر المسرح، ليس كأرشيف، بل كفعل فني ينبض بالحياة.
إيمان عبد اللطيف
❞سيدة كركوان: تجربة فنية جمعت بين المضمون التاريخي العميق والأداء الفني المعاصر بتقنيات سينوغرافية متطورة❝
في سهرة الإثنين 28 جويلية الجاري، احتفى مهرجان الحمامات الدولي في دورته التاسعة والخمسين – 59 – بعرض مسرحي تاريخي مميز حمل عنوان «سيدة كركوان»، الذي استعاد لحظة مفصلية من تاريخ مدينة كركوان الفينيقية (يوجد موقع كركوان الأثري الذي يعود تاريخه إلى العصر البوني بولاية نابل)، حين تعرضت تلك الحاضرة البونية ذات الأهمية الاستثنائية لهجوم روماني عنيف في سنة 256 قبل الميلاد. هذا العمل الذي أخرجه كل من وجدي القايدي وحسام الساحلي، وشارك فيه فريق يضم أكثر من أربعين ممثلا وراقصا ومغنيا من ولاية نابل، تمكّن من بناء تجربة فنية شاملة جمعت بين المضمون التاريخي العميق والأداء الفني المعاصر بتقنيات سينوغرافية متطورة.
في قلب العرض، تقف مريم العريّض مجسّدة دور «سيدة كركوان» بأداء مُلفت، لا يعتمد فقط على النص المنطوق، بل على تعبير جسدي داخلي يشي بالصلابة والعزة والقوة الناعمة. تمكّنت الممثلة من تجسيد رمزية المرأة – المدينة، التي لا تستسلم رغم الخراب، وتحوّل فقدها إلى شهادة.
بقية الممثلين، ومنهم منتصر بزّاز، وعزيز بوسلام، ونور عوينات، وديما الساحلي، قدّموا أداء جماعيا منسجما، جسّد الصراعات الاجتماعية والسياسية والعاطفية التي تعيشها المدينة. تميزت العلاقات الدرامية بالتوتر والحيوية، ما أضفى ديناميكية مشهدية متجددة.
فبدا الأداء التمثيلي وكأنه امتداد طبيعي للنص، إذ تميّز بالجدية والحميمية في آن واحد، حيث جسّد الممثلون شخصياتهم بعمق نفسي إنساني، مع التأكيد على التنوع الطبقي والاجتماعي ضمن المدينة. تألق مريم العريّض في دور «سيدة كركوان» لم يكن بالكلمات وحدها، بل بحركة الجسد وتعبيرات الوجه التي عكست صلابة المرأة الفينيقية التي تحمل ذاكرة الحضارة المنسية، وحوّلتها إلى صوت تاريخي ينبض بالحياة.
الموسيقى والأزياء.. أدوات إحياء الرماد
أما الموسيقى التي رافقت العرض، فقد مثّلت جسرا بين الماضي والحاضر، فتوزّعت الألحان بين الطابع الطقوسي في مشاهد العبادة، والحربي في لحظات الغزو، والحزين في لحظات الوداع والفقد.
أما الأزياء، فكانت درامية بامتياز. استندت إلى مصادر تاريخية دقيقة لتجسيد اللباس الفينيقي، من زيّ الكهنة إلى ملابس النساء، ومن دروع الجنود إلى لباس التجار والعامة. وقد ساعدت هذه الملابس في التعبير عن الطبقية، والتنوع العقائدي، بل وحتى الحالة النفسية للشخصيات، فكانت الأزياء بدورها مشاركة في بناء الدلالة.
ويأتي توظيف الإضاءة في العرض كعنصر محوري من عناصر السينوغرافيا التي تساهم في صياغة المزاج الدرامي، والتحولات الزمنية بين مشاهد الازدهار والسلام، ومشاهد الحرب والدمار. استخدم فريق الإضاءة تقنيات متقدمة في التنقل بين ألوان دافئة تعكس حياة المدينة ونشاطها التجاري والثقافي، وألوان قاتمة توحي بالتهديد العسكري والرعب الذي يفرضه الاجتياح الروماني، مركزين على الديناميكية في التغيرات الطارئة على الأحداث.
وبالتالي، فإن توظيف الإضاءة لم يكن فقط عسكريا أو تاريخيا، بل كان مقترنا بلمسات فنية تبرز الحزن والأسى في اللحظات المفصلية، كما في المشاهد الأخيرة التي جمعت بين مأساة المدينة وهزلية المصير الشخصي.
ولعبت السينوغرافيا الرقمية دورا أساسيا في إعادة بناء المدينة الفينيقية والصورة المعمارية ذات التفرد بجمالها وبراعتها التقنية. استخدمت الخلفيات المتحركة بشكل مدروس، عكست أحياء كركوان، وأزقتها، وأسواقها، وموانيها، مما منح المتفرج شعورا بالغوص في فضاء تاريخي حقيقي. هذه الخلفيات لم تكن فقط زخرفة بصرية، بل عنصرا سرديا يحمل دلالات زمنية ووظيفية متعددة، ساهمت في الانتقال السلس بين حالات السلم والحرب.
نص المسرحية وقراءته العميقة
وقدّم النص المشترك بإمضاء كلّ من الباحثة خولة بن نور، وشادية الطرودي، وأمين خماسي، تأريخا محكما مستندا إلى مصادر تاريخية، لكنه لم يكتفِ بسرد الوقائع السياسية والعسكرية، بل ترك مساحة واسعة لتخييل إنساني عاطفي، عبر العلاقة المأساوية بين شخصيتين من طبقتين أرستقراطيتين متنازعتين، لتُفسح المجال لقراءة نقدية للصراع الطبقي والاجتماعي في ذلك الزمن. تفادى النص تقديم الحب كمثال للخلاص السهل، بل رسمه كحالة هشاشة إنسانية في قلب زلزال الأحداث السياسية والاجتماعية.
لم تكن «سيدة كركوان» مجرد استعراض تاريخي، بل عمل فني متكامل يستثمر في تناغم الفنون المسرحية من تمثيل وكوريغرافيا وغناء، مدعوم بعناصر سينوغرافية رقمية وإضاءة ذكية، بحيث يتحقق فيه انسجام يجسد ذاكرة حضارة منسية بأبعادها الاقتصادية، الدينية، السياسية والاجتماعية.
كما تميّز العرض بمراوحة ذكية بين المشاهد الناطقة باللهجة التونسية، والمقاطع المقدّمة باللغة الفينيقية، ما أضفى على العمل طابعا فنيا مركبا، يجمع بين التقرّب من المتفرج المعاصر والوفاء للأصل التاريخي. شكّلت هذه الازدواجية اللغوية جسرا رمزيا بين زمنين: الحاضر التونسي بلهجته اليومية، والماضي البونيقي بلغته المندثرة، وهو ما دفع بالجمهور إلى تفاعل حيّ تعدّى حدود الفهم اللغوي، خاصة مع حضور الترجمة الفورية على الشاشة العلوية. وقد تجلّى هذا التفاعل بشكل خاص في المشاهد التي أعادت تمثيل الحياة في الأسواق الشعبية، حيث عبق الألوان والأصوات وحركة الباعة، وهي مشاهد بُنيت بعناية لتجسيد الحيوية الاقتصادية والاجتماعية لكركوان في لحظات ازدهارها.
وقد تكون مسرحية «سيدة كركوان»، بكل بساطة، دعوة إلى إعادة التفكير في الذاكرة التاريخية عبر المسرح، ليس كأرشيف، بل كفعل فني ينبض بالحياة.