تحليل إخباري: ترامب بين كييف وكنشاسا.. عندما "يصنع السلام" في "ظلام المناجم"
مقالات الصباح
في زمن تتبدل فيه موازين القوى وتتشابك فيه النزاعات، لا يكون السلام دائما غاية بل وسيلة، وتكون القضايا التي بني عليها عناوين واضحة للعيان، تخفي بنودا قد تطبق في الظلام.
بين كييف وكنشاسا، تجري اليوم لعبة مختلفة؛ لعبة السلام التي تختبئ خلفها مصالح أكبر وأعمق، مصالح تتعلق بما تحت الأرض قبل ما فوقها.
ففي ظلال مناجم المعادن النادرة التي تزخر بها هذين الدولتين، ترسم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خريطة جديدة للهيمنة، خريطة لا تعتمد على المدافع والصواريخ والمسيرات وحدها، بل على المعادن التي تقود مستقبل العالم. هذه ليست مجرد اتفاقات سلام، بل صفقات السلطة التي تصنعها الأيادي الخفية في ظلام المناجم.
حين رفعت حكومة الكونغو الديمقراطية في مارس الماضي، طلبا رسميا إلى إدارة ترامب تدعو فيه إلى التدخل للمساعدة في احتواء تصعيد المتمردين المدعومين من رواندا، كانت تبحث عن غطاء دولي قوي لإنقاذ شرقها من الانهيار، لكنها -من حيث لا تدري- فتحت الباب أمام مشروع أمريكي أكبر بكثير من مجرد الوساطة، مشروع يقوم على فكرة بسيطة: إذا أردت أن تملك المستقبل، فعليك أولا أن تسيطر على مصادره.
جاء اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا كمحطة تتويج لتحرك أمريكي ذكي، استثمر في لحظة إقليمية متوترة، واستغل وساطة قطرية مرنة وناجعة، ودفع باتجاه صيغة اتفاق ثلاثية الأبعاد: تهدئة أمنية ترضي الفرقاء، وغطاء إفريقي يمنح الشرعية، وإطار اقتصادي يعيد تشكيل ملكية المعادن.
من شرق أوروبا إلى أدغال إفريقيا
ولعل اتفاق الكونغو لم يكن معزولا، بل جاء في سياق تصاعدي لسياسة أمريكية واضحة اعتمدتها إدارة ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض: إعادة السيطرة على سلاسل الإمداد الإستراتيجية للمعادن النادرة، لمواجهة احتكار الصين لهذا السوق انتاجا وبيعا واستغلالا.
والمثال الأول على هذه السياسة كان اتفاق الموارد المعدنية مع أوكرانيا، الموقع في أفريل الماضي، والذي منح شركات أمريكية امتيازات مباشرة في استخراج التيتانيوم، والغرافيت، والليثيوم من باطن الأرض الأوكرانية، في مقابل دعم مالي وتقني لكييف في حربها مع روسيا، صاغها ترامب وإدارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في شكل صندوق مشترك أقفاله ومفاتحه محفوظة في البيت الأبيض.
ما فعله ترامب في شرق أوروبا أعاد تطبيقه حرفيا في قلب إفريقيا، فشرق الكونغو -حيث ينشط المتمردون من حركة 23 مارس المدعومة من رواندا- يوجد فيه مناطق -مثل «نورث كيفو» و»شابوندا» – التي تعتبر من أغنى مناطق العالم بالكولتان والكوبالت، وهما المادتان الأساسيتان في الصناعات الدقيقة والرقائق وأجهزة التحكم والأسلحة الذكية.
من هنا لم يكن اتفاق السلام بين الكونغو الديمقراطية ورواندا سوى أداة لإعادة تعريف من يمتلك الأرض، وبالتالي من يمتلك الحق في استخراج ثرواتها.
وساطة قطرية وقبضة أمريكية
الوساطة القطرية، التي قدمت نموذجا هادئا للنفاذ في مناطق النزاع، كانت الحامل الدبلوماسي لواشنطن. فقد أدارت الدوحة المحادثات المباشرة بين كينشاسا وكيغالي، وخففت حدة التوتر، لكنها لم تمسك بخيوط اللعبة الكبرى. لأن تلك الخيوط كانت بيد إدارة ترامب، التي دفعت بفريق خاص من مجلس الأمن القومي ووزارة الطاقة الأمريكية إلى صياغة «الملحق الاقتصادي» للاتفاق.
هذا الملحق، غير المعلن في صيغته الكاملة، ولكن الذي أذاعه ترامب كانتصار أمريكي، يتضمن التزاما بتأسيس آلية استثمار دولية جديدة، تسمح بإنشاء شركات مختلطة بإشراف أمريكي في مناطق التعدين، وتمنح واشنطن نفوذا رقابيا غير مباشر على عمليات الاستخراج والتصدير. بل إن بعض البنود تشير – بلغة دبلوماسية مرنة – إلى «ضرورة إعادة النظر في اتفاقيات المعادن السابقة التي لا تخدم التنمية الوطنية»، وهي إشارة مضمنة إلى العقود الصينية التي تم إمضاؤها بين كنشاسا وبكين منذ سنة 2008.
رسائل إلى الصين
الصين تلك البلاد التي تمكنت وحيدة من تحدي أمريكا في حربها التجارية الأخيرة، وأرغمتها على فتح جولات من المفاوضات بين جنيف وبريطانيا حول اتفاق جديد للتجارة كانت أولى مخرجاته، عودة بكين إلى تصدير المواد النادرة -التي تملك الصين 70 في المائة من إنتاجها، و90 في المائة من تكنولوجيا تكريرها- يحاول ترامب اليوم، بل يعكس عقارب الساعة ضدها والقيام بتغيير عميق في إستراتيجية واشنطن، من خلال السعي لتأمين حاجاتها الصناعية بعيدًا عن بكين، عبر ما يعرف داخل الدوائر الأمريكية بـ»إستراتيجية التوريد السيادي»، والذي سارع بموجبها لربط السلام في أوكرانيا بمعادنها، والمطالبة بحق لإطلاق التعدين حول هذه المواد في قلب المحيط الهادئ، وقلب أدغال إفريقيا.
ولعل اتفاقا أوكرانيا والكونغو يعدان حجر الزاوية في هذه الإستراتيجية، فهما يؤمنان لواشنطن مصدرين استراتيجيين للمعادن النادرة في قارتين مختلفتين، من خلال صيغة تدخل غير عسكري، ولكن ذات نفوذ عميق.
وبينما تظهر أوروبا حذرة في تقاسم موارد أوكرانيا، وتبدي الصين قلقا غير مرئي أو مسموع من تقهقر نفوذها في الكونغو الديمقراطية، يراكم ترامب أوراق نفوذه بهدوء، معتمدا على مزيج من الدبلوماسية، التحالفات الإقليمية (مثل الوساطة القطرية)، والشراكات الاستثمارية.
بين «الخسارة» و«المناورة»
ويبدو أن اتفاقية السلام بين كينشاسا وكيغالي لم تمر دون سماع صداها في أروقة الحزب الشيوعي الحاكم في بكين، حتى وإن التزمت الدوائر الرسمية الصينية الصمت العلني.
فالصين التي استثمرت منذ 2008 مليارات الدولارات في مشاريع «الموارد مقابل البنية التحتية» بالكونغو، تجد نفسها اليوم أمام تغيير جذري في قواعد اللعبة، تُشرف عليه واشنطن وتدعمه وساطات إفريقية – قطرية.
لكن بكين، بحكم تجربتها العميقة في إفريقيا، لا تواجه الخسارة برد مباشر، بل تتحرك بمنطق «المناورة الهادئة».
فقد تذهب لتفعيل نفوذها داخل رواندا وأوغندا لضمان استمرار سلاسل الإمداد من المعادن، والضغط غير المعلن لتحييد عقودها القديمة عن مراجعات ما بعد الاتفاق. كما قد تعمل على تقديم نفسها كشريك تكنولوجي لا غنى عنه في مرحلة المعالجة والتكرير، لتظل جزءا من نظام التعدين الدولي دون صدام ظاهر مع أمريكا.
في العمق، تدرك الصين أن خسارة الكونغو تعني تهديدا لإمداداتها من المعادن الثمينة، لكنها تعرف أيضا أن الدولة الكونغولية ما زالت هشة، وأن النفوذ لا يقاس في إفريقيا فقط ببنود كتبت على ورق، بل بالقدرة على الالتفاف عليها. ولهذا، فإن رد بكين لن يكون في التصريحات، بل في التموضع الميداني الصامت الذي يعيد ترتيب المشهد من الخلف.
وهنا تكشفت خيوط المعركة التي لا ترى، معركة المعادن الثمينة وحرب مصادر التكنولوجيا، التي بات قوسها يتسع من كييف إلى كينشاسا ومن واشنطن إلى بكين، وتكتب قواعدها على أوراق السلام، لكنها ترسَم فعليا في مكاتب الشركات العابرة للقارات، وتترجم مباشرة إلى رصيد سياسي لترامب في الداخل الأمريكي، وفي رسم خريطة جديدة للهيمنة الأمريكية من دون نيران الدبابات والطائرات، بل في ظلام المناجم.
بقلم: نزار مقني
في زمن تتبدل فيه موازين القوى وتتشابك فيه النزاعات، لا يكون السلام دائما غاية بل وسيلة، وتكون القضايا التي بني عليها عناوين واضحة للعيان، تخفي بنودا قد تطبق في الظلام.
بين كييف وكنشاسا، تجري اليوم لعبة مختلفة؛ لعبة السلام التي تختبئ خلفها مصالح أكبر وأعمق، مصالح تتعلق بما تحت الأرض قبل ما فوقها.
ففي ظلال مناجم المعادن النادرة التي تزخر بها هذين الدولتين، ترسم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خريطة جديدة للهيمنة، خريطة لا تعتمد على المدافع والصواريخ والمسيرات وحدها، بل على المعادن التي تقود مستقبل العالم. هذه ليست مجرد اتفاقات سلام، بل صفقات السلطة التي تصنعها الأيادي الخفية في ظلام المناجم.
حين رفعت حكومة الكونغو الديمقراطية في مارس الماضي، طلبا رسميا إلى إدارة ترامب تدعو فيه إلى التدخل للمساعدة في احتواء تصعيد المتمردين المدعومين من رواندا، كانت تبحث عن غطاء دولي قوي لإنقاذ شرقها من الانهيار، لكنها -من حيث لا تدري- فتحت الباب أمام مشروع أمريكي أكبر بكثير من مجرد الوساطة، مشروع يقوم على فكرة بسيطة: إذا أردت أن تملك المستقبل، فعليك أولا أن تسيطر على مصادره.
جاء اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا كمحطة تتويج لتحرك أمريكي ذكي، استثمر في لحظة إقليمية متوترة، واستغل وساطة قطرية مرنة وناجعة، ودفع باتجاه صيغة اتفاق ثلاثية الأبعاد: تهدئة أمنية ترضي الفرقاء، وغطاء إفريقي يمنح الشرعية، وإطار اقتصادي يعيد تشكيل ملكية المعادن.
من شرق أوروبا إلى أدغال إفريقيا
ولعل اتفاق الكونغو لم يكن معزولا، بل جاء في سياق تصاعدي لسياسة أمريكية واضحة اعتمدتها إدارة ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض: إعادة السيطرة على سلاسل الإمداد الإستراتيجية للمعادن النادرة، لمواجهة احتكار الصين لهذا السوق انتاجا وبيعا واستغلالا.
والمثال الأول على هذه السياسة كان اتفاق الموارد المعدنية مع أوكرانيا، الموقع في أفريل الماضي، والذي منح شركات أمريكية امتيازات مباشرة في استخراج التيتانيوم، والغرافيت، والليثيوم من باطن الأرض الأوكرانية، في مقابل دعم مالي وتقني لكييف في حربها مع روسيا، صاغها ترامب وإدارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في شكل صندوق مشترك أقفاله ومفاتحه محفوظة في البيت الأبيض.
ما فعله ترامب في شرق أوروبا أعاد تطبيقه حرفيا في قلب إفريقيا، فشرق الكونغو -حيث ينشط المتمردون من حركة 23 مارس المدعومة من رواندا- يوجد فيه مناطق -مثل «نورث كيفو» و»شابوندا» – التي تعتبر من أغنى مناطق العالم بالكولتان والكوبالت، وهما المادتان الأساسيتان في الصناعات الدقيقة والرقائق وأجهزة التحكم والأسلحة الذكية.
من هنا لم يكن اتفاق السلام بين الكونغو الديمقراطية ورواندا سوى أداة لإعادة تعريف من يمتلك الأرض، وبالتالي من يمتلك الحق في استخراج ثرواتها.
وساطة قطرية وقبضة أمريكية
الوساطة القطرية، التي قدمت نموذجا هادئا للنفاذ في مناطق النزاع، كانت الحامل الدبلوماسي لواشنطن. فقد أدارت الدوحة المحادثات المباشرة بين كينشاسا وكيغالي، وخففت حدة التوتر، لكنها لم تمسك بخيوط اللعبة الكبرى. لأن تلك الخيوط كانت بيد إدارة ترامب، التي دفعت بفريق خاص من مجلس الأمن القومي ووزارة الطاقة الأمريكية إلى صياغة «الملحق الاقتصادي» للاتفاق.
هذا الملحق، غير المعلن في صيغته الكاملة، ولكن الذي أذاعه ترامب كانتصار أمريكي، يتضمن التزاما بتأسيس آلية استثمار دولية جديدة، تسمح بإنشاء شركات مختلطة بإشراف أمريكي في مناطق التعدين، وتمنح واشنطن نفوذا رقابيا غير مباشر على عمليات الاستخراج والتصدير. بل إن بعض البنود تشير – بلغة دبلوماسية مرنة – إلى «ضرورة إعادة النظر في اتفاقيات المعادن السابقة التي لا تخدم التنمية الوطنية»، وهي إشارة مضمنة إلى العقود الصينية التي تم إمضاؤها بين كنشاسا وبكين منذ سنة 2008.
رسائل إلى الصين
الصين تلك البلاد التي تمكنت وحيدة من تحدي أمريكا في حربها التجارية الأخيرة، وأرغمتها على فتح جولات من المفاوضات بين جنيف وبريطانيا حول اتفاق جديد للتجارة كانت أولى مخرجاته، عودة بكين إلى تصدير المواد النادرة -التي تملك الصين 70 في المائة من إنتاجها، و90 في المائة من تكنولوجيا تكريرها- يحاول ترامب اليوم، بل يعكس عقارب الساعة ضدها والقيام بتغيير عميق في إستراتيجية واشنطن، من خلال السعي لتأمين حاجاتها الصناعية بعيدًا عن بكين، عبر ما يعرف داخل الدوائر الأمريكية بـ»إستراتيجية التوريد السيادي»، والذي سارع بموجبها لربط السلام في أوكرانيا بمعادنها، والمطالبة بحق لإطلاق التعدين حول هذه المواد في قلب المحيط الهادئ، وقلب أدغال إفريقيا.
ولعل اتفاقا أوكرانيا والكونغو يعدان حجر الزاوية في هذه الإستراتيجية، فهما يؤمنان لواشنطن مصدرين استراتيجيين للمعادن النادرة في قارتين مختلفتين، من خلال صيغة تدخل غير عسكري، ولكن ذات نفوذ عميق.
وبينما تظهر أوروبا حذرة في تقاسم موارد أوكرانيا، وتبدي الصين قلقا غير مرئي أو مسموع من تقهقر نفوذها في الكونغو الديمقراطية، يراكم ترامب أوراق نفوذه بهدوء، معتمدا على مزيج من الدبلوماسية، التحالفات الإقليمية (مثل الوساطة القطرية)، والشراكات الاستثمارية.
بين «الخسارة» و«المناورة»
ويبدو أن اتفاقية السلام بين كينشاسا وكيغالي لم تمر دون سماع صداها في أروقة الحزب الشيوعي الحاكم في بكين، حتى وإن التزمت الدوائر الرسمية الصينية الصمت العلني.
فالصين التي استثمرت منذ 2008 مليارات الدولارات في مشاريع «الموارد مقابل البنية التحتية» بالكونغو، تجد نفسها اليوم أمام تغيير جذري في قواعد اللعبة، تُشرف عليه واشنطن وتدعمه وساطات إفريقية – قطرية.
لكن بكين، بحكم تجربتها العميقة في إفريقيا، لا تواجه الخسارة برد مباشر، بل تتحرك بمنطق «المناورة الهادئة».
فقد تذهب لتفعيل نفوذها داخل رواندا وأوغندا لضمان استمرار سلاسل الإمداد من المعادن، والضغط غير المعلن لتحييد عقودها القديمة عن مراجعات ما بعد الاتفاق. كما قد تعمل على تقديم نفسها كشريك تكنولوجي لا غنى عنه في مرحلة المعالجة والتكرير، لتظل جزءا من نظام التعدين الدولي دون صدام ظاهر مع أمريكا.
في العمق، تدرك الصين أن خسارة الكونغو تعني تهديدا لإمداداتها من المعادن الثمينة، لكنها تعرف أيضا أن الدولة الكونغولية ما زالت هشة، وأن النفوذ لا يقاس في إفريقيا فقط ببنود كتبت على ورق، بل بالقدرة على الالتفاف عليها. ولهذا، فإن رد بكين لن يكون في التصريحات، بل في التموضع الميداني الصامت الذي يعيد ترتيب المشهد من الخلف.
وهنا تكشفت خيوط المعركة التي لا ترى، معركة المعادن الثمينة وحرب مصادر التكنولوجيا، التي بات قوسها يتسع من كييف إلى كينشاسا ومن واشنطن إلى بكين، وتكتب قواعدها على أوراق السلام، لكنها ترسَم فعليا في مكاتب الشركات العابرة للقارات، وتترجم مباشرة إلى رصيد سياسي لترامب في الداخل الأمريكي، وفي رسم خريطة جديدة للهيمنة الأمريكية من دون نيران الدبابات والطائرات، بل في ظلام المناجم.
بقلم: نزار مقني