إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

"تونس‭ ‬ليست‭ ‬ضيعة‭ ‬أو‭ ‬بستانا‮"..‬ رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬يوجّه‭ ‬رسائل‭ ‬للداخل‭ ‬والخارج

تأكيد‭ ‬على‭ ‬تناغم‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الدستورية‭ ‬المنتخبة

من‭ ‬قصر‭ ‬قرطاج‭ ‬جاء‭ ‬التأكيد‭ ‬مجددًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬تُدير‭ ‬شؤونها‭ ‬في‭ ‬العلن،‭ ‬وتُعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬أولوياتها‭ ‬بقرارات‭ ‬سيادية‭ ‬لا‭ ‬بإملاءات‭ ‬خارجية،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬اللقاء‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬عصر‭ ‬الجمعة‭ ‬الماضي‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد،‭ ‬برئيسي‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب‭ ‬والمجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للجهات‭ ‬والأقاليم،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬كثيرين،‭ ‬مجرد‭ ‬لقاء‭ ‬بروتوكولي‭ ‬أو‭ ‬مرور‭ ‬عابر‭ ‬على‭ ‬روزنامة‭ ‬الرئاسة،‭ ‬بل‭ ‬مثّل‭ ‬محطة‭ ‬محورية‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬ترسيخ‭ ‬الدولة‭ ‬الجديدة،‭ ‬دولة‭ ‬المؤسّسات‭ ‬والقرار‭ ‬السيادي،‭ ‬لا‭ ‬الوصاية‭.‬

وجاء‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬ليؤكد‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬–‭ ‬وكما‭ ‬أرادها‭ ‬دستور‭ ‬2022‭ ‬–‭ ‬ليست‭ ‬ساحةً‭ ‬للصراعات‭ ‬العقيمة،‭ ‬بل‭ ‬ورشة‭ ‬مفتوحة‭ ‬لبناء‭ ‬وطن‭ ‬لا‭ ‬يُدار‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬ولا‭ ‬يُصاغ‭ ‬من‭ ‬غرف‭ ‬ودوائر‭ ‬مظلمة‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬كلمات‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬واضحة‭ ‬وقاطعة‭: ‬‮«‬تونس‭ ‬ليست‭ ‬ضيعة‭ ‬أو‭ ‬بستانًا‮»‬،‭ ‬في‭ ‬ردّ‭ ‬رمزي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬تدجين‭ ‬القرار‭ ‬الوطني‭ ‬أو‭ ‬ابتزاز‭ ‬الدولة‭ ‬بشهادات‭ ‬‮«‬حسن‭ ‬السيرة‭ ‬والسلوك‮»‬‭.‬

وتعرّض‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬خلال‭ ‬لقائه‭ ‬برئيس‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب‭ ‬إبراهيم‭ ‬بودربالة،‭ ‬ورئيس‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للجهات‭ ‬والأقاليم‭ ‬عماد‭ ‬الدربالي،‭ ‬إلى‭ ‬عديد‭ ‬المحاور،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬تلك‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين‭ ‬ذات‭ ‬البُعد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المقابلة‭ ‬فرصة‭ ‬أكّد‭ ‬فيها‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬مجددًا‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬يخوض‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‭ ‬على‭ ‬كافّة‭ ‬الجبهات،‭ ‬مشددًا‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬سياسة‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬تضبطها‭ ‬مؤسّساتها‭ ‬المنتخبة‭ ‬المُعبّرة‭ ‬عن‭ ‬إرادة‭ ‬شعبها،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الدستور‭ ‬وسائر‭ ‬تشريعاتها‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أصنافها‭.‬

كما‭ ‬أكّد‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬تونس‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬شهادة‭ ‬استحسان‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬جهة‭ ‬خارجية،‭ ‬وليست‭ ‬ضيعة‭ ‬أو‭ ‬بستانًا‭ ‬كما‭ ‬يتصوّر‭ ‬البعض‭.‬

وتناول‭ ‬اللقاء،‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬آخر،‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القطاعات‭ ‬وفي‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬الجمهورية،‭ ‬حيث‭ ‬تعمل‭ ‬بعض‭ ‬الدوائر‭ ‬المرتبطة‭ ‬بجهات‭ ‬أجنبية‭ ‬على‭ ‬تأجيج‭ ‬الأوضاع‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل،‭ ‬وتدّعي‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬وطنية،‭ ‬وأنها‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الشعب،‭ ‬لكنها‭ ‬مفضوحة‭ ‬ومعلومة،‭ ‬والقانون‭ ‬هو‭ ‬الفيصل‭ ‬بين‭ ‬الجميع،‭ ‬ثم‭ ‬إنّ‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬يعرف‭ ‬الحقائق‭ ‬كلها‭ ‬وسيُحبط‭ ‬كل‭ ‬الترتيبات‭ ‬التي‭ ‬تُحاك‭ ‬ضده‭.‬

اللقاء،‭ ‬ومن‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬متابعين،‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طيّاته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬دلالة،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬الثلاثي‭ ‬جاء‭ ‬ليُجسّد‭ ‬تناغم‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الدستورية‭ ‬المنتخبة،‭ ‬وعلى‭ ‬وجود‭ ‬تنسيق‭ ‬فعلي‭ ‬بين‭ ‬قمة‭ ‬السلطة‭ ‬التنفيذية‭ ‬والسلطتين‭ ‬التشريعيتين‭ ‬حول‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين‭ ‬ذات‭ ‬الصبغة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬مما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬تستعد‭ ‬لمرحلة‭ ‬أكثر‭ ‬نجاعة‭ ‬وتجانسًا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬إدارة‭ ‬الملفات‭ ‬الثقيلة،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬العدالة‭ ‬الجبائية‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‭.‬

فكان‭ ‬اللقاء‭ ‬بين‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬ورئيسي‭ ‬الغرفتين‭ ‬النيابيتين‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬تنسيق‭ ‬عابر،‭ ‬بل‭ ‬ترسيخًا‭ ‬لمنطق‭ ‬الدولة‭ ‬المتناغمة،‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬التجاذب‭ ‬بين‭ ‬مؤسّسات‭ ‬الحكم،‭ ‬ليعكس‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬مؤسّسات‭ ‬منبثقة‭ ‬من‭ ‬الشرعية‭ ‬الانتخابية،‭ ‬تعمل‭ ‬وفق‭ ‬خط‭ ‬سياسي‭ ‬متناسق‭ ‬وضمن‭ ‬أفق‭ ‬وطني‭ ‬موحّد،‭ ‬مما‭ ‬يعزّز‭ ‬من‭ ‬فاعليتها‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الملفات‭ ‬الحارقة،‭ ‬وخاصة‭ ‬منها‭ ‬القوانين‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭.‬

فجاء‭ ‬اللقاء،‭ ‬وفقًا‭ ‬لكثيرين،‭ ‬ليُعطي‭ ‬رسالة‭ ‬واضحة‭ ‬أنّ‭ ‬مكونات‭ ‬الحكم‭ ‬الثلاثة‭: ‬رئاسة‭ ‬الجمهورية،‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب،‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للأقاليم‭ ‬والجهات‭ ‬ليست‭ ‬جزرًا‭ ‬معزولة،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬أضلاع‭ ‬لمثلّث‭ ‬واحد‭ ‬عنوانه‭ ‬الشرعية‭ ‬الشعبية‭. ‬فكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬تناوله‭ ‬لقاء‭ ‬قرطاج‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين‭ ‬ذات‭ ‬البُعد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مجرد‭ ‬إصلاحات‭ ‬مؤجلة‭ ‬أو‭ ‬نصوص‭ ‬تنتظر‭ ‬طابع‭ ‬المصادقة،‭ ‬بل‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬أولوية‭ ‬وطنية‭ ‬تستدعي‭ ‬تسريع‭ ‬الإيقاع‭ ‬التشريعي‭ ‬وتحقيق‭ ‬التماهي‭ ‬بين‭ ‬المؤسّسات‭ ‬المنتخبة‭ ‬وإرادة‭ ‬الشارع‭.‬

فالرهان‭ ‬اليوم،‭ ‬لا‭ ‬يتعلّق‭ ‬فقط‭ ‬بتحسين‭ ‬المؤشرات‭ ‬والأرقام‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬دون‭ ‬غيرها،‭ ‬بل‭ ‬بترسيخ‭ ‬العدالة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬كعمود‭ ‬فقري‭ ‬في‭ ‬سياسة‭ ‬الدولة‭ ‬الجديدة‭.‬

فمشاريع‭ ‬مثل‭ ‬مراجعة‭ ‬منظومة‭ ‬الدعم،‭ ‬وتكريس‭ ‬العدالة‭ ‬الجبائية،‭ ‬وتوزيع‭ ‬الموارد‭ ‬على‭ ‬الجهات‭ ‬بميزان‭ ‬الإنصاف‭ ‬لا‭ ‬الولاءات،‭ ‬كلّها‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬تتوجه‭ ‬نحو‭ ‬تحويل‭ ‬القوانين‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬حكم‭ ‬إلى‭ ‬أدوات‭ ‬إنصاف‭ ‬وعدالة،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تشخيص‭ ‬البعض‭. ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الاتجاه،‭ ‬يرى‭ ‬كثيرون‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬حين‭ ‬قال‭:‬

‮«‬إن‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬يخوض‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬الجبهات‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يمثّل‭ ‬إعلانًا‭ ‬لرمزية‭ ‬نضالية‭ ‬عميقة،‭ ‬تعكس‭ ‬إدراكًا‭ ‬بأن‭ ‬معركة‭ ‬تونس‭ ‬اليوم‭ ‬ليست‭ ‬ضد‭ ‬استعمار‭ ‬تقليدي،‭ ‬بل‭ ‬ضد‭ ‬أشكال‭ ‬استعمار‭ ‬جديدة،‭ ‬تتلخّص‭ ‬في‭ ‬استعمار‭ ‬القرار،‭ ‬واستعمار‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬واستعمار‭ ‬الوعي‭ ‬الجماعي‭.‬

وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬يخوضها‭ ‬الشعب‭ ‬اليوم‭ ‬هي‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬كُبّلت‭ ‬بها‭ ‬البلاد‭ ‬لعقود،‭ ‬ومن‭ ‬شبكات‭ ‬النفوذ‭ ‬التي‭ ‬هندست‭ ‬ورسمت‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‭ ‬وفق‭ ‬مصالح‭ ‬فئات‭ ‬ضيقة،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬المصلحة‭ ‬الوطنية‭. ‬والتحرير‭ ‬هنا‭ ‬يكون‭ ‬بترسيخ‭ ‬السيادة،‭ ‬وبناء‭ ‬مؤسّسات‭ ‬تعبّر‭ ‬فعليًا‭ ‬عن‭ ‬الإرادة‭ ‬الشعبية،‭ ‬لا‭ ‬عن‭ ‬حسابات‭ ‬اللوبيات‭.‬

و«هذه‭ ‬العبارة‮»‬‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬‮«‬الشعب‭ ‬يخوض‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‮»‬‭ ‬–‭ ‬وردت‭ ‬صلب‭ ‬اللقاء‭ ‬مع‭ ‬المؤسّستين‭ ‬التشريعيتين‭ ‬المنتخبتين،‭ ‬بما‭ ‬يعكس‭ ‬أن‭ ‬خريطة‭ ‬التحرير‭ ‬تمرّ‭ ‬عبر‭ ‬المسار‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬لا‭ ‬عبر‭ ‬الفوضى،‭ ‬وعبر‭ ‬العمل‭ ‬الدستوري،‭ ‬لا‭ ‬عبر‭ ‬الشعارات‭ ‬الجوفاء‭.‬

رسائل‭ ‬سيادية

من‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬عكس‭ ‬اللقاء‭ ‬رسائل‭ ‬سيادية‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية،‭ ‬فكان‭ ‬جليًا،‭ ‬وفقًا‭ ‬للبيان‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬رئاسة‭ ‬الجمهورية،‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬اختارت‭ ‬أن‭ ‬تُعيد‭ ‬تموقعها‭ ‬السياسي،‭ ‬داخليًا‭ ‬وخارجيًا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رفض‭ ‬‮«‬شهادة‭ ‬الاستحسان‭ ‬من‭ ‬الخارج‮»‬،‭ ‬بما‭ ‬يعكس‭ ‬توجّه‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬علاقتها‭ ‬بالعالم‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الندية‭ ‬لا‭ ‬الخضوع،‭ ‬والشراكة‭ ‬لا‭ ‬التبعية‭.‬

وفي‭ ‬منحى‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬حديثه،‭ ‬وضع‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬النقاط‭ ‬على‭ ‬الحروف،‭ ‬حين‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬محاولات‭ ‬بعض‭ ‬‮«‬الدوائر‭ ‬المرتبطة‭ ‬بجهات‭ ‬أجنبية‮»‬‭ ‬تأجيج‭ ‬الأوضاع‭ ‬الداخلية‭. ‬وهنا‭ ‬بدا‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬الرسالة‭ ‬ليست‭ ‬للداخل‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أيضًا‭ ‬تحذير‭ ‬لبعض‭ ‬الدوائر‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬القرار‭ ‬التونسي‭ ‬يمكن‭ ‬التلاعب‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬بُعد‭.‬

ليؤكد‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية،‭ ‬وبصريح‭ ‬العبارة،‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬هو‭ ‬الفيصل،‭ ‬وكل‭ ‬محاولات‭ ‬الاختراق‭ ‬مفضوحة‭ ‬ومعلومة‭.‬

معادلة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الحكم

ويُستشف‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬تثبيتًا‭ ‬لمعادلة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الحكم،‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التسامح‭ ‬مع‭ ‬الاختراقات‭ ‬أو‭ ‬التهاون‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬تقويض‭ ‬السلم‭ ‬الأهلي‭ ‬تحت‭ ‬عباءة‭ ‬الوطنية‭. ‬فالدولة‭ ‬اليوم‭ ‬تُكرّس‭ ‬القانون،‭ ‬لا‭ ‬القمع،‭ ‬وتراهن‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬شعبي‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الصادق‭ ‬والمدفوع‭.‬‭..‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الخضم،‭ ‬يخلص‭ ‬عديد‭ ‬الملاحظين‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬لقاء‭ ‬قرطاج‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬استقبال‭ ‬بروتوكولي،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬اجتماع‭ ‬دولة‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس،‭ ‬عكس‭ ‬خطابًا‭ ‬سياديًا‭.‬

فاللقاء‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬برئيسي‭ ‬غرفتي‭ ‬البرلمان‭ ‬مثل‭ ‬محطة‭ ‬سياسية‭ ‬تعكس‭ ‬تحوّلًا‭ ‬هادئًا‭ ‬في‭ ‬منطق‭ ‬إدارة‭ ‬الدولة‭. ‬فجاء‭ ‬اللقاء‭ ‬ليؤكد‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬اختارت‭ ‬التأسيس‭ ‬والسيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬بدل‭ ‬التبعية‭ ‬المقنّعة‭. ‬ليكون‭ ‬لقاء‭ ‬قرطاج‭ ‬الأخير،‭ ‬بما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬رسائل،‭ ‬بمثابة‭ ‬إعلان‭ ‬متجدّد‭ ‬بأن‭ ‬السيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬هي‭ ‬جوهر‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬قابلة‭ ‬للتفريط‭ ‬أو‭ ‬المقايضة،‭ ‬فتونس‭ ‬ليست‭ ‬ضيعة‭ ‬تُدار‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬بل‭ ‬دولة‭ ‬تُبنى‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬بإرادة‭ ‬شعبها‭ ‬ومؤسّساتها‭ ‬المنتخبة‭.‬

منال‭ ‬الحرزي

"تونس‭ ‬ليست‭ ‬ضيعة‭ ‬أو‭ ‬بستانا‮"..‬   رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬يوجّه‭ ‬رسائل‭ ‬للداخل‭ ‬والخارج

تأكيد‭ ‬على‭ ‬تناغم‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الدستورية‭ ‬المنتخبة

من‭ ‬قصر‭ ‬قرطاج‭ ‬جاء‭ ‬التأكيد‭ ‬مجددًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬تُدير‭ ‬شؤونها‭ ‬في‭ ‬العلن،‭ ‬وتُعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬أولوياتها‭ ‬بقرارات‭ ‬سيادية‭ ‬لا‭ ‬بإملاءات‭ ‬خارجية،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬اللقاء‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬عصر‭ ‬الجمعة‭ ‬الماضي‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد،‭ ‬برئيسي‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب‭ ‬والمجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للجهات‭ ‬والأقاليم،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬كثيرين،‭ ‬مجرد‭ ‬لقاء‭ ‬بروتوكولي‭ ‬أو‭ ‬مرور‭ ‬عابر‭ ‬على‭ ‬روزنامة‭ ‬الرئاسة،‭ ‬بل‭ ‬مثّل‭ ‬محطة‭ ‬محورية‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬ترسيخ‭ ‬الدولة‭ ‬الجديدة،‭ ‬دولة‭ ‬المؤسّسات‭ ‬والقرار‭ ‬السيادي،‭ ‬لا‭ ‬الوصاية‭.‬

وجاء‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬ليؤكد‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬–‭ ‬وكما‭ ‬أرادها‭ ‬دستور‭ ‬2022‭ ‬–‭ ‬ليست‭ ‬ساحةً‭ ‬للصراعات‭ ‬العقيمة،‭ ‬بل‭ ‬ورشة‭ ‬مفتوحة‭ ‬لبناء‭ ‬وطن‭ ‬لا‭ ‬يُدار‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬ولا‭ ‬يُصاغ‭ ‬من‭ ‬غرف‭ ‬ودوائر‭ ‬مظلمة‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬كلمات‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬واضحة‭ ‬وقاطعة‭: ‬‮«‬تونس‭ ‬ليست‭ ‬ضيعة‭ ‬أو‭ ‬بستانًا‮»‬،‭ ‬في‭ ‬ردّ‭ ‬رمزي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬تدجين‭ ‬القرار‭ ‬الوطني‭ ‬أو‭ ‬ابتزاز‭ ‬الدولة‭ ‬بشهادات‭ ‬‮«‬حسن‭ ‬السيرة‭ ‬والسلوك‮»‬‭.‬

وتعرّض‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬خلال‭ ‬لقائه‭ ‬برئيس‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب‭ ‬إبراهيم‭ ‬بودربالة،‭ ‬ورئيس‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للجهات‭ ‬والأقاليم‭ ‬عماد‭ ‬الدربالي،‭ ‬إلى‭ ‬عديد‭ ‬المحاور،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬تلك‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين‭ ‬ذات‭ ‬البُعد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المقابلة‭ ‬فرصة‭ ‬أكّد‭ ‬فيها‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬مجددًا‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬يخوض‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‭ ‬على‭ ‬كافّة‭ ‬الجبهات،‭ ‬مشددًا‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬سياسة‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬تضبطها‭ ‬مؤسّساتها‭ ‬المنتخبة‭ ‬المُعبّرة‭ ‬عن‭ ‬إرادة‭ ‬شعبها،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الدستور‭ ‬وسائر‭ ‬تشريعاتها‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أصنافها‭.‬

كما‭ ‬أكّد‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬تونس‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬شهادة‭ ‬استحسان‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬جهة‭ ‬خارجية،‭ ‬وليست‭ ‬ضيعة‭ ‬أو‭ ‬بستانًا‭ ‬كما‭ ‬يتصوّر‭ ‬البعض‭.‬

وتناول‭ ‬اللقاء،‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬آخر،‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القطاعات‭ ‬وفي‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬الجمهورية،‭ ‬حيث‭ ‬تعمل‭ ‬بعض‭ ‬الدوائر‭ ‬المرتبطة‭ ‬بجهات‭ ‬أجنبية‭ ‬على‭ ‬تأجيج‭ ‬الأوضاع‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل،‭ ‬وتدّعي‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬وطنية،‭ ‬وأنها‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الشعب،‭ ‬لكنها‭ ‬مفضوحة‭ ‬ومعلومة،‭ ‬والقانون‭ ‬هو‭ ‬الفيصل‭ ‬بين‭ ‬الجميع،‭ ‬ثم‭ ‬إنّ‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬يعرف‭ ‬الحقائق‭ ‬كلها‭ ‬وسيُحبط‭ ‬كل‭ ‬الترتيبات‭ ‬التي‭ ‬تُحاك‭ ‬ضده‭.‬

اللقاء،‭ ‬ومن‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬متابعين،‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طيّاته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬دلالة،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬الثلاثي‭ ‬جاء‭ ‬ليُجسّد‭ ‬تناغم‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الدستورية‭ ‬المنتخبة،‭ ‬وعلى‭ ‬وجود‭ ‬تنسيق‭ ‬فعلي‭ ‬بين‭ ‬قمة‭ ‬السلطة‭ ‬التنفيذية‭ ‬والسلطتين‭ ‬التشريعيتين‭ ‬حول‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين‭ ‬ذات‭ ‬الصبغة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬مما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬تستعد‭ ‬لمرحلة‭ ‬أكثر‭ ‬نجاعة‭ ‬وتجانسًا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬إدارة‭ ‬الملفات‭ ‬الثقيلة،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬العدالة‭ ‬الجبائية‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‭.‬

فكان‭ ‬اللقاء‭ ‬بين‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬ورئيسي‭ ‬الغرفتين‭ ‬النيابيتين‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬تنسيق‭ ‬عابر،‭ ‬بل‭ ‬ترسيخًا‭ ‬لمنطق‭ ‬الدولة‭ ‬المتناغمة،‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬التجاذب‭ ‬بين‭ ‬مؤسّسات‭ ‬الحكم،‭ ‬ليعكس‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬مؤسّسات‭ ‬منبثقة‭ ‬من‭ ‬الشرعية‭ ‬الانتخابية،‭ ‬تعمل‭ ‬وفق‭ ‬خط‭ ‬سياسي‭ ‬متناسق‭ ‬وضمن‭ ‬أفق‭ ‬وطني‭ ‬موحّد،‭ ‬مما‭ ‬يعزّز‭ ‬من‭ ‬فاعليتها‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الملفات‭ ‬الحارقة،‭ ‬وخاصة‭ ‬منها‭ ‬القوانين‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭.‬

فجاء‭ ‬اللقاء،‭ ‬وفقًا‭ ‬لكثيرين،‭ ‬ليُعطي‭ ‬رسالة‭ ‬واضحة‭ ‬أنّ‭ ‬مكونات‭ ‬الحكم‭ ‬الثلاثة‭: ‬رئاسة‭ ‬الجمهورية،‭ ‬مجلس‭ ‬نواب‭ ‬الشعب،‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للأقاليم‭ ‬والجهات‭ ‬ليست‭ ‬جزرًا‭ ‬معزولة،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬أضلاع‭ ‬لمثلّث‭ ‬واحد‭ ‬عنوانه‭ ‬الشرعية‭ ‬الشعبية‭. ‬فكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬تناوله‭ ‬لقاء‭ ‬قرطاج‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬مشاريع‭ ‬القوانين‭ ‬ذات‭ ‬البُعد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مجرد‭ ‬إصلاحات‭ ‬مؤجلة‭ ‬أو‭ ‬نصوص‭ ‬تنتظر‭ ‬طابع‭ ‬المصادقة،‭ ‬بل‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬أولوية‭ ‬وطنية‭ ‬تستدعي‭ ‬تسريع‭ ‬الإيقاع‭ ‬التشريعي‭ ‬وتحقيق‭ ‬التماهي‭ ‬بين‭ ‬المؤسّسات‭ ‬المنتخبة‭ ‬وإرادة‭ ‬الشارع‭.‬

فالرهان‭ ‬اليوم،‭ ‬لا‭ ‬يتعلّق‭ ‬فقط‭ ‬بتحسين‭ ‬المؤشرات‭ ‬والأرقام‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬دون‭ ‬غيرها،‭ ‬بل‭ ‬بترسيخ‭ ‬العدالة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬كعمود‭ ‬فقري‭ ‬في‭ ‬سياسة‭ ‬الدولة‭ ‬الجديدة‭.‬

فمشاريع‭ ‬مثل‭ ‬مراجعة‭ ‬منظومة‭ ‬الدعم،‭ ‬وتكريس‭ ‬العدالة‭ ‬الجبائية،‭ ‬وتوزيع‭ ‬الموارد‭ ‬على‭ ‬الجهات‭ ‬بميزان‭ ‬الإنصاف‭ ‬لا‭ ‬الولاءات،‭ ‬كلّها‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬تتوجه‭ ‬نحو‭ ‬تحويل‭ ‬القوانين‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬حكم‭ ‬إلى‭ ‬أدوات‭ ‬إنصاف‭ ‬وعدالة،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تشخيص‭ ‬البعض‭. ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الاتجاه،‭ ‬يرى‭ ‬كثيرون‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬حين‭ ‬قال‭:‬

‮«‬إن‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬يخوض‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬الجبهات‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يمثّل‭ ‬إعلانًا‭ ‬لرمزية‭ ‬نضالية‭ ‬عميقة،‭ ‬تعكس‭ ‬إدراكًا‭ ‬بأن‭ ‬معركة‭ ‬تونس‭ ‬اليوم‭ ‬ليست‭ ‬ضد‭ ‬استعمار‭ ‬تقليدي،‭ ‬بل‭ ‬ضد‭ ‬أشكال‭ ‬استعمار‭ ‬جديدة،‭ ‬تتلخّص‭ ‬في‭ ‬استعمار‭ ‬القرار،‭ ‬واستعمار‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬واستعمار‭ ‬الوعي‭ ‬الجماعي‭.‬

وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬يخوضها‭ ‬الشعب‭ ‬اليوم‭ ‬هي‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬كُبّلت‭ ‬بها‭ ‬البلاد‭ ‬لعقود،‭ ‬ومن‭ ‬شبكات‭ ‬النفوذ‭ ‬التي‭ ‬هندست‭ ‬ورسمت‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‭ ‬وفق‭ ‬مصالح‭ ‬فئات‭ ‬ضيقة،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬المصلحة‭ ‬الوطنية‭. ‬والتحرير‭ ‬هنا‭ ‬يكون‭ ‬بترسيخ‭ ‬السيادة،‭ ‬وبناء‭ ‬مؤسّسات‭ ‬تعبّر‭ ‬فعليًا‭ ‬عن‭ ‬الإرادة‭ ‬الشعبية،‭ ‬لا‭ ‬عن‭ ‬حسابات‭ ‬اللوبيات‭.‬

و«هذه‭ ‬العبارة‮»‬‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬‮«‬الشعب‭ ‬يخوض‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‮»‬‭ ‬–‭ ‬وردت‭ ‬صلب‭ ‬اللقاء‭ ‬مع‭ ‬المؤسّستين‭ ‬التشريعيتين‭ ‬المنتخبتين،‭ ‬بما‭ ‬يعكس‭ ‬أن‭ ‬خريطة‭ ‬التحرير‭ ‬تمرّ‭ ‬عبر‭ ‬المسار‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬لا‭ ‬عبر‭ ‬الفوضى،‭ ‬وعبر‭ ‬العمل‭ ‬الدستوري،‭ ‬لا‭ ‬عبر‭ ‬الشعارات‭ ‬الجوفاء‭.‬

رسائل‭ ‬سيادية

من‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬عكس‭ ‬اللقاء‭ ‬رسائل‭ ‬سيادية‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية،‭ ‬فكان‭ ‬جليًا،‭ ‬وفقًا‭ ‬للبيان‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬رئاسة‭ ‬الجمهورية،‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬اختارت‭ ‬أن‭ ‬تُعيد‭ ‬تموقعها‭ ‬السياسي،‭ ‬داخليًا‭ ‬وخارجيًا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رفض‭ ‬‮«‬شهادة‭ ‬الاستحسان‭ ‬من‭ ‬الخارج‮»‬،‭ ‬بما‭ ‬يعكس‭ ‬توجّه‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬علاقتها‭ ‬بالعالم‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الندية‭ ‬لا‭ ‬الخضوع،‭ ‬والشراكة‭ ‬لا‭ ‬التبعية‭.‬

وفي‭ ‬منحى‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬حديثه،‭ ‬وضع‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬النقاط‭ ‬على‭ ‬الحروف،‭ ‬حين‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬محاولات‭ ‬بعض‭ ‬‮«‬الدوائر‭ ‬المرتبطة‭ ‬بجهات‭ ‬أجنبية‮»‬‭ ‬تأجيج‭ ‬الأوضاع‭ ‬الداخلية‭. ‬وهنا‭ ‬بدا‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬الرسالة‭ ‬ليست‭ ‬للداخل‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أيضًا‭ ‬تحذير‭ ‬لبعض‭ ‬الدوائر‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬القرار‭ ‬التونسي‭ ‬يمكن‭ ‬التلاعب‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬بُعد‭.‬

ليؤكد‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية،‭ ‬وبصريح‭ ‬العبارة،‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬هو‭ ‬الفيصل،‭ ‬وكل‭ ‬محاولات‭ ‬الاختراق‭ ‬مفضوحة‭ ‬ومعلومة‭.‬

معادلة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الحكم

ويُستشف‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬تثبيتًا‭ ‬لمعادلة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الحكم،‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التسامح‭ ‬مع‭ ‬الاختراقات‭ ‬أو‭ ‬التهاون‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬تقويض‭ ‬السلم‭ ‬الأهلي‭ ‬تحت‭ ‬عباءة‭ ‬الوطنية‭. ‬فالدولة‭ ‬اليوم‭ ‬تُكرّس‭ ‬القانون،‭ ‬لا‭ ‬القمع،‭ ‬وتراهن‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬شعبي‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الصادق‭ ‬والمدفوع‭.‬‭..‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الخضم،‭ ‬يخلص‭ ‬عديد‭ ‬الملاحظين‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬لقاء‭ ‬قرطاج‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬استقبال‭ ‬بروتوكولي،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬اجتماع‭ ‬دولة‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس،‭ ‬عكس‭ ‬خطابًا‭ ‬سياديًا‭.‬

فاللقاء‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬برئيسي‭ ‬غرفتي‭ ‬البرلمان‭ ‬مثل‭ ‬محطة‭ ‬سياسية‭ ‬تعكس‭ ‬تحوّلًا‭ ‬هادئًا‭ ‬في‭ ‬منطق‭ ‬إدارة‭ ‬الدولة‭. ‬فجاء‭ ‬اللقاء‭ ‬ليؤكد‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬اختارت‭ ‬التأسيس‭ ‬والسيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬بدل‭ ‬التبعية‭ ‬المقنّعة‭. ‬ليكون‭ ‬لقاء‭ ‬قرطاج‭ ‬الأخير،‭ ‬بما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬رسائل،‭ ‬بمثابة‭ ‬إعلان‭ ‬متجدّد‭ ‬بأن‭ ‬السيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬هي‭ ‬جوهر‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬قابلة‭ ‬للتفريط‭ ‬أو‭ ‬المقايضة،‭ ‬فتونس‭ ‬ليست‭ ‬ضيعة‭ ‬تُدار‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬بل‭ ‬دولة‭ ‬تُبنى‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬بإرادة‭ ‬شعبها‭ ‬ومؤسّساتها‭ ‬المنتخبة‭.‬

منال‭ ‬الحرزي