ملفات «الصباح» / التجميع والتخزين أهم مراحل موسم الحصاد.. صابة الحبوب تقترب من الرقم القياسي 20 مليون قنطار إنتاج و11 مليون قنطار
مقالات الصباح
_ تجهيز صنف واحد من البذور يستغرق 15 عامًا بين بحث وتجريب واختبار وتطوير
_ ديوان الحبوب يستعد بمخازن قادرة على استيعاب 5.3 مليون قنطار بين مخازن يملكها وأخرى على وجه الكراء
مع نهاية كل موسم حصاد، تتجدّد نفس التساؤلات حول حجم الصابة، وجودة المحاصيل، والأهم عملية تخزين الحبوب وحمايتها من التلف كما حدث في بعض المواسم الماضية بفعل التغييرات المناخية. وبالإضافة إلى هذه التساؤلات المألوفة من موسم إلى آخر، هناك أسئلة أخرى تُطرح في علاقة بالإنتاجية، وكذلك باستغلال ما يُسمّى بالبذور الأصلية ومدى نجاعتها في تجويد الصابة ورفع نسب الإنتاجية، وعلاقة كل ذلك بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب في ظل عوامل مناخية معادية للإنتاج في المواسم الأخيرة التي تأثّرت كثيرًا بالجفاف وفرضت إيجاد حلول؛ من ذلك تجريب زراعة أصناف من القمح الصلب في مناطق قاحلة، مثل تجربة زراعة القمح الصلب في بعض المناطق الصحراوية في تطاوين، والاستفادة من حصة تونس من مائدة المياه الجوفية أسوة بتجربة زراعة الحبوب في مناطق صحراوية كما هو الشأن في ليبيا أو الجزائر.
وكل هذه التساؤلات حاولت «الصباح» أن تجيب عنها بالاستئناس برأي الباحثين والمختصين المواكبين عن كثب لعملية إنتاج الحبوب وتطوير الأصناف الجيدة منها، واستغلال البذور التونسية في عملية الإنتاج، وكذلك من خلال رصد عوامل التغيير البيئي والمناخي التي يمكن أن تؤثّر سلبًا على حلقة الإنتاج.
زراعة الحبوب... قطاع استراتيجي
يُعدّ قطاع زراعة الحبوب من القطاعات الاستراتيجية التي تراهن عليها الدولة لتحقيق الأمن الغذائي، ورغم كل المحاولات وعبر العقود، لم نصل بعد إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، إلا أن ذلك لا يُنقص من أهمية الزراعات الكبرى في الخارطة الفلاحية الوطنية، ولا من أهميتها كمنتوج استراتيجي لكل الدول، وقد اتضح ذلك بشكل كبير بعد الحرب الأوكرانية التي فرضت على الدول ضرورة العمل على دعم منتوجها الوطني، حتى لا تواجه نفس الظروف الكارثية التي واجهتها بعض الدول المستوردة كليًا للحبوب مع بداية تلك الحرب.
ووفق المعطيات الرسمية التي أعلنها في وقت سابق رئيس ديوان وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، هيكل حشلاف، فإن قطاع الحبوب يمثّل 50 % من قيمة الواردات الغذائية و9 % من قيمة الإنتاج الفلاحي، ويستغلّ مساحة جملية تُقدّر بـ1.2 مليون هكتار، منها 30 % مساحة مروية. كما أن حوالي 250 ألف فلاح يتعاطون زراعة الحبوب.
وكانت المساحة المبذورة في الموسم الماضي قد بلغت 972 ألف هكتار، والمساحة المحصودة 717 ألف هكتار، وبلغت كمية التجميع 6.7 مليون قنطار، 88 % منها قمح صلب. أما بالنسبة لهذه السنة، فقد بلغت نسبة المساحات المزروعة حوالي 1.2 مليون هكتار، أي بزيادة 228 ألف هكتار مقارنة بالموسم الفارط، وتنقسم إلى 856 ألف هكتار في ولايات الشمال مقابل 812 ألفًا في الموسم الفارط، و317 ألف هكتار في ولايات الوسط والجنوب مقابل 160 ألفًا في الموسم الفارط.
أما بالنسبة للبذور، فقد وفّرت وزارة الفلاحة 300 ألف قنطار من البذور الممتازة مقابل 210 آلاف في الموسم الفارط، منها 40 ألف قنطار بذور الأساس و261 ألف قنطار من البذور المثبتة، فيما تبلغ كمية بذور الشعير العادية والمراقبة 160 ألف قنطار مقابل 207 آلاف في الموسم الفارط، وفق الإحصائيات الرسمية التي أعلنتها وزارة الفلاحة.
وكان وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، عز الدين بن الشيخ، قد أكّد في وقت سابق أن حاجيات الاستهلاك الوطني من الحبوب تبلغ سنويًا 36 مليون طن، وأن لهذا القطاع تأثيرًا على الميزان التجاري الغذائي، حيث تمثّل الحبوب الموردة 50 % من الحجم الجملي للواردات الغذائية، وأن هناك ارتباطًا وثيقًا بين مستوى الإنتاج والعوامل المناخية، إذ بلغ الإنتاج في بعض المواسم الممطرة حدود 20 مليون قنطار، فيما تراجع في مواسم أخرى تضرّرت بالجفاف إلى حدود 5 ملايين قنطار، وكانت مواسم صعبة على الفلاحين وعلى الدولة كذلك. وتكمن الصعوبة في أنه كلما تراجع الإنتاج، كلما ارتفعت معدّلات التوريد، وهو ما يعني استنزافًا للعملة الصعبة.
وتُعدّ التغيّرات المناخية التي شهدتها بلادنا في السنوات الأخيرة من العوائق الكبيرة في بلوغ مستويات عالية من إنتاج الحبوب، بما يضعنا أمام حتميّة إيجاد حلول للتأقلم مع هذه التغيّرات المناخية. وهذه الحتميّة تفرض البحث عن حلول بديلة واستباقية، ولعل تجربة الزراعة في المناطق القاحلة من الحلول الجيدة التي يجب دعمها أكثر اليوم.
وتبقى اليوم من بين الصعوبات التي يواجهها الفلاحون، والتي تؤثّر إلى حدّ ما على نسب الإنتاج في مواسم الحصاد، بالإضافة إلى الظروف المناخية، مسألة التزود بالبذور والأمونيتر والتمويل المالي لهذه الزراعات الكبرى. وخلال الموسم الحالي، تم الحرص على توفير أكثر ما يمكن من الأسمدة للفلاحين، لتفادي النقص الذي تم تسجيله في بعض المواسم الماضية، مع إقرار المحافظة على أسعار البذور الممتازة المراقبة، لتكون 160 دينارًا للقنطار من القمح الصلب، و130 دينارًا للقمح اللين، و120 دينارًا للتريتيكال. وبالنسبة للبذور التجارية العادية المراقبة، فقد تم إقرار 110 دنانير للقنطار من الشعير.
ورغم تحقيق صابة هامة هذا الموسم تقترب من المعدلات القياسية، فإن تحقيق الاكتفاء الذاتي من مادة الحبوب يتطلب ضرورة العمل على خطة وطنية متوسطة وبعيدة المدى لتطوير إنتاجنا، باستغلال كل الكفاءات العلمية والبحثية، ودعم الفلاحين بخطوط تمويل قارّة، وخاصة صغار الفلاحين، بما يمكن أن يُرشّد كثيرًا قيمة وارداتنا من القمح، والتي تناهز 3 مليارات دينار.
الممثل عن الإدارة العامة للإنتاج الفلاحي أحمد سطا لـ«الصباح»: لا مشاكل في تخزين الحبوب.. والطاقة المتوفّرة قادرة على استيعاب كامل الصابة
في بعض المواسم الفارطة، تسبب سوء التخزين أو الاضطراب في التجميع في تلف بعض المحاصيل وخسارة جزء من الصابة، ولكن هذا الموسم تم الاستعداد مبكرًا لعمليات التجميع والتخزين. وعملية التجميع والتخزين تسير اليوم بشكل جيد، وفق ما أفادنا به الممثل عن الإدارة العامة للإنتاج الفلاحي، أحمد سطا، الذي أكّد أن طاقة الخزن متوفّرة، حيث استعدّ ديوان الحبوب قبل انطلاق الحصاد بشكل جيد، إذ إنه بالإضافة إلى المخازن التي يملكها والتي تبلغ طاقة استيعابها 4.3 مليون قنطار، قام الديوان بكراء مخازن بطاقة استيعاب في حدود مليون قنطار.
وأضاف أحمد سطا: «هناك أيضًا مخازن المطاحن، والتي تبلغ طاقة استيعابها 2.9 مليون قنطار، وبعد بداية الموسم، قامت بكراء مخازن إضافية بطاقة استيعاب في حدود 200 ألف قنطار».
وعلى ضوء هذه الأرقام، أكّد أحمد سطا أنه لا توجد مشاكل في تخزين الحبوب، وأن الطاقة المتوفّرة قادرة على استيعاب كامل الصابة.
ويضيف سطا: «الصابة هذا الموسم أفضل بكثير من السنة الفارطة، ونحن نقترب من الرقم القياسي الذي تحقق في 2019، ببلوغ نسبة إنتاج في حدود 25 مليون قنطار ونسبة تجميع في حدود 18 مليون قنطار. في هذا الموسم، ستكون نسبة الإنتاج في حدود 20 مليون قنطار ونسبة التجميع بين 10 و11 مليون قنطار، وهي صابة هامة بالمقارنة مع صابة السنة الفارطة التي كانت في حدود 6 ملايين قنطار، والتي قبلها بـ3 ملايين قنطار».
وفي علاقة بمسألة الظروف المناخية وإمكانية تأثيرها على الصابة، قال أحمد سطا إن عملية التجميع إلى حد الآن تتم في ظروف طيبة، وإن حتى التساقطات الأخيرة بجهة بنزرت لم تؤثر على المحاصيل التي تم حفظها بشكل جيد، مؤكّدًا أنه إلى حد اليوم، ليس هناك أي مشكل في موسم الحصاد والتجميع والتخزين، وأنه إلى حدّ تاريخ 22 جوان الجاري، تم تجميع 1.26 مليون قنطار بولاية باجة، و701 ألف قنطار بولاية سليانة، و693 ألف قنطار بولاية بنزرت، و688 ألف قنطار بولاية جندوبة، و675 ألف قنطار بولاية بنزرت، وتأتي بعد ذلك بقية المناطق والولايات تباعًا.
كما أشار أحمد سطا إلى أن ارتفاع الصابة له تأثير إيجابي في التقليص من نسبة توريد الحبوب.
الباحثة بالمعهد الوطني للعلوم الفلاحية سرور عيادي لـ«الصباح»: البذور التونسية تمثّل أكثر من 80 % من الإنتاج ولا وجود لبذور أصلية وأخرى غير أصلية
◄ اثنتان فقط من ضمن 40 سلالة بذور قمح تم تجريبها نجحتا في التأقلم مع المناطق الصحراوية القاحلة
◄ هناك اليوم 132 صنفًا قديمًا من الحبوب تُجرى أبحاث عليها من أجل تطويرها
من الأقوال المتداولة في علاقة بالزراعات الكبرى خاصة، هو الحديث عن ضرورة العودة إلى بذورنا الأصلية التي لها جودة عالية وإنتاجية كبيرة. ولتوضيح هذه النقطة، قالت الباحثة بالمعهد الوطني للعلوم الفلاحية سرور عيادي في تصريح لـ«الصباح»:
«في البداية لا بدّ من رفع لبس وجدل متواصل منذ وقت طويل حول مصطلح «البذور الأصلية»، وهو التعبير الشائع والمتداول، وأنا لا أحبّذ استعمال هذا المصطلح، لأن البذور المستعملة في أغلبيتها هي بذور تونسية أصيلة، وهي تتأتّى من أصناف وسلالات مختلفة. وتلك السلالات، حتى يتم اعتمادها في مواسم البذر، تخضع إلى عملية طويلة ومعقّدة، حيث يتم تسجيل الأصناف في السجل الوطني للبذور، ويتم إجراء تجارب وبحوث عليها واختبارات كثيرة لمدة 4 سنوات، وقبل ذلك يشتغل معهد البحوث الفلاحية عليها لمدة 10 سنوات من تهجين وتجريب واختبارات جودة، وبالتالي الأمر يستغرق حوالي 15 سنة لتجهيز صنف من البذور قابل للبذر والاستغلال وقادر على تحقيق الإنتاجية. وبالتالي، الأمر ليس عشوائيًا أو اعتباطيًا، بل خاضع لقواعد علمية وبحثية صارمة».
وتضيف سرور عيادي: «الصنف هو نتاج مجهود تونسي خالص من بحث وتجريب وزراعة وعائدات، وإذا كان المقصود بالبذور الأصلية هي البذور القديمة مثل «المحمودي» و»البسكري» و»العجيلي»، فتلك البذور محفوظة في بنك الجينات، وهي تخضع للمتابعة والبحث والاختبار من أجل تطويرها وضمان إنتاجيتها وتأقلمها مع المناخ وبيئة البذر، وهذا ما يقوم به الباحثون بشكل متواصل، حيث نعمل على تحسين جودة هذه البذور طوال الوقت. ففي كل البلدان هناك الموروثات الجينية، ونحن نملك تلك الموروثات الجينية ونسعى للمحافظة عليها وتطويرها وفق أبحاث معيّنة تراعي عدّة متغيرات مناخية وبيئية. وبالتالي لا معنى اليوم للقول إن تلك الأصناف لم تعد متاحة أو لا تُبذر».
وفي سؤال حول النسبة التي تغطيها البذور التونسية الأصلية من حجم المحاصيل، أكّدت الباحثة سرور عيادي أن النسبة تفوق 80 %، وأن هناك اليوم أربع شركات مختصة في بيع تلك البذور وتزويد الفلاحين، وهذه الشركات مختصة في البذور التونسية وتتعامل مع المعهد الوطني للعلوم الفلاحية.
ومن أبرز الأصناف التي يُعتمد عليها اليوم في زراعة الحبوب، قالت الباحثة سرور عيادي: «الأصناف المتداولة اليوم نجد كريم، رزّاق، مهدي، معالي، الذهبي، وهناك صنف جديد أصبح جاهزًا اليوم هو «نجم»، وفي إجابة عن استفسار حول معدل الإنتاجية لكل صنف، قالت محدّثتنا إن ذلك يختلف باختلاف الخدمة الفنية وكذلك بيئة البذر والمناخ، حيث هناك بعض الأصناف تتفوّق بنسبة 5 أو 10 %».
وفي ذات السياق، كانت قد انطلقت تجربة زراعة عدة أصناف من القمح الصلب في معتمديتي ذهيبة ورمادة من ولاية تطاوين، في إطار برنامج تنمية المناطق القاحلة وتنويع الإنتاج، وتلك التجربة كانت ناجحة ومشجعة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، بشهادة المختصين.
وعن تلك التجربة تقول الباحثة سرور عيادي: «زراعة المناطق الصحراوية أو الاستنباط في زراعة القمح الصلب هي خطوات علمية واستباقية تحسبًا للتغيّرات المناخية التي تشهدها تونس ككل، وهناك تجارب اليوم ناجحة في دول الجوار مثل ليبيا والجزائر لزراعة أصناف من القمح الصلب في الصحراء واستغلال المائدة المائية الجوفية، والتي تملك تونس حصّة منها ويجب أن تستغلها بشكل جيد، في النهاية هذه المياه الجوفية ستنفد، ولا يجب أن يحدث ذلك دون أن نعمل على استغلالها بالشكل الأمثل».
وتضيف محدّثتنا: «حقول تطاوين أعطت نتيجة جيدة، وأنا كنت من الباحثين الذين راهنوا على هذا المشروع، حيث قمت بتجريب أكثر من 40 سلالة بذور، وقد ثبت أن اثنتين فقط منهما يمكنهما الصمود في المناخ الصحراوي وتحقيق نتائج. ومشروع زراعة القمح الصلب في تطاوين يأتي في إطار نظرة استباقية وتوقّع بحثي حول طبيعة وشكل المناخ ومردودية الإنتاج بعد عشر سنوات مثلًا، حيث إننا كباحثين يتعيّن علينا أن نفكّر دائمًا بشكل استباقي ونستشرف المخاطر قبل وقوعها. وإذا كنا نعمل على الاكتفاء الذاتي، فيجب وضع دائمًا كل الاحتمالات وإيجاد بدائل للمشاكل المستقبلية».
وختمت الباحثة سرور عيادي بالقول إن كل البذور تونسية، وكل بذرة لها موقعها وإنتاجيتها التي تُقاس بمدى تأقلمها مع مناخ معيّن أو بيئة بذر معيّنة تختلف من منطقة إلى أخرى. وشدّدت سرور عيادي بقولها: «نحن لسنا في حرب أو صراع مع الفلاحين، نحن نشجّعهم على زراعة الأصناف الملائمة التي تحقق الإنتاجية، ونحن دائمًا إلى جانب الفلاح، الذي يمكن أن يتحوّل إلى باحث ويعرف قبل غيره ما هي الأصناف التي تلائم أرضه وتحقق له الإنتاجية التي يريدها. هناك اليوم 132 صنفًا قديمًا يتم استغلاله في البحث من أجل تطوير الجودة والإنتاجية، ومن يتحدث عن افتقاد بعض الأصناف مثل «المحمودي» و»جناح الخطيفة»، فإن هذا الكلام غير دقيق، لأن كل الأصناف يتم الاشتغال عليها وإنجاز الأبحاث من أجل تطويرها وحمايتها وملاءمتها مع البيئة التي تُبذر فيها، وفق منظومة فلاحية وطنية مهمة، هي أفضل بكثير من منظومات أخرى تعتمدها بعض البلدان التي زرتها».
منية العرفاوي
_ تجهيز صنف واحد من البذور يستغرق 15 عامًا بين بحث وتجريب واختبار وتطوير
_ ديوان الحبوب يستعد بمخازن قادرة على استيعاب 5.3 مليون قنطار بين مخازن يملكها وأخرى على وجه الكراء
مع نهاية كل موسم حصاد، تتجدّد نفس التساؤلات حول حجم الصابة، وجودة المحاصيل، والأهم عملية تخزين الحبوب وحمايتها من التلف كما حدث في بعض المواسم الماضية بفعل التغييرات المناخية. وبالإضافة إلى هذه التساؤلات المألوفة من موسم إلى آخر، هناك أسئلة أخرى تُطرح في علاقة بالإنتاجية، وكذلك باستغلال ما يُسمّى بالبذور الأصلية ومدى نجاعتها في تجويد الصابة ورفع نسب الإنتاجية، وعلاقة كل ذلك بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب في ظل عوامل مناخية معادية للإنتاج في المواسم الأخيرة التي تأثّرت كثيرًا بالجفاف وفرضت إيجاد حلول؛ من ذلك تجريب زراعة أصناف من القمح الصلب في مناطق قاحلة، مثل تجربة زراعة القمح الصلب في بعض المناطق الصحراوية في تطاوين، والاستفادة من حصة تونس من مائدة المياه الجوفية أسوة بتجربة زراعة الحبوب في مناطق صحراوية كما هو الشأن في ليبيا أو الجزائر.
وكل هذه التساؤلات حاولت «الصباح» أن تجيب عنها بالاستئناس برأي الباحثين والمختصين المواكبين عن كثب لعملية إنتاج الحبوب وتطوير الأصناف الجيدة منها، واستغلال البذور التونسية في عملية الإنتاج، وكذلك من خلال رصد عوامل التغيير البيئي والمناخي التي يمكن أن تؤثّر سلبًا على حلقة الإنتاج.
زراعة الحبوب... قطاع استراتيجي
يُعدّ قطاع زراعة الحبوب من القطاعات الاستراتيجية التي تراهن عليها الدولة لتحقيق الأمن الغذائي، ورغم كل المحاولات وعبر العقود، لم نصل بعد إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، إلا أن ذلك لا يُنقص من أهمية الزراعات الكبرى في الخارطة الفلاحية الوطنية، ولا من أهميتها كمنتوج استراتيجي لكل الدول، وقد اتضح ذلك بشكل كبير بعد الحرب الأوكرانية التي فرضت على الدول ضرورة العمل على دعم منتوجها الوطني، حتى لا تواجه نفس الظروف الكارثية التي واجهتها بعض الدول المستوردة كليًا للحبوب مع بداية تلك الحرب.
ووفق المعطيات الرسمية التي أعلنها في وقت سابق رئيس ديوان وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، هيكل حشلاف، فإن قطاع الحبوب يمثّل 50 % من قيمة الواردات الغذائية و9 % من قيمة الإنتاج الفلاحي، ويستغلّ مساحة جملية تُقدّر بـ1.2 مليون هكتار، منها 30 % مساحة مروية. كما أن حوالي 250 ألف فلاح يتعاطون زراعة الحبوب.
وكانت المساحة المبذورة في الموسم الماضي قد بلغت 972 ألف هكتار، والمساحة المحصودة 717 ألف هكتار، وبلغت كمية التجميع 6.7 مليون قنطار، 88 % منها قمح صلب. أما بالنسبة لهذه السنة، فقد بلغت نسبة المساحات المزروعة حوالي 1.2 مليون هكتار، أي بزيادة 228 ألف هكتار مقارنة بالموسم الفارط، وتنقسم إلى 856 ألف هكتار في ولايات الشمال مقابل 812 ألفًا في الموسم الفارط، و317 ألف هكتار في ولايات الوسط والجنوب مقابل 160 ألفًا في الموسم الفارط.
أما بالنسبة للبذور، فقد وفّرت وزارة الفلاحة 300 ألف قنطار من البذور الممتازة مقابل 210 آلاف في الموسم الفارط، منها 40 ألف قنطار بذور الأساس و261 ألف قنطار من البذور المثبتة، فيما تبلغ كمية بذور الشعير العادية والمراقبة 160 ألف قنطار مقابل 207 آلاف في الموسم الفارط، وفق الإحصائيات الرسمية التي أعلنتها وزارة الفلاحة.
وكان وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، عز الدين بن الشيخ، قد أكّد في وقت سابق أن حاجيات الاستهلاك الوطني من الحبوب تبلغ سنويًا 36 مليون طن، وأن لهذا القطاع تأثيرًا على الميزان التجاري الغذائي، حيث تمثّل الحبوب الموردة 50 % من الحجم الجملي للواردات الغذائية، وأن هناك ارتباطًا وثيقًا بين مستوى الإنتاج والعوامل المناخية، إذ بلغ الإنتاج في بعض المواسم الممطرة حدود 20 مليون قنطار، فيما تراجع في مواسم أخرى تضرّرت بالجفاف إلى حدود 5 ملايين قنطار، وكانت مواسم صعبة على الفلاحين وعلى الدولة كذلك. وتكمن الصعوبة في أنه كلما تراجع الإنتاج، كلما ارتفعت معدّلات التوريد، وهو ما يعني استنزافًا للعملة الصعبة.
وتُعدّ التغيّرات المناخية التي شهدتها بلادنا في السنوات الأخيرة من العوائق الكبيرة في بلوغ مستويات عالية من إنتاج الحبوب، بما يضعنا أمام حتميّة إيجاد حلول للتأقلم مع هذه التغيّرات المناخية. وهذه الحتميّة تفرض البحث عن حلول بديلة واستباقية، ولعل تجربة الزراعة في المناطق القاحلة من الحلول الجيدة التي يجب دعمها أكثر اليوم.
وتبقى اليوم من بين الصعوبات التي يواجهها الفلاحون، والتي تؤثّر إلى حدّ ما على نسب الإنتاج في مواسم الحصاد، بالإضافة إلى الظروف المناخية، مسألة التزود بالبذور والأمونيتر والتمويل المالي لهذه الزراعات الكبرى. وخلال الموسم الحالي، تم الحرص على توفير أكثر ما يمكن من الأسمدة للفلاحين، لتفادي النقص الذي تم تسجيله في بعض المواسم الماضية، مع إقرار المحافظة على أسعار البذور الممتازة المراقبة، لتكون 160 دينارًا للقنطار من القمح الصلب، و130 دينارًا للقمح اللين، و120 دينارًا للتريتيكال. وبالنسبة للبذور التجارية العادية المراقبة، فقد تم إقرار 110 دنانير للقنطار من الشعير.
ورغم تحقيق صابة هامة هذا الموسم تقترب من المعدلات القياسية، فإن تحقيق الاكتفاء الذاتي من مادة الحبوب يتطلب ضرورة العمل على خطة وطنية متوسطة وبعيدة المدى لتطوير إنتاجنا، باستغلال كل الكفاءات العلمية والبحثية، ودعم الفلاحين بخطوط تمويل قارّة، وخاصة صغار الفلاحين، بما يمكن أن يُرشّد كثيرًا قيمة وارداتنا من القمح، والتي تناهز 3 مليارات دينار.
الممثل عن الإدارة العامة للإنتاج الفلاحي أحمد سطا لـ«الصباح»: لا مشاكل في تخزين الحبوب.. والطاقة المتوفّرة قادرة على استيعاب كامل الصابة
في بعض المواسم الفارطة، تسبب سوء التخزين أو الاضطراب في التجميع في تلف بعض المحاصيل وخسارة جزء من الصابة، ولكن هذا الموسم تم الاستعداد مبكرًا لعمليات التجميع والتخزين. وعملية التجميع والتخزين تسير اليوم بشكل جيد، وفق ما أفادنا به الممثل عن الإدارة العامة للإنتاج الفلاحي، أحمد سطا، الذي أكّد أن طاقة الخزن متوفّرة، حيث استعدّ ديوان الحبوب قبل انطلاق الحصاد بشكل جيد، إذ إنه بالإضافة إلى المخازن التي يملكها والتي تبلغ طاقة استيعابها 4.3 مليون قنطار، قام الديوان بكراء مخازن بطاقة استيعاب في حدود مليون قنطار.
وأضاف أحمد سطا: «هناك أيضًا مخازن المطاحن، والتي تبلغ طاقة استيعابها 2.9 مليون قنطار، وبعد بداية الموسم، قامت بكراء مخازن إضافية بطاقة استيعاب في حدود 200 ألف قنطار».
وعلى ضوء هذه الأرقام، أكّد أحمد سطا أنه لا توجد مشاكل في تخزين الحبوب، وأن الطاقة المتوفّرة قادرة على استيعاب كامل الصابة.
ويضيف سطا: «الصابة هذا الموسم أفضل بكثير من السنة الفارطة، ونحن نقترب من الرقم القياسي الذي تحقق في 2019، ببلوغ نسبة إنتاج في حدود 25 مليون قنطار ونسبة تجميع في حدود 18 مليون قنطار. في هذا الموسم، ستكون نسبة الإنتاج في حدود 20 مليون قنطار ونسبة التجميع بين 10 و11 مليون قنطار، وهي صابة هامة بالمقارنة مع صابة السنة الفارطة التي كانت في حدود 6 ملايين قنطار، والتي قبلها بـ3 ملايين قنطار».
وفي علاقة بمسألة الظروف المناخية وإمكانية تأثيرها على الصابة، قال أحمد سطا إن عملية التجميع إلى حد الآن تتم في ظروف طيبة، وإن حتى التساقطات الأخيرة بجهة بنزرت لم تؤثر على المحاصيل التي تم حفظها بشكل جيد، مؤكّدًا أنه إلى حد اليوم، ليس هناك أي مشكل في موسم الحصاد والتجميع والتخزين، وأنه إلى حدّ تاريخ 22 جوان الجاري، تم تجميع 1.26 مليون قنطار بولاية باجة، و701 ألف قنطار بولاية سليانة، و693 ألف قنطار بولاية بنزرت، و688 ألف قنطار بولاية جندوبة، و675 ألف قنطار بولاية بنزرت، وتأتي بعد ذلك بقية المناطق والولايات تباعًا.
كما أشار أحمد سطا إلى أن ارتفاع الصابة له تأثير إيجابي في التقليص من نسبة توريد الحبوب.
الباحثة بالمعهد الوطني للعلوم الفلاحية سرور عيادي لـ«الصباح»: البذور التونسية تمثّل أكثر من 80 % من الإنتاج ولا وجود لبذور أصلية وأخرى غير أصلية
◄ اثنتان فقط من ضمن 40 سلالة بذور قمح تم تجريبها نجحتا في التأقلم مع المناطق الصحراوية القاحلة
◄ هناك اليوم 132 صنفًا قديمًا من الحبوب تُجرى أبحاث عليها من أجل تطويرها
من الأقوال المتداولة في علاقة بالزراعات الكبرى خاصة، هو الحديث عن ضرورة العودة إلى بذورنا الأصلية التي لها جودة عالية وإنتاجية كبيرة. ولتوضيح هذه النقطة، قالت الباحثة بالمعهد الوطني للعلوم الفلاحية سرور عيادي في تصريح لـ«الصباح»:
«في البداية لا بدّ من رفع لبس وجدل متواصل منذ وقت طويل حول مصطلح «البذور الأصلية»، وهو التعبير الشائع والمتداول، وأنا لا أحبّذ استعمال هذا المصطلح، لأن البذور المستعملة في أغلبيتها هي بذور تونسية أصيلة، وهي تتأتّى من أصناف وسلالات مختلفة. وتلك السلالات، حتى يتم اعتمادها في مواسم البذر، تخضع إلى عملية طويلة ومعقّدة، حيث يتم تسجيل الأصناف في السجل الوطني للبذور، ويتم إجراء تجارب وبحوث عليها واختبارات كثيرة لمدة 4 سنوات، وقبل ذلك يشتغل معهد البحوث الفلاحية عليها لمدة 10 سنوات من تهجين وتجريب واختبارات جودة، وبالتالي الأمر يستغرق حوالي 15 سنة لتجهيز صنف من البذور قابل للبذر والاستغلال وقادر على تحقيق الإنتاجية. وبالتالي، الأمر ليس عشوائيًا أو اعتباطيًا، بل خاضع لقواعد علمية وبحثية صارمة».
وتضيف سرور عيادي: «الصنف هو نتاج مجهود تونسي خالص من بحث وتجريب وزراعة وعائدات، وإذا كان المقصود بالبذور الأصلية هي البذور القديمة مثل «المحمودي» و»البسكري» و»العجيلي»، فتلك البذور محفوظة في بنك الجينات، وهي تخضع للمتابعة والبحث والاختبار من أجل تطويرها وضمان إنتاجيتها وتأقلمها مع المناخ وبيئة البذر، وهذا ما يقوم به الباحثون بشكل متواصل، حيث نعمل على تحسين جودة هذه البذور طوال الوقت. ففي كل البلدان هناك الموروثات الجينية، ونحن نملك تلك الموروثات الجينية ونسعى للمحافظة عليها وتطويرها وفق أبحاث معيّنة تراعي عدّة متغيرات مناخية وبيئية. وبالتالي لا معنى اليوم للقول إن تلك الأصناف لم تعد متاحة أو لا تُبذر».
وفي سؤال حول النسبة التي تغطيها البذور التونسية الأصلية من حجم المحاصيل، أكّدت الباحثة سرور عيادي أن النسبة تفوق 80 %، وأن هناك اليوم أربع شركات مختصة في بيع تلك البذور وتزويد الفلاحين، وهذه الشركات مختصة في البذور التونسية وتتعامل مع المعهد الوطني للعلوم الفلاحية.
ومن أبرز الأصناف التي يُعتمد عليها اليوم في زراعة الحبوب، قالت الباحثة سرور عيادي: «الأصناف المتداولة اليوم نجد كريم، رزّاق، مهدي، معالي، الذهبي، وهناك صنف جديد أصبح جاهزًا اليوم هو «نجم»، وفي إجابة عن استفسار حول معدل الإنتاجية لكل صنف، قالت محدّثتنا إن ذلك يختلف باختلاف الخدمة الفنية وكذلك بيئة البذر والمناخ، حيث هناك بعض الأصناف تتفوّق بنسبة 5 أو 10 %».
وفي ذات السياق، كانت قد انطلقت تجربة زراعة عدة أصناف من القمح الصلب في معتمديتي ذهيبة ورمادة من ولاية تطاوين، في إطار برنامج تنمية المناطق القاحلة وتنويع الإنتاج، وتلك التجربة كانت ناجحة ومشجعة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، بشهادة المختصين.
وعن تلك التجربة تقول الباحثة سرور عيادي: «زراعة المناطق الصحراوية أو الاستنباط في زراعة القمح الصلب هي خطوات علمية واستباقية تحسبًا للتغيّرات المناخية التي تشهدها تونس ككل، وهناك تجارب اليوم ناجحة في دول الجوار مثل ليبيا والجزائر لزراعة أصناف من القمح الصلب في الصحراء واستغلال المائدة المائية الجوفية، والتي تملك تونس حصّة منها ويجب أن تستغلها بشكل جيد، في النهاية هذه المياه الجوفية ستنفد، ولا يجب أن يحدث ذلك دون أن نعمل على استغلالها بالشكل الأمثل».
وتضيف محدّثتنا: «حقول تطاوين أعطت نتيجة جيدة، وأنا كنت من الباحثين الذين راهنوا على هذا المشروع، حيث قمت بتجريب أكثر من 40 سلالة بذور، وقد ثبت أن اثنتين فقط منهما يمكنهما الصمود في المناخ الصحراوي وتحقيق نتائج. ومشروع زراعة القمح الصلب في تطاوين يأتي في إطار نظرة استباقية وتوقّع بحثي حول طبيعة وشكل المناخ ومردودية الإنتاج بعد عشر سنوات مثلًا، حيث إننا كباحثين يتعيّن علينا أن نفكّر دائمًا بشكل استباقي ونستشرف المخاطر قبل وقوعها. وإذا كنا نعمل على الاكتفاء الذاتي، فيجب وضع دائمًا كل الاحتمالات وإيجاد بدائل للمشاكل المستقبلية».
وختمت الباحثة سرور عيادي بالقول إن كل البذور تونسية، وكل بذرة لها موقعها وإنتاجيتها التي تُقاس بمدى تأقلمها مع مناخ معيّن أو بيئة بذر معيّنة تختلف من منطقة إلى أخرى. وشدّدت سرور عيادي بقولها: «نحن لسنا في حرب أو صراع مع الفلاحين، نحن نشجّعهم على زراعة الأصناف الملائمة التي تحقق الإنتاجية، ونحن دائمًا إلى جانب الفلاح، الذي يمكن أن يتحوّل إلى باحث ويعرف قبل غيره ما هي الأصناف التي تلائم أرضه وتحقق له الإنتاجية التي يريدها. هناك اليوم 132 صنفًا قديمًا يتم استغلاله في البحث من أجل تطوير الجودة والإنتاجية، ومن يتحدث عن افتقاد بعض الأصناف مثل «المحمودي» و»جناح الخطيفة»، فإن هذا الكلام غير دقيق، لأن كل الأصناف يتم الاشتغال عليها وإنجاز الأبحاث من أجل تطويرها وحمايتها وملاءمتها مع البيئة التي تُبذر فيها، وفق منظومة فلاحية وطنية مهمة، هي أفضل بكثير من منظومات أخرى تعتمدها بعض البلدان التي زرتها».
منية العرفاوي