إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مسجلة‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي‭ ‬اللامادي.. ثلاثة‭ ‬إصدارات‭ ‬جديدة‭ ‬حول‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان‭.. ‬الصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬و«الهريسة‮»‬‭ ‬التونسية

صدرت‭ ‬مؤخراً‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتيبات‭ ‬في‭ ‬طبعة‭ ‬جميلة‭ ‬وأنيقة‭ ‬وفاخرة‭  ‬منشورات‭ ‬التراث‭ ‬المغاربي‭ ‬والمتوسطي‭ ‬–‭ ‬ووكالة‭ ‬إحياء‭ ‬التراث‭ ‬والتنمية‭ ‬الثقافية‭. ‬اهتم‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منها‭ ‬بأحد‭ ‬المجالات‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬إدراجها‭ ‬في‭ ‬الأعوام‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬اللامادي‭ ‬لمنظمة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬للتربية‭ ‬والثقافة‭ ‬والعلوم‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬التوالي‭: ‬خزف‭ ‬سجنان‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان،‭ ‬والصيد‭ ‬بالشرفية،‭ ‬و»الهريسة‮»‬‭ ‬التونسية‭.‬

الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬عملية‭ ‬توثيق‭ ‬مهمة‭ ‬لفن‭ ‬الخزف‭ ‬كما‭ ‬تمارسه‭ ‬نساء‭ ‬سجنان‭ ‬اللواتي‭ ‬حولن‭ ‬حرفتهن‭ ‬ومهاراتهن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬حقيقي‭ ‬نال‭ ‬اعتراف‭ ‬اليونسكو‭ ‬منذ‭ ‬2018‭.‬

السحر‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬تشكيل‭ ‬طين‭ ‬الأرض

إنه‭ ‬دعوة‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬المبادرة‭ ‬إلى‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان‭ ‬اللواتي‭ ‬يمارسن‭ ‬فنهن‭ ‬بطريقة‭ ‬تقليدية‭ ‬تتوارثنها‭ ‬جيلاً‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭. ‬حيث‭ ‬يكمن‭ ‬كل‭ ‬السحر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيادي‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬الطين‭ ‬فتتشكل‭ ‬بين‭ ‬أصابعهن،‭ ‬فتتخذ‭ ‬عدة‭ ‬صور‭ ‬متقنة‭ ‬وأبرزها‭ ‬‮«‬عروسة‭ ‬سجنان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أوصلت‭ ‬فخار‭ ‬سجنان‭ ‬إلى‭ ‬العالمية،‭ ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬طبعاً‭ ‬أواني‭ ‬الفخار‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬تشهد‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬الحرفية‭ ‬والمهارات‭ ‬المكتسبة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬طين‭ ‬الأرض،‭ ‬وهو‭ ‬تاريخ‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬خزافات‭ ‬سجنان‭ ‬إبداعات‭ ‬اليد‮»‬،‭ ‬وغلافه‭ ‬مزخرف‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬الأواني‭ ‬الخزفية‭ ‬المصنوعة‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬والمحبة‭ ‬والتعلق‭ ‬بطين‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬يفتح‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬التاريخ،‭ ‬تاريخ‭ ‬الفخار‭ ‬والخزف‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬وأبرز‭ ‬الخصوصيات‭ ‬والمواد‭ ‬وتطور‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬عبر‭ ‬عدة‭ ‬مراحل‭ ‬تاريخية،‭ ‬وأيضاً‭ ‬عين‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان‭ ‬ومن‭ ‬بينهن‭ ‬السيدة‭ ‬صبيحة‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬ورشتها‭ ‬وقلبها‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬تجربتها‭. ‬والجميل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بوصف‭ ‬مكامن‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬بحرفة‭ ‬الخزافات،‭ ‬وإنما‭ ‬طرح‭ ‬إشكاليات‭ ‬هامة‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬مثلاً‭ ‬قلة‭ ‬المردود‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬حيث‭ ‬تكتفي‭ ‬الخزافات‭ ‬بالقليل‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬لحرفتهن‭ ‬أن‭ ‬تجعلهن‭ ‬كما‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬الكتيب‭ ‬‮«‬يكسبن‭ ‬الذهب‮»‬‭. ‬الإشكالية‭ ‬الأخرى‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬بمستقبل‭ ‬الحرفة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬قلة‭ ‬المداخيل‭ ‬وعدم‭ ‬حماية‭ ‬حقوق‭ ‬الملكية‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬العزوف‭ ‬لدى‭ ‬الشباب‭ ‬والشابات‭ ‬على‭ ‬خوض‭ ‬المغامرة‭.‬

في‭ ‬الكتاب‭ ‬أيضاً‭ ‬التفاتة‭ ‬إلى‭ ‬المبادرات‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬للتعريف‭ ‬بعروسة‭ ‬سجنان‭ ‬وخزافات‭ ‬سجنان،‭ ‬وخاصة‭ ‬تظاهرة‭ ‬‮«‬دريم‭ ‬سيتي‮»‬‭ ‬للثنائي‭ ‬سلمى‭ ‬وسفيان‭ ‬ويسي‭ ‬اللذان‭ ‬قاما‭ ‬بمجهودات‭ ‬كبيرة‭ ‬للتعريف‭ ‬بعروسة‭ ‬سجنان‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭.‬

ولنا‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سجنان‭ ‬من‭ ‬ولاية‭ ‬بنزرت‭ ‬لها‭ ‬جمال‭ ‬طبيعي‭ ‬مميز‭ ‬وهي‭ ‬تبعد‭ ‬حوالي‭ ‬120‭ ‬كم‭ ‬عن‭ ‬تونس‭ ‬العاصمة،‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬معروفة‭ ‬بفخار‭ ‬سجنان‭ ‬الذي‭ ‬يعترضك‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يذكرنا‭ ‬به‭ ‬الكتيب‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الطريق‭ ‬قبل‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬القرية،‭ ‬فقد‭ ‬تحولت‭ ‬الحرفة‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬رزق‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الحرفيات‭ ‬ومن‭ ‬بينهن‭ ‬من‭ ‬انتظمن‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تعاونيات‭. ‬لكن‭ ‬تبقى‭ ‬الحرفة‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬أكبر،‭ ‬وخاصة‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭ ‬حقوق‭ ‬الخزافات‭ ‬وضمان‭ ‬استمرارية‭ ‬الحرفة‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان‭ ‬حولنها‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬حقيقي‭.‬

ارتباط‭ ‬مشهود‭ ‬لسكان‭ ‬قرقنة‭ ‬بالذاكرة

الكتيب‭ ‬الثاني‭ ‬وهو‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬اهتم‭ ‬بالصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬جهة‭ ‬قرقنة‭ ‬من‭ ‬ولاية‭ ‬صفاقس‭ ‬بالجنوب‭ ‬التونسي،‭ ‬ويحمل‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬قرقنة‭ ‬أرخبيل‭ ‬الشرفية‮»‬‭. ‬يضم‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬بتوقيع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬فيفيان‭ ‬بالطيب‭ ‬وعامر‭ ‬الوسلاتي،‭ ‬ويحتوي‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬هامة‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬ذات‭ ‬الجودة‭ ‬العالية‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬فكرة‭ ‬حول‭ ‬جزر‭ ‬قرقنة‭ ‬وحول‭ ‬طبيعتها،‭ ‬وخاصة‭ ‬حول‭ ‬العلاقة‭ ‬القوية‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬قرقنة‭ ‬والبحر‭. ‬الكتيب‭ ‬عاد‭ ‬بنا‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬رابطاً‭ ‬حاضر‭ ‬الأرخبيل‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬الأجداد‭ ‬من‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬وما‭ ‬علموه‭ ‬للأجيال‭ ‬تباعاً‭ ‬من‭ ‬مهارات،‭ ‬وهي‭ ‬تدور‭ ‬أغلبها‭ ‬حول‭ ‬البحر‭ ‬وتحديداً‭ ‬حول‭ ‬الصيد‭ ‬البحري‭.‬

عرفنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬مثلاً‭ ‬أن‭ ‬سكان‭ ‬قرقنة‭ ‬مولعون‭ ‬جداً‭ ‬بصناعة‭ ‬السفن‭ ‬وأن‭ ‬لديهم‭ ‬مهارات‭ ‬مؤكدة‭ ‬حتى‭ ‬أنهم‭ ‬تمكنوا‭ ‬من‭ ‬ترميم‭ ‬السفن‭ ‬القديمة‭ ‬–‭ ‬الشهيرة‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬اللّود‮»‬‭ ‬–‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬قرقنة‭ ‬باليابسة،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬السفينة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬استعملها‭ ‬الزعيم‭ ‬الراحل‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬لدى‭ ‬هروبه‭ ‬عبر‭ ‬جزيرة‭ ‬قرقنة‭ ‬من‭ ‬ملاحقة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الأربعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬أيضاً‭ ‬تعداد‭ ‬لطرق‭ ‬الصيد‭ ‬التقليدية‭ ‬المستعملة‭ ‬في‭ ‬قرقنة،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬الصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬تسجيله‭ ‬في‭ ‬2020‭ ‬على‭ ‬قائمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي‭ ‬اللامادي‭.‬

والصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬هو‭ ‬أسلوب‭ ‬تقليدي‭ ‬فريد‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬ويعتبر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أقدم‭ ‬طرق‭ ‬الصيد‭ ‬في‭ ‬البلاد‭. ‬تقوم‭ ‬الفكرة‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬مصائد‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬باستخدام‭ ‬سعف‭ ‬النخيل،‭ ‬فتنصب‭ ‬حواجز‭ ‬توجه‭ ‬الأسماك‭ ‬نحو‭ ‬غرف‭ ‬صغيرة‭ ‬–‭ ‬ثلاث‭ ‬غرف‭ ‬–‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تستقر‭ ‬الأسماك‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬‮«‬الحجز‮»‬‭.‬

ولنا‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أبرز‭ ‬أمرين‭ ‬يتكرران‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬هما‭: ‬أولاً،‭ ‬استنباط‭ ‬أهل‭ ‬قرقنة‭ ‬لطرق‭ ‬الصيد،‭ ‬وأساليبهم‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬الحياة،‭ ‬يؤكد‭ ‬مدى‭ ‬ارتباطهم‭ ‬بمحيطهم‭ ‬الجغرافي‭ ‬ومدى‭ ‬تعلقهم‭ ‬بأرخبيلهم‭ ‬الهادئ‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬المؤرخون‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مأهولاً‭ ‬بالسكان‭ ‬منذ‭ ‬التاريخ‭ ‬القديم‭. ‬وثانياً،‭ ‬التمسك‭ ‬بالذاكرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الطرق‭ ‬القديمة‭ ‬والأساليب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يستعملها‭ ‬الأجداد‭ ‬من‭ ‬البحارة‭ ‬والصيادين،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬طرق‭ ‬الصيد‭ ‬الكثيرة‭ ‬التقليدية،‭ ‬ومنها‭ ‬الصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬–‭ ‬أهل‭ ‬قرقنة‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الشرافي‮»‬‭ ‬–‭ ‬والتي‭ ‬يبلغ‭ ‬عددها‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬ذكر‭ ‬في‭ ‬الكتيب‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬بصدده‭ ‬400‭ ‬طريقة،‭ ‬وقد‭ ‬سجلت‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬اليونسكو‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي‭ ‬غير‭ ‬المادي‭.‬

طبعاً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬قرقنة‭ ‬ولا‭ ‬نجد‭ ‬صورة‭ ‬لأشهر‭ ‬شخصية‭ ‬أصيلة‭ ‬للجزيرة،‭ ‬ونعني‭ ‬بذلك‭ ‬المناضل‭ ‬النقابي‭ ‬الكبير‭ ‬فرحات‭ ‬حشاد‭.‬

‮«‬الهريسة‮»‬‭ ‬واللون‭ ‬الأحمر‭ ‬يطغى

‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب

‮«‬الهريسة‮»‬‭ ‬التونسية‭ ‬وما‭ ‬أدراك‭ ‬ما‭ ‬‮«‬الهريسة‮»‬،‭ ‬هي‭ ‬موضوع‭ ‬الإصدار‭ ‬الثالث،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬تحسس‭ ‬طعم‭ ‬الفلفل‭ ‬وطعم‭ ‬الهريسة‭ ‬التي‭ ‬تجدها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دار‭ ‬في‭ ‬تونس‭. ‬وطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يطغى‭ ‬اللون‭ ‬الأحمر‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يهتم‭ ‬بمادة‭ ‬مصنوعة‭ ‬من‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر‭ ‬مكنت‭ ‬مهارة‭ ‬التونسيين‭ ‬من‭ ‬جعلها‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬لائحة‭ ‬اليونسكو‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي‭ ‬اللامادي،‭ ‬وتم‭ ‬تسجيلها‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ ‬2022‭.‬

كل‭ ‬صفحة‭ ‬نجد‭ ‬بها‭ ‬قروناً‭ ‬من‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر‭ ‬–‭ ‬كاملة‭ ‬أو‭ ‬مقطوعة‭ ‬أو‭ ‬مشرحة‭ ‬–‭ ‬وهناك‭ ‬صور‭ ‬جميلة‭ ‬لبيوت‭ ‬تتدلى‭ ‬منها‭ ‬جدائل‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬بولاية‭ ‬نابل‭ ‬بالوطن‭ ‬القبلي‭ ‬مثلاً‭. ‬بعض‭ ‬الدكاكين‭ ‬المختصة‭ ‬في‭ ‬بيع‭ ‬التوابل‭ ‬توشح‭ ‬واجهاتها‭ ‬بدورها‭ ‬جدائل‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر،‭ ‬هذا‭ ‬المنتج‭ ‬السحري‭ ‬الذي‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬عجينة‭ ‬تزيدها‭ ‬التوابل‭ ‬وطريقة‭ ‬الطبخ‭ ‬وزيت‭ ‬الزيتون‭ ‬قيمة‭ ‬ولذة،‭ ‬طبعاً‭ ‬لمن‭ ‬يهوى‭ ‬لسعة‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر،‭ ‬لأن‭ ‬الهريسة‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬طيبة‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬مذاقها‭ ‬حاراً‭ ‬وتلسع‭ ‬أحياناً‭.‬

بلادنا‭ ‬تنتج‭ ‬أطناناً‭ ‬من‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر،‭ ‬فمعدل‭ ‬الإنتاج‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬ذكر‭ ‬من‭ ‬أرقام‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬300‭,‬000‭ ‬طن‭ ‬وفق‭ ‬إحصائيات‭ ‬للفترة‭ ‬التي‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬2017‭ ‬و2023،‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬منتجاً‭ ‬فلاحياً‭ ‬هاماً‭ ‬ومورد‭ ‬رزق‭ ‬لكثيرين‭. ‬وزراعة‭ ‬الفلفل‭ ‬أيضاً‭ ‬لها‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬وبعيد‭ ‬وتتداخل‭ ‬الأسطورة‭ ‬والواقع‭ ‬حول‭ ‬الموضوع،‭ ‬لكن‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الهريسة‮»‬‭ ‬أصبحت‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬الأكل‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬ويتفنن‭ ‬التونسيون‭ ‬في‭ ‬إعدادها،‭ ‬ومازال‭ ‬الكثيرون‭ ‬يحبذون‭ ‬الوصفات‭ ‬التقليدية‭ ‬المتوارثة‭ ‬عن‭ ‬الأجداد‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬الهريسة‭ ‬وطبخها‭ ‬ومنحها‭ ‬نكهة‭ ‬معينة‭ ‬باستعمال‭ ‬التوابل‭.‬

ولعلنا‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬معطى‭ ‬هام‭ ‬أورده‭ ‬الكتيب‭ ‬وهو‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر‭ ‬الذي‭ ‬نصنع‭ ‬منه‭ ‬الهريسة‭ ‬مفيد‭ ‬للصحة‭ ‬وأنه‭ ‬يحمي‭ ‬من‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬لما‭ ‬يحتويه‭ ‬من‭ ‬فيتامينات‭ ‬يحتاجها‭ ‬الجسم‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬الشعوب‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬أصقاع‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬تستعمله‭ ‬في‭ ‬العلاج‭ ‬وفي‭ ‬المساعدة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬حرارة‭ ‬الطقس،‭ ‬طبعاً‭ ‬حسب‭ ‬اختلاف‭ ‬المناخات‭.‬

وقد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الكتيبات‭ ‬المليئة‭ ‬بالصور‭ ‬والرسوم‭ ‬البيانية‭ ‬تعتبر‭ ‬طريقة‭ ‬ذكية‭ ‬في‭ ‬التعريف‭ ‬بخصائص‭ ‬ثقافية‭ ‬تونسية‭ ‬سواء‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالمهارات‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الحرف‭ ‬أو‭ ‬بالعادات‭ ‬الغذائية‭. ‬فهي‭ ‬تحمل‭ ‬كمّاً‭ ‬مهماً‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬المتنوعة‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬الإفادة‭ ‬دون‭ ‬إثقال‭ ‬كاهل‭ ‬القارئ‭. ‬ومهم‭ ‬جداً‭ ‬أن‭ ‬تتزين‭ ‬مكتبات‭ ‬التونسيين‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الإصدارات‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬قيمة‭ ‬المحتوى‭ ‬والشكل‭ ‬الأنيق‭ ‬الذي‭ ‬يليق‭ ‬بتراثنا‭ ‬المادي‭ ‬أو‭ ‬اللامادي‭.‬

حياة‭ ‬السايب

مسجلة‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي‭ ‬اللامادي.. ثلاثة‭ ‬إصدارات‭ ‬جديدة‭ ‬حول‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان‭.. ‬الصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬و«الهريسة‮»‬‭ ‬التونسية

صدرت‭ ‬مؤخراً‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتيبات‭ ‬في‭ ‬طبعة‭ ‬جميلة‭ ‬وأنيقة‭ ‬وفاخرة‭  ‬منشورات‭ ‬التراث‭ ‬المغاربي‭ ‬والمتوسطي‭ ‬–‭ ‬ووكالة‭ ‬إحياء‭ ‬التراث‭ ‬والتنمية‭ ‬الثقافية‭. ‬اهتم‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منها‭ ‬بأحد‭ ‬المجالات‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬إدراجها‭ ‬في‭ ‬الأعوام‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭ ‬اللامادي‭ ‬لمنظمة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬للتربية‭ ‬والثقافة‭ ‬والعلوم‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬التوالي‭: ‬خزف‭ ‬سجنان‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان،‭ ‬والصيد‭ ‬بالشرفية،‭ ‬و»الهريسة‮»‬‭ ‬التونسية‭.‬

الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬عملية‭ ‬توثيق‭ ‬مهمة‭ ‬لفن‭ ‬الخزف‭ ‬كما‭ ‬تمارسه‭ ‬نساء‭ ‬سجنان‭ ‬اللواتي‭ ‬حولن‭ ‬حرفتهن‭ ‬ومهاراتهن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬حقيقي‭ ‬نال‭ ‬اعتراف‭ ‬اليونسكو‭ ‬منذ‭ ‬2018‭.‬

السحر‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬تشكيل‭ ‬طين‭ ‬الأرض

إنه‭ ‬دعوة‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬المبادرة‭ ‬إلى‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان‭ ‬اللواتي‭ ‬يمارسن‭ ‬فنهن‭ ‬بطريقة‭ ‬تقليدية‭ ‬تتوارثنها‭ ‬جيلاً‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭. ‬حيث‭ ‬يكمن‭ ‬كل‭ ‬السحر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيادي‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬الطين‭ ‬فتتشكل‭ ‬بين‭ ‬أصابعهن،‭ ‬فتتخذ‭ ‬عدة‭ ‬صور‭ ‬متقنة‭ ‬وأبرزها‭ ‬‮«‬عروسة‭ ‬سجنان‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أوصلت‭ ‬فخار‭ ‬سجنان‭ ‬إلى‭ ‬العالمية،‭ ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬طبعاً‭ ‬أواني‭ ‬الفخار‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬تشهد‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬الحرفية‭ ‬والمهارات‭ ‬المكتسبة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬طين‭ ‬الأرض،‭ ‬وهو‭ ‬تاريخ‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬خزافات‭ ‬سجنان‭ ‬إبداعات‭ ‬اليد‮»‬،‭ ‬وغلافه‭ ‬مزخرف‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬الأواني‭ ‬الخزفية‭ ‬المصنوعة‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬والمحبة‭ ‬والتعلق‭ ‬بطين‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬يفتح‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬التاريخ،‭ ‬تاريخ‭ ‬الفخار‭ ‬والخزف‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬وأبرز‭ ‬الخصوصيات‭ ‬والمواد‭ ‬وتطور‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬عبر‭ ‬عدة‭ ‬مراحل‭ ‬تاريخية،‭ ‬وأيضاً‭ ‬عين‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان‭ ‬ومن‭ ‬بينهن‭ ‬السيدة‭ ‬صبيحة‭ ‬التي‭ ‬فتحت‭ ‬ورشتها‭ ‬وقلبها‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬تجربتها‭. ‬والجميل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بوصف‭ ‬مكامن‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬بحرفة‭ ‬الخزافات،‭ ‬وإنما‭ ‬طرح‭ ‬إشكاليات‭ ‬هامة‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬مثلاً‭ ‬قلة‭ ‬المردود‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬حيث‭ ‬تكتفي‭ ‬الخزافات‭ ‬بالقليل‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬لحرفتهن‭ ‬أن‭ ‬تجعلهن‭ ‬كما‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬الكتيب‭ ‬‮«‬يكسبن‭ ‬الذهب‮»‬‭. ‬الإشكالية‭ ‬الأخرى‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬بمستقبل‭ ‬الحرفة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬قلة‭ ‬المداخيل‭ ‬وعدم‭ ‬حماية‭ ‬حقوق‭ ‬الملكية‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬العزوف‭ ‬لدى‭ ‬الشباب‭ ‬والشابات‭ ‬على‭ ‬خوض‭ ‬المغامرة‭.‬

في‭ ‬الكتاب‭ ‬أيضاً‭ ‬التفاتة‭ ‬إلى‭ ‬المبادرات‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬للتعريف‭ ‬بعروسة‭ ‬سجنان‭ ‬وخزافات‭ ‬سجنان،‭ ‬وخاصة‭ ‬تظاهرة‭ ‬‮«‬دريم‭ ‬سيتي‮»‬‭ ‬للثنائي‭ ‬سلمى‭ ‬وسفيان‭ ‬ويسي‭ ‬اللذان‭ ‬قاما‭ ‬بمجهودات‭ ‬كبيرة‭ ‬للتعريف‭ ‬بعروسة‭ ‬سجنان‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭.‬

ولنا‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سجنان‭ ‬من‭ ‬ولاية‭ ‬بنزرت‭ ‬لها‭ ‬جمال‭ ‬طبيعي‭ ‬مميز‭ ‬وهي‭ ‬تبعد‭ ‬حوالي‭ ‬120‭ ‬كم‭ ‬عن‭ ‬تونس‭ ‬العاصمة،‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬معروفة‭ ‬بفخار‭ ‬سجنان‭ ‬الذي‭ ‬يعترضك‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يذكرنا‭ ‬به‭ ‬الكتيب‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الطريق‭ ‬قبل‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬القرية،‭ ‬فقد‭ ‬تحولت‭ ‬الحرفة‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬رزق‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الحرفيات‭ ‬ومن‭ ‬بينهن‭ ‬من‭ ‬انتظمن‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تعاونيات‭. ‬لكن‭ ‬تبقى‭ ‬الحرفة‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬أكبر،‭ ‬وخاصة‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭ ‬حقوق‭ ‬الخزافات‭ ‬وضمان‭ ‬استمرارية‭ ‬الحرفة‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬خزافات‭ ‬سجنان‭ ‬حولنها‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬حقيقي‭.‬

ارتباط‭ ‬مشهود‭ ‬لسكان‭ ‬قرقنة‭ ‬بالذاكرة

الكتيب‭ ‬الثاني‭ ‬وهو‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬اهتم‭ ‬بالصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬جهة‭ ‬قرقنة‭ ‬من‭ ‬ولاية‭ ‬صفاقس‭ ‬بالجنوب‭ ‬التونسي،‭ ‬ويحمل‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬قرقنة‭ ‬أرخبيل‭ ‬الشرفية‮»‬‭. ‬يضم‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬بتوقيع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬فيفيان‭ ‬بالطيب‭ ‬وعامر‭ ‬الوسلاتي،‭ ‬ويحتوي‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬هامة‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬ذات‭ ‬الجودة‭ ‬العالية‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬فكرة‭ ‬حول‭ ‬جزر‭ ‬قرقنة‭ ‬وحول‭ ‬طبيعتها،‭ ‬وخاصة‭ ‬حول‭ ‬العلاقة‭ ‬القوية‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬قرقنة‭ ‬والبحر‭. ‬الكتيب‭ ‬عاد‭ ‬بنا‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬رابطاً‭ ‬حاضر‭ ‬الأرخبيل‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬الأجداد‭ ‬من‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬وما‭ ‬علموه‭ ‬للأجيال‭ ‬تباعاً‭ ‬من‭ ‬مهارات،‭ ‬وهي‭ ‬تدور‭ ‬أغلبها‭ ‬حول‭ ‬البحر‭ ‬وتحديداً‭ ‬حول‭ ‬الصيد‭ ‬البحري‭.‬

عرفنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬مثلاً‭ ‬أن‭ ‬سكان‭ ‬قرقنة‭ ‬مولعون‭ ‬جداً‭ ‬بصناعة‭ ‬السفن‭ ‬وأن‭ ‬لديهم‭ ‬مهارات‭ ‬مؤكدة‭ ‬حتى‭ ‬أنهم‭ ‬تمكنوا‭ ‬من‭ ‬ترميم‭ ‬السفن‭ ‬القديمة‭ ‬–‭ ‬الشهيرة‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬اللّود‮»‬‭ ‬–‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬قرقنة‭ ‬باليابسة،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬السفينة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬استعملها‭ ‬الزعيم‭ ‬الراحل‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬لدى‭ ‬هروبه‭ ‬عبر‭ ‬جزيرة‭ ‬قرقنة‭ ‬من‭ ‬ملاحقة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الأربعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬أيضاً‭ ‬تعداد‭ ‬لطرق‭ ‬الصيد‭ ‬التقليدية‭ ‬المستعملة‭ ‬في‭ ‬قرقنة،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬الصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬تسجيله‭ ‬في‭ ‬2020‭ ‬على‭ ‬قائمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي‭ ‬اللامادي‭.‬

والصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬هو‭ ‬أسلوب‭ ‬تقليدي‭ ‬فريد‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬ويعتبر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أقدم‭ ‬طرق‭ ‬الصيد‭ ‬في‭ ‬البلاد‭. ‬تقوم‭ ‬الفكرة‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬مصائد‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬باستخدام‭ ‬سعف‭ ‬النخيل،‭ ‬فتنصب‭ ‬حواجز‭ ‬توجه‭ ‬الأسماك‭ ‬نحو‭ ‬غرف‭ ‬صغيرة‭ ‬–‭ ‬ثلاث‭ ‬غرف‭ ‬–‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تستقر‭ ‬الأسماك‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬‮«‬الحجز‮»‬‭.‬

ولنا‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أبرز‭ ‬أمرين‭ ‬يتكرران‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬هذا‭ ‬الكتيب‭ ‬هما‭: ‬أولاً،‭ ‬استنباط‭ ‬أهل‭ ‬قرقنة‭ ‬لطرق‭ ‬الصيد،‭ ‬وأساليبهم‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬الحياة،‭ ‬يؤكد‭ ‬مدى‭ ‬ارتباطهم‭ ‬بمحيطهم‭ ‬الجغرافي‭ ‬ومدى‭ ‬تعلقهم‭ ‬بأرخبيلهم‭ ‬الهادئ‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬المؤرخون‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مأهولاً‭ ‬بالسكان‭ ‬منذ‭ ‬التاريخ‭ ‬القديم‭. ‬وثانياً،‭ ‬التمسك‭ ‬بالذاكرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الطرق‭ ‬القديمة‭ ‬والأساليب‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يستعملها‭ ‬الأجداد‭ ‬من‭ ‬البحارة‭ ‬والصيادين،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬طرق‭ ‬الصيد‭ ‬الكثيرة‭ ‬التقليدية،‭ ‬ومنها‭ ‬الصيد‭ ‬بالشرفية‭ ‬–‭ ‬أهل‭ ‬قرقنة‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الشرافي‮»‬‭ ‬–‭ ‬والتي‭ ‬يبلغ‭ ‬عددها‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬ذكر‭ ‬في‭ ‬الكتيب‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬بصدده‭ ‬400‭ ‬طريقة،‭ ‬وقد‭ ‬سجلت‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬اليونسكو‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي‭ ‬غير‭ ‬المادي‭.‬

طبعاً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬قرقنة‭ ‬ولا‭ ‬نجد‭ ‬صورة‭ ‬لأشهر‭ ‬شخصية‭ ‬أصيلة‭ ‬للجزيرة،‭ ‬ونعني‭ ‬بذلك‭ ‬المناضل‭ ‬النقابي‭ ‬الكبير‭ ‬فرحات‭ ‬حشاد‭.‬

‮«‬الهريسة‮»‬‭ ‬واللون‭ ‬الأحمر‭ ‬يطغى

‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب

‮«‬الهريسة‮»‬‭ ‬التونسية‭ ‬وما‭ ‬أدراك‭ ‬ما‭ ‬‮«‬الهريسة‮»‬،‭ ‬هي‭ ‬موضوع‭ ‬الإصدار‭ ‬الثالث،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬تحسس‭ ‬طعم‭ ‬الفلفل‭ ‬وطعم‭ ‬الهريسة‭ ‬التي‭ ‬تجدها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دار‭ ‬في‭ ‬تونس‭. ‬وطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يطغى‭ ‬اللون‭ ‬الأحمر‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يهتم‭ ‬بمادة‭ ‬مصنوعة‭ ‬من‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر‭ ‬مكنت‭ ‬مهارة‭ ‬التونسيين‭ ‬من‭ ‬جعلها‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬لائحة‭ ‬اليونسكو‭ ‬للتراث‭ ‬العالمي‭ ‬اللامادي،‭ ‬وتم‭ ‬تسجيلها‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ ‬2022‭.‬

كل‭ ‬صفحة‭ ‬نجد‭ ‬بها‭ ‬قروناً‭ ‬من‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر‭ ‬–‭ ‬كاملة‭ ‬أو‭ ‬مقطوعة‭ ‬أو‭ ‬مشرحة‭ ‬–‭ ‬وهناك‭ ‬صور‭ ‬جميلة‭ ‬لبيوت‭ ‬تتدلى‭ ‬منها‭ ‬جدائل‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬بولاية‭ ‬نابل‭ ‬بالوطن‭ ‬القبلي‭ ‬مثلاً‭. ‬بعض‭ ‬الدكاكين‭ ‬المختصة‭ ‬في‭ ‬بيع‭ ‬التوابل‭ ‬توشح‭ ‬واجهاتها‭ ‬بدورها‭ ‬جدائل‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر،‭ ‬هذا‭ ‬المنتج‭ ‬السحري‭ ‬الذي‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬عجينة‭ ‬تزيدها‭ ‬التوابل‭ ‬وطريقة‭ ‬الطبخ‭ ‬وزيت‭ ‬الزيتون‭ ‬قيمة‭ ‬ولذة،‭ ‬طبعاً‭ ‬لمن‭ ‬يهوى‭ ‬لسعة‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر،‭ ‬لأن‭ ‬الهريسة‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬طيبة‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬مذاقها‭ ‬حاراً‭ ‬وتلسع‭ ‬أحياناً‭.‬

بلادنا‭ ‬تنتج‭ ‬أطناناً‭ ‬من‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر،‭ ‬فمعدل‭ ‬الإنتاج‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬ذكر‭ ‬من‭ ‬أرقام‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬300‭,‬000‭ ‬طن‭ ‬وفق‭ ‬إحصائيات‭ ‬للفترة‭ ‬التي‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬2017‭ ‬و2023،‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬منتجاً‭ ‬فلاحياً‭ ‬هاماً‭ ‬ومورد‭ ‬رزق‭ ‬لكثيرين‭. ‬وزراعة‭ ‬الفلفل‭ ‬أيضاً‭ ‬لها‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل‭ ‬وبعيد‭ ‬وتتداخل‭ ‬الأسطورة‭ ‬والواقع‭ ‬حول‭ ‬الموضوع،‭ ‬لكن‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الهريسة‮»‬‭ ‬أصبحت‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬الأكل‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬ويتفنن‭ ‬التونسيون‭ ‬في‭ ‬إعدادها،‭ ‬ومازال‭ ‬الكثيرون‭ ‬يحبذون‭ ‬الوصفات‭ ‬التقليدية‭ ‬المتوارثة‭ ‬عن‭ ‬الأجداد‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬الهريسة‭ ‬وطبخها‭ ‬ومنحها‭ ‬نكهة‭ ‬معينة‭ ‬باستعمال‭ ‬التوابل‭.‬

ولعلنا‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬معطى‭ ‬هام‭ ‬أورده‭ ‬الكتيب‭ ‬وهو‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الفلفل‭ ‬الأحمر‭ ‬الذي‭ ‬نصنع‭ ‬منه‭ ‬الهريسة‭ ‬مفيد‭ ‬للصحة‭ ‬وأنه‭ ‬يحمي‭ ‬من‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬لما‭ ‬يحتويه‭ ‬من‭ ‬فيتامينات‭ ‬يحتاجها‭ ‬الجسم‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬الشعوب‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬أصقاع‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬تستعمله‭ ‬في‭ ‬العلاج‭ ‬وفي‭ ‬المساعدة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬حرارة‭ ‬الطقس،‭ ‬طبعاً‭ ‬حسب‭ ‬اختلاف‭ ‬المناخات‭.‬

وقد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الكتيبات‭ ‬المليئة‭ ‬بالصور‭ ‬والرسوم‭ ‬البيانية‭ ‬تعتبر‭ ‬طريقة‭ ‬ذكية‭ ‬في‭ ‬التعريف‭ ‬بخصائص‭ ‬ثقافية‭ ‬تونسية‭ ‬سواء‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالمهارات‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الحرف‭ ‬أو‭ ‬بالعادات‭ ‬الغذائية‭. ‬فهي‭ ‬تحمل‭ ‬كمّاً‭ ‬مهماً‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬المتنوعة‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬الإفادة‭ ‬دون‭ ‬إثقال‭ ‬كاهل‭ ‬القارئ‭. ‬ومهم‭ ‬جداً‭ ‬أن‭ ‬تتزين‭ ‬مكتبات‭ ‬التونسيين‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الإصدارات‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬قيمة‭ ‬المحتوى‭ ‬والشكل‭ ‬الأنيق‭ ‬الذي‭ ‬يليق‭ ‬بتراثنا‭ ‬المادي‭ ‬أو‭ ‬اللامادي‭.‬

حياة‭ ‬السايب