● الآلاف من الكتب صدرت في العالم حول موضوع «معاداة السامية»، ومراكز بحوث وجامعات تدفع المال الكثير
● تدفق كبير للمادة المنشورة حول ما يسمى بمعاداة السامية، وهناك عشرات الآلاف حسب التقديرات من المنشورات التي تناولت هذا الموضوع من زوايا متعددة
● المؤلفات في موضوع معاداة السامية حققت أرباحًا لأصحابها ومكاسب للسردية اليهودية المبنية على التظلم، وكانت لعقود الغطاء على جرائم الصهيونية
● من أين يستمد هؤلاء الجرأة ليخرجوا اليوم على العالم بنصوص حول معاداة السامية في وقت تقترف فيه إسرائيل بدل المحرقة محارق في فلسطين؟
نُقلت الأخبار هذه الأيام عن احتجاجات اندلعت خلال جلسة تولى فيها زعيم الأقلية بمجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور تشاك شومر تقديم كتابه حول موضوع «معاداة السامية» في الولايات المتحدة. وقد ندد محتجون اقتحموا المكتبة العمومية بنيويورك، مكان انعقاد الجلسة لتقديم الكتاب الجديد، بحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد غزة منذ 7 أكتوبر 2023، متسببة في سقوط آلاف الشهداء، وتسجيل عدد كبير من الإصابات، إلى جانب الدمار للبنية التحتية ومحاولات التهجير القسري للسكان وتجويعهم بفرض حصار على قطاع غزة ومنع دخول المساعدات الغذائية والأدوية.
وتمكن المحتجون من توجيه رسائلهم للعالم، وهتفوا باسم «فلسطين حرة» قبل أن يتدخل الأمن ويخرجهم من القاعة. ونشير في هذا السياق إلى أن الاحتجاجات ضد حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة لم تتوقف في العديد من الدول الغربية، ومن بينها الولايات المتحدة الداعم الأول للكيان، بل تتخذ شكلًا تصاعديًا، خاصة بعد امعان الدولة العبرية في التنكيل بالشعب الفلسطيني وبالمدنيين العزل أمام أنظار العالم.
نأتي الآن إلى مسألة المؤلفات حول موضوع «معاداة السامية»، ونقول إن أول شيء يمكن أن يخامر ذهن الملاحظ من خلال الإصرار على النشر في الموضوع، هو من أين يستمد هؤلاء كل هذه الجرأة ليخرجوا على العالم بنصوص حول هذا الموضوع في هذا الظرف بالذات؟
السؤال بطريقة أخرى: أي أهمية لهذه النصوص التي كانت تستمد شرعيتها من تاريخ اليهود مع النازية، بعد كل ما اقترفته الدولة اليهودية التي تم زرعها في فلسطين في حق الفلسطينيين؟ هل ما زالت النصوص التي تتباكى على اليهود ضحايا المحرقة النازية لها قوة الإقناع كما كانت من قبل؟ وأي مصداقية لما يُكتب اليوم في نفس الموضوع، وفلسطين، وخاصة غزة، تواجه منذ ما يقرب من عامين بدل المحرقة، محارق؟
إن استمرار صدور مؤلفات حول ما يسمى بمعاداة السامية، التي تحيل مباشرة على معاداة اليهود على أساس أنهم ينحدرون من الجنس السامي، وهي مسألة بطبيعة الحال فيها نظر وفق المؤرخين، وحتى وإن فرضنا الأمر كذلك وسلمنا بوجود مسألة التفرقة هذه بين الأجناس، فإن اليهودي ليس وحده العنصر السامي وفق أهل العلم، وإنما ينحدر العرب أيضًا، والفرس، وآخرون من الجنس السامي. يعني أن النشر في المجال ما زال تجارة مربحة. نحن بالأحرى إزاء عملية استثمارية مربحة وعمل مؤسس ومنظم وله شروطه. فمثلما أن اليهودية هي دين مغلق والعرق اليهودي منغلق على نفسه وفق ما يشدد عليه علماء التاريخ والأديان المقارنة، فإنه لا يُكتب ولا يُسمح بالكتابة حول معاداة السامية كيفما اتفق، ولا يسمح للجميع بالخوض في الموضوع بشكل اعتباطي.
المسألة برمتها ليست اعتباطية، وهي مدروسة، وتخضع العملية لتنظيم محكم أكدته لنا المعطيات التي وجدناها حول حركة النشر في العالم حول موضوع ما يسمى بمعاداة السامية. إذ تؤكد بنوك المعلومات حول حركة النشر في الموضوع ما يُبذل من جهود وما يُسخر من إمكانيات للتحكم في السردية وفي كل ما يتعلق باللحظة التاريخية التي تعرف بالهولوكوست أو محرقة اليهود على يد النازية.
ومن بين حراس الذاكرة نذكر على سبيل الذكر مشروع فيليكس بوزن الببليوغرافي، الذي يعتبر أحد أكبر قواعد البيانات المتخصصة في موضوع معاداة السامية، وهو يضم آلاف النصوص من مقالات أكاديمية، وأطروحات، وبحوث، ودراسات، وحتى أفلامًا ورسومًا كاريكاتورية، ومن بينها أيضًا قائمة سينجرمانو «هينظام ترقيم ببليوغرافي وضعه روبرت سينجرمان في عام 1982»، ويضم معلومات ببليوغرافية حول آلاف الكتب في الموضوع. نجد أيضًا مكتبة «فينر للهولوكوست»، التي تحتوي بدورها على عشرات الآلاف من الكتب، والوثائق، والصور الفوتوغرافية، وتسجيلات توثق لمرحلة الهولوكوست.
وتتنوع الكتابات حول الموضوع، لكن الموضوع الأبرز هو كيف تتم محاربة معاداة السامية، طبعًا إضافة إلى النصوص التي تستعرض تجليات معاداة السامية ومظاهرها، وطبعا الكتب التي وثقت جرائم النازية في حق اليهود.
وقد حاولنا، وعبر محركات البحث وأيضًا باستخدام الذكاء الاصطناعي، التعرف على عدد الكتب المنشورة في العالم حول موضوع ما يسمى بمعاداة السامية، إلا أننا انتهينا إلى أن هذا العمل يتطلب بحثًا معمقًا ويحتاج إلى عملية استطلاع دقيقة لبنوك المعلومات والمنصات والمكتبات المختصة في الموضوع، غير أنه يمكن أن نضع تقديرات وهي أن هناك تدفقًا كبيرًا للمادة حول ما يسمى بمعاداة السامية، وهناك عشرات الآلاف حسب التقديرات من المنشورات التي تناولت هذا الموضوع من زوايا متعددة، من بينها التاريخ، والدين، والثقافة، والسياسة.
ولنا أن نوضح أننا عندما نقول إن الكتابة في الموضوع تعتبر تجارة مربحة فإننا لا نعني المردود المالي فقط، وإنما أيضًا وربما بالخصوص خدمة الدعاية الصهيونية في حربها ضد العرب وليس فلسطين فحسب. فالكل يعرف أن العدوان الصهيوني ضد غزة، الذي أكدت فيه الدولة العبرية أنها مستمرة فيه وبكامل الوحشية، رغم صدى الأصوات الغاضبة الذي يتردد في زوايا الكرة الأرضية الأربع ضد عدوانها الظالم، لن يتوقف مع تحييد غزة – إن نجح الكيان الصهيوني طبعًا في ذلك – وإنما يستهدف كل الدول المجاورة وحتى تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى.
صحيح أن هناك جامعات ومراكز بحوث يهودية تدفع المال لمن ينجز دراسات حول الموضوع، وهي بشكل أو بآخر تتعقب كل المظاهر التي تعتبر معادية للسامية، وهي تتعقب بالخصوص ما يُنشر في الإعلام من خطاب تصفه بمعاداة السامية. وهناك أيضًا من يسعى إلى الانتشار في الإعلام، خاصة في البلدان الغربية، إذ تعتبر الكتب حول معاداة السامية، وخاصة التي تسرد قصصًا مؤثرة – قد يكون بعضها محض خيال لكن يُعرض على أنه حقيقة – ذات رواج في العديد من البلدان الغربية، خاصة منها تلك التي يتوارث فيها المواطنون جيلًا بعد جيل الشعور بالآثم والذنب إزاء ما تعرض له اليهود على يد النازية.
ثم لا ننسى أن موضوع معاداة السامية يحظى دائمًا بتغطية إعلامية واسعة في الغرب، تمامًا مثلما يحدث مع أي كتاب حول الإسلام يقوم فيه أصحابه بالتشكيك في تاريخ الإسلام أو في الروايات التقليدية حول تاريخه وحول السيرة النبوية، لا سيما إذا كان الكتاب – وهم موجودون بكثرة – ينتمون إلى الحضارة العربية والإسلامية أو يُحسبون عليها. وحتى في العالم الإسلامي، الذي يعتبر فيه «استفراد» اليهود بالانتساب للجنس السامي مرفوضًا، فإن الخوض عموما في قضايا تهم اليهود أو تاريخ العلاقات معهم منذ ما قبل الإسلام وخلال فترة نشأة الإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية موضوع يثير الحماسة، وكثيرون يعتقدون أن الغموض ما زال يلف العلاقات التاريخية بين اليهود والمسلمين.
ما أردنا قوله، إن الكتابة في أي موضوع يتعلق باليهود، والتي تصب آليًا إما في خانة إنصافهم أو خانة إدانتهم، وليس هناك حل وسط بين هذا وذاك، ورأينا كيف توجه تهمًا إلى كتاب وإعلاميين من أصل يهودي بمعاداة السامية هذه الأيام بمجرد أن ينتقدوا سياسة حكومة الكيان الصهيوني وعدوانها في غزة، قد يكون مربحًا ماليًا وقد يحقق أصحابها – روائيين أو باحثين أو دارسين – أرباحًا مباشرة، لكن ليس هذا الأهم.
فالشيء الأكثر أهمية هو جعل أنفاس العالم معلقة على شيء واحد، وهو ضرورة أن يمنحوا فرصة لليهود الذين ظلوا تائهين عبر تاريخهم، ويضربون في الأرض، ويجب أن يقع توظيف كل الوسائل من أجل ذلك وأي كانت التكاليف.
في فرنسا، مثلًا، شهد العديد من رؤساء البلاد، ومن بينهم الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، رغم أنه كانت تجمعه مع اليهود علاقات قوية، أنهم تعرضوا إلى محاولات ابتزاز من أجل خدمة الدعاية الصهيونية، حتى ولو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية.
ولعل المهم في هذا، أن الدعاية الصهيونية قد نجحت في النهاية في نصب شراكها للجميع، ونجحت بالخصوص في وضع «أحجية» تغطي بها كل المظالم التي اقترفتها في حق الشعب الفلسطيني منذ سنة 1948، تاريخ النكبة التي هُجر فيها عدد كبير من الفلسطينيين من مدنهم وقراهم وأراضيهم لينتصب بها اليهود. ثم تتالت النكبات، وحدثت النكسة في 1967، حيث هزمت إسرائيل كل الجيوش العربية، وبقية الفصول معروفة، إذ لم تتوقف ممارسات الصهاينة الظالمة.
شيء وحيد تغير منذ أشهر، وهو أن الدعاية الصهيونية والسردية اليهودية المبنية على التظلم والبكائيات قد انكشفت. لقد انكشف وجه الدولة العبرية الحقيقي، انكشف وجهها المروع، وانكشفت حقيقة ممارسات الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.
ويعود الفضل في كشف القناع الذي ظلت إسرائيل ترتديه لعقود من الزمن، مدعومة في ذلك بالسلاح الأمريكي، والدعم الغربي، وبجيش من أصحاب الدعاية الذين يعتبرون الذراع الطولى للكيان في صراعه ليس فقط مع الفلسطينيين والعرب، وإنما مع كل من تسول له نفسه التشكيك في السردية الصهيونية أو حتى مناقشة ما حدث في الصراع مع النازية، ولو كان ذلك فقط من وجهة نظر تاريخية.
ولم تكن المؤلفات حول ما يسمونه بمعاداة السامية من أجل الحقيقة دائمًا، وإنما هي غالبًا سلاح يُشهر في وجه أي كان، وقد دفعت هذه الضغوطات العديد من الدول الغربية إلى سن قوانين تجرم ما تسميه بمعاداة السامية، وتفرض أحكامًا بالسجن ضد من يجرؤ على التشكيك في الهولوكوست.
كل الظروف كانت تخدم السردية اليهودية والدعاية الصهيونية إلى أن حل يوم 7 أكتوبر 2023، تاريخ تنفيذ المقاومة بغزة لعملية طوفان الأقصى. لقد كان ذلك التاريخ بداية سقوط منظومة دعائية ظلت لعقود تحكم قبضتها على الرقاب، منظومة مبنية على الأكاذيب والمبالغات وتزييف الحقائق والأساطير، واستعمال كل وسائل الضغط والترهيب والترغيب، وتعتبر المؤلفات حول معاداة السامية إحدى وسائل الضغط هذه.
لقد مرت تلك الأيام التي كان يلتقي فيها جمع من المحظوظين بهدوء ليقدموا أحدث المؤلفات حول معاناة اليهود في لحظة تاريخية في منطقة لا علاقة للفلسطينيين بها ولا علاقة للعرب أصلا بالموضوع، ويظلون يندبون الحظ ويتباكون أملا في مزيد إخضاع الناس للمزايدة، وكسب التعاطف مع إسرائيل المزروعة في قلب المنطقة العربية وعلى حساب الشعب الفلسطيني، ومساندتها أي كانت جرائمها.
اليوم صارت هناك احتجاجات تربك الجلسات، وغدا ربما تحدث أشياء أخرى بعد انقشاع السحب وزوال الغشاوة حول الدولة العبرية. اليوم هناك معطيات جديدة فرضها الواقع، لكن من الواضح أن أصحاب هذه التجارة المربحة لا ينوون إلقاء المنديل.
حياة السايب