خليل ناصيف من مواليد مدينة رام الله لعائلة فلسطينية جذورها من مدينة اللد. متفرغ للكتابة إلى جانب نشاطه في مجال العمل الإنساني والاجتماعي، ويكتب في عدة مواقع إلكترونية.
من إصداراته الروائية على سبيل الذكر لا الحصر: «وليمة للنصل البارد»، «الغابة التي قفزت من الصورة»، «نانا»، «دومينو»، وهي رواية ترشحت في القائمة القصيرة لجائزة كتارا 2023.
كل كتاب جديد للروائي خليل ناصيف مغامرة جديدة بالنسبة له، وفرصة لترتاح الشخصيات في الصفحات بعد مطاردتها له لفترات طويلة. وهو الذي يؤكد في لقاءاته أن أكثر ما يخافه وهو يكتب هو أن لا يمنح النص للقارئ نافذة جديدة أو هدية صغيرة تستحق ما أنفقه فيه من وقت.
يرى خليل ناصيف في نفسه من خلال ما يصوغه في كتاباته السردية أنه مجرد وسيط بين أصوات الكائنات والشخصيات وبين الكلمة المطبوعة على ورق أو شاشة، أصوات تطمح جدًا للوصول إلى قلب القارئ كي لا تموت.
خليل ناصيف تحدث بحب من مدينة رام الله الفلسطينية الشامخة عن الكثير من هواجسه الإبداعية، محددًا موقفه من عديد القضايا التي لها علاقة بالكتابة الإبداعية السردية، مستحضرًا العديد من الصور والذكريات والصور الراسخة في الذاكرة، وهذه الحصيلة:
*هل اخترت الكتابة السردية أم هي اختارتك؟
- أعتقد أن الكتابة السردية هي التي اختارتني، وبشكل عام أعتقد أن الكتابة هي التي تختار الكاتب، فهي بمثابة قدر لا يمكن الإفلات منه. حتى في محاولاتي الشعرية كان السرد حاضرًا بقوة، في الواقع أستشعر دائمًا وجود قصص من حولي تلح علي بأن أرويها.
*ماذا بقي في الذاكرة بخصوص أول نص سردي كتبته؟
- كانت قصة عن فتاة تخرج للتظاهر ضد الاحتلال ولكنها تعاني من استبداد أهلها، ما زلت أتساءل عن جدوى كسر بوابات السجن إن كان الإنسان مقيدًا داخل زنزانة مغلقة. وما زلت أعتقد أن تكسير القيود الداخلية أولى من كسر القيد الخارجي، وأن الحرية غير قابلة للتجزئة.
*أي شيء تحرص على تسجيله في كتاباتك السردية الروائية؟
- التفاصيل الصغيرة والهموم الإنسانية التي تضيع في غمرة القضايا الكبرى. مثلا، امرأة تلد في ذروة الحرب والنزوح، قصة حب في أزمنة الموت، فنان يرسم في عالم يبحث الناس فيه عن الخبز. تجذبني قصص الأفراد بغض النظر عن تواجدهم الجغرافي، أعتقد أنه توجد هموم تعاني منها البشرية كلها وتستحق الكتابة عنها.
* ما مدى حضور الذاكرة في كتاباتك؟
- كتاباتي بشكل عام تقوم على ركيزتين أساسيتين: الذاكرة والخيال. وأنا صاحب ذاكرة قوية لدرجة أن الأحداث تنطبع في ذاكرتي بشكل قوي جدًا بحيث يمكنني استرجاعها وقتما شئت. والحقيقة أن الكتابة تساعدني كثيرًا على التخلص من أعباء الذاكرة. أعتقد أن كل الكتاب لابد وأن يتركوا في أعمالهم أجزاء من ذاكرتهم، والكاتب الذكي هو من يجيد توظيف مزيج الذاكرة والخيال في العمل السردي بطريقة مشوقة تجذب القارئ وتلامس اهتماماته وهمومه.
* أي رهان أدبي تعمل على كسبه اليوم؟
- التجديد في فن الرواية العربية من ناحية تقنيات السرد والأفكار، وترجمة أعمالي والوصول إلى العالمية. وهي مهمة شاقة تحتاج للكثير من العمل والمثابرة، ودائمًا أراني في بداية الطريق وأحتاج للكثير من التعلم.
* كل النقاد الذين درسوا كتاباتك اتفقوا على هذا الحضور الكبير للمكان في هذه الكتابات، أي سر وراء ذلك؟
- رواياتي ليست روايات مكان، بل هي قصص أفراد في الأساس، ولكن المكان حاضر بقوة لأنه ضرورة سردية كإطار لأحداث الرواية وبدونه سوف تتجول الشخصيات في الفراغ. المكان ضروري كخلفية لابد منها في بناء الشخصيات وإظهار المؤثرات الاجتماعية التي تساهم في حركتهم وتفكيرهم.
* ما هو مفهومك للحرية في الكتابة السردية أو الشعرية؟
- التركيز على إيصال الفكرة بأفضل طريقة ممكنة، وبدون السماح للقيود الدينية أو السياسية أو الاجتماعية بالتأثير على جودة النص ووضوح الفكرة. والحرية تعني أيضًا عدم الخوف من طرح أفكار معينة وقضايا معينة بسبب القيود الاجتماعية والسياسية والدينية.
* كيف هي علاقتك مع الرقابة الذاتية؟
- علاقة سيئة، فأنا لا أمارس أي نوع من الرقابة الذاتية لأنها تقتل النص وتتنافى مع روح الكتابة، لكن هناك استثناء واحد، فأنا أتجنب استخدام العبارات البذيئة والمشاهد الفاحشة أو التنمر على حالات الضعف الإنساني، إلا في أضيق الحدود وعند الحاجة الماسة لخدمة النص السردي. وذلك لا لشيء، ولكن لأن البذاءة موجودة كثيرًا في الشارع والمدرسة وسوق الخضار، ولا داعي لأن تتقافز للقارئ من صفحات الرواية أيضًا. يكفيه ما يراه، لندع الروايات مساحات للمتعة والتفكر والسلام الداخلي.
* تعيش في رام الله البعيدة نسبيًا عن غزة المحاصرة تحت القصف الصهيوني الغاشم، بأي أحاسيس تصوغ هذه المعاناة؟
- فلسطين بلد صغير، جغرافيا، لا تبعد رام الله عن غزة سوى 80 كيلومترًا، وفي أحيان كثيرة يمكننا رؤية القذائف وسماع صوت القصف. معظم الناس في رام الله لهم أقارب في غزة، وبالتالي أحزاننا واحدة، لكن بالطبع من يعيش تحت القصف المباشر هو وحده من يستطيع وصف معاناته. بالنسبة لي، لا أجرؤ على كتابة نص يروي قصة تحدث في غزة، فهم أولى بكتابة قصصهم، ولكن يمكنني الكتابة عن انعكاس الحرب في غزة على فئات ونخب معينة من سكان رام الله، وعن تجار الحرب، وهذا سوف يكون موضوع عملي السردي الجديد.
* ماذا يمكن أن يقدم الكاتب الفلسطيني اليوم للأرض الفلسطينية التي تعيش تحت القصف الصهيوني الغاشم؟
- في هذه المرحلة نحن بحاجة إلى التوثيق، توثيق المعاناة في نصوص سردية وشعرية من أجل الأجيال القادمة. أما الجدوى الفعلية للكتابة في ظل الظروف الحالية فمحدودة جدًا، لأن دور الكاتب برأيي لا يكون خلال الأزمة بل قبلها بالدرجة الأولى ثم بعدها. قبلها من خلال التوعية والتنوير كي تتجنب الشعوب الهزائم، وبعدها لبث الروح المعنوية في الناس واستخلاص العبر. والحقيقة أن كل الكتاب العرب في آخر مئة سنة فشلوا فشلاً ذريعًا في بث روح التحرر والتنوير، مع أن الفرصة كانت سانحة لهم جدًا خلال عشرات السنين التي كان فيها الكتاب يمتلكون معظم الساحة الأدبية، لكنهم ضيعوها، وها نحن الآن نعيش في زمن شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والشاشات الصغيرة التي تستحوذ على اهتمامات الناس، بينما تتراجع القراءة ويتراجع أثر الكتاب. لا يمكن حاليًا للكاتب الفلسطيني أو العربي تقديم الكثير لأن تأثيره أصبح باهتًا جدًا. وتغيير ذلك يتطلب ثورة شاملة على الصعيد السياسي والاجتماعي والتربوي في المقام الأول. وما يمكن للكاتب العربي تقديمه لمشروع الثورة هو التبشير بها، ولكن مهلا، كي يبشر الكاتب بالحرية والثورة عليه أن يكون حرًا وليس تابعًا للمنظومة التي تحكم العالم العربي حاليًا.
* ما هي نظرتك اليوم لمستقبل الكتابة الفلسطينية بعد غسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم؟
- لقد انحبس السرد الفلسطيني والشعر الفلسطيني منذ فترة ما قبل النكبة حتى وقتنا الراهن في إطار الكتابة عن معاناة الشعب تحت الاحتلال، وتم تجاهل الكثير من المشاكل الداخلية السياسية والاجتماعية والنفسية التي يعاني منها الفلسطيني، مثله مثل غيره. وفي كثير من الحالات، كان بعض الكتاب الفلسطينيين يتكئون على الفكرة النبيلة، وهي فكرة التحرر من الاحتلال، على حساب تقنيات السرد والقصيدة، فكان الناتج في أحيان كثيرة مجرد خطاب سياسي محشو في أفواه الشخصيات الروائية أو مختبئ بين أبيات القصيدة. ما زلنا نعاني من تلك الحالة حتى وقتنا الراهن، ومازلنا نعاني من تقليد الكتاب الفلسطينيين الشباب للكتاب الكبار. نحن بحاجة للتحرر من الكبار كي نشق طريقنا في الزمن الجديد، بحاجة للاستفادة من تجربتهم لتدفعنا إلى الأمام لا لنغرق فيها.
الرواية الفلسطينية بحاجة للتنويع في المواضيع والاهتمام أكثر بتقنيات السرد. أما موضوع الشعر، فلا أدعي الاطلاع عليه لدرجة تخولني التعليق، ولكنه أيضًا بحاجة إلى التجديد في الأفكار والتقنيات. وفي كل الأحوال، علينا أن نتذكر أن الكاتب وظيفته الكتابة، ولا يمكنه ولا مطلوبًا منه القيام بمهام السياسيين وقادة الجيوش الذين لا يقومون بواجباتهم في العالم العربي، وفلسطين ليست استثناء، مع بالغ الأسف. وأقصد هنا المؤسسة السياسية الرسمية الفلسطينية.
*زرت تونس في عام 2016، ماذا بقي في ذهنك من تلك الزيارة؟
-أكثر ما علق في ذهني هو طيبة الشعب التونسي والترحاب الذي لقيته من الناس في كل مكان ذهبت إليه. لقد زرت مدن الوطن القبلي وكذلك مدينة تونس العاصمة، راودني شعور بأنني في وطني فلسطين وبين أهلي وأقاربي. «التوانسة» حسب الأسطورة هم أبناء آليسار (عليسة)، يعني أبناء عمتنا ونحن أبناء خالهم. في الوطن القبلي زرت بعض القرى التونسية وشاهدت التونسيات يقمن بإعداد أرغفة الخبز على أفران «الطابونة» المشابهة لأفراننا باختلاف طفيف.
أعجبني تحرر المرأة التونسية وقوة شخصيتها، زرت قرطاج واستوقفتني هناك فكرة أن الجمال وحده لا يكفي لصد الأعداء. كانت قرطاج إمبراطورية متطورة ثقافيًا ومعماريًا وفنيًا، كانت جميلة جدًا ومتطورة أكثر من روما بكثير، ومع ذلك هزمتها جيوش الإمبراطورية الرومانية المتطورة عسكريًا والمتخلفة حضاريًا. على أطلال قرطاج، وبينما كان العلم التونسي يرفرف على القصر الرئاسي فوق التلة، تأكدت أنه ينبغي علينا أن نجمع بين القوة والجمال لنستمر ونهزم البرابرة الطامعين بجمال بلادنا. تونس بلدي الثاني بعد فلسطين، وكل فلسطيني يحمل لتونس حبًا خالصًا ومكانة خاصة جدًا وكبيرة جدًا في القلب.
* هل تتابع الكتابة السردية في تونس وماذا يشدك فيها؟
- في الواقع، متابعتي قليلة للروايات العربية بشكل عام، ولكني قرأت للحبيب السالمي ولكاتبة تونسية شابة اسمها فائقة قنفالي من مدينة الهوارية، وكانت تجربة ممتعة شدتني بسبب خفة السرد ونوعية الأفكار التي أراها أكثر تحررًا من كتابات المشرق العربي. كذلك لدينا في فلسطين مختبر السرديات في مدينة الخليل، والشاب القائم عليه هو خريج الجامعات التونسية، وواضح من أسلوبه النقدي مدى التطور في موضوع النقد الأدبي في تونس، وغالبًا النقد المتطور لابد وأن يرافقه سرد متطور. بالتأكيد أرغب بالاطلاع أكثر على السرد التونسي وبالذات كتابات الروائيين الشباب.
* حدثني عن رام الله وكيف تعيش يومك فيها؟
- رام الله مدينة صغيرة تقع على سلسلة جبلية تطل على السهل الساحلي الفلسطيني وشاطئ البحر المتوسط الذي يبعد عنها أقل من 50 كيلومترًا. من مدينة رام الله يمكننا مشاهدة شواطئ يافا في الأيام التي تصفو فيها الأجواء. مصيف جميل ومدينة متنوعة ثقافيًا ومتحررة نوعًا ما نتيجة لتنوعها الثقافي. أنا ابن عائلة تعود جذورها إلى مدينة اللد الواقعة ضمن فلسطين المحتلة عام 48، ولجأت عائلتي إلى رام الله في زمن النكبة. المدينة ظلمت في السردية الفلسطينية لأن معظم من كتبوا عنها من الكتاب الشباب ركزوا على جانبها المتعلق بكونها مقر السلطة الفلسطينية والمؤسسات الثقافية، وقلة قليلة من تحدثت عن نسيجها الاجتماعي المميز ونمطها المعماري الجميل.
خلال الحرب الأخيرة، افتقدت مدينة رام الله زوار الصيف من أبنائها المغتربين في الأميركتين، وهم يشكلون معظم سكانها. خيم الحزن عليها مثل بقية المدن الفلسطينية، ولكن الناس تحاول يوميًا أن تستمر في حياتها رغم الألم.
بالنسبة لحياتي في رام الله، فأنا حاليًا متفرغ للكتابة السردية بعد أن اشتغلت لسنوات كثيرة موظفًا في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. أقضي جل وقتي في القراءة والكتابة حيث أخصص وقتًا معينًا لذلك، فالكتابة تحتاج للكثير من القراءة. وبقية وقتي أقضيه في أعمال زراعية بسيطة في حديقة المنزل حيث أنني شغوف بالزراعة وبالشجر. لا ارتاد المقاهي كثيرًا وأتابع نشرات الأخبار بالحد الأدنى فقط.
وأفضل المشي دائمًا على ركوب السيارات. الأوضاع حاليًا سيئة بالنسبة لكل الفلسطينيين وبنسب متفاوتة. الفلسطيني في غزة تحت القصف، والفلسطيني في مدن الضفة الغربية يعاني من الحصار الخانق على المدن، والقيود على الحركة، ومن حملات الاعتقال، وهجمات مجموعات المستعمرين الصهاينة على الأرياف. لكن برأيي أننا نعيش في مرحلة تغيير كبيرة في المنطقة، وهو تغيير حتمي ونتاج لحركة التاريخ، وليس بالضرورة أن يكون للأسوأ. وفي ظل هذه الظروف، لا يمكننا سوى الصمود والتمسك بالأمل.
حوار: محسن بن أحمد
خليل ناصيف من مواليد مدينة رام الله لعائلة فلسطينية جذورها من مدينة اللد. متفرغ للكتابة إلى جانب نشاطه في مجال العمل الإنساني والاجتماعي، ويكتب في عدة مواقع إلكترونية.
من إصداراته الروائية على سبيل الذكر لا الحصر: «وليمة للنصل البارد»، «الغابة التي قفزت من الصورة»، «نانا»، «دومينو»، وهي رواية ترشحت في القائمة القصيرة لجائزة كتارا 2023.
كل كتاب جديد للروائي خليل ناصيف مغامرة جديدة بالنسبة له، وفرصة لترتاح الشخصيات في الصفحات بعد مطاردتها له لفترات طويلة. وهو الذي يؤكد في لقاءاته أن أكثر ما يخافه وهو يكتب هو أن لا يمنح النص للقارئ نافذة جديدة أو هدية صغيرة تستحق ما أنفقه فيه من وقت.
يرى خليل ناصيف في نفسه من خلال ما يصوغه في كتاباته السردية أنه مجرد وسيط بين أصوات الكائنات والشخصيات وبين الكلمة المطبوعة على ورق أو شاشة، أصوات تطمح جدًا للوصول إلى قلب القارئ كي لا تموت.
خليل ناصيف تحدث بحب من مدينة رام الله الفلسطينية الشامخة عن الكثير من هواجسه الإبداعية، محددًا موقفه من عديد القضايا التي لها علاقة بالكتابة الإبداعية السردية، مستحضرًا العديد من الصور والذكريات والصور الراسخة في الذاكرة، وهذه الحصيلة:
*هل اخترت الكتابة السردية أم هي اختارتك؟
- أعتقد أن الكتابة السردية هي التي اختارتني، وبشكل عام أعتقد أن الكتابة هي التي تختار الكاتب، فهي بمثابة قدر لا يمكن الإفلات منه. حتى في محاولاتي الشعرية كان السرد حاضرًا بقوة، في الواقع أستشعر دائمًا وجود قصص من حولي تلح علي بأن أرويها.
*ماذا بقي في الذاكرة بخصوص أول نص سردي كتبته؟
- كانت قصة عن فتاة تخرج للتظاهر ضد الاحتلال ولكنها تعاني من استبداد أهلها، ما زلت أتساءل عن جدوى كسر بوابات السجن إن كان الإنسان مقيدًا داخل زنزانة مغلقة. وما زلت أعتقد أن تكسير القيود الداخلية أولى من كسر القيد الخارجي، وأن الحرية غير قابلة للتجزئة.
*أي شيء تحرص على تسجيله في كتاباتك السردية الروائية؟
- التفاصيل الصغيرة والهموم الإنسانية التي تضيع في غمرة القضايا الكبرى. مثلا، امرأة تلد في ذروة الحرب والنزوح، قصة حب في أزمنة الموت، فنان يرسم في عالم يبحث الناس فيه عن الخبز. تجذبني قصص الأفراد بغض النظر عن تواجدهم الجغرافي، أعتقد أنه توجد هموم تعاني منها البشرية كلها وتستحق الكتابة عنها.
* ما مدى حضور الذاكرة في كتاباتك؟
- كتاباتي بشكل عام تقوم على ركيزتين أساسيتين: الذاكرة والخيال. وأنا صاحب ذاكرة قوية لدرجة أن الأحداث تنطبع في ذاكرتي بشكل قوي جدًا بحيث يمكنني استرجاعها وقتما شئت. والحقيقة أن الكتابة تساعدني كثيرًا على التخلص من أعباء الذاكرة. أعتقد أن كل الكتاب لابد وأن يتركوا في أعمالهم أجزاء من ذاكرتهم، والكاتب الذكي هو من يجيد توظيف مزيج الذاكرة والخيال في العمل السردي بطريقة مشوقة تجذب القارئ وتلامس اهتماماته وهمومه.
* أي رهان أدبي تعمل على كسبه اليوم؟
- التجديد في فن الرواية العربية من ناحية تقنيات السرد والأفكار، وترجمة أعمالي والوصول إلى العالمية. وهي مهمة شاقة تحتاج للكثير من العمل والمثابرة، ودائمًا أراني في بداية الطريق وأحتاج للكثير من التعلم.
* كل النقاد الذين درسوا كتاباتك اتفقوا على هذا الحضور الكبير للمكان في هذه الكتابات، أي سر وراء ذلك؟
- رواياتي ليست روايات مكان، بل هي قصص أفراد في الأساس، ولكن المكان حاضر بقوة لأنه ضرورة سردية كإطار لأحداث الرواية وبدونه سوف تتجول الشخصيات في الفراغ. المكان ضروري كخلفية لابد منها في بناء الشخصيات وإظهار المؤثرات الاجتماعية التي تساهم في حركتهم وتفكيرهم.
* ما هو مفهومك للحرية في الكتابة السردية أو الشعرية؟
- التركيز على إيصال الفكرة بأفضل طريقة ممكنة، وبدون السماح للقيود الدينية أو السياسية أو الاجتماعية بالتأثير على جودة النص ووضوح الفكرة. والحرية تعني أيضًا عدم الخوف من طرح أفكار معينة وقضايا معينة بسبب القيود الاجتماعية والسياسية والدينية.
* كيف هي علاقتك مع الرقابة الذاتية؟
- علاقة سيئة، فأنا لا أمارس أي نوع من الرقابة الذاتية لأنها تقتل النص وتتنافى مع روح الكتابة، لكن هناك استثناء واحد، فأنا أتجنب استخدام العبارات البذيئة والمشاهد الفاحشة أو التنمر على حالات الضعف الإنساني، إلا في أضيق الحدود وعند الحاجة الماسة لخدمة النص السردي. وذلك لا لشيء، ولكن لأن البذاءة موجودة كثيرًا في الشارع والمدرسة وسوق الخضار، ولا داعي لأن تتقافز للقارئ من صفحات الرواية أيضًا. يكفيه ما يراه، لندع الروايات مساحات للمتعة والتفكر والسلام الداخلي.
* تعيش في رام الله البعيدة نسبيًا عن غزة المحاصرة تحت القصف الصهيوني الغاشم، بأي أحاسيس تصوغ هذه المعاناة؟
- فلسطين بلد صغير، جغرافيا، لا تبعد رام الله عن غزة سوى 80 كيلومترًا، وفي أحيان كثيرة يمكننا رؤية القذائف وسماع صوت القصف. معظم الناس في رام الله لهم أقارب في غزة، وبالتالي أحزاننا واحدة، لكن بالطبع من يعيش تحت القصف المباشر هو وحده من يستطيع وصف معاناته. بالنسبة لي، لا أجرؤ على كتابة نص يروي قصة تحدث في غزة، فهم أولى بكتابة قصصهم، ولكن يمكنني الكتابة عن انعكاس الحرب في غزة على فئات ونخب معينة من سكان رام الله، وعن تجار الحرب، وهذا سوف يكون موضوع عملي السردي الجديد.
* ماذا يمكن أن يقدم الكاتب الفلسطيني اليوم للأرض الفلسطينية التي تعيش تحت القصف الصهيوني الغاشم؟
- في هذه المرحلة نحن بحاجة إلى التوثيق، توثيق المعاناة في نصوص سردية وشعرية من أجل الأجيال القادمة. أما الجدوى الفعلية للكتابة في ظل الظروف الحالية فمحدودة جدًا، لأن دور الكاتب برأيي لا يكون خلال الأزمة بل قبلها بالدرجة الأولى ثم بعدها. قبلها من خلال التوعية والتنوير كي تتجنب الشعوب الهزائم، وبعدها لبث الروح المعنوية في الناس واستخلاص العبر. والحقيقة أن كل الكتاب العرب في آخر مئة سنة فشلوا فشلاً ذريعًا في بث روح التحرر والتنوير، مع أن الفرصة كانت سانحة لهم جدًا خلال عشرات السنين التي كان فيها الكتاب يمتلكون معظم الساحة الأدبية، لكنهم ضيعوها، وها نحن الآن نعيش في زمن شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والشاشات الصغيرة التي تستحوذ على اهتمامات الناس، بينما تتراجع القراءة ويتراجع أثر الكتاب. لا يمكن حاليًا للكاتب الفلسطيني أو العربي تقديم الكثير لأن تأثيره أصبح باهتًا جدًا. وتغيير ذلك يتطلب ثورة شاملة على الصعيد السياسي والاجتماعي والتربوي في المقام الأول. وما يمكن للكاتب العربي تقديمه لمشروع الثورة هو التبشير بها، ولكن مهلا، كي يبشر الكاتب بالحرية والثورة عليه أن يكون حرًا وليس تابعًا للمنظومة التي تحكم العالم العربي حاليًا.
* ما هي نظرتك اليوم لمستقبل الكتابة الفلسطينية بعد غسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم؟
- لقد انحبس السرد الفلسطيني والشعر الفلسطيني منذ فترة ما قبل النكبة حتى وقتنا الراهن في إطار الكتابة عن معاناة الشعب تحت الاحتلال، وتم تجاهل الكثير من المشاكل الداخلية السياسية والاجتماعية والنفسية التي يعاني منها الفلسطيني، مثله مثل غيره. وفي كثير من الحالات، كان بعض الكتاب الفلسطينيين يتكئون على الفكرة النبيلة، وهي فكرة التحرر من الاحتلال، على حساب تقنيات السرد والقصيدة، فكان الناتج في أحيان كثيرة مجرد خطاب سياسي محشو في أفواه الشخصيات الروائية أو مختبئ بين أبيات القصيدة. ما زلنا نعاني من تلك الحالة حتى وقتنا الراهن، ومازلنا نعاني من تقليد الكتاب الفلسطينيين الشباب للكتاب الكبار. نحن بحاجة للتحرر من الكبار كي نشق طريقنا في الزمن الجديد، بحاجة للاستفادة من تجربتهم لتدفعنا إلى الأمام لا لنغرق فيها.
الرواية الفلسطينية بحاجة للتنويع في المواضيع والاهتمام أكثر بتقنيات السرد. أما موضوع الشعر، فلا أدعي الاطلاع عليه لدرجة تخولني التعليق، ولكنه أيضًا بحاجة إلى التجديد في الأفكار والتقنيات. وفي كل الأحوال، علينا أن نتذكر أن الكاتب وظيفته الكتابة، ولا يمكنه ولا مطلوبًا منه القيام بمهام السياسيين وقادة الجيوش الذين لا يقومون بواجباتهم في العالم العربي، وفلسطين ليست استثناء، مع بالغ الأسف. وأقصد هنا المؤسسة السياسية الرسمية الفلسطينية.
*زرت تونس في عام 2016، ماذا بقي في ذهنك من تلك الزيارة؟
-أكثر ما علق في ذهني هو طيبة الشعب التونسي والترحاب الذي لقيته من الناس في كل مكان ذهبت إليه. لقد زرت مدن الوطن القبلي وكذلك مدينة تونس العاصمة، راودني شعور بأنني في وطني فلسطين وبين أهلي وأقاربي. «التوانسة» حسب الأسطورة هم أبناء آليسار (عليسة)، يعني أبناء عمتنا ونحن أبناء خالهم. في الوطن القبلي زرت بعض القرى التونسية وشاهدت التونسيات يقمن بإعداد أرغفة الخبز على أفران «الطابونة» المشابهة لأفراننا باختلاف طفيف.
أعجبني تحرر المرأة التونسية وقوة شخصيتها، زرت قرطاج واستوقفتني هناك فكرة أن الجمال وحده لا يكفي لصد الأعداء. كانت قرطاج إمبراطورية متطورة ثقافيًا ومعماريًا وفنيًا، كانت جميلة جدًا ومتطورة أكثر من روما بكثير، ومع ذلك هزمتها جيوش الإمبراطورية الرومانية المتطورة عسكريًا والمتخلفة حضاريًا. على أطلال قرطاج، وبينما كان العلم التونسي يرفرف على القصر الرئاسي فوق التلة، تأكدت أنه ينبغي علينا أن نجمع بين القوة والجمال لنستمر ونهزم البرابرة الطامعين بجمال بلادنا. تونس بلدي الثاني بعد فلسطين، وكل فلسطيني يحمل لتونس حبًا خالصًا ومكانة خاصة جدًا وكبيرة جدًا في القلب.
* هل تتابع الكتابة السردية في تونس وماذا يشدك فيها؟
- في الواقع، متابعتي قليلة للروايات العربية بشكل عام، ولكني قرأت للحبيب السالمي ولكاتبة تونسية شابة اسمها فائقة قنفالي من مدينة الهوارية، وكانت تجربة ممتعة شدتني بسبب خفة السرد ونوعية الأفكار التي أراها أكثر تحررًا من كتابات المشرق العربي. كذلك لدينا في فلسطين مختبر السرديات في مدينة الخليل، والشاب القائم عليه هو خريج الجامعات التونسية، وواضح من أسلوبه النقدي مدى التطور في موضوع النقد الأدبي في تونس، وغالبًا النقد المتطور لابد وأن يرافقه سرد متطور. بالتأكيد أرغب بالاطلاع أكثر على السرد التونسي وبالذات كتابات الروائيين الشباب.
* حدثني عن رام الله وكيف تعيش يومك فيها؟
- رام الله مدينة صغيرة تقع على سلسلة جبلية تطل على السهل الساحلي الفلسطيني وشاطئ البحر المتوسط الذي يبعد عنها أقل من 50 كيلومترًا. من مدينة رام الله يمكننا مشاهدة شواطئ يافا في الأيام التي تصفو فيها الأجواء. مصيف جميل ومدينة متنوعة ثقافيًا ومتحررة نوعًا ما نتيجة لتنوعها الثقافي. أنا ابن عائلة تعود جذورها إلى مدينة اللد الواقعة ضمن فلسطين المحتلة عام 48، ولجأت عائلتي إلى رام الله في زمن النكبة. المدينة ظلمت في السردية الفلسطينية لأن معظم من كتبوا عنها من الكتاب الشباب ركزوا على جانبها المتعلق بكونها مقر السلطة الفلسطينية والمؤسسات الثقافية، وقلة قليلة من تحدثت عن نسيجها الاجتماعي المميز ونمطها المعماري الجميل.
خلال الحرب الأخيرة، افتقدت مدينة رام الله زوار الصيف من أبنائها المغتربين في الأميركتين، وهم يشكلون معظم سكانها. خيم الحزن عليها مثل بقية المدن الفلسطينية، ولكن الناس تحاول يوميًا أن تستمر في حياتها رغم الألم.
بالنسبة لحياتي في رام الله، فأنا حاليًا متفرغ للكتابة السردية بعد أن اشتغلت لسنوات كثيرة موظفًا في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. أقضي جل وقتي في القراءة والكتابة حيث أخصص وقتًا معينًا لذلك، فالكتابة تحتاج للكثير من القراءة. وبقية وقتي أقضيه في أعمال زراعية بسيطة في حديقة المنزل حيث أنني شغوف بالزراعة وبالشجر. لا ارتاد المقاهي كثيرًا وأتابع نشرات الأخبار بالحد الأدنى فقط.
وأفضل المشي دائمًا على ركوب السيارات. الأوضاع حاليًا سيئة بالنسبة لكل الفلسطينيين وبنسب متفاوتة. الفلسطيني في غزة تحت القصف، والفلسطيني في مدن الضفة الغربية يعاني من الحصار الخانق على المدن، والقيود على الحركة، ومن حملات الاعتقال، وهجمات مجموعات المستعمرين الصهاينة على الأرياف. لكن برأيي أننا نعيش في مرحلة تغيير كبيرة في المنطقة، وهو تغيير حتمي ونتاج لحركة التاريخ، وليس بالضرورة أن يكون للأسوأ. وفي ظل هذه الظروف، لا يمكننا سوى الصمود والتمسك بالأمل.