مراجعة عمل سينمائي للمخرجة مريم جعبر يفرض علينا ضرورة الوقوف أولاً على البصمة الاستثنائية لمدير تصوير «ماء العين» فنسان غونفيل، الذي سبق له التعاون مع المخرجة التونسية في الفيلم القصير «إخوان». فعمله يجمع الحرفية والإتقان التقني الممزوج بالحس البصري العالي. وفي اعتقادنا، فإن لمسة فنسان غونفيل منحت فيلم «ماء العين» الروائي الطويل الأول لمريم جعبر جودة وجمالية مكنته من الحضور في واحد من أهم المهرجانات الدولية، مهرجان برلين السينمائي، الذي ظل رغم كل المغريات التجارية والثقافة الاستهلاكية – وقد اجتاحت العالم – حريصاً على البعد الفني بدرجة أولى في خياراته للمسابقة الرسمية، ومن بينها «ماء العين» في عرضه العالمي الأول (2024).
فنسان غونفيل، مدير التصوير المحترف، اعتمد على جماليات كادر «ستيدي كام» وتفاعل عميق مع الرؤية الإخراجية لمريم جعبر الباحثة في خفايا نفوس شخصياتها، هويتهم، أرضهم، مكمن الأمان والمخاوف، والشك والانتماء بكل أبعاده. فكل هذا التضارب في المشاعر والمواقف وردود الفعل لسيناريو «ماء العين» (Who Do I Belong To) جسدته كاميرا غونفيل عبر زوايا التصوير واللقطات المقربة والمقربة جداً، في لغة بصرية تعكس التناغم الكبير بين المخرجة ومدير تصوير فيلمها الروائي الطويل الأول. هذا التناغم هو بدوره امتداد لحكاية تعاونهما السابق في الفيلم القصير «إخوان» (مرشح تونس لأوسكار 2018).
«ماء العين» (ومدته 118 دقيقة) عن «عائشة» و«إبراهيم»، زوجين في شمال تونس، بين أريافها ينعمان بحياة هادئة مع أبنائهما الثلاثة. غير أن التحاق الابن الأكبر وشقيقه الأوسط (مهدي وأمين) بداعش يقلب حياة هذه العائلة المتماسكة. تقطع مريم جعبر في سردها مع البعد الإخباري والطرح «الإعلامي» لقضايا الإرهاب والمباشرة «الفجة» (الطاغية على مضامين بعض التجارب السينمائية) وتغوص أبعد في عمق النفس البشرية بحميمية مؤثرة، تتماهى عبرها أوجاع عائلة مفككة مع مشاعرنا ونحن المشاهدين لهذه الأحداث.
هل أبهرتنا جمالية المشاهد في تناقضها الواضح مع «سوداوية» السرد أم «نبش» مريم جعبر في راهن عشنا رعب أيامه في السنوات الأخيرة، وقد كان الإرهاب ينخر في أوصال مجتمعنا والمهدد الأخطر لشبابه واقتصاده وهويته وراء هذا الانغماس في مشاهد فيلمها؟! من الغريب الشعور بذات الألم رغم مرور السنوات، لعلّه التهديد الخفي المختبئ بين زوايا مجتمعنا، فذاك العدو المظلم قادر على العودة من جديد. هكذا زعزعت مريم جعبر طمأنينتنا «الواهية» وأربكت مشاعرنا بمفردات سينمائية سردية وجمالية تسائل إنسانيتنا، منها مشهد اللقاء الأول لـ «مهدي» (الابن العائد من داعش دون أخيه) مع «ريم» (الزوجة المنقبة الحامل، ولا نشاهد من ملامحها سوى عيون تمزج في حزنها درجات الأزرق والأخضر مع احمرار يكاد ينفجر...) أو عبر مشاهد عن اختفاء رجال القرية في «ضبابية متعمدة» (من قبل المخرجة)، هل هي حقيقة أم مخاوف في ذهن الأم «عائشة»؟! لعل عنوان الفيلم (ماء العين) يقودنا في ظاهره إلى الزوجة الحامل الغامضة وعيونها الملونة الباردة والتي توحي بدموع مسجونة في المآقي ، ومع ذلك تتهاوى هذه الرمزية أمام رؤى الأم «عائشة». فدلالة العنوان تأخذنا مباشرة إلى روح الأم المعذبة وتخبط رؤيتها للحياة بعد التحاق ابنيها بداعش وعودة أحدهما.. تشوش البصر والبصيرة وضبابية الخيارات في عالم غير عادل أو متوازن.
«ماء العين» فيلم عن وجع أم هدم الإرهاب بيتها المطمئن، أم خسرت فلذات كبدها في لمح البصر، وعن أم رغم الظلام المسيطر على روح ابنها وعقله تكافح لحمايته. من الشجاعة أن تنسج سردية مريم جعبر هذه الرسالة: هل قدمت تونس أبناءها قرباناً للإرهاب؟ من يتحمل مسؤولية هؤلاء الشباب؟ من الضحية ومن القاتل الحقيقي لأبناء الوطن؟ هل يأتي غسيل الدماغ من فراغ؟ ماذا عن الأطراف الداخلية والخارجية المسؤولة عن صناعة الإرهاب في عالمنا؟
تطفو تيمة الإرهاب في العشرية الأخيرة على السطح في مشهدنا الثقافي وفي خيارات صناع الأفلام في تونس. لا مهرب من تفاعل السينمائيين في بلدنا مع راهن موجع. الأعمال عديدة والمراجع مختلفة في هذا السياق، «الاستباقية» منها في تجارب النوري بوزيد السينمائية أو في خيارات لطفي عاشور في أكثر من تجربة أحداثها «الذاري الحمر»، رضا الباهي في «زهرة حلب»، وكوثر بن هنية في أكثر من عمل كذلك وغيرها من الأفلام.
وفي سردية «ماء العين»، تشرح المخرجة عالم «داعش» والصورة الذكورية في مجتمعنا. فالأب «إبراهيم» كما الشرطي «بلال» يقفان في الخلفية – ولئن كانت بدرجة أخف من مشاهد جثث الرجال الملقاة ميتة على الشاطئ وبين صخوره – فيما تطغى مشاعر الأم وكفاحها على أحداث الفيلم. اختارت مريم جعبر في بداية الفيلم مراوغة مشاهدي «ماء العين»، إذ اعتقدنا أن القصة الرئيسية للعمل هي رواية مهدي ورفيقته الغامضة «ريم» العائدين إلى تونس هرباً من داعش. ومع الفصول الثلاثة للفيلم (كما بوبت مريم جعبر مسار حكايته)، تظهر قوة «عائشة» العاطفية وقدرتها على العطاء والحب والتضحية. تحاول حماية آخر أبنائها، الطفل «ريان»، من مصير أخويه، تدفع زوجها للتمسك بأبوته وترسم طريقاً تقف في خليفته جداتها من نساء تونس في مشهد محمّل برمزية تعنون رؤية مريم جعبر السينمائية... المخرجة التونسية صاحبة الجنسية الأمريكية المقيمة بعيداً عن أحداث الوطن الراهنة، ومع ذلك تحمل داخلها هوية فخورة بأرض الأجداد...
«ماء العين» لمريم جعبر فيلم جسد أدواره باقتدار كل من صالحة النصراوي، محمد حسين قريع، آدم بسة والسورية ديا ليان مع كل من مالك، ريان وشاكر المشرقي. وكان العرض العالمي الأول للفيلم في الدورة الرابعة والسبعين لمهرجان برلين السينمائي، كما توج بنجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم روائي عربي في الدورة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي الدولي. ومن تتويجاته كذلك جائزة أفضل عمل أول في الدورة التاسعة والثلاثين من مهرجان الفيلم الفرنكوفوني بنامور ببلجيكا. ومؤخراً حاز على جائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية «فيبريسي» في الدورة الخامسة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية.
نجلاء قموع
مراجعة عمل سينمائي للمخرجة مريم جعبر يفرض علينا ضرورة الوقوف أولاً على البصمة الاستثنائية لمدير تصوير «ماء العين» فنسان غونفيل، الذي سبق له التعاون مع المخرجة التونسية في الفيلم القصير «إخوان». فعمله يجمع الحرفية والإتقان التقني الممزوج بالحس البصري العالي. وفي اعتقادنا، فإن لمسة فنسان غونفيل منحت فيلم «ماء العين» الروائي الطويل الأول لمريم جعبر جودة وجمالية مكنته من الحضور في واحد من أهم المهرجانات الدولية، مهرجان برلين السينمائي، الذي ظل رغم كل المغريات التجارية والثقافة الاستهلاكية – وقد اجتاحت العالم – حريصاً على البعد الفني بدرجة أولى في خياراته للمسابقة الرسمية، ومن بينها «ماء العين» في عرضه العالمي الأول (2024).
فنسان غونفيل، مدير التصوير المحترف، اعتمد على جماليات كادر «ستيدي كام» وتفاعل عميق مع الرؤية الإخراجية لمريم جعبر الباحثة في خفايا نفوس شخصياتها، هويتهم، أرضهم، مكمن الأمان والمخاوف، والشك والانتماء بكل أبعاده. فكل هذا التضارب في المشاعر والمواقف وردود الفعل لسيناريو «ماء العين» (Who Do I Belong To) جسدته كاميرا غونفيل عبر زوايا التصوير واللقطات المقربة والمقربة جداً، في لغة بصرية تعكس التناغم الكبير بين المخرجة ومدير تصوير فيلمها الروائي الطويل الأول. هذا التناغم هو بدوره امتداد لحكاية تعاونهما السابق في الفيلم القصير «إخوان» (مرشح تونس لأوسكار 2018).
«ماء العين» (ومدته 118 دقيقة) عن «عائشة» و«إبراهيم»، زوجين في شمال تونس، بين أريافها ينعمان بحياة هادئة مع أبنائهما الثلاثة. غير أن التحاق الابن الأكبر وشقيقه الأوسط (مهدي وأمين) بداعش يقلب حياة هذه العائلة المتماسكة. تقطع مريم جعبر في سردها مع البعد الإخباري والطرح «الإعلامي» لقضايا الإرهاب والمباشرة «الفجة» (الطاغية على مضامين بعض التجارب السينمائية) وتغوص أبعد في عمق النفس البشرية بحميمية مؤثرة، تتماهى عبرها أوجاع عائلة مفككة مع مشاعرنا ونحن المشاهدين لهذه الأحداث.
هل أبهرتنا جمالية المشاهد في تناقضها الواضح مع «سوداوية» السرد أم «نبش» مريم جعبر في راهن عشنا رعب أيامه في السنوات الأخيرة، وقد كان الإرهاب ينخر في أوصال مجتمعنا والمهدد الأخطر لشبابه واقتصاده وهويته وراء هذا الانغماس في مشاهد فيلمها؟! من الغريب الشعور بذات الألم رغم مرور السنوات، لعلّه التهديد الخفي المختبئ بين زوايا مجتمعنا، فذاك العدو المظلم قادر على العودة من جديد. هكذا زعزعت مريم جعبر طمأنينتنا «الواهية» وأربكت مشاعرنا بمفردات سينمائية سردية وجمالية تسائل إنسانيتنا، منها مشهد اللقاء الأول لـ «مهدي» (الابن العائد من داعش دون أخيه) مع «ريم» (الزوجة المنقبة الحامل، ولا نشاهد من ملامحها سوى عيون تمزج في حزنها درجات الأزرق والأخضر مع احمرار يكاد ينفجر...) أو عبر مشاهد عن اختفاء رجال القرية في «ضبابية متعمدة» (من قبل المخرجة)، هل هي حقيقة أم مخاوف في ذهن الأم «عائشة»؟! لعل عنوان الفيلم (ماء العين) يقودنا في ظاهره إلى الزوجة الحامل الغامضة وعيونها الملونة الباردة والتي توحي بدموع مسجونة في المآقي ، ومع ذلك تتهاوى هذه الرمزية أمام رؤى الأم «عائشة». فدلالة العنوان تأخذنا مباشرة إلى روح الأم المعذبة وتخبط رؤيتها للحياة بعد التحاق ابنيها بداعش وعودة أحدهما.. تشوش البصر والبصيرة وضبابية الخيارات في عالم غير عادل أو متوازن.
«ماء العين» فيلم عن وجع أم هدم الإرهاب بيتها المطمئن، أم خسرت فلذات كبدها في لمح البصر، وعن أم رغم الظلام المسيطر على روح ابنها وعقله تكافح لحمايته. من الشجاعة أن تنسج سردية مريم جعبر هذه الرسالة: هل قدمت تونس أبناءها قرباناً للإرهاب؟ من يتحمل مسؤولية هؤلاء الشباب؟ من الضحية ومن القاتل الحقيقي لأبناء الوطن؟ هل يأتي غسيل الدماغ من فراغ؟ ماذا عن الأطراف الداخلية والخارجية المسؤولة عن صناعة الإرهاب في عالمنا؟
تطفو تيمة الإرهاب في العشرية الأخيرة على السطح في مشهدنا الثقافي وفي خيارات صناع الأفلام في تونس. لا مهرب من تفاعل السينمائيين في بلدنا مع راهن موجع. الأعمال عديدة والمراجع مختلفة في هذا السياق، «الاستباقية» منها في تجارب النوري بوزيد السينمائية أو في خيارات لطفي عاشور في أكثر من تجربة أحداثها «الذاري الحمر»، رضا الباهي في «زهرة حلب»، وكوثر بن هنية في أكثر من عمل كذلك وغيرها من الأفلام.
وفي سردية «ماء العين»، تشرح المخرجة عالم «داعش» والصورة الذكورية في مجتمعنا. فالأب «إبراهيم» كما الشرطي «بلال» يقفان في الخلفية – ولئن كانت بدرجة أخف من مشاهد جثث الرجال الملقاة ميتة على الشاطئ وبين صخوره – فيما تطغى مشاعر الأم وكفاحها على أحداث الفيلم. اختارت مريم جعبر في بداية الفيلم مراوغة مشاهدي «ماء العين»، إذ اعتقدنا أن القصة الرئيسية للعمل هي رواية مهدي ورفيقته الغامضة «ريم» العائدين إلى تونس هرباً من داعش. ومع الفصول الثلاثة للفيلم (كما بوبت مريم جعبر مسار حكايته)، تظهر قوة «عائشة» العاطفية وقدرتها على العطاء والحب والتضحية. تحاول حماية آخر أبنائها، الطفل «ريان»، من مصير أخويه، تدفع زوجها للتمسك بأبوته وترسم طريقاً تقف في خليفته جداتها من نساء تونس في مشهد محمّل برمزية تعنون رؤية مريم جعبر السينمائية... المخرجة التونسية صاحبة الجنسية الأمريكية المقيمة بعيداً عن أحداث الوطن الراهنة، ومع ذلك تحمل داخلها هوية فخورة بأرض الأجداد...
«ماء العين» لمريم جعبر فيلم جسد أدواره باقتدار كل من صالحة النصراوي، محمد حسين قريع، آدم بسة والسورية ديا ليان مع كل من مالك، ريان وشاكر المشرقي. وكان العرض العالمي الأول للفيلم في الدورة الرابعة والسبعين لمهرجان برلين السينمائي، كما توج بنجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم روائي عربي في الدورة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي الدولي. ومن تتويجاته كذلك جائزة أفضل عمل أول في الدورة التاسعة والثلاثين من مهرجان الفيلم الفرنكوفوني بنامور ببلجيكا. ومؤخراً حاز على جائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية «فيبريسي» في الدورة الخامسة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية.