إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

في ظل بداية تشكل نظام دولي جديد أكثر عدلا وإنسانية.. تنويع الشراكات في عالمنا المتغير بما يخدم المصلحة العليا لتونس

 

بقلم : الحبيب الذوادي(*)

كان تفكك الاتحاد السوفياتي في ديسمبر 1991 إيذانا بانتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، ومعها نهاية القطبية الثنائية التي ميزت النظام العالمي الدولي عقب الحرب العالمية الثانية لثلاثة عقود، وكان منطقيا أن ينفرد المعسكر المتضرر في تلك الحرب بقيادة النظام الدولي، فيما عرف بنموذج الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والذي بلغ ذروته بقرار هذه الأخيرة غزو العراق سنة 2003 لامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، حيث اعتبر هذا القرار ذروة الأحادية القطبية الأمريكية، والذي تم اعتباره لاحقا بداية لتآكلها حينها بالمقاومة العراقية الضاربة للغزو أولا، وللمقاومة الأفغانية، إلى جانب ما يعرفه عالمنا اليوم من تحركات سياسية واهتزازات متواترة خصوصا خلال المدة الأخيرة، فنجد غزة التي عرفت ولا زالت تعرف إلى تاريخ اليوم إبادة وتدميرا كاملا، وفشل العالم في وقف إطلاق النار على أرضها بسبب الإصرار الإسرائيلي على استمرار القتال إلى أن يتم تحرير الرهائن بعد موجة من الاغتيالات التي هزت القيادات الفلسطينية، والمناوشات بين الكيان الصهيوني وإيران ليأتي الدور على سوريا لتشهد اليوم بدورها زلزالا سياسيا انتهى بخروج الرئيس بشار الأسد وترك البلاد بيد الثوار ذوي التوجهات المتطرفة، بحيث بات واضحا الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا..

فهذا الحراك جيوسياسي الذي مس خاصة منطقة الشرق الأوسط، فيه المتوقع وغير المتوقع لا نعلم أين يقود العالم وشعوبه، نتيجة الأحادية القطبية الأمريكية، التي بيدها الحل والعقد كقوة عالمية، مالية، واقتصادية وسياسية، وعسكرية تقود العالم وتفرض الانصياع لها والتقيد بخياراتها.

لكن في المقابل تؤكد المؤشرات والمعطيات اليوم، أن النظام الدولي الأحادي الذي تقوده الولايات المتحدة بدأ في التفكك وبدأت الملامح الجينية لبروز نظام دولي جديد، لا يوجد فيه قطر واحد ينفرد بالقيادة، وبفاعلين جدد، وتوجهات جديدة، لتلافي أخطاء النظام الدولي السابق التي رسختها واشنطن تحت شعار مصالح أمريكا أولا، لذا نجد روسيا اليوم قد وضعت قدميها على بداية إعادة البناء كقوة عالمية مؤثرة، خصوصا بعد صعود بوتين لقمة السلطة سنة 2000، حيث مثلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا شهادة الوفاة الرسمية لنموذج الأحادية القطبية مؤكدة قوة روسيا في خصوص الملف الأوكراني في ظل استمرار الصراع دون بوادر تسوية سياسية، وأن الحل في التفاوض ممكن شريطة استيفاء الشروط اللازمة لذلك، والاقتناع بأسباب نشوب الحرب، وأخذ المخاوف الروسية مأخذ الجد خاصة فيما يتعلق بالدفاع والأمن، وهذا ما أكده مؤخرا سفير روسيا بتونس.

فاليوم نلحظ تعدد الدعوات تبعا لما تقدم ذكره لميلاد نظام كوني بديل بقيادة روسيا والصين، وانضمام عدد من دول أمريكا الجنوبية والإفريقية والهند ودول أخرى لها وزنها، والتي تشكل اليوم منظومة "البريكس"، وهي قوة مالية واقتصادية كبرى تضم تقريبا حوالي 48% من مجموع سكان العالم، حيث تتجه الأنظار خصوصا اليوم نحو الصين كقوة صاعدة تمتاز بعلاقات متوازنة مع جميع الفاعلين الدوليين لقيادة هذا المشروع الجديد بالشراكة مع أطراف أخرى كروسيا، والهند، والبرازيل وبعض الدول العربية والإفريقية.. خلافا للنظام الأحادي السابق الذي كانت له تداعيات سلبية على شعوب العالم، من خلال ارتفاع نسب البطالة، وتفكك النسيج الاقتصادي والارتهان للصناديق الدولية المكبلة للقرار الوطني.

بالتأكيد أن اللاعبين الجدد اليوم التي تعمل وفق إستراتيجية تقوم على المساواة، واحترام خيارات الشعوب، أو المنافسة النزيهة والجدية بعيدا عن الاستعلاء والفوقية، وإلا فان أي بناء جديد سيواجه نفس التحديات ونفس المصير لذلك فإن الصين جاهزة اليوم للعب هذا الدور الكبير ولها من إمكانيات ما يمكنها من كسب الرهان، ونلحظ اليوم العلاقات الصينية العربية، تعرف أزهى فتراتها على مر التاريخ حيث يلتزمان معا بتحقيق حلم الرخاء الوطني ونهضة الأمة وتعملان معالا لبناء مجتمع المستقبل المشترك بين الصين والدول العربية من أجل منفعة الشعوب مع تعزيز التعاون والتضامن بين الدول النامية لذا تم اعتبار تأسيس "منتدى التعاون الصيني العربي" لخطة فارقة جديدة في العلاقات الصينية العربية والتي تكرست في ديسمبر 2022 حين حضر الرئيس الصيني "شي جين بينغ" قي القمة الصينية العربية في المملكة العربية السعودية حين ألقى خطابه بالقمة، وصقل لأول مرة روح الصداقة الصينية العربية المتمثلة في التضامن والتآزر والمساواة والمنفعة المتبادلة، والشمول والاستفادة المتبادلة.

أن ثوابت السياسة الخارجية التونسية اليوم، تؤكد دوما على الرفض القاطع التدخل في شؤون بلادنا الداخلية، فتونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة والسيادة فيها للشعب التونسي وحده، كما أن ثوابت الدبلوماسية التونسية التعامل بندية مع الجميع وسيادة الدول مبدأ ثابت، فضلا عن أنها لا تقاس لا بمساحاتها ولا بعدد سكانها، لذلك لازالت تدعو تونس اليوم إلى إصلاح النظام الدولي، بما يوجهه نحو مسار أكثر عدالة وإنصافا، قادر على تلبية احتياجات المجتمع الإنساني في عالم يتميز بتغيرات عميقة وسريعة، فالعلاقات الدولية أصبحت في عالمنا اليوم لا تحكمها العواطف أو الإعجاب المتبادل بين القادة بل تحكمها مصالح الشعوب، بحيث توجهت من جديد تونس اليوم وتفطنت بعد سنوات عديدة سابقة من التراجع في مختلف مناحي التنمية لضرورة الشراكة مع النمور الآسيوية، لما توفره من فرص وعدم التنازل عن سيادتها التي تسمح لها بتنويع الشركاء، وليس البقاء تحت وصاية طرف بعينه باسم الشراكة الإستراتيجية، خصوصا بعد تعرض مصطلح السيادة الوطنية التونسية لانتكاسة كبرى منذ العشرية الأخيرة وقبل الإجراءات الاستثنائية ليوم 25/07/2021، لذا نجد اليوم العلاقات بين تونس وروسيا تسير نحو منحى ايجابي، وهو ما جسدته رسالة التهنئة من الرئيس بوتين إلى الرئيس قيس سعيد بمناسبة إعادة انتخابه، والرغبة المشتركة لكلا البلدين لمزيد تعزيزها خصوصا منها تكثيف الجهود لتوسيع نطاق التعاون الثنائي في قطاعات جديدة مثل الزراعة والصناعات الهندسية والطاقة والصحة، وازدياد حجم المبادلات التجارية بين البلدين ثلاث مرات خلال السنوات الثلاث الماضية ليصل إلى حوالي ملياري دولار، والتطور الكبير لسوق السياحة الروسية نحو الوجهة التونسية..

منذ انتصار الثورة الصينية بقيادة المفكر القائد "موتسي تونغ" ومع انجازاتها، صحا العالم على واقع وفكر جديد لشعب اقتحم بإرادته الحرة كل الصعاب المحلية، وواجه باقتدار جميع الصعوبات والضغوطات والاكراهات الخارجية من قبل القوى الغربية الامبريالية، نتج على ما تقدم توسع دائرة الاحترام من طرف الشعوب لسياسة الدولة الصينية، وأمام هذا التوجه الحضاري الإنساني على مدى عقود أصبح الحضور الصيني يبشر الشعوب بعالم أكثر عدلا وإنصافا، ففي ظل النهضة الصينية العملاقة اليوم، ومواقف قيادتها الشجاعة في مساعدة الشعوب من تجاوز أسباب التخلف، ونشر ثقافة السلام والوئام لصالح البشرية جمعاء، تفطنت تونس اليوم إلى التوجه شرقا وهو الهدف الأبرز لها في ظل التحولات والتطورات الدولية والمتغيرات المتسارعة، بما أن المجتمع الإنساني بدأ يتشكل بطريقة جديدة ويتجاوز النظام الدولي القديم، جراء التقسيم غير العادل للعمل منذ قرون على المستوى الدولي أدى إلى مزيد تفشي الفقر والجهل والهجرة غير النظامية...

لقد تجسد هذا التوجه شرقا لبلادنا اليوم مع جمهورية الصين الشعبية بمناسبة روابط الصداقة التاريخية المتينة التي تجمع بين البلدين والتي ما انفكت تتطور بخطى ثابتة منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين يوم 10/01/1964 وانطلاقا مما يجمع القيادتين اليوم للبلدين من حرص قوى على مزيد ترسيخ سنة التشاور والتنسيق في مختلف القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، وفق تصورات جديدة وآليات عمل ناجعة تقوم أساسا على مبادئ احترام الخيارات الوطنية النابعة من الشعب صاحب السيادة والمصلحة المشتركة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتعاون الثنائي على قدم المساواة .

 بمناسبة مرور 60 سنة على إرساء العلاقات الدبلوماسية بين الصين وتونس، أدى رئيس الجمهورية قيس سعيد زيارة دولة إلى جمهورية الصين الشعبية منذ موفى شهر ماي المنقضي امتدت لأيام بدعوة من رئيس الجمهورية الصين الشعبية أفضت إلى اتفاق لإقامة شراكة إستراتيجية بين البلدين استنادا للاحترام المتبادل بين البلدين، ومعاملة كل منهما الآخر على قدم المساواة على مدار الـ60 عاما الماضية رغم التقلبات الدولية، وقد أعربت الصين خلال هذه الزيارة الرئاسية عن استعدادها للعمل مع تونس لمواصلة الصداقة التقليدية وتعميق التبادلات والتعاون في مختلف المجالات، ودفع العلاقات الثنائية نحو مستوى جديد حيث عبرت الصين عن دعمها المتواصل لتونس في إتباع منوال تنموي يناسب ظروفها الوطنية وتشجيعها لدفع عملية الإصلاح بشكل مستقل ودعمها بخصوص تضافر استراتيجيات التنمية مع تونس وتعميق التعاون في عديد المجالات منها تشييد البنية التحتية، وتعزيز محركات نمو جديدة للتعاون في الرعاية الطبية والصحية، والتنمية الخضراء، والموارد المائية، والطاقة الجديدة والزراعة مع مواصلة تعميق التعاون مع تونس في مجالات السياحة والتعليم وتعزيز التبادلات الشعبية.. بحيث تعتبر الشراكة الإستراتيجية مع الصين لتطوير العلاقات في المجالات الاقتصادية والتنموية فرصة سانحة لتونس تبعا للمتغيرات الدولية لابد من الاستفادة بها بما يخدم المصلحة العليا لتونس، وذلك بوصف الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم وفرصة لبلادنا الباحثة عن تنويع الشراكات مع القوى الصاعدة، مع ضرورة الدعوى لتطوير العلاقات ودعمها مع الشركاء التقليديين لبلادنا والتمسك بخياراتنا الوطنية في الخصوص .

إن الدعوة موجهة اليوم إلى تعددية الأقطاب العالمية المتسمة بالمساواة والانتظام والعولمة الاقتصادية المتسمة بالنفع للجميع، وتكريس أسس جديدة للعلاقات الدولية تقوم على المساواة والتضامن وتساوي الفرص و تحقيق النفع للجميع دون استثناء والعمل على بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية جمعاء ولا يتسنى ذلك إلا بإقرار إصلاح واسع وكبير في هياكل الأمم المتحدة للوصول إلى عالم أكثر عدلا وإنسانية واحتراما لحقوق الإنسان ويضمن أكبر قدر من الحياة الكريمة بعيدا عن المخاطر والهزات .

*باحث وناشط في الحقل الجمعياتي بمدينة بنزرت

 

 

 

 

في ظل بداية تشكل نظام دولي جديد أكثر عدلا وإنسانية..    تنويع الشراكات في عالمنا المتغير بما يخدم المصلحة العليا لتونس

 

بقلم : الحبيب الذوادي(*)

كان تفكك الاتحاد السوفياتي في ديسمبر 1991 إيذانا بانتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، ومعها نهاية القطبية الثنائية التي ميزت النظام العالمي الدولي عقب الحرب العالمية الثانية لثلاثة عقود، وكان منطقيا أن ينفرد المعسكر المتضرر في تلك الحرب بقيادة النظام الدولي، فيما عرف بنموذج الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والذي بلغ ذروته بقرار هذه الأخيرة غزو العراق سنة 2003 لامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، حيث اعتبر هذا القرار ذروة الأحادية القطبية الأمريكية، والذي تم اعتباره لاحقا بداية لتآكلها حينها بالمقاومة العراقية الضاربة للغزو أولا، وللمقاومة الأفغانية، إلى جانب ما يعرفه عالمنا اليوم من تحركات سياسية واهتزازات متواترة خصوصا خلال المدة الأخيرة، فنجد غزة التي عرفت ولا زالت تعرف إلى تاريخ اليوم إبادة وتدميرا كاملا، وفشل العالم في وقف إطلاق النار على أرضها بسبب الإصرار الإسرائيلي على استمرار القتال إلى أن يتم تحرير الرهائن بعد موجة من الاغتيالات التي هزت القيادات الفلسطينية، والمناوشات بين الكيان الصهيوني وإيران ليأتي الدور على سوريا لتشهد اليوم بدورها زلزالا سياسيا انتهى بخروج الرئيس بشار الأسد وترك البلاد بيد الثوار ذوي التوجهات المتطرفة، بحيث بات واضحا الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل عسكريا واقتصاديا ودبلوماسيا..

فهذا الحراك جيوسياسي الذي مس خاصة منطقة الشرق الأوسط، فيه المتوقع وغير المتوقع لا نعلم أين يقود العالم وشعوبه، نتيجة الأحادية القطبية الأمريكية، التي بيدها الحل والعقد كقوة عالمية، مالية، واقتصادية وسياسية، وعسكرية تقود العالم وتفرض الانصياع لها والتقيد بخياراتها.

لكن في المقابل تؤكد المؤشرات والمعطيات اليوم، أن النظام الدولي الأحادي الذي تقوده الولايات المتحدة بدأ في التفكك وبدأت الملامح الجينية لبروز نظام دولي جديد، لا يوجد فيه قطر واحد ينفرد بالقيادة، وبفاعلين جدد، وتوجهات جديدة، لتلافي أخطاء النظام الدولي السابق التي رسختها واشنطن تحت شعار مصالح أمريكا أولا، لذا نجد روسيا اليوم قد وضعت قدميها على بداية إعادة البناء كقوة عالمية مؤثرة، خصوصا بعد صعود بوتين لقمة السلطة سنة 2000، حيث مثلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا شهادة الوفاة الرسمية لنموذج الأحادية القطبية مؤكدة قوة روسيا في خصوص الملف الأوكراني في ظل استمرار الصراع دون بوادر تسوية سياسية، وأن الحل في التفاوض ممكن شريطة استيفاء الشروط اللازمة لذلك، والاقتناع بأسباب نشوب الحرب، وأخذ المخاوف الروسية مأخذ الجد خاصة فيما يتعلق بالدفاع والأمن، وهذا ما أكده مؤخرا سفير روسيا بتونس.

فاليوم نلحظ تعدد الدعوات تبعا لما تقدم ذكره لميلاد نظام كوني بديل بقيادة روسيا والصين، وانضمام عدد من دول أمريكا الجنوبية والإفريقية والهند ودول أخرى لها وزنها، والتي تشكل اليوم منظومة "البريكس"، وهي قوة مالية واقتصادية كبرى تضم تقريبا حوالي 48% من مجموع سكان العالم، حيث تتجه الأنظار خصوصا اليوم نحو الصين كقوة صاعدة تمتاز بعلاقات متوازنة مع جميع الفاعلين الدوليين لقيادة هذا المشروع الجديد بالشراكة مع أطراف أخرى كروسيا، والهند، والبرازيل وبعض الدول العربية والإفريقية.. خلافا للنظام الأحادي السابق الذي كانت له تداعيات سلبية على شعوب العالم، من خلال ارتفاع نسب البطالة، وتفكك النسيج الاقتصادي والارتهان للصناديق الدولية المكبلة للقرار الوطني.

بالتأكيد أن اللاعبين الجدد اليوم التي تعمل وفق إستراتيجية تقوم على المساواة، واحترام خيارات الشعوب، أو المنافسة النزيهة والجدية بعيدا عن الاستعلاء والفوقية، وإلا فان أي بناء جديد سيواجه نفس التحديات ونفس المصير لذلك فإن الصين جاهزة اليوم للعب هذا الدور الكبير ولها من إمكانيات ما يمكنها من كسب الرهان، ونلحظ اليوم العلاقات الصينية العربية، تعرف أزهى فتراتها على مر التاريخ حيث يلتزمان معا بتحقيق حلم الرخاء الوطني ونهضة الأمة وتعملان معالا لبناء مجتمع المستقبل المشترك بين الصين والدول العربية من أجل منفعة الشعوب مع تعزيز التعاون والتضامن بين الدول النامية لذا تم اعتبار تأسيس "منتدى التعاون الصيني العربي" لخطة فارقة جديدة في العلاقات الصينية العربية والتي تكرست في ديسمبر 2022 حين حضر الرئيس الصيني "شي جين بينغ" قي القمة الصينية العربية في المملكة العربية السعودية حين ألقى خطابه بالقمة، وصقل لأول مرة روح الصداقة الصينية العربية المتمثلة في التضامن والتآزر والمساواة والمنفعة المتبادلة، والشمول والاستفادة المتبادلة.

أن ثوابت السياسة الخارجية التونسية اليوم، تؤكد دوما على الرفض القاطع التدخل في شؤون بلادنا الداخلية، فتونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة والسيادة فيها للشعب التونسي وحده، كما أن ثوابت الدبلوماسية التونسية التعامل بندية مع الجميع وسيادة الدول مبدأ ثابت، فضلا عن أنها لا تقاس لا بمساحاتها ولا بعدد سكانها، لذلك لازالت تدعو تونس اليوم إلى إصلاح النظام الدولي، بما يوجهه نحو مسار أكثر عدالة وإنصافا، قادر على تلبية احتياجات المجتمع الإنساني في عالم يتميز بتغيرات عميقة وسريعة، فالعلاقات الدولية أصبحت في عالمنا اليوم لا تحكمها العواطف أو الإعجاب المتبادل بين القادة بل تحكمها مصالح الشعوب، بحيث توجهت من جديد تونس اليوم وتفطنت بعد سنوات عديدة سابقة من التراجع في مختلف مناحي التنمية لضرورة الشراكة مع النمور الآسيوية، لما توفره من فرص وعدم التنازل عن سيادتها التي تسمح لها بتنويع الشركاء، وليس البقاء تحت وصاية طرف بعينه باسم الشراكة الإستراتيجية، خصوصا بعد تعرض مصطلح السيادة الوطنية التونسية لانتكاسة كبرى منذ العشرية الأخيرة وقبل الإجراءات الاستثنائية ليوم 25/07/2021، لذا نجد اليوم العلاقات بين تونس وروسيا تسير نحو منحى ايجابي، وهو ما جسدته رسالة التهنئة من الرئيس بوتين إلى الرئيس قيس سعيد بمناسبة إعادة انتخابه، والرغبة المشتركة لكلا البلدين لمزيد تعزيزها خصوصا منها تكثيف الجهود لتوسيع نطاق التعاون الثنائي في قطاعات جديدة مثل الزراعة والصناعات الهندسية والطاقة والصحة، وازدياد حجم المبادلات التجارية بين البلدين ثلاث مرات خلال السنوات الثلاث الماضية ليصل إلى حوالي ملياري دولار، والتطور الكبير لسوق السياحة الروسية نحو الوجهة التونسية..

منذ انتصار الثورة الصينية بقيادة المفكر القائد "موتسي تونغ" ومع انجازاتها، صحا العالم على واقع وفكر جديد لشعب اقتحم بإرادته الحرة كل الصعاب المحلية، وواجه باقتدار جميع الصعوبات والضغوطات والاكراهات الخارجية من قبل القوى الغربية الامبريالية، نتج على ما تقدم توسع دائرة الاحترام من طرف الشعوب لسياسة الدولة الصينية، وأمام هذا التوجه الحضاري الإنساني على مدى عقود أصبح الحضور الصيني يبشر الشعوب بعالم أكثر عدلا وإنصافا، ففي ظل النهضة الصينية العملاقة اليوم، ومواقف قيادتها الشجاعة في مساعدة الشعوب من تجاوز أسباب التخلف، ونشر ثقافة السلام والوئام لصالح البشرية جمعاء، تفطنت تونس اليوم إلى التوجه شرقا وهو الهدف الأبرز لها في ظل التحولات والتطورات الدولية والمتغيرات المتسارعة، بما أن المجتمع الإنساني بدأ يتشكل بطريقة جديدة ويتجاوز النظام الدولي القديم، جراء التقسيم غير العادل للعمل منذ قرون على المستوى الدولي أدى إلى مزيد تفشي الفقر والجهل والهجرة غير النظامية...

لقد تجسد هذا التوجه شرقا لبلادنا اليوم مع جمهورية الصين الشعبية بمناسبة روابط الصداقة التاريخية المتينة التي تجمع بين البلدين والتي ما انفكت تتطور بخطى ثابتة منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين يوم 10/01/1964 وانطلاقا مما يجمع القيادتين اليوم للبلدين من حرص قوى على مزيد ترسيخ سنة التشاور والتنسيق في مختلف القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، وفق تصورات جديدة وآليات عمل ناجعة تقوم أساسا على مبادئ احترام الخيارات الوطنية النابعة من الشعب صاحب السيادة والمصلحة المشتركة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتعاون الثنائي على قدم المساواة .

 بمناسبة مرور 60 سنة على إرساء العلاقات الدبلوماسية بين الصين وتونس، أدى رئيس الجمهورية قيس سعيد زيارة دولة إلى جمهورية الصين الشعبية منذ موفى شهر ماي المنقضي امتدت لأيام بدعوة من رئيس الجمهورية الصين الشعبية أفضت إلى اتفاق لإقامة شراكة إستراتيجية بين البلدين استنادا للاحترام المتبادل بين البلدين، ومعاملة كل منهما الآخر على قدم المساواة على مدار الـ60 عاما الماضية رغم التقلبات الدولية، وقد أعربت الصين خلال هذه الزيارة الرئاسية عن استعدادها للعمل مع تونس لمواصلة الصداقة التقليدية وتعميق التبادلات والتعاون في مختلف المجالات، ودفع العلاقات الثنائية نحو مستوى جديد حيث عبرت الصين عن دعمها المتواصل لتونس في إتباع منوال تنموي يناسب ظروفها الوطنية وتشجيعها لدفع عملية الإصلاح بشكل مستقل ودعمها بخصوص تضافر استراتيجيات التنمية مع تونس وتعميق التعاون في عديد المجالات منها تشييد البنية التحتية، وتعزيز محركات نمو جديدة للتعاون في الرعاية الطبية والصحية، والتنمية الخضراء، والموارد المائية، والطاقة الجديدة والزراعة مع مواصلة تعميق التعاون مع تونس في مجالات السياحة والتعليم وتعزيز التبادلات الشعبية.. بحيث تعتبر الشراكة الإستراتيجية مع الصين لتطوير العلاقات في المجالات الاقتصادية والتنموية فرصة سانحة لتونس تبعا للمتغيرات الدولية لابد من الاستفادة بها بما يخدم المصلحة العليا لتونس، وذلك بوصف الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم وفرصة لبلادنا الباحثة عن تنويع الشراكات مع القوى الصاعدة، مع ضرورة الدعوى لتطوير العلاقات ودعمها مع الشركاء التقليديين لبلادنا والتمسك بخياراتنا الوطنية في الخصوص .

إن الدعوة موجهة اليوم إلى تعددية الأقطاب العالمية المتسمة بالمساواة والانتظام والعولمة الاقتصادية المتسمة بالنفع للجميع، وتكريس أسس جديدة للعلاقات الدولية تقوم على المساواة والتضامن وتساوي الفرص و تحقيق النفع للجميع دون استثناء والعمل على بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية جمعاء ولا يتسنى ذلك إلا بإقرار إصلاح واسع وكبير في هياكل الأمم المتحدة للوصول إلى عالم أكثر عدلا وإنسانية واحتراما لحقوق الإنسان ويضمن أكبر قدر من الحياة الكريمة بعيدا عن المخاطر والهزات .

*باحث وناشط في الحقل الجمعياتي بمدينة بنزرت