على مدى أكثر من خمسة عقود وبالتحديد طيلة 54 عاما، شكّل حكم آل الأسد نقطة تحول جوهرية في تاريخ سوريا، خاصة بالنسبة للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس السابق بشار الأسد ووالده حافظ الأسد. ارتبطت هذه الطائفة بالنظام الحاكم بشكل وثيق، حيث أصبحت ركناً أساسياً في بنية السلطة السياسية والعسكرية، ما مكنّها من مكاسب كبيرة، لكنه في الوقت ذاته جعلها في موقف حساس أمام المتغيرات، خاصة بعد سقوط النظام ونهاية دوره وفرار الأسد وعدد من مسؤوليه واعتقال من بقي منهم في سوريا.
حكم الأسد.. العصر الذهبي للطائفة العلوية
تُعد الطائفة العلوية إحدى الأقليات الدينية في سوريا، وتمثل بين 10و15% من السكان. عندما وصل حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970 عبر انقلاب "الحركة التصحيحية"، بدأت مرحلة جديدة للطائفة العلوية، التي كانت تعاني قبل ذلك من تهميش اقتصادي واجتماعي وسياسي. أتاح النظام الجديد لأبناء الطائفة الوصول إلى مناصب قيادية في الحكومة والإدارة والجيش وأجهزة الأمن، مع تعزيز وجودهم في جل مؤسسات الدولة.
هذا "العصر الذهبي" لم يكن مجرد حقبة من التمكين الاقتصادي والسياسي، بل شكل تحولاً في الهوية الجمعية للطائفة، حيث باتت مرتبطة عضوياً بالنظام الحاكم، سواء من خلال النفوذ أو الامتيازات التي حصل عليها العديد من أفرادها.
ومع ذلك، لم تكن هذه الصورة موحدة داخل الطائفة؛ فبينما استفادت النخب العلوية من السلطة، ظلت قطاعات واسعة من الطائفة تعاني من الفقر والتهميش، خاصة في المناطق الريفية..
ما بعد الأسد.. مخاوف من انتقام جماعي
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011 وتحولها إلى صراع دموي، بدأت المخاوف تتزايد بين أفراد الطائفة العلوية بشأن مصيرهم. فمع ربط النظام الحاكم بالطائفة في الخطاب السياسي والإعلامي للمعارضة، أصبح العلويون في نظر البعض "شركاء" في القمع الذي مارسه النظام. ومثلما حصل في جل الثورات خاصة منها العربية، يبدأ الانتقام من الطائفة او العائلة الحاكمة والمقربين منها بمجرد سقوط النظام وهو ما حصل مع العلويين بمجرد سقوط نظام الأسد والاطاحة به يوم 8 ديسمبر الجاري حيث انطلقت عمليات انتقام جماعية ضد العلويين، سواء من قبل جماعات المعارضة المسلحة أو المدنيين الذين عانوا من الانتهاكات. وساعد على ذلك الفراغ الأمني والسياسي في البلاد وكذلك الانقسام داخل الطائفة ذاتها بين مؤيدين للنظام ومعارضين له.
تشير التقارير وحتى الصور التي توثق للوضع السوري الجديد، إلى أن الخطاب الطائفي زاد من تأجيج العداء تجاه العلويين، خاصة مع تحميل البعض لهم مسؤولية دعم النظام. هذا الخطاب يغفل حقيقة أن شريحة واسعة من العلويين ليست جزءاً من النظام ولا تتحمل تبعات قراراته.
مستقبل الطائفة العلوية والخيارات المحدودة
اليوم وبعد سقوط حكم "آل الأسد" وفي ظل تغير الواقع السوري كليا، تواجه الطائفة العلوية سيناريوهات متعددة، تعتمد بشكل كبير على طريقة انتهاء الصراع في سوريا من بينها كخيار أول ومطلوب إعادة الاندماج الوطني اذا ما تم السماح للطائفة بمواصلة التعايش بين بقية الطوائف السورية خاصة اذا ما نأت بنفسها عن إرث النظام السابق، وحرصت على إعادة بناء الثقة مع بقية مكونات المجتمع السوري.
الخيار الثاني هو اللجوء إلى المناطق الآمنة ذات غالبية علوية مثل الساحل السوري، لكن هذا الخيار يحمل مخاطر التفكك الجغرافي لسوريا. اما الخيار الثالث فهو الاعتماد على التسويات الدولية ودور المجتمع الدولي في ضمان حماية الأقليات في سوريا عبر ضمانات قانونية ودستورية خلال المرحلة الانتقالية.
واقع سوريا اليوم ومصير المقربين من الحكم متوقع وليس بالجديد على امتنا العربية. فارتباط الطائفة العلوية بالنظام الحاكم في سوريا كان سيفاً ذو حدين. فمن ناحية، أتاح لها فرصة غير مسبوقة للنفوذ والتمكين، لكنه من ناحية أخرى جعلها عرضة لتبعات سقوط النظام، سواء من حيث فقدان الامتيازات أو التعرض للانتقام.
مستقبل الأقليات في سوريا ؟
السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه هو: هل يمكن لسوريا أن تعود إلى حالة من التعايش بين مكوناتها المختلفة؟ الإجابة مرهونة بعدة عوامل أهمها إعادة بناء العقد الاجتماعي وهو ما يتطلب تجاوز الخطابات الطائفية وبناء دولة تقوم على المواطنة المتساوية، حيث تُعامل جميع الطوائف كجزء من النسيج الوطني وليس ككتل متناحرة.
والمطلوب محاسبة عادلة لا انتقامية لتحقيق العدالة، فالمحاسبة يجب أن تكون على الجرائم المرتكبة من قبل الأفراد وليس على الجماعات، مما يضمن تفادي تعميم المسؤولية أو معاقبة طائفة بأكملها.
مستقبل سوريا يتطلب جهداً جماعياً لتجاوز هذه المرحلة الصعبة، وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع، مع ضمان حقوق الجميع في ظل دولة مدنية تضع مصلحة الوطن فوق المصالح الضيقة. والمستقبل يتطلب شجاعة من أبناء الطائفة للعمل على فصل صورتهم عن النظام، والانخراط في مشروع وطني جامع يعيد بناء سوريا على أسس المواطنة والمساواة. فالرهان على البقاء في عزلة أو انتظار الحماية الخارجية قد يؤدي إلى نتائج كارثية تزيد من تعقيد المشهد السوري.
بقلم: سفيان رجب
تونس-الصباح
على مدى أكثر من خمسة عقود وبالتحديد طيلة 54 عاما، شكّل حكم آل الأسد نقطة تحول جوهرية في تاريخ سوريا، خاصة بالنسبة للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس السابق بشار الأسد ووالده حافظ الأسد. ارتبطت هذه الطائفة بالنظام الحاكم بشكل وثيق، حيث أصبحت ركناً أساسياً في بنية السلطة السياسية والعسكرية، ما مكنّها من مكاسب كبيرة، لكنه في الوقت ذاته جعلها في موقف حساس أمام المتغيرات، خاصة بعد سقوط النظام ونهاية دوره وفرار الأسد وعدد من مسؤوليه واعتقال من بقي منهم في سوريا.
حكم الأسد.. العصر الذهبي للطائفة العلوية
تُعد الطائفة العلوية إحدى الأقليات الدينية في سوريا، وتمثل بين 10و15% من السكان. عندما وصل حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970 عبر انقلاب "الحركة التصحيحية"، بدأت مرحلة جديدة للطائفة العلوية، التي كانت تعاني قبل ذلك من تهميش اقتصادي واجتماعي وسياسي. أتاح النظام الجديد لأبناء الطائفة الوصول إلى مناصب قيادية في الحكومة والإدارة والجيش وأجهزة الأمن، مع تعزيز وجودهم في جل مؤسسات الدولة.
هذا "العصر الذهبي" لم يكن مجرد حقبة من التمكين الاقتصادي والسياسي، بل شكل تحولاً في الهوية الجمعية للطائفة، حيث باتت مرتبطة عضوياً بالنظام الحاكم، سواء من خلال النفوذ أو الامتيازات التي حصل عليها العديد من أفرادها.
ومع ذلك، لم تكن هذه الصورة موحدة داخل الطائفة؛ فبينما استفادت النخب العلوية من السلطة، ظلت قطاعات واسعة من الطائفة تعاني من الفقر والتهميش، خاصة في المناطق الريفية..
ما بعد الأسد.. مخاوف من انتقام جماعي
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011 وتحولها إلى صراع دموي، بدأت المخاوف تتزايد بين أفراد الطائفة العلوية بشأن مصيرهم. فمع ربط النظام الحاكم بالطائفة في الخطاب السياسي والإعلامي للمعارضة، أصبح العلويون في نظر البعض "شركاء" في القمع الذي مارسه النظام. ومثلما حصل في جل الثورات خاصة منها العربية، يبدأ الانتقام من الطائفة او العائلة الحاكمة والمقربين منها بمجرد سقوط النظام وهو ما حصل مع العلويين بمجرد سقوط نظام الأسد والاطاحة به يوم 8 ديسمبر الجاري حيث انطلقت عمليات انتقام جماعية ضد العلويين، سواء من قبل جماعات المعارضة المسلحة أو المدنيين الذين عانوا من الانتهاكات. وساعد على ذلك الفراغ الأمني والسياسي في البلاد وكذلك الانقسام داخل الطائفة ذاتها بين مؤيدين للنظام ومعارضين له.
تشير التقارير وحتى الصور التي توثق للوضع السوري الجديد، إلى أن الخطاب الطائفي زاد من تأجيج العداء تجاه العلويين، خاصة مع تحميل البعض لهم مسؤولية دعم النظام. هذا الخطاب يغفل حقيقة أن شريحة واسعة من العلويين ليست جزءاً من النظام ولا تتحمل تبعات قراراته.
مستقبل الطائفة العلوية والخيارات المحدودة
اليوم وبعد سقوط حكم "آل الأسد" وفي ظل تغير الواقع السوري كليا، تواجه الطائفة العلوية سيناريوهات متعددة، تعتمد بشكل كبير على طريقة انتهاء الصراع في سوريا من بينها كخيار أول ومطلوب إعادة الاندماج الوطني اذا ما تم السماح للطائفة بمواصلة التعايش بين بقية الطوائف السورية خاصة اذا ما نأت بنفسها عن إرث النظام السابق، وحرصت على إعادة بناء الثقة مع بقية مكونات المجتمع السوري.
الخيار الثاني هو اللجوء إلى المناطق الآمنة ذات غالبية علوية مثل الساحل السوري، لكن هذا الخيار يحمل مخاطر التفكك الجغرافي لسوريا. اما الخيار الثالث فهو الاعتماد على التسويات الدولية ودور المجتمع الدولي في ضمان حماية الأقليات في سوريا عبر ضمانات قانونية ودستورية خلال المرحلة الانتقالية.
واقع سوريا اليوم ومصير المقربين من الحكم متوقع وليس بالجديد على امتنا العربية. فارتباط الطائفة العلوية بالنظام الحاكم في سوريا كان سيفاً ذو حدين. فمن ناحية، أتاح لها فرصة غير مسبوقة للنفوذ والتمكين، لكنه من ناحية أخرى جعلها عرضة لتبعات سقوط النظام، سواء من حيث فقدان الامتيازات أو التعرض للانتقام.
مستقبل الأقليات في سوريا ؟
السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه هو: هل يمكن لسوريا أن تعود إلى حالة من التعايش بين مكوناتها المختلفة؟ الإجابة مرهونة بعدة عوامل أهمها إعادة بناء العقد الاجتماعي وهو ما يتطلب تجاوز الخطابات الطائفية وبناء دولة تقوم على المواطنة المتساوية، حيث تُعامل جميع الطوائف كجزء من النسيج الوطني وليس ككتل متناحرة.
والمطلوب محاسبة عادلة لا انتقامية لتحقيق العدالة، فالمحاسبة يجب أن تكون على الجرائم المرتكبة من قبل الأفراد وليس على الجماعات، مما يضمن تفادي تعميم المسؤولية أو معاقبة طائفة بأكملها.
مستقبل سوريا يتطلب جهداً جماعياً لتجاوز هذه المرحلة الصعبة، وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع، مع ضمان حقوق الجميع في ظل دولة مدنية تضع مصلحة الوطن فوق المصالح الضيقة. والمستقبل يتطلب شجاعة من أبناء الطائفة للعمل على فصل صورتهم عن النظام، والانخراط في مشروع وطني جامع يعيد بناء سوريا على أسس المواطنة والمساواة. فالرهان على البقاء في عزلة أو انتظار الحماية الخارجية قد يؤدي إلى نتائج كارثية تزيد من تعقيد المشهد السوري.