مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وتداعي المعارضة السورية المسلحة إلى استلام السلطة، قد تعرف منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، والمنطقة العربية بصفة عامة، تغييرات جيوسياسية خصوصا مع محورية جغرافية الأراضي السورية، وتكالب من قبل القوى الإقليمية على سباق حول "زعامة المنطقة"، وخصوصا على تأثيرها المباشر على القضية الفلسطينية، و"محور المواجهة" ضد الكيان المحتل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولعل قراءة معمقة في الواقع الاثني والسياسي والعسكري في سوريا، بعد سقوط بشار الأسد وسقوط كل المناطق التي كانت تحت سيطرته، يمكن أن يوجهنا إلى التحولات التي قد تشهدها جيوسياسة الصراع في الشرق الأوسط، وتأثيراتها على كل المنطقة العربية، خصوصا إذا ما توجهت القوى الجديدة التي سيطرت على الحكم في العاصمة السورية دمشق، إلى التفكير في "تصدير الفوضى" إلى مناطق أخرى، وهو ما قد يصدر"الفوضى" إلى ساحات أخرى تشترك مع سوريا في معالم الصراع القائم منذ 14 عاما، خصوصا إذا ما تحدثنا على "سيطرة إسلامية" للحكم في سوريا.
إن النظر إلى خريطة الصراع الجديدة في سوريا، يعترضنا وجود قوتين أساسيتين، بدءا يتجهان نحو التصادم، في تخوم حرب جديدة يحددها بالأساس نهر الفرات، وهو الخط الذي حددته قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر عليها التنظيمات المسلحة الكردية كحد للأراضي التي تعتبرها تابعة لها في إطار حكم ذاتي تطالب به منذ سنة 2012، مقابل القوات السورية المنسوبة للمعارضة والتي تشكل "هيئة تحرير الشام" ذات التوجهات الإسلامية السنية الجهادية محورها الأساسي، مع وجود تنظيمات عسكرية أخرى محسوبة على تركيا مثل "الجيش السوري الحر" وتنظيمات محلية أخرى كهيئات تحرير المدن السورية ذات الهيكلية التنظيمية المستقلة، والتي لا ترى إلا في "توحيد الأراضي السورية وفرض سيادتها عليها" كحل لا تراجع عنه لمستقبل سوريا، وهو ما تطالب به تركيا، التي تنظر إلى التنظيمات الكردية الانفصالية في سوريا كتنظيمات "إرهابية" يمكنها إرباك الجبهة الداخلية التركية خصوصا وأنها ترى فيها تواصلا مع حزب العمال الكردستاني الذي يطالب باستقلال مناطق التواجد الكردي في تركيا.
ويبدو أن هذا التحول الجديد في تصادم بين القوتين الأساسيتين في سوريا ما بعد بشار الأسد، قد يشكل أزمة عابرة للحدود، وخصوصا في الاستقرار النسبي الموجود في العراق، في إطار اتجاهين أساسيين، يحددهما أساسا الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق، والذي قد يكون فرض لدعم أكراد سوريا خصوصا مع التواصل الواضح بين التنظيمات الكردية السورية والعراقية.
بين الأكراد وسنة العراق
ففكرة الحكم الذاتي التي انطلقت في العراق منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد حرب الخليج الثانية وفرض الحصار على نظام صدام حسين بعد غزوه للكويت، تعتبر الفكرة المنطلق التي قادت التنظيمات الكردية السورية عند بداية الحرب الأهلية السورية، حيث أنها بنت أجندتها السياسية وفق بوصلة الحكم الذاتي، بل وكانت تحالفاتها في سنوات هذه الحرب وفق هذه الرؤية، حيث أنها تحالفت في بعض الأحيان مع جيش نظام بشار الأسد، كما تحالفت مع قوى المعارضة السورية التي كانت بعيدة عن الفلك التركي، كما كانت الجبهة الأولى التي ضربت تنظيم "داعش" عند تمدده في سوريا والعراق، بدفع مباشر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، التي واصلت دعمها بعد سقوط هذا التنظيم مقابل دعم أمريكي لأجندة "الحكم الذاتي" للأكراد.
في ذات السياق، فإن خارطة الانتشار الطائفي بين العراق وسوريا، قد يقودان الأقلية السنية في العراق إلى محاولة إعادة التموضع، خصوصا مع صعود القوى الاسلاموية السنية للحكم في سوريا، متمثلة بالأساس في أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني المصنف ضمن قوائم الإرهاب العالمية، باعتباره امتدادا لتنظيم القاعدة في سوريا، بالرغم من قوله أنه قام بعديد المراجعات الفكرية التي قال أنها قادته من الأجندة الجهادية العالمية، إلى أجندة سياسية سورية داخلية.
ولعل مثل هذا التوجه الذي يغلب على التنظيمات الجهادية أو غير الجهادية الاسلاموية هي التي تثير إلى المخاوف من "تصدير الفوضى"، خصوصا وأن الجولاني و"هيئة تحرير الشام" المتأثرين بالأجندة الجهادية الدولية، قد تقودهم إلى دعم أي تحركات على أساس اسلاموي في أي منطقة في العالم، وهو ما حصل عند بداية ما يعرف بثورات "الربيع العربي" التي قادت التنظيمات الإسلاموية للحكم وأبرزها تنظيم الإخوان المسلمين، الذي مازلت له عديد مواطئ القدم في بعض الدول العربية.
خسارة إستراتيجية لإيران
ويبدو أن "تصدير الفوضى"، قد يقود الأغلبية الشيعية في العراق، إلى إعادة التموقع، والاستعداد لأي تغييرات في الميدان، خصوصا وأن أي تطور في الصراع في سوريا قد يؤثر على حالة "التماسك النسبي" لرقعة السيادة الجغرافية العراقية.
فإذا تمكن الأكراد من استكمال السيطرة على المناطق الشمالية الشرقية لسوريا، قد يدفع أكراد العراق لمحاولة الاتحاد مع الكيان الكردي الجديد في سوريا، وهو ما قد يتحول لصراع أكبر في المنطقة، وبالمثل، فإذا ما تمكنت المعارضة السورية ذات المحور الاسلاموي السني، فإن ذلك قد يدفع الأقلية السنية (التي حكمت العراق أكثر من 40 عاما) إلى محاولة المطالبة بدور أكبر في المشهد السياسي العراقي على الأقل، أو المطالبة بنصيب أكبر في كعكة المشهد الطائفي الحاكم في العراق بحكم دستور سنة 2005، المبني على أساس طائفي، والذي سبقته حرب طائفية سيطرت على المشهد العراقي طوال أكثر من 4 سنوات (2006 إلى سنة 2008)، والتي كانت منطلقا لتضخم تنظيمات جهادية كبرى مثل القاعدة في بلاد الرافدين والتي خرج من رحمها فيما بعد تنظيمات أكثر تطرفا مثل "داعش" في سوريا وتنظيم "جبهة النصرة" الذي قاده الجولاني قبل أن يعلن خروجه عنه وتأسيس ما يعرف اليوم بـ"جبهة تحرير الشام" العمود الفقري الأساسي عسكريا وسياسيا المؤثر في المشهد السوري الحالي.
ولعل العراق، لن يكون المتأثر الوحيد في هذا الزخم السياسي الجديد الذي فرضه سقوط نظام بشار الأسد، فهذا السقوط وبروز قوى مناوئة لـ"التوسع" الإيراني في سوريا، والذي كان المحور الأساسي لتواصل حكم بشار الأسد طوال سنوات، يعتبر سقوطا كبيرا لإستراتيجية الهلال الشيعي الإيرانية، التي تمكنت طهران من تحقيق تواصلها الجغرافي طوال سنوات عديدة، ودعمتها بحكم انخراطها المباشر في الحرب الأهلية السورية، بالاعتماد إما على القوى العربية الشيعية التابعة لها، كالحشد الشعبي في العراق، أو "حزب الله" في لبنان، لتتزعم ما اعتبر "محورا للمقاومة" ووفر كثيرا من الأحيان أوراق تفاوض إيرانية في عديد الملفات التي تتداخل فيها إيران، ومنها ملفها النووي الذي يعتبر الثابت الوحيد بالنسبة لطهران، ووفرت له الحرب الأمريكية عل العراق وإسقاط نظام صدام حسين دافعا جيوسياسيا للتمدد خارج إيران، وزيادة نفوذها الجيواستراتيجي في سوريا بعد بداية الحرب الأهلية سنة 2011، وزيادة حضورها في لبنان، باعتبار أن التواصل السياسي والمد اللوجستي بينها وبين "الأطراف" الهلال الشيعي في الشرق الأوسط أصبح أسهل، مما كان عليه الأمر منذ ثمانينات القرن الماضي.
ويبدو أن سقوط سوريا يعتبر ضربة كبيرة لإستراتيجية إيران في المنطقة، فسقوط دمشق سيتسبب في عزلة أكبر لـ"حزب الله" في لبنان، كما سيتسبب في تركز الصراع أكثر في شرق سوريا وغرب العراق في مرحلة أولى، مع إمكانية تنقله أكثر نحو شرق العراق وصولا إلى الحدود مع إيران، وهو أمر يربك السلطات العراقية.
"تثوير ليبيا"
كذلك فإن صعود التيار الاسلاموي للتحكم في اللعبة السياسية في سوريا، قد يشكل ركيزة أساسية ودعم معنوي وسياسي، للتيارات السياسية الاسلاموية في المنطقة، وأبرزها في الأردن، الذي حقق فيه حزب "جبهة العمل الإسلامي" الواجهة السياسية للإخوان المسلمين نتائج كبيرة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مستفيدا من الزخم السياسي الذي تسببت فيه الحرب عل غزة والتي تواجه فيها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الكيان الصهيوني.
ويبدو أن صعود التيار الإسلاموي في دمشق، سيشكل مجالا مريحا للعمل السياسي بالنسبة لهذا الحزب، وهو ما يخلق نوعا من القلق لنظام العاهل الأردني عبد الله الثاني، خصوصا مع الأجندة العابرة للحدود التي يتبنها هذا التنظيم السياسي الدولي الذي يبدو أن سقوط بشار الأسد أخذ يشكل "بارقة أمل" جديدة للعودة من جديد في اللعبة السياسية في عديد الدول الأخرى.
ويبدو أن هذا "الرجاء في العودة" قد ينطلق من ليبيا، حيث مازال للإسلاميين موطأ قدم في خريطة الصراع هناك، خصوصا مع احتفاظهم بمواقع سياسية وعسكرية متقدمة في غرب ليبيا، حافظت على وجودها بدعم تركي واضح عسكريا، وتحكمهم باللعبة السياسية في الحكومات المتعاقبة التي حكمت طرابلس، بل واعتمادهم على مرتزقة من سوريا عند مواجهتهم لهجوم قوات قائد قوات شرق ليبيا خليفة حفتر بين سنتي 2019 و2020.
ويبدو أن "مغامرة" إسلاميي سوريا ونجاحهم في إسقاط الأسد، قد تقود إسلاميي ليبيا إلى تجربة جديدة في محاولة لكسر الحصار والعزلة المفروضة عليهم في المربع بين مدينتي مصراتة وزوارة المتاخمتين للحدود التونسية، خصوصا مع زيادة عزلة حكومة عبد الحميد الدبيبة، وزيادة نفوذ حفتر والحكومة المدعومة من مجلس النواب الليبي في المناطق الشرقية، مع تداعي عديد المليشيات إلى مساندة الشرق على حساب الغرب.
ولعل مثل هذه المغامرة قد تشكل خطرا على الاستقرار الموجود في المنطقة منذ بداية المسار السياسي في ليبيا بدعم من الأمم المتحدة، بعد حرب حفنتر على طرابلس، لإيجاد حل سلمي ينتهي بانتخابات تشريعية وسياسية وتفاهم حول مسودة الدستور، وهو ما لم يتحقق، وليظل الوضع منفتحا على جميع السيناريوهات خاصة مع عدم إيجاد حل مستدام لمعضلة توحيد الأجهزة الأمنية والعسكرية.
من جهتها فإن مصر تنظر إلى تداعيات "الزلزال السوري"، بكثير من الريبة، فالمحور الاسلاموي الذي يمسك بالسلطة اليوم في سوريا، قد يوفر موطأ قدم لإخوان مصر، الذين توزعوا بين عديد العواصم في العالمية وأبرزهم في أنقرة ولندن، قد يجيدون في سوريا ملجأ جديدا للعمل السياسي الموجه للداخل المصري، وهو ما يقلق كذلك دولا أخرى مثل المملكة العربية السعودية والإمارات التي استثمرت كثيرا في إستراتيجية احتواء تنظيم الإخوان المسلمين، وهي تنظر بقلق لهذا الظهور الاسلاموي الجديد في سوريا بريبة كبيرة، خصوصا وأن هؤلاء يوفرون فرصة لأن تكون تركيا اللاعب الأبرز في المنطقة.
تركيا التي كانت، تنظر بتوجس كبير لتصاعد نفوذ الكيان الصهيوني بعد حرب غزة، وتصاعد نفوذ الأكراد في شمال سوريا، أصبحت اليوم تتمتع بموضع متقدم، في سوريا يسمح لها بأن تكون مفاوضا مباشرا على الصراع في الأراضي المحتلة، كما أن هذا الوضع يسمح لها من الاستفادة بأن توجه السلطة الجديدة في دمشق نحو دحر "الخطر الكردي"، وهو ما بدأ فعلا في مدينة دير الزور شرق سوريا.
بقلم: نزار مقني
مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وتداعي المعارضة السورية المسلحة إلى استلام السلطة، قد تعرف منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، والمنطقة العربية بصفة عامة، تغييرات جيوسياسية خصوصا مع محورية جغرافية الأراضي السورية، وتكالب من قبل القوى الإقليمية على سباق حول "زعامة المنطقة"، وخصوصا على تأثيرها المباشر على القضية الفلسطينية، و"محور المواجهة" ضد الكيان المحتل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولعل قراءة معمقة في الواقع الاثني والسياسي والعسكري في سوريا، بعد سقوط بشار الأسد وسقوط كل المناطق التي كانت تحت سيطرته، يمكن أن يوجهنا إلى التحولات التي قد تشهدها جيوسياسة الصراع في الشرق الأوسط، وتأثيراتها على كل المنطقة العربية، خصوصا إذا ما توجهت القوى الجديدة التي سيطرت على الحكم في العاصمة السورية دمشق، إلى التفكير في "تصدير الفوضى" إلى مناطق أخرى، وهو ما قد يصدر"الفوضى" إلى ساحات أخرى تشترك مع سوريا في معالم الصراع القائم منذ 14 عاما، خصوصا إذا ما تحدثنا على "سيطرة إسلامية" للحكم في سوريا.
إن النظر إلى خريطة الصراع الجديدة في سوريا، يعترضنا وجود قوتين أساسيتين، بدءا يتجهان نحو التصادم، في تخوم حرب جديدة يحددها بالأساس نهر الفرات، وهو الخط الذي حددته قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر عليها التنظيمات المسلحة الكردية كحد للأراضي التي تعتبرها تابعة لها في إطار حكم ذاتي تطالب به منذ سنة 2012، مقابل القوات السورية المنسوبة للمعارضة والتي تشكل "هيئة تحرير الشام" ذات التوجهات الإسلامية السنية الجهادية محورها الأساسي، مع وجود تنظيمات عسكرية أخرى محسوبة على تركيا مثل "الجيش السوري الحر" وتنظيمات محلية أخرى كهيئات تحرير المدن السورية ذات الهيكلية التنظيمية المستقلة، والتي لا ترى إلا في "توحيد الأراضي السورية وفرض سيادتها عليها" كحل لا تراجع عنه لمستقبل سوريا، وهو ما تطالب به تركيا، التي تنظر إلى التنظيمات الكردية الانفصالية في سوريا كتنظيمات "إرهابية" يمكنها إرباك الجبهة الداخلية التركية خصوصا وأنها ترى فيها تواصلا مع حزب العمال الكردستاني الذي يطالب باستقلال مناطق التواجد الكردي في تركيا.
ويبدو أن هذا التحول الجديد في تصادم بين القوتين الأساسيتين في سوريا ما بعد بشار الأسد، قد يشكل أزمة عابرة للحدود، وخصوصا في الاستقرار النسبي الموجود في العراق، في إطار اتجاهين أساسيين، يحددهما أساسا الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق، والذي قد يكون فرض لدعم أكراد سوريا خصوصا مع التواصل الواضح بين التنظيمات الكردية السورية والعراقية.
بين الأكراد وسنة العراق
ففكرة الحكم الذاتي التي انطلقت في العراق منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد حرب الخليج الثانية وفرض الحصار على نظام صدام حسين بعد غزوه للكويت، تعتبر الفكرة المنطلق التي قادت التنظيمات الكردية السورية عند بداية الحرب الأهلية السورية، حيث أنها بنت أجندتها السياسية وفق بوصلة الحكم الذاتي، بل وكانت تحالفاتها في سنوات هذه الحرب وفق هذه الرؤية، حيث أنها تحالفت في بعض الأحيان مع جيش نظام بشار الأسد، كما تحالفت مع قوى المعارضة السورية التي كانت بعيدة عن الفلك التركي، كما كانت الجبهة الأولى التي ضربت تنظيم "داعش" عند تمدده في سوريا والعراق، بدفع مباشر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، التي واصلت دعمها بعد سقوط هذا التنظيم مقابل دعم أمريكي لأجندة "الحكم الذاتي" للأكراد.
في ذات السياق، فإن خارطة الانتشار الطائفي بين العراق وسوريا، قد يقودان الأقلية السنية في العراق إلى محاولة إعادة التموضع، خصوصا مع صعود القوى الاسلاموية السنية للحكم في سوريا، متمثلة بالأساس في أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني المصنف ضمن قوائم الإرهاب العالمية، باعتباره امتدادا لتنظيم القاعدة في سوريا، بالرغم من قوله أنه قام بعديد المراجعات الفكرية التي قال أنها قادته من الأجندة الجهادية العالمية، إلى أجندة سياسية سورية داخلية.
ولعل مثل هذا التوجه الذي يغلب على التنظيمات الجهادية أو غير الجهادية الاسلاموية هي التي تثير إلى المخاوف من "تصدير الفوضى"، خصوصا وأن الجولاني و"هيئة تحرير الشام" المتأثرين بالأجندة الجهادية الدولية، قد تقودهم إلى دعم أي تحركات على أساس اسلاموي في أي منطقة في العالم، وهو ما حصل عند بداية ما يعرف بثورات "الربيع العربي" التي قادت التنظيمات الإسلاموية للحكم وأبرزها تنظيم الإخوان المسلمين، الذي مازلت له عديد مواطئ القدم في بعض الدول العربية.
خسارة إستراتيجية لإيران
ويبدو أن "تصدير الفوضى"، قد يقود الأغلبية الشيعية في العراق، إلى إعادة التموقع، والاستعداد لأي تغييرات في الميدان، خصوصا وأن أي تطور في الصراع في سوريا قد يؤثر على حالة "التماسك النسبي" لرقعة السيادة الجغرافية العراقية.
فإذا تمكن الأكراد من استكمال السيطرة على المناطق الشمالية الشرقية لسوريا، قد يدفع أكراد العراق لمحاولة الاتحاد مع الكيان الكردي الجديد في سوريا، وهو ما قد يتحول لصراع أكبر في المنطقة، وبالمثل، فإذا ما تمكنت المعارضة السورية ذات المحور الاسلاموي السني، فإن ذلك قد يدفع الأقلية السنية (التي حكمت العراق أكثر من 40 عاما) إلى محاولة المطالبة بدور أكبر في المشهد السياسي العراقي على الأقل، أو المطالبة بنصيب أكبر في كعكة المشهد الطائفي الحاكم في العراق بحكم دستور سنة 2005، المبني على أساس طائفي، والذي سبقته حرب طائفية سيطرت على المشهد العراقي طوال أكثر من 4 سنوات (2006 إلى سنة 2008)، والتي كانت منطلقا لتضخم تنظيمات جهادية كبرى مثل القاعدة في بلاد الرافدين والتي خرج من رحمها فيما بعد تنظيمات أكثر تطرفا مثل "داعش" في سوريا وتنظيم "جبهة النصرة" الذي قاده الجولاني قبل أن يعلن خروجه عنه وتأسيس ما يعرف اليوم بـ"جبهة تحرير الشام" العمود الفقري الأساسي عسكريا وسياسيا المؤثر في المشهد السوري الحالي.
ولعل العراق، لن يكون المتأثر الوحيد في هذا الزخم السياسي الجديد الذي فرضه سقوط نظام بشار الأسد، فهذا السقوط وبروز قوى مناوئة لـ"التوسع" الإيراني في سوريا، والذي كان المحور الأساسي لتواصل حكم بشار الأسد طوال سنوات، يعتبر سقوطا كبيرا لإستراتيجية الهلال الشيعي الإيرانية، التي تمكنت طهران من تحقيق تواصلها الجغرافي طوال سنوات عديدة، ودعمتها بحكم انخراطها المباشر في الحرب الأهلية السورية، بالاعتماد إما على القوى العربية الشيعية التابعة لها، كالحشد الشعبي في العراق، أو "حزب الله" في لبنان، لتتزعم ما اعتبر "محورا للمقاومة" ووفر كثيرا من الأحيان أوراق تفاوض إيرانية في عديد الملفات التي تتداخل فيها إيران، ومنها ملفها النووي الذي يعتبر الثابت الوحيد بالنسبة لطهران، ووفرت له الحرب الأمريكية عل العراق وإسقاط نظام صدام حسين دافعا جيوسياسيا للتمدد خارج إيران، وزيادة نفوذها الجيواستراتيجي في سوريا بعد بداية الحرب الأهلية سنة 2011، وزيادة حضورها في لبنان، باعتبار أن التواصل السياسي والمد اللوجستي بينها وبين "الأطراف" الهلال الشيعي في الشرق الأوسط أصبح أسهل، مما كان عليه الأمر منذ ثمانينات القرن الماضي.
ويبدو أن سقوط سوريا يعتبر ضربة كبيرة لإستراتيجية إيران في المنطقة، فسقوط دمشق سيتسبب في عزلة أكبر لـ"حزب الله" في لبنان، كما سيتسبب في تركز الصراع أكثر في شرق سوريا وغرب العراق في مرحلة أولى، مع إمكانية تنقله أكثر نحو شرق العراق وصولا إلى الحدود مع إيران، وهو أمر يربك السلطات العراقية.
"تثوير ليبيا"
كذلك فإن صعود التيار الاسلاموي للتحكم في اللعبة السياسية في سوريا، قد يشكل ركيزة أساسية ودعم معنوي وسياسي، للتيارات السياسية الاسلاموية في المنطقة، وأبرزها في الأردن، الذي حقق فيه حزب "جبهة العمل الإسلامي" الواجهة السياسية للإخوان المسلمين نتائج كبيرة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مستفيدا من الزخم السياسي الذي تسببت فيه الحرب عل غزة والتي تواجه فيها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الكيان الصهيوني.
ويبدو أن صعود التيار الإسلاموي في دمشق، سيشكل مجالا مريحا للعمل السياسي بالنسبة لهذا الحزب، وهو ما يخلق نوعا من القلق لنظام العاهل الأردني عبد الله الثاني، خصوصا مع الأجندة العابرة للحدود التي يتبنها هذا التنظيم السياسي الدولي الذي يبدو أن سقوط بشار الأسد أخذ يشكل "بارقة أمل" جديدة للعودة من جديد في اللعبة السياسية في عديد الدول الأخرى.
ويبدو أن هذا "الرجاء في العودة" قد ينطلق من ليبيا، حيث مازال للإسلاميين موطأ قدم في خريطة الصراع هناك، خصوصا مع احتفاظهم بمواقع سياسية وعسكرية متقدمة في غرب ليبيا، حافظت على وجودها بدعم تركي واضح عسكريا، وتحكمهم باللعبة السياسية في الحكومات المتعاقبة التي حكمت طرابلس، بل واعتمادهم على مرتزقة من سوريا عند مواجهتهم لهجوم قوات قائد قوات شرق ليبيا خليفة حفتر بين سنتي 2019 و2020.
ويبدو أن "مغامرة" إسلاميي سوريا ونجاحهم في إسقاط الأسد، قد تقود إسلاميي ليبيا إلى تجربة جديدة في محاولة لكسر الحصار والعزلة المفروضة عليهم في المربع بين مدينتي مصراتة وزوارة المتاخمتين للحدود التونسية، خصوصا مع زيادة عزلة حكومة عبد الحميد الدبيبة، وزيادة نفوذ حفتر والحكومة المدعومة من مجلس النواب الليبي في المناطق الشرقية، مع تداعي عديد المليشيات إلى مساندة الشرق على حساب الغرب.
ولعل مثل هذه المغامرة قد تشكل خطرا على الاستقرار الموجود في المنطقة منذ بداية المسار السياسي في ليبيا بدعم من الأمم المتحدة، بعد حرب حفنتر على طرابلس، لإيجاد حل سلمي ينتهي بانتخابات تشريعية وسياسية وتفاهم حول مسودة الدستور، وهو ما لم يتحقق، وليظل الوضع منفتحا على جميع السيناريوهات خاصة مع عدم إيجاد حل مستدام لمعضلة توحيد الأجهزة الأمنية والعسكرية.
من جهتها فإن مصر تنظر إلى تداعيات "الزلزال السوري"، بكثير من الريبة، فالمحور الاسلاموي الذي يمسك بالسلطة اليوم في سوريا، قد يوفر موطأ قدم لإخوان مصر، الذين توزعوا بين عديد العواصم في العالمية وأبرزهم في أنقرة ولندن، قد يجيدون في سوريا ملجأ جديدا للعمل السياسي الموجه للداخل المصري، وهو ما يقلق كذلك دولا أخرى مثل المملكة العربية السعودية والإمارات التي استثمرت كثيرا في إستراتيجية احتواء تنظيم الإخوان المسلمين، وهي تنظر بقلق لهذا الظهور الاسلاموي الجديد في سوريا بريبة كبيرة، خصوصا وأن هؤلاء يوفرون فرصة لأن تكون تركيا اللاعب الأبرز في المنطقة.
تركيا التي كانت، تنظر بتوجس كبير لتصاعد نفوذ الكيان الصهيوني بعد حرب غزة، وتصاعد نفوذ الأكراد في شمال سوريا، أصبحت اليوم تتمتع بموضع متقدم، في سوريا يسمح لها بأن تكون مفاوضا مباشرا على الصراع في الأراضي المحتلة، كما أن هذا الوضع يسمح لها من الاستفادة بأن توجه السلطة الجديدة في دمشق نحو دحر "الخطر الكردي"، وهو ما بدأ فعلا في مدينة دير الزور شرق سوريا.