انتظمت أيام 25 و26 و27 نوفمبر الجاري ندوة فكرية دولية بعنوان "المسرح والإبادة والمقاومة: نحو أفق إنسي جديد"، وذلك في إطار الدورة الجديدة لأيام قرطاج المسرحية المتواصلة إلى غاية يوم السبت.
الموضوع واضح وهو يطرح مأساة متواصلة في الزمن من خلال حرب الإبادة التي تمارسها الآلة الحربية الصهيونية ضد الفلسطينيين في غزة وتحديدًا منذ 7 أكتوبر 2023، وأيضًا من خلال العدوان على لبنان الذي خلف دمارًا كبيرًا وانتهى بإعلان وقف إطلاق النار فجر الأربعاء. لكن حروب الإبادة لها جذور تاريخية طويلة وقد ذاقت عدة شعوب مرارتها، لعل أبرزهم شعب الهنود الحمر الذي تم القضاء عليه إثر الاستيطان الغربي في أمريكا.
الموضوع واضح، لكن ما العلاقة مع الفن وتحديدًا مع المسرح؟
المنسق العلمي للندوة وأستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية منير السعيداني، قدم جزءًا من الإجابة منذ انطلاق الندوة، إذ قال إنها تطرح العلاقة القائمة بين الفن والعلوم الإنسانية والاجتماعية، من خلال قراءات لمختصين في الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا بهدف إيجاد حلقة ربط بين هذه المباحث الفكرية. فالفن بالنسبة له من ضمن الاختصاصات التي لا يمكن للعلوم الإنسانية والاجتماعية أن تتجاوزها إذا أرادت تأمل ذاتها ومنجزها وعلاقتها بالمجتمعات. وأضاف المتحدث أن المسرح بالذات يكتسب أهمية بالغة إذا ما نظرنا إلى إمكانية أن يتحول إلى مسرح مقاومة، وبذلك يكون مسرحًا مقاومًا.
وضمت الندوة عدة جلسات علمية ترأسها مجموعة من الباحثين في مجالات المسرح وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكان لرجال الفلسفة نصيب وافر من المداخلات. وتم التطرق إلى مسائل تهم "إيتيقا التعبير عن الدمار والإبادة من منظور فلسفي"، كما كانت هناك محاولات لتحديد تاريخ الإبادة والمعالجات الفنية للقضايا الكبرى من خلال طرح مثال تاريخ الإبادة في رواندا، إضافة إلى مسألة إيتيقا تجسيد الإبادة في العروض المسرحية.
وقد حضر الجانب النقدي بكثافة حيث نبه المتدخلون من التوظيف الخاطئ للفن في طرح القضايا الإنسانية. كما اعتبر البعض أن حرب الإبادة التي تتعرض لها غزة مثلًا كشفت زيف الكثير من المفكرين والمنظرين الذين من المفترض أن يكونوا من المتشبعين بقضايا حقوق الإنسان، وأشاروا بالخصوص إلى المواقف التي صمتت على حرب الإبادة أو التي أعلنت بصراحة انتصارها للطرف الذي يمارس حرب الإبادة، ويعني بذلك الكيان الصهيوني.
ومن العناصر الهامة في هذه الندوة أنها انتظمت بمشاركة باحثين من دول عديدة ويمثلون مدارس مسرحية مختلفة، الذين التقوا حول مسألة هامة، وهي كيف يمكن للمسرح أن يكون معبرًا عن فكرة المقاومة وكيف يمكنه أن يفضح الممارسات الفظيعة ضد الشعوب التي تتعرض لحروب إبادة.
وقد طرحت بالمناسبة تساؤلات حول الأدوات والتقنيات والتعبيرات الفنية التي يمكن أن تخدم الرسالة المسرحية بأمانة، دون السقوط في فخ تبرير الفعل الإجرامي وتحويل الدمار مثلًا إلى مشاهد مسرحية جمالية.
المشاركون في الندوة نبهوا أيضًا إلى أن المسرح متعدد، لكنه في جوهره فعل إبداعي مقاوم من واجبه أن يفضح كل فعل إجرامي وكل عمل يهدف إلى تدمير الحياة والمس من كرامة البشر. في المقابل، تم التركيز على ضرورة أن تتطور المسارح العربية والإفريقية أو ما سُمي بمسرح الجنوب عمومًا، وأن تبتكر أدواتها التعبيرية حتى تخرج من فخ التقليد للمسرح الغربي ومن قوالبه الجاهزة التي أصبحت لدى البعض عبارة عن قوانين جارية.
ودعوا إلى ضرورة تأسيس مسار جديد وابتكار أدوات تعبيرية جديدة تخدم القضايا وتخلق علاقة تواصل – لا تنافر – مع الجمهور، دون السقوط في فخ الإغراق في الجماليات التي قد تبهر المشاهد لكنها لا تدفعه إلى التفكير العميق، وذلك في تعارض مع إحدى أبرز رسائل المسرح.
وقد حرص أصحاب العديد من المداخلات على التذكير بما يحصل في مسرح الواقع، خاصة في غزة ولبنان من قصف وترهيب ومشاهد دمار رهيبة جدًا، وكيف أن الآلة الحربية الصهيونية لا تبقي على بشر أو شجر، وكيف أصبحت تتكرر مشاهد تناثر أشلاء البشر بعد كل عملية قصف. كل هذا قاد المتدخلين إلى الإلحاح على صياغة نصوص مسرحية وسينوغرافيا ومقترحات ركحية جديدة تعبر بصدق عما يجري في حروب الإبادة المتواصلة إلى اليوم، والممتدة جذورها عبر التاريخ. ولا يمكن أن نغفل مثلًا عن الحديث عما لاقاه شعب إفريقيا من حروب إبادة، إما فيما بينها أو من خلال الاحتلال والتدخل الأجنبي. ومثال حرب الإبادة التي واجهها سكان جنوب إفريقيا على يد حكومة الفصل العنصري ما زال حيًا في الذاكرة.
من أجل مسرح مقاوم حقيقي يعبر بصدق عن ذلك، طالب المشاركون بالتخلي عن القوالب الجاهزة وابتكار أدوات تعبر أكثر عن مجتمعاتنا، وهو ما يتطلب وعيًا كبيرًا من الفاعلين المسرحيين، الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تطوير المسرح في اتجاه اقتراب أكبر مع واقعنا، لكن بعيدًا عن المؤثرات الغربية وعن الأنماط الجاهزة، وعن تكرار القضايا التي يطرحها المسرح الغربي الذي قد لا يكون بالضرورة الحل الأسلم للتعبير عن قضايانا، وخاصة عما يتهددنا من مخاطر.
س. ت
تونس - الصباح
انتظمت أيام 25 و26 و27 نوفمبر الجاري ندوة فكرية دولية بعنوان "المسرح والإبادة والمقاومة: نحو أفق إنسي جديد"، وذلك في إطار الدورة الجديدة لأيام قرطاج المسرحية المتواصلة إلى غاية يوم السبت.
الموضوع واضح وهو يطرح مأساة متواصلة في الزمن من خلال حرب الإبادة التي تمارسها الآلة الحربية الصهيونية ضد الفلسطينيين في غزة وتحديدًا منذ 7 أكتوبر 2023، وأيضًا من خلال العدوان على لبنان الذي خلف دمارًا كبيرًا وانتهى بإعلان وقف إطلاق النار فجر الأربعاء. لكن حروب الإبادة لها جذور تاريخية طويلة وقد ذاقت عدة شعوب مرارتها، لعل أبرزهم شعب الهنود الحمر الذي تم القضاء عليه إثر الاستيطان الغربي في أمريكا.
الموضوع واضح، لكن ما العلاقة مع الفن وتحديدًا مع المسرح؟
المنسق العلمي للندوة وأستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية منير السعيداني، قدم جزءًا من الإجابة منذ انطلاق الندوة، إذ قال إنها تطرح العلاقة القائمة بين الفن والعلوم الإنسانية والاجتماعية، من خلال قراءات لمختصين في الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا بهدف إيجاد حلقة ربط بين هذه المباحث الفكرية. فالفن بالنسبة له من ضمن الاختصاصات التي لا يمكن للعلوم الإنسانية والاجتماعية أن تتجاوزها إذا أرادت تأمل ذاتها ومنجزها وعلاقتها بالمجتمعات. وأضاف المتحدث أن المسرح بالذات يكتسب أهمية بالغة إذا ما نظرنا إلى إمكانية أن يتحول إلى مسرح مقاومة، وبذلك يكون مسرحًا مقاومًا.
وضمت الندوة عدة جلسات علمية ترأسها مجموعة من الباحثين في مجالات المسرح وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكان لرجال الفلسفة نصيب وافر من المداخلات. وتم التطرق إلى مسائل تهم "إيتيقا التعبير عن الدمار والإبادة من منظور فلسفي"، كما كانت هناك محاولات لتحديد تاريخ الإبادة والمعالجات الفنية للقضايا الكبرى من خلال طرح مثال تاريخ الإبادة في رواندا، إضافة إلى مسألة إيتيقا تجسيد الإبادة في العروض المسرحية.
وقد حضر الجانب النقدي بكثافة حيث نبه المتدخلون من التوظيف الخاطئ للفن في طرح القضايا الإنسانية. كما اعتبر البعض أن حرب الإبادة التي تتعرض لها غزة مثلًا كشفت زيف الكثير من المفكرين والمنظرين الذين من المفترض أن يكونوا من المتشبعين بقضايا حقوق الإنسان، وأشاروا بالخصوص إلى المواقف التي صمتت على حرب الإبادة أو التي أعلنت بصراحة انتصارها للطرف الذي يمارس حرب الإبادة، ويعني بذلك الكيان الصهيوني.
ومن العناصر الهامة في هذه الندوة أنها انتظمت بمشاركة باحثين من دول عديدة ويمثلون مدارس مسرحية مختلفة، الذين التقوا حول مسألة هامة، وهي كيف يمكن للمسرح أن يكون معبرًا عن فكرة المقاومة وكيف يمكنه أن يفضح الممارسات الفظيعة ضد الشعوب التي تتعرض لحروب إبادة.
وقد طرحت بالمناسبة تساؤلات حول الأدوات والتقنيات والتعبيرات الفنية التي يمكن أن تخدم الرسالة المسرحية بأمانة، دون السقوط في فخ تبرير الفعل الإجرامي وتحويل الدمار مثلًا إلى مشاهد مسرحية جمالية.
المشاركون في الندوة نبهوا أيضًا إلى أن المسرح متعدد، لكنه في جوهره فعل إبداعي مقاوم من واجبه أن يفضح كل فعل إجرامي وكل عمل يهدف إلى تدمير الحياة والمس من كرامة البشر. في المقابل، تم التركيز على ضرورة أن تتطور المسارح العربية والإفريقية أو ما سُمي بمسرح الجنوب عمومًا، وأن تبتكر أدواتها التعبيرية حتى تخرج من فخ التقليد للمسرح الغربي ومن قوالبه الجاهزة التي أصبحت لدى البعض عبارة عن قوانين جارية.
ودعوا إلى ضرورة تأسيس مسار جديد وابتكار أدوات تعبيرية جديدة تخدم القضايا وتخلق علاقة تواصل – لا تنافر – مع الجمهور، دون السقوط في فخ الإغراق في الجماليات التي قد تبهر المشاهد لكنها لا تدفعه إلى التفكير العميق، وذلك في تعارض مع إحدى أبرز رسائل المسرح.
وقد حرص أصحاب العديد من المداخلات على التذكير بما يحصل في مسرح الواقع، خاصة في غزة ولبنان من قصف وترهيب ومشاهد دمار رهيبة جدًا، وكيف أن الآلة الحربية الصهيونية لا تبقي على بشر أو شجر، وكيف أصبحت تتكرر مشاهد تناثر أشلاء البشر بعد كل عملية قصف. كل هذا قاد المتدخلين إلى الإلحاح على صياغة نصوص مسرحية وسينوغرافيا ومقترحات ركحية جديدة تعبر بصدق عما يجري في حروب الإبادة المتواصلة إلى اليوم، والممتدة جذورها عبر التاريخ. ولا يمكن أن نغفل مثلًا عن الحديث عما لاقاه شعب إفريقيا من حروب إبادة، إما فيما بينها أو من خلال الاحتلال والتدخل الأجنبي. ومثال حرب الإبادة التي واجهها سكان جنوب إفريقيا على يد حكومة الفصل العنصري ما زال حيًا في الذاكرة.
من أجل مسرح مقاوم حقيقي يعبر بصدق عن ذلك، طالب المشاركون بالتخلي عن القوالب الجاهزة وابتكار أدوات تعبر أكثر عن مجتمعاتنا، وهو ما يتطلب وعيًا كبيرًا من الفاعلين المسرحيين، الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تطوير المسرح في اتجاه اقتراب أكبر مع واقعنا، لكن بعيدًا عن المؤثرات الغربية وعن الأنماط الجاهزة، وعن تكرار القضايا التي يطرحها المسرح الغربي الذي قد لا يكون بالضرورة الحل الأسلم للتعبير عن قضايانا، وخاصة عما يتهددنا من مخاطر.