سوف لن نحتاج إلى كثير من الوقت قبل أن تعلن هذه الجولة من الحرب المرة عن نهايتها، وفي أعقاب ذلك ستشتد خلافاتنا حول توصيف نهاياتها هذه فيما إذا كانت خطوة إلى الأمام أم أنها كانت إلى الوراء؟ وكعادتنا سننشغل بالماضي، ليس بالقدر الذي تتطلبه ضرورات استخلاص الدروس والعبر، بل بالقدر الذي يفرضه علينا عجزنا في مواجهة تحديات المستقبل، التي لن تتوفر لنا القدرة عليها دون فهم الواقع الجديد الذي تمخض عن هذه الحرب الوحشية ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني.
ذلك لأن العقل العربي صارم في انضباطه لآليات ومنهجيات إنتاج نفس عوامل وأسباب الفشل، وعدم القدرة على ملاحظة اثر المتغيرات في إنتاج الواقع الجديد، كما انه شديد الإصرار على إنكار ذلك والبقاء في ساحات الماضي وميادينه مهما كانت الحاجة ملحة لأهمية النظر في نتائج الواقع الراهن، كما يحدث اليوم أمام إفرازات هذه الحرب التدميرية، إذ لو لاحت بوادر عكس ذلك لما استمرت دول المنطقة في غيبوتها التي طالت والإبقاء على سياساتها كما هي رغم ما يشكله ذلك من مخاطر جادة على وجودها.
صحيح أن هذه الحرب لم تبلور بعد كل نتائجها، غير أن ذلك لا يمنع من ملاحظة السياق الذي تدحرجت في أتونه والنسق التصاعدي لنمو قدرات تأثير بعض عناصرها على البعض الآخر، إلى النحو الذي تجوز معه اعتبارها حرب الولادة الثالثة لدولة إسرائيل الآخذة بالانقلاب النهائي على إسرائيل الوسيطة التي كانت هزيمة السادس من حزيران/جوان عام 1867 بداية إرهاصات ولادتها حيث أخذت تدريجيا بخلع رداءها اليساري نسبيا - إن صح التعبير - وارتداء جلباب اليمين الحامل بطياته لأراء وأفكار مؤسسه جابونتيسكي الأب الروحي لنتنياهو كما يرى ذلك إرن كابلان رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية في جامعة سان فرانسيسكو في بحث له بعنوان:"لمحة عن الأيديولوجية التي توجه نتنياهو"، ويؤكدها نهجه في إدارة الصراع ليس فقط على المستوى الفلسطيني بل في كل علاقات إسرائيل الدولية.
إسرائيل الوسيطة أو بصورة أدق إسرائيل الثانية التي أرسى قواعد وجودها مناحيم بيغن إثر الفوز الساحق الذي حققه حزب الليكود في انتخابات عام 1977 وكان نقطة تحول كبرى في التاريخ السياسي للدولة، حيث كانت المرة الأولى التي يخسر فيها اليسار الإسرائيلي السلطة بعد نحو ثلاثين عاما من السيطرة المطلقة، أحالت إلى بداية سيطرة معسكر مبدأ وحدة الأرض على حساب معسكر مبدأ نقاء الدولة العرقي، والانتقال بفلسطين من مكان لدولة لليهود إلى دولة يهودية "شرعنها" قانون 18يوليو/جويلية للعام 2018 حيث أقر الكنيست الإسرائيلي بموافقة 62 عضوا قانون "الدولة القومية" الذي يعتبر "إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي"، وأن حق تقرير المصير فيها "يخص الشعب اليهودي فقط، هذه إسرائيل الثانية التي وسعت من نطاق الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية، ووضعت كل العراقيل التي من شأنها أن تخلق أمرا واقعا يقضي على فرص حل الدولتين، وهيأت الواقع الموضوعي لإمكانية الدمج بين مبدئي النقاء العرقي لشعب الدولة ووحدة أراضيها وفقا لأساطير التوراة الدينية، تنتقل اليوم للولادة الثالثة التي ستؤسس لإقامة إسرائيل الكبرى، ولو عبر ولادة عسيرة وربما خطيرة كما يرى أقطاب إسرائيل الثانية لأنها ستكون التجاوز الأول لحالة الإجماع التاريخي لمكوناتها في كيفية إدارة المواجهة مع الشعب الفلسطيني، لتتحول إلى أول مراجعة جذرية لتركيبتها بكل أجهزتها، نحو إسرائيل اليمين الديني المتطرف الذي يقتضي إعادة النظر في بنية الدولة وفكرها ومؤسساتها وتاليا سياساتها.
وفي سياق النقاش المحتدم اليوم بين ابرز ممثلي دولة إسرائيل الثانية حول المخاطر الجدية المحدقة بالدولة والناجمة عن رفض نتنياهو وممثلي الولادة الثالثة لإسرائيل من اليمين الديني المتطرف حول ضرورة عدم إضاعة ما يسمونها بلحظة الذروة التكتيكية التي حققها الجيش في كل من قطاع غزة وعلى الجبهة الشمالية للتوصل إلى اتفاق لوقف الحرب، يجملَ تامير باردو رئيس الموساد السابق الأزمة الإسرائيلية بقوله للقناة 12 بأن "الجيش ينتصر في كل المعارك الميدانية بينما تخسر دولة إسرائيل الحرب"، ملقيا بكامل المسؤولية عن ذلك على نتنياهو الذي بقي أسير عقيدته القائمة على حماية بقاء حكومته على حد تقديره، ووفقا لباردو، فانه تبعا لذلك غير معني باستعادة الأسرى والمحتجزين ووقف الحرب.
أما يسرائيل حسون نائب رئيس جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" سابقا فقد أكد في معرض تعليقه على خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية في أعقاب اتساع نطاق الصخب حول تسريب الوثائق المتعلقة بالأسرى، على وجود خطر حقيقي داهم خلال أشهر قليلة إن لم يكن أسابيع على كل طبيعة الحكم في إسرائيل وهو أكثر خطرا من إيران و"حزب الله" و"حماس" على حد وصفه، في إشارة لمحاولات نتنياهو وحكومته لتفكيك كل منظومات الدولة القائمة عبر عملية تحريض واسعة ومباشرة ونزع شرعية كل من رئيس الشاباك وقائد الأركان والنيابة العامة واتهامه لقادة المؤسسة الأمنية بالخيانة وبأنها تسعى لإقصائه.
كما يقدّر حسون وباردو بأن رئيس الحكومة مصمم على تفكيك منظومة الدولة بكاملها لصالح بقائه في الحكم.
وعلى نفس الصعيد وإذ ترى أوساط سياسية وإعلامية إسرائيلية وعربية أن عودة الصراعات الإسرائيلية الداخلية إلى الواجهة من جديد قد لا تعد حدثا بارزا حيث أنها لم تغب طوال الحرب، إلا أنها حاليا تنتقل إلى جوهر خطة الحسم السياسي، التي تشمل المساعي الحكومية لإحداث انقلاب كامل في هوية الجيش وقيادته وفي هوية قيادة "الشاباك" وفي الجهاز القضائي وتغيير بنيوي جوهري للرقابة القضائية على نشاط الحكومة والكنيست، مع إمكانية كبيرة لشطب الأحزاب العربية في الداخل ومنعها جميعها أو جزء منها من المشاركة في انتخابات الكنيست، لضمان كتلة متسيّدة من أقصى اليمين، استعدادا للانتقال بإسرائيل نحو ولادتها الثالثة، إسرائيل الكبرى التي تراهن على إدارة ترامب القادمة والمتغيرات المتوقعة في السياسة الأمريكية لتنفيذ رؤيتها في شرق أوسط جديد، لا تحمل جغرافيته الجديدة أي من ملامح سابقتها إذ ستختفي دول وتتغير أحجام وحدود دول أخرى.
* أستاذ الجيوبوليتيك والعلاقات الدولية في جامعة منوبة
بقلم: هاني مبارك (*)
سوف لن نحتاج إلى كثير من الوقت قبل أن تعلن هذه الجولة من الحرب المرة عن نهايتها، وفي أعقاب ذلك ستشتد خلافاتنا حول توصيف نهاياتها هذه فيما إذا كانت خطوة إلى الأمام أم أنها كانت إلى الوراء؟ وكعادتنا سننشغل بالماضي، ليس بالقدر الذي تتطلبه ضرورات استخلاص الدروس والعبر، بل بالقدر الذي يفرضه علينا عجزنا في مواجهة تحديات المستقبل، التي لن تتوفر لنا القدرة عليها دون فهم الواقع الجديد الذي تمخض عن هذه الحرب الوحشية ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني.
ذلك لأن العقل العربي صارم في انضباطه لآليات ومنهجيات إنتاج نفس عوامل وأسباب الفشل، وعدم القدرة على ملاحظة اثر المتغيرات في إنتاج الواقع الجديد، كما انه شديد الإصرار على إنكار ذلك والبقاء في ساحات الماضي وميادينه مهما كانت الحاجة ملحة لأهمية النظر في نتائج الواقع الراهن، كما يحدث اليوم أمام إفرازات هذه الحرب التدميرية، إذ لو لاحت بوادر عكس ذلك لما استمرت دول المنطقة في غيبوتها التي طالت والإبقاء على سياساتها كما هي رغم ما يشكله ذلك من مخاطر جادة على وجودها.
صحيح أن هذه الحرب لم تبلور بعد كل نتائجها، غير أن ذلك لا يمنع من ملاحظة السياق الذي تدحرجت في أتونه والنسق التصاعدي لنمو قدرات تأثير بعض عناصرها على البعض الآخر، إلى النحو الذي تجوز معه اعتبارها حرب الولادة الثالثة لدولة إسرائيل الآخذة بالانقلاب النهائي على إسرائيل الوسيطة التي كانت هزيمة السادس من حزيران/جوان عام 1867 بداية إرهاصات ولادتها حيث أخذت تدريجيا بخلع رداءها اليساري نسبيا - إن صح التعبير - وارتداء جلباب اليمين الحامل بطياته لأراء وأفكار مؤسسه جابونتيسكي الأب الروحي لنتنياهو كما يرى ذلك إرن كابلان رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية في جامعة سان فرانسيسكو في بحث له بعنوان:"لمحة عن الأيديولوجية التي توجه نتنياهو"، ويؤكدها نهجه في إدارة الصراع ليس فقط على المستوى الفلسطيني بل في كل علاقات إسرائيل الدولية.
إسرائيل الوسيطة أو بصورة أدق إسرائيل الثانية التي أرسى قواعد وجودها مناحيم بيغن إثر الفوز الساحق الذي حققه حزب الليكود في انتخابات عام 1977 وكان نقطة تحول كبرى في التاريخ السياسي للدولة، حيث كانت المرة الأولى التي يخسر فيها اليسار الإسرائيلي السلطة بعد نحو ثلاثين عاما من السيطرة المطلقة، أحالت إلى بداية سيطرة معسكر مبدأ وحدة الأرض على حساب معسكر مبدأ نقاء الدولة العرقي، والانتقال بفلسطين من مكان لدولة لليهود إلى دولة يهودية "شرعنها" قانون 18يوليو/جويلية للعام 2018 حيث أقر الكنيست الإسرائيلي بموافقة 62 عضوا قانون "الدولة القومية" الذي يعتبر "إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي"، وأن حق تقرير المصير فيها "يخص الشعب اليهودي فقط، هذه إسرائيل الثانية التي وسعت من نطاق الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية، ووضعت كل العراقيل التي من شأنها أن تخلق أمرا واقعا يقضي على فرص حل الدولتين، وهيأت الواقع الموضوعي لإمكانية الدمج بين مبدئي النقاء العرقي لشعب الدولة ووحدة أراضيها وفقا لأساطير التوراة الدينية، تنتقل اليوم للولادة الثالثة التي ستؤسس لإقامة إسرائيل الكبرى، ولو عبر ولادة عسيرة وربما خطيرة كما يرى أقطاب إسرائيل الثانية لأنها ستكون التجاوز الأول لحالة الإجماع التاريخي لمكوناتها في كيفية إدارة المواجهة مع الشعب الفلسطيني، لتتحول إلى أول مراجعة جذرية لتركيبتها بكل أجهزتها، نحو إسرائيل اليمين الديني المتطرف الذي يقتضي إعادة النظر في بنية الدولة وفكرها ومؤسساتها وتاليا سياساتها.
وفي سياق النقاش المحتدم اليوم بين ابرز ممثلي دولة إسرائيل الثانية حول المخاطر الجدية المحدقة بالدولة والناجمة عن رفض نتنياهو وممثلي الولادة الثالثة لإسرائيل من اليمين الديني المتطرف حول ضرورة عدم إضاعة ما يسمونها بلحظة الذروة التكتيكية التي حققها الجيش في كل من قطاع غزة وعلى الجبهة الشمالية للتوصل إلى اتفاق لوقف الحرب، يجملَ تامير باردو رئيس الموساد السابق الأزمة الإسرائيلية بقوله للقناة 12 بأن "الجيش ينتصر في كل المعارك الميدانية بينما تخسر دولة إسرائيل الحرب"، ملقيا بكامل المسؤولية عن ذلك على نتنياهو الذي بقي أسير عقيدته القائمة على حماية بقاء حكومته على حد تقديره، ووفقا لباردو، فانه تبعا لذلك غير معني باستعادة الأسرى والمحتجزين ووقف الحرب.
أما يسرائيل حسون نائب رئيس جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" سابقا فقد أكد في معرض تعليقه على خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية في أعقاب اتساع نطاق الصخب حول تسريب الوثائق المتعلقة بالأسرى، على وجود خطر حقيقي داهم خلال أشهر قليلة إن لم يكن أسابيع على كل طبيعة الحكم في إسرائيل وهو أكثر خطرا من إيران و"حزب الله" و"حماس" على حد وصفه، في إشارة لمحاولات نتنياهو وحكومته لتفكيك كل منظومات الدولة القائمة عبر عملية تحريض واسعة ومباشرة ونزع شرعية كل من رئيس الشاباك وقائد الأركان والنيابة العامة واتهامه لقادة المؤسسة الأمنية بالخيانة وبأنها تسعى لإقصائه.
كما يقدّر حسون وباردو بأن رئيس الحكومة مصمم على تفكيك منظومة الدولة بكاملها لصالح بقائه في الحكم.
وعلى نفس الصعيد وإذ ترى أوساط سياسية وإعلامية إسرائيلية وعربية أن عودة الصراعات الإسرائيلية الداخلية إلى الواجهة من جديد قد لا تعد حدثا بارزا حيث أنها لم تغب طوال الحرب، إلا أنها حاليا تنتقل إلى جوهر خطة الحسم السياسي، التي تشمل المساعي الحكومية لإحداث انقلاب كامل في هوية الجيش وقيادته وفي هوية قيادة "الشاباك" وفي الجهاز القضائي وتغيير بنيوي جوهري للرقابة القضائية على نشاط الحكومة والكنيست، مع إمكانية كبيرة لشطب الأحزاب العربية في الداخل ومنعها جميعها أو جزء منها من المشاركة في انتخابات الكنيست، لضمان كتلة متسيّدة من أقصى اليمين، استعدادا للانتقال بإسرائيل نحو ولادتها الثالثة، إسرائيل الكبرى التي تراهن على إدارة ترامب القادمة والمتغيرات المتوقعة في السياسة الأمريكية لتنفيذ رؤيتها في شرق أوسط جديد، لا تحمل جغرافيته الجديدة أي من ملامح سابقتها إذ ستختفي دول وتتغير أحجام وحدود دول أخرى.
* أستاذ الجيوبوليتيك والعلاقات الدولية في جامعة منوبة