إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الغرب ومخاطر صعود اليمين المتطرف فيه إلى دفة الحكم

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

هل يقبل الغرب على فترة احتراب داخلي بين قواه الحزبية والعقائدية من متطرفي اليمين واليسار على حد السواء، في كل من أوروبا وأمريكا، بعد أن تصاعدت فيه الصراعات بين الاجنحة المتطرفة حول مفهوم الهوية والحرية والديمقراطية نفسها، في ضوء صعود قوى اليمين المتطرف في دول أوروبا الغربية والشرقية وفي أمريكا زعيمة العالم الحر إلى حين، حيث عاد الرئيس المحافظ والشعبوي دونالد ترامب إلى دفة الحكم وفي جعبته حروب كثيرة وثأر من أعدائه الكثيرين في الاعلام وفي قوى المجتمع المدني اليساري الاميركي ، وهو ما يرى فيه المحللون بداية الأفول الحقيقي للهيمنة الغربية على العالم المستمرة منذ عدة قرون ووصلت إلى مداها اليوم، حسب نظرية العلامة عبد الرحمان بن خلدون في مظاهر صعود وأفول الحضارات.

صراعات المحافظين حول الهوية المسيحية

خلال العشرية الماضية ،عرفت بلدان أوروبا صراعات إيديولوجية حول الهوية وقضايا اجتماعية حارقة مثل الإجهاض وحرية الضمير وسيطرت فيها احزاب متطرفة على الحكم في كل من ايطاليا والسويد والنمسا والمجر وبولونيا وهولاندا وبلجيكا، وفي الولايات المتحدة حيث عاشت تلك البلدان معارك حرب أهلية بين كتائب أقصى اليمين وقوى أقصى اليسار، كانت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والصحافة وشبكات التواصل الاجتماعي وقودها المشتعل، تركت ندوبا وتشظيا في المجتمعات الاوروبية عصفت فيها بمسلمات النظام الديمقراطي القائم منذ قرنين فيها، وبقيم عصر الأنوار. كما كانت ضحاياها الجاليات الأجنبية عرقيا ودينيا المقيمة لديها والعاملة هناك منذ عقود في امن وسلام.

ولازالت المخاطر قائمة على هذه الأقليات التي تستعد إلى أن تكون أغلبيات ديمغرافية في بلدان عدوة لها، حيث تتحول في كل محطة انتخابية تشريعية أو رئاسية إلى وقود وشماعة لاستثارة النزعات العدوانية لأقصى اليمين الذي يحمل في كثير من الأحيان شعار الانجيلية والحرب الصليبية المقدسة، دون مواربة أو تخفّ، كما كان يجري في العشريات الماضية بفضل سيطرة قوى الخير والحوار والتسامح بين الحضارات والأديان في ضفتي البحر المتوسط وفي أنحاء كثيرة من العالم.

تغيرات النظام الدولي والإقليمي

وفي كتابه الصادر عام 2021 بعنوان " قواعد تغيرات النظام العالمي : لماذا تنجح دول وتفشل أخرى" يتحدث الكاتب الأمريكي راي داليو، عن المراحل الانتقالية للإمبراطوريات خلال القرون الخمسة الماضية منذ القرن الخامس عشر. ويقدم بمنهج خلدوني في التحليل والتحقيق التاريخي خلاصة أطروحة لابن خلدون تقول :"عندما تصعد امبراطورية قوية وغنية، وعندما تبدأ قوتها في الإضمحلال ".

ويستعرض مؤشرات لذلك، مقدما في كتابه جدولا لمدد سنوات هيمنة الإمبراطوريات التي خلفت الامبرطورية الاسلامية خلال الخمسمائة سنة الماضية بالمقارنة بينها وهي :

- البرتغال وإسبانيا " من عام 1500 الي 1675

-هولاندا وفرنسا وبريطانيا :من عام 1750 الي 1900

-أمريكا : من عام 1925 إلى 2100 (حسب توقعاته)

ويعتمد المؤلف المستقبلي في عمله البحثي على سبعة عوامل تضمن هيمنة البلدان والإمبراطوريات وهي التعليم، والتنافسية، والدخل الداخلي الخام، ونسبة المساهمة في التجارة العالمية، والجهاز العسكري، والصلابة المالية، وحالة العملة الاحتياطية.

ويعتقد الكاتب أن الصين القوة الصاعدة الآن والتي تستعد لاحتلال مكانة القوة المهيمنة في العالم، كانت في السابق امبراطورية مهيمنة هادئة وأكثر قوة من أوروبا لمدة عدة قرون قبل أن تنهار وتسقط في الإنحطاط بداية عام 1800. كما كانت هولاندا وهي بلد صغير غنية وقوية بالمستعمرات خلال قرن 1600-1700. وقد جاءت بعدها بريطانيا وعرفت نفس المصير الإنحطاطي الحتمي لكنها ولدت ابنتها أمريكا التي عرفت صعودا كبيرا منذ تأسيسها، ولكنها تشهد اليوم انحطاطا نسبيا أمام الصعود المتنامي للصين حسب المؤلف الأمريكي وهو الكاتب المستثمر في الأعمال الذي يعتبر في كتابه أن "أمريكا هي الآن أتعس مكان يمكن أن تستثمر فيه" مقدما بالمقابل صورة إيجابية عن مناخ الإستثمار في الصين ، حيث تفرض أمريكا الرأسمالية رسوما جمركية على منتوجات الصين الشيوعية.

الى غاية عام 2022 لازالت القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة ودول اوروبا تحكم في الاقتصاد العالمي والإنتاج الصناعي والهيمنة العسكرية. ولكن أصبحت تتبعها منذ عشرية من الزمن كوكبة من البلدان ذات الثقل الاقتصادي والإرث الحضاري تتقدمهم الصين والهند والبرازيل وايران وتركيا والسعودية. وتتوقع بعض الدراسات ومراكز البحث ان تتمكن الصين بداية من عام 2030 من تجاوز الولايات المتحدة واحتلال المكانة الاقتصادية الاولي وافتكاكها من أمريكا التي ظلت تحتلها منذ 1870 كأكبر اقتصاد في العالم.

وحسب إحصائيات البنك الدولي فان الدخل الاجمالي للاقتصاد العالمي عام 2022 بلغ 104 تريليون دولار لكل الاقتصادات العالمية تحتل فيه الصدارة كل من أمريكا والصين بأكثر من عشرين تريليون دولار لكليهما، تليهما باقي القوى الأخرى بأقل من خمسة تريليون دولار لكل منها. ويأتي الترتيب كالتالي :

-الولايات المتحدة : 25 تريليون دولار، تليها الصين ب 20 تريليون دولار، تليها اليابان ب5 تريليون وألمانيا ب 5 تريليون، ثم بريطانيا ب4 تريليون، ثم الهند ب 3 تريليون وفرنسا ب 3 تريليون .

وفي الكتاب الذي أصدرته عام 1982 حول " الامبريالية" وترجم مؤخرا إلى العربية تعتبر عالمة السياسة الألمانية حنا أرندت، أن التوسع الاستعماري الذي عرفته كل الامبراطوريات السابقة للإغريق والرومان والعرب ، أدى في أغلب الحالات إلى ابتلاع أمم وحضارات وثقافات وصهرها في ثقافة القوة الغالبة في العصور القديمة. وفي العصر الحديث، كان عصر الامبريالية التي هي وليدة الاستعمار عندما لم تفلح الدولة-الأمة في التأقلم مع التطورات الإقتصادية والصناعية التي شهدها الغرب في القرن التاسع عشر وظهور التوسع الاستعماري الذي اقره مؤتمر برلين عام 1878 برئاسة المستشار الالماني بيزمارك .

وتظهر خريطة افريقيا الحالية التقسيم الاستعماري لمناطق افريقيا من الشرق والغرب والشمال والجنوب بين امبرطوريات الاستعمار الاسباني والبرتغالي والفرنسي والبريطاني والايطالي والالماني. ولازال الوضع الاستعماري ساري المفعول سياسيا واقتصاديا وثقافيا، رغم انتهاء الاستعمار المباشر ومغادرته افريقيا قانونيا منذ أكثر من نصف قرن على الاستقلالات الوطنية في ستينات القرن الماضي .

نهاية الإمبراطوريات بعد موجة حق تقرير المصير

وفي الكتاب الذي أصدره المؤرخ الامريكي تشاد كانتون، بعنوان " سقوط الإمبراطوريات : مقدمة في تاريخ انهيار 17 امبراطورية" ، يعدد المؤلف الأسباب المختلفة التي أدت إلى سقوط الامبراطوريات الكبرى في التاريخ، معتبرا أن التاريخ المعاصر لم تعد تتوفر فيه مقومات الامبراطوريات خاصة بعد موجة حق تقرير المصير في بداية القرن الماضي وحصول الدول المستعمرة على استقلالها، مما عجّل بطي صفحة الامبراطوريات الاستعمارية. ويحاول في الكتاب صياغة نظريَّةٍ عالميَّة لما يسميه "الإنحدار الإمبراطوري"، في عدة مناطق من العالم سابقا .

ويعتبر أن الغطرسة العسكريَّة هي سبب سقوط امبراطوريتي أثينا وبريطانيا، وأن تدمير العاصمة بيرسيبوليس هو سبب سقوط امبراطورية بلاد فارس، كما أن اضطهاد رعاياها كان وراء انهيار امبراطورية تشين الصينة والإمبراطوريَّة الروسيَّة. كما أن صعود امبرطورية روما الشابة هو الذي اسقط امبراطورية قرطاج . كما أن الغزو المُفاجئ هو الذي اطاح بالخلافة العبَّاسيَّة في بغداد. ويحدد عناصر أخرى لانهيار الامبراطوريات كما يعتقد وهي الصراع الطائفي وسياسة القوَّة الساخرة (بيزنطة)، والكارثة البيئيَّة (الخمير)، والفَشل في تَحقيق الوِحْدة (روما والمغول)، والصحوة القوميَّة (العثمانيُّون والاتحاد السوفييتي).

ويعتقد أنه إلى اليوم لازالت الكثير من الكتابات تعتبر الإمبراطورية الأمريكية استمرارا للإمبراطورية البريطانية أو الرومانية التي تتشبّه بها الإمبراطوريات الاستعمارية التي عرفت خلال القرون الأخيرة وهي الامبراطوريات الاسبانية والبرتغالية والفرنسية والبريطانية والبلجيكية والهولاندية والتي لم يبق لها غير النفوذ اللغوي أو الاقتصادي في مستعمراتها السابقة.

وتبقى نظرية ابن خلدون في نشوء وصعود ثم أفول الإمبراطوريات كما فسرها بدقة في كتابه "المقدمة" ذات منهج علمي تجريبي قائمة على النظر والتحقيق . وهي تتمحورعلى مبدإ العصبية القبلية والقطاعية وجولات الصراع بين المركز المترهل والأطراف الشابة المتوثبة ،هو المفسر لعملية تداول الحضارات التي هي كائن حي له مرحلة الولادة والطفولة ثم الشباب والكهولة ثم الهرم والنهاية المحتومة ، حتى ولو حُنّطت مثل المومياء الفرعونية . وهي ذات راهنية سياسية وإخبارية تجد تفسيرا للتأرجح التاريخي الحتمي بين الصعود والازدهار قبل التراجع والأفول. ولكل مرحلة مؤشراتها الظاهرة والخفية.

 

الغرب ومخاطر صعود اليمين المتطرف فيه إلى دفة الحكم

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

هل يقبل الغرب على فترة احتراب داخلي بين قواه الحزبية والعقائدية من متطرفي اليمين واليسار على حد السواء، في كل من أوروبا وأمريكا، بعد أن تصاعدت فيه الصراعات بين الاجنحة المتطرفة حول مفهوم الهوية والحرية والديمقراطية نفسها، في ضوء صعود قوى اليمين المتطرف في دول أوروبا الغربية والشرقية وفي أمريكا زعيمة العالم الحر إلى حين، حيث عاد الرئيس المحافظ والشعبوي دونالد ترامب إلى دفة الحكم وفي جعبته حروب كثيرة وثأر من أعدائه الكثيرين في الاعلام وفي قوى المجتمع المدني اليساري الاميركي ، وهو ما يرى فيه المحللون بداية الأفول الحقيقي للهيمنة الغربية على العالم المستمرة منذ عدة قرون ووصلت إلى مداها اليوم، حسب نظرية العلامة عبد الرحمان بن خلدون في مظاهر صعود وأفول الحضارات.

صراعات المحافظين حول الهوية المسيحية

خلال العشرية الماضية ،عرفت بلدان أوروبا صراعات إيديولوجية حول الهوية وقضايا اجتماعية حارقة مثل الإجهاض وحرية الضمير وسيطرت فيها احزاب متطرفة على الحكم في كل من ايطاليا والسويد والنمسا والمجر وبولونيا وهولاندا وبلجيكا، وفي الولايات المتحدة حيث عاشت تلك البلدان معارك حرب أهلية بين كتائب أقصى اليمين وقوى أقصى اليسار، كانت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والصحافة وشبكات التواصل الاجتماعي وقودها المشتعل، تركت ندوبا وتشظيا في المجتمعات الاوروبية عصفت فيها بمسلمات النظام الديمقراطي القائم منذ قرنين فيها، وبقيم عصر الأنوار. كما كانت ضحاياها الجاليات الأجنبية عرقيا ودينيا المقيمة لديها والعاملة هناك منذ عقود في امن وسلام.

ولازالت المخاطر قائمة على هذه الأقليات التي تستعد إلى أن تكون أغلبيات ديمغرافية في بلدان عدوة لها، حيث تتحول في كل محطة انتخابية تشريعية أو رئاسية إلى وقود وشماعة لاستثارة النزعات العدوانية لأقصى اليمين الذي يحمل في كثير من الأحيان شعار الانجيلية والحرب الصليبية المقدسة، دون مواربة أو تخفّ، كما كان يجري في العشريات الماضية بفضل سيطرة قوى الخير والحوار والتسامح بين الحضارات والأديان في ضفتي البحر المتوسط وفي أنحاء كثيرة من العالم.

تغيرات النظام الدولي والإقليمي

وفي كتابه الصادر عام 2021 بعنوان " قواعد تغيرات النظام العالمي : لماذا تنجح دول وتفشل أخرى" يتحدث الكاتب الأمريكي راي داليو، عن المراحل الانتقالية للإمبراطوريات خلال القرون الخمسة الماضية منذ القرن الخامس عشر. ويقدم بمنهج خلدوني في التحليل والتحقيق التاريخي خلاصة أطروحة لابن خلدون تقول :"عندما تصعد امبراطورية قوية وغنية، وعندما تبدأ قوتها في الإضمحلال ".

ويستعرض مؤشرات لذلك، مقدما في كتابه جدولا لمدد سنوات هيمنة الإمبراطوريات التي خلفت الامبرطورية الاسلامية خلال الخمسمائة سنة الماضية بالمقارنة بينها وهي :

- البرتغال وإسبانيا " من عام 1500 الي 1675

-هولاندا وفرنسا وبريطانيا :من عام 1750 الي 1900

-أمريكا : من عام 1925 إلى 2100 (حسب توقعاته)

ويعتمد المؤلف المستقبلي في عمله البحثي على سبعة عوامل تضمن هيمنة البلدان والإمبراطوريات وهي التعليم، والتنافسية، والدخل الداخلي الخام، ونسبة المساهمة في التجارة العالمية، والجهاز العسكري، والصلابة المالية، وحالة العملة الاحتياطية.

ويعتقد الكاتب أن الصين القوة الصاعدة الآن والتي تستعد لاحتلال مكانة القوة المهيمنة في العالم، كانت في السابق امبراطورية مهيمنة هادئة وأكثر قوة من أوروبا لمدة عدة قرون قبل أن تنهار وتسقط في الإنحطاط بداية عام 1800. كما كانت هولاندا وهي بلد صغير غنية وقوية بالمستعمرات خلال قرن 1600-1700. وقد جاءت بعدها بريطانيا وعرفت نفس المصير الإنحطاطي الحتمي لكنها ولدت ابنتها أمريكا التي عرفت صعودا كبيرا منذ تأسيسها، ولكنها تشهد اليوم انحطاطا نسبيا أمام الصعود المتنامي للصين حسب المؤلف الأمريكي وهو الكاتب المستثمر في الأعمال الذي يعتبر في كتابه أن "أمريكا هي الآن أتعس مكان يمكن أن تستثمر فيه" مقدما بالمقابل صورة إيجابية عن مناخ الإستثمار في الصين ، حيث تفرض أمريكا الرأسمالية رسوما جمركية على منتوجات الصين الشيوعية.

الى غاية عام 2022 لازالت القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة ودول اوروبا تحكم في الاقتصاد العالمي والإنتاج الصناعي والهيمنة العسكرية. ولكن أصبحت تتبعها منذ عشرية من الزمن كوكبة من البلدان ذات الثقل الاقتصادي والإرث الحضاري تتقدمهم الصين والهند والبرازيل وايران وتركيا والسعودية. وتتوقع بعض الدراسات ومراكز البحث ان تتمكن الصين بداية من عام 2030 من تجاوز الولايات المتحدة واحتلال المكانة الاقتصادية الاولي وافتكاكها من أمريكا التي ظلت تحتلها منذ 1870 كأكبر اقتصاد في العالم.

وحسب إحصائيات البنك الدولي فان الدخل الاجمالي للاقتصاد العالمي عام 2022 بلغ 104 تريليون دولار لكل الاقتصادات العالمية تحتل فيه الصدارة كل من أمريكا والصين بأكثر من عشرين تريليون دولار لكليهما، تليهما باقي القوى الأخرى بأقل من خمسة تريليون دولار لكل منها. ويأتي الترتيب كالتالي :

-الولايات المتحدة : 25 تريليون دولار، تليها الصين ب 20 تريليون دولار، تليها اليابان ب5 تريليون وألمانيا ب 5 تريليون، ثم بريطانيا ب4 تريليون، ثم الهند ب 3 تريليون وفرنسا ب 3 تريليون .

وفي الكتاب الذي أصدرته عام 1982 حول " الامبريالية" وترجم مؤخرا إلى العربية تعتبر عالمة السياسة الألمانية حنا أرندت، أن التوسع الاستعماري الذي عرفته كل الامبراطوريات السابقة للإغريق والرومان والعرب ، أدى في أغلب الحالات إلى ابتلاع أمم وحضارات وثقافات وصهرها في ثقافة القوة الغالبة في العصور القديمة. وفي العصر الحديث، كان عصر الامبريالية التي هي وليدة الاستعمار عندما لم تفلح الدولة-الأمة في التأقلم مع التطورات الإقتصادية والصناعية التي شهدها الغرب في القرن التاسع عشر وظهور التوسع الاستعماري الذي اقره مؤتمر برلين عام 1878 برئاسة المستشار الالماني بيزمارك .

وتظهر خريطة افريقيا الحالية التقسيم الاستعماري لمناطق افريقيا من الشرق والغرب والشمال والجنوب بين امبرطوريات الاستعمار الاسباني والبرتغالي والفرنسي والبريطاني والايطالي والالماني. ولازال الوضع الاستعماري ساري المفعول سياسيا واقتصاديا وثقافيا، رغم انتهاء الاستعمار المباشر ومغادرته افريقيا قانونيا منذ أكثر من نصف قرن على الاستقلالات الوطنية في ستينات القرن الماضي .

نهاية الإمبراطوريات بعد موجة حق تقرير المصير

وفي الكتاب الذي أصدره المؤرخ الامريكي تشاد كانتون، بعنوان " سقوط الإمبراطوريات : مقدمة في تاريخ انهيار 17 امبراطورية" ، يعدد المؤلف الأسباب المختلفة التي أدت إلى سقوط الامبراطوريات الكبرى في التاريخ، معتبرا أن التاريخ المعاصر لم تعد تتوفر فيه مقومات الامبراطوريات خاصة بعد موجة حق تقرير المصير في بداية القرن الماضي وحصول الدول المستعمرة على استقلالها، مما عجّل بطي صفحة الامبراطوريات الاستعمارية. ويحاول في الكتاب صياغة نظريَّةٍ عالميَّة لما يسميه "الإنحدار الإمبراطوري"، في عدة مناطق من العالم سابقا .

ويعتبر أن الغطرسة العسكريَّة هي سبب سقوط امبراطوريتي أثينا وبريطانيا، وأن تدمير العاصمة بيرسيبوليس هو سبب سقوط امبراطورية بلاد فارس، كما أن اضطهاد رعاياها كان وراء انهيار امبراطورية تشين الصينة والإمبراطوريَّة الروسيَّة. كما أن صعود امبرطورية روما الشابة هو الذي اسقط امبراطورية قرطاج . كما أن الغزو المُفاجئ هو الذي اطاح بالخلافة العبَّاسيَّة في بغداد. ويحدد عناصر أخرى لانهيار الامبراطوريات كما يعتقد وهي الصراع الطائفي وسياسة القوَّة الساخرة (بيزنطة)، والكارثة البيئيَّة (الخمير)، والفَشل في تَحقيق الوِحْدة (روما والمغول)، والصحوة القوميَّة (العثمانيُّون والاتحاد السوفييتي).

ويعتقد أنه إلى اليوم لازالت الكثير من الكتابات تعتبر الإمبراطورية الأمريكية استمرارا للإمبراطورية البريطانية أو الرومانية التي تتشبّه بها الإمبراطوريات الاستعمارية التي عرفت خلال القرون الأخيرة وهي الامبراطوريات الاسبانية والبرتغالية والفرنسية والبريطانية والبلجيكية والهولاندية والتي لم يبق لها غير النفوذ اللغوي أو الاقتصادي في مستعمراتها السابقة.

وتبقى نظرية ابن خلدون في نشوء وصعود ثم أفول الإمبراطوريات كما فسرها بدقة في كتابه "المقدمة" ذات منهج علمي تجريبي قائمة على النظر والتحقيق . وهي تتمحورعلى مبدإ العصبية القبلية والقطاعية وجولات الصراع بين المركز المترهل والأطراف الشابة المتوثبة ،هو المفسر لعملية تداول الحضارات التي هي كائن حي له مرحلة الولادة والطفولة ثم الشباب والكهولة ثم الهرم والنهاية المحتومة ، حتى ولو حُنّطت مثل المومياء الفرعونية . وهي ذات راهنية سياسية وإخبارية تجد تفسيرا للتأرجح التاريخي الحتمي بين الصعود والازدهار قبل التراجع والأفول. ولكل مرحلة مؤشراتها الظاهرة والخفية.