إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

توزيع أدوار.. ابتزاز عاطفي وأشكال تحيل جديدة.. التسوّل يتحوّل إلى "مهنة".. ودخل البعض يتجاوز 150 دينارا يوميا

تونس – الصباح

كانت شاحبة الوجه، ذابلة الملامح وغائرة العينين يبدو عليها الإرهاق والإعياء رغم صغر سنها فهي شابة ومن المرجح أنها لم تتجاوز العشرينات، تحمل بين ذراعيها طفلتها، تسأل المّارة العطف والرحمة وهي تردد بصوت خافت "حق خبزة أو باكو حليب بنتي جيعانة".. وليس بعيدا عنها بأحد شوارع العاصمة الرئيسية يجلس شيخ ملابسه بالية ويضع أمامه صور أشعة وشهادات طبية وهو يتمتم ويردد دعوات بالخير والنجاح على المارة علّ أحدهم يرأف لحاله ويمنحه بعض النقود لشراء علبة دواء.

وفي أحد الأنهج الضيقة للعاصمة نشب خصام بين امرأتين وقد تجمع حولهما المارة لمشاهدة ما يجري، اقتربنا بحذر لمعرفة سبب الخلاف، فإذا سبب الخصام من منهن تظفر بالمكان، لتنطلق في مهمتها المعتادة وهي "التسول".

يبدو أن هذه الظاهرة التي اتخذ منها العديد "مهنة" مربحة، فيها من هو حاصل على بطاقة "احتراف" مثل المرأتين فهما على دراية تامة بحركة كل الأنهج والشوارع الكبرى والأماكن التي تعتبر في نظرهم إستراتيجية ويسهل فيها الحصول على النقود.

إعداد: جهاد الكلبوسي

ظاهرة التسول ليست جديدة على مجتمعنا لكن تشهد خلال السنوات الأخيرة تنوعا في طبيعة الأشخاص حيث أصبحت تستهوي وتستقطب مختلف الفئات الاجتماعية وليس الفقراء منهم فقط هذا بالإضافة إلى احتراف تقمص شخصيات مختلفة، حيث لفت انتباهنا أثناء الحديث مع من اشتغلوا على هذه الظاهرة أن بعض المتسولين كونوا شبكات وعصابات لتوسيع نشاطهم، لكن الخطير في ما يجري استغلال الأطفال.

وبات لا يقتصر التسول في تونس على الشوارع والأنهج بل أصبح هناك صنفا آخر من التسول "الافتراضي" عبر شبكات التواصل الاجتماعي من خلال كتابة تدوينات أو مقاطع "فيديو" تحكي وضعيات عائلية أو نشر بعض الآيات القرآنية التي تحث على الصدقة، كما يتم استغلال بعض المرضى لإثارة التعاطف والغرائز الإنسانية للوصول إلى الهدف المرسوم.

يبدو أن للتسول أبعادا متنوعة فهي ظاهرة غير معزولة ومواكبة للتطور المجتمعي بل أصبحت لها "قواميس"  متعارف عليها مثل "كبس كبس" وهي الكلمة الشهيرة لمستعملي "التيك توك" أو مشاهير التسول في توصيف آخر للحالة.

 

رئيس الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان والإعلام:عدد المتسولين تجاوز 5 آلاف منهم 15 بالمائة فقط من الفقراء

اعتبر رضا كرويدة رئيس الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان لـ"الصباح"أن التسول ليس ظاهرة مرتبطة بالوضعية الاقتصادية للمتسولين، لأن نسبة الفقراء من مجموع المتسولين لا تتعدى 15 بالمائة، كما أن الشباب يمثل 25 بالمائة من مجموع المتسولين في تونس الكبرى وعددهم يصل إلى 4 آلاف متسول في الأربع ولايات تونس وأريانة ومنوبة وبن عروس.

وحسب كرويدة فإن عالم التسول ضم مختلف فئات المجتمع وجميع الأعمار مع العلم أن عدد النساء يمثل 60 بالمائة من المتسولين، كما أكد رئيس الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان والإعلام أن التسول تحول إلى مهنة تدر أموالا طائلة على هذه الفئات.

وأشار محدثنا إلى أن عدد المتسولين يتزايد يوما بعد آخر وتشير بعض المعطيات غير المؤكدة إلى أن عددهم أصبح يتعدى الـ 5 آلاف متسول في كامل تراب الجمهورية، محذرا من ظواهر خطيرة كالتغرير بالأطفال والمتاجرة بالعواطف من خلال إقحامهم في هذا العالم حيث يتم توزيعهم على الشوارع الرئيسية، وأغلب الأطفال الذين يتم استغلالهم في التسول ليس من قبل عائلاتهم بل من قبل بعض الشباب.

وفي نفس السياق أفاد كرويدة أن الأفارقة دخلوا على الخط وهم يمتهنون التسول ويستغلون الأطفال للحصول على "الصدقة"، كما أنهم يستعطفون المارة خاصة وأن أغلبهم غادر بلده بسبب الفقر والجوع. وبعد أن كانت شوارع المدن الكبرى مسرحا لتسول عديد السوريين في فترة ما خاصة بعد الحرب السورية نجدها اليوم محجوزة من قبل العديد من الأفارقة وبعض هذه الأماكن يحصل حولها خلافات لأنها تعتبر مواقع "إستراتيجية" بالنسبة للبعض مثل المساجد والشوارع الكبرى وإشارات المرور.

وقد أكد رئيس الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان والإعلام أن بعض المعاينات التي قامت بها الجمعية كشفت أن بعض المتسولين يتوافدون على المطاعم والمقاهي للتسول وبعضهم يصر على الحرفاء وهذا تم التأكد منه من خلال معاينات عديدة.

كما أفاد محدثنا بأن هذا العالم أصبح يستهوي العديد من الفئات وحتى ميسوري الحال لأنه يدر عليهم أموالا طائلة "فغلّة يوم" واحد كما يسميها البعض تصل إلى 150 دينارا، وقد أكد ذلك العديد من أصحاب محلات بيع الفواكه الجافة "الحماصة" لأنهم يقومون بتحويل أموال التسول "الصرف" إلى أوراق نقدية.

وأضاف أن عائدات المتسولين خيالية، وأصبح الكثير منهم يتحصل على المال بأشكال مختلفة، فمنهم من يتسول الدواء وعند الحصول عليه يتم إعادة بيعه إلى نفس الصيدلية طبعا مع فارق ضئيل في الثمن كما أن بعض النساء يستعطفن المارة لشراء الحليب لأطفالهن خاصة إذا كانت المرأة تحمل رضيعا وتمت مشاهدة العديد منهن وهن بصدد إعادة بيع الحليب لنفس محل بيع المواد الغذائية.

وقد خبر من لهم تجارب وتاريخ في عالم التسول عديد الحيل لكسب المال حيث أن العديد من الشباب يستغلون أطفالا قصرا من وراء عائلاتهم لجني المال.

ورغم مقاومة الأمن لهذه الظاهرة لكن دون جدوى، مضيفا أن الجمعية راسلت الجهات المختصة لإعلامهم بأنها تضع كل الإطارات المختصة على ذمتهم لتكوين لجان لإيجاد حل لهذه الظاهرة التي أصبحت "وصمة" عار أمام ما نشاهده يوميا في الشوارع الرئيسية للعاصمة من ممارسات تسيء لتونس كإزعاج السياح.

وشدد كرويدة على أن هناك تقاعسا من سلط الإشراف وخاصة وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في معالجة هذه الظاهرة الخطيرة، قائلا لم نشاهد لجانا من الوزارة تعاين الوضع في الشوارع وتقوم برصد الوضعيات والحالات خاصة بالنسبة للأطفال الذين هم في سن التمدرس، وبدل أن يكون هؤلاء في مدارسهم وبين أترابهم نجدهم يتسولون ويتسكعون في شوارع العاصمة وعلى مقربة من مقرات سيادية، وفق قوله.

وفي نفس السياق قال إن مشكل الجمعية أنه خلال رصد مثل هذه الظواهر ورغم مراسلات عديد الجهات ذات العلاقة مثل وزارات الشؤون الاجتماعية والأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن والداخلية على أساس التعاون مع المجتمع المدني لإيجاد حل، لا يسمع لنا صوت، وأمام هذا التجاهل لا يمكن أن نصمت عن استقالة الدولة على لعب دورها في مجال حماية الطفولة رغم الاتفاقيات الدولية التي أمضت عليها تونس، هذا بالإضافة إلى ترسانة التشريعات الخاصة بالطفولة وعلى رأسها مجلة حماية الطفولة التي تم تحيينها أربع مرات آخرها في فترة الوزيرة السابقة أمال موسى وهو تحيين معتبر وثري لأنه أتى بعديد الحقوق الجديدة الخاصة بالطفل، لكن رغم وجود كل هذه النصوص القانونية والتشريعات فإن للواقع كلمة أخرى وحقيقة مخالفة وعلى هذا الأساس تطالب الجمعية بتفعيل القوانين الخاصة بحماية المرأة والطفل.

التسول ليس ظاهرة اجتماعية فقط بل لها أثار أخرى وأساسا اقتصادية فمثلا في التصنيفات الدولية لا يتم الأخذ بعين الاعتبار فقط للأرقام والمؤشرات بل يتم اعتماد المعايير الاجتماعية، وبالنسبة للتسول الأرقام تبقى صادمة.

كما بلغت نسبة الاستغلال الاقتصادي للأطفال في الأنشطة الإجرامية الهامشية فضلا عن استغلالهم في ظاهرة التسول 24.2 بالمائة من مجموع الحالات المسجلة في ظاهرة الاتجار بالبشر لسنة 2021 والتي بلغت 653 حالة.

 

مندوب حماية الطفولة بولاية تونس:حماية الطفولة تتدخل أحيانا بشكل حمائي وليس عقابيا

أكد مندوب حماية الطفولة بولاية تونس أنيس عون الله لـ"الصباح" أن ظاهرة التسول في تونس تفاقمت بعد وفود عديد اللاجئين الأفارقة وكذلك السوريين، وأصبحت موطن رزق للبعض لأنه تم استسهال الظاهرة.

وحسب محدثنا فقد تعددت صور الاستغلال الاقتصادي للطفل وأدت إلى تراكم الإشكاليات التنفيذية خاصة بالنسبة للأطفال الذين تقف خلفهم شبكات وعصابات، أو الأطفال الذين يقومون من تلقاء أنفسهم بالتسول وهي أصعب الوضعيات خاصة في حالة الأطفال الذين يدفعهم الإحساس بالمسؤولية تجاه عائلاتهم، وفي هذه الحالة يتم تدخل حماية الطفولة بشكل حمائي وليس عقابيا لأن الطفل ضحية ومهدد، كما يتم التنسيق مع مختلف المتدخلين لتحسين وضعيات عديد العائلات العاجزة عن حماية أبنائها عبر تدخل وزارتي الأسرة والشؤون الاجتماعية.

وشدد مندوب حماية الطفولة في تونس، أنيس عون الله، إلى عدم منح النقود للأطفال المتسوّلين في الشوارع لأن هناك حالات تحيّل يقوم بها الأولياء، ويعرّضون أطفالهم لمخاطر اجتماعية من خلال دفعهم إلى التسوّل.

وتدفع العائدات المالية التي يجمعها الأطفال خلال تسوّلهم في الشوارع، إلى رفضهم العودة إلى مقاعد الدراسة، وجدير بالذكر، أن حالات التسوّل في تونس، تزداد يوما بعد يوم، خصوصا من قبل أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات إلى 18 سنة حيث تشير إحصائيات إلى أنه يوجد 600 طفل متسول.

وأكدت مجلة حماية الطفل في الفصل 20 منها على أنه يعتبر بوجه خاص من الحالات الصعبة التي تهدد صحة الطفل أو سلامته البدنية أو المعنوية تعريض الطفل للتسول أو استغلاله اقتصاديا، وفي هذه الحالة يجب إشعار مندوب حمية الطفولة على معنى الفصل 31 من ذات المجلة بالوضعية لاتخاذ الإجراءات والتدابير الضرورية التي يراها مناسبة، وفي هذه الحالة يمكن لمندوب حماية الطفولة الذي منحه القانون صلاحيات مأمور الضابطة العدلية ومكنه من الاستنجاد بالقوة العامة، والتدخل لحماية الطفل، فيقوم بجمع الأدلة وإجراء التحقيقات للتأكد من الأضرار التي لحقت بالطفل والظروف التي أدت إليها وذلك بعد الحصول على إذن من قاضي الأسرة.  وبناء على ذلك، يتخذ مندوب حماية الطفولة التدابير الحمائية العاجلة اللازمة مثل وضع الطفل بمؤسسة استشفائية أو بمركز إحاطة اجتماعية أو لدى عائلة وذلك دون إذن مسبق من قاضي الأسرة على أن يتحصل عليه لاحقا. ويمكن لمندوب حماية الطفولة أن يتخذ تدابير ذات صبغة اتفاقية إذا رآها ملائمة لوضعية الطفل ويقوم بمتابعتها حسب الفصل 39 من مجلة حماية الطفل.

كما تجدر الإشارة إلى أن استعمال الأطفال في التسول يعتبر حالة من حالات الاتجار بالأشخاص التي عرفها القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 المؤرخ في 3 أوت 2016 المتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته بأنه استقطاب أو تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو تحويل وجهتهم أو ترحيلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم باستعمال القوة أو السلاح أو التهديد بهما أو غير ذلك من أشكال الإكراه أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال حالة استضعاف أو استغلال نفوذ أو تسليم أو قبول مبالغ مالية أو مزايا أو عطايا أو وعود بعطايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر وذلك بقصد الاستغلال أيا كانت صوره سواء من طرف مرتكب تلك الأفعال أو بوضعه على ذمة الغير لاستغلاله.

وبالتالي فإن استعمال الأطفال في التسول يعتبر جريمة اتجار بالأشخاص خاصة وأن القانون المذكور لا يشترط لقيام أركان الاتجار بالأشخاص استعمال تلك الوسائل إذا كانت الضحية طفلا أو شخصا عديم الأهلية أو من ذوي الإعاقة الذهنية ضمن الفصل 5 منه.

ويعاقب على هذه الجريمة بصورة مشددة، وترتفع العقوبة إلى السجن مدة خمسة عشر عاما وخطية من خمسين ألف دينار إلى مائة ألف دينار على معنى الفصل 23 من القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 المذكور وذلك إذا ارتكبت جريمة الاتجار بالأشخاص ضد طفل أو باستخدامه أو إذا كان مرتكب الجريمة زوجا للضحية أو أحد أصولها أو فروعها أو وليها أو كانت له سلطة عليها.

 

التسول أصبح ظاهرة ملفتة بسوسة.. استمالة العواطف وإيهام بالإعاقة لابتزاز المارّة والتحيّل عليهم

أصبحت ظاهرة التسوّل من الظّواهر المُلفتة والمؤثّرة في تركيبة وكيان المجتمع التونسي والتي سجّلت حضورها بشكل كبير في السنوات الأخيرة بعد أن وجدت فرصا للتمظهر والتّموقع نتيجة ضعف أداء الجهات الرّسميّة وعجزها عن السّيطرة عليها ممّا شجّع على توظيفها في ارتكاب الجريمة المنظّمة من جهة فضلا عن استعمالها في صنوف التحيّل والمغالطة والإيهام بالفقر والخصاصة .

انتشار ملفت للمتسوّلين

على طول شارع الحبيب بورقيبة وشارع الطاهر صفر  وسط مدينة سوسة وأمام أغلب المؤسّسات البنكيّة والخدماتيّة والمستشفيات والفضاءات التجاريّة يسجّل متسوّلون تونسيون وأفارقة من مختلف الفئات العمرية ومن الجنسين حضورهم في وضعيّات يصعب الجزم والحسم فيها مستعملين في ذلك قوة تأثيرهم في المشاعر مستعرضين روايات وقصص وفصول من مسرحيّات عذاب تهزّ المشاعر وتستثير العواطف والشّجون فيما يعمد آخرون إلى الإيهام بالعجز والإعاقة لابتزاز المارّة والتحيّل عليهم .

التسوّل محضنة للجريمة المنظّمة

يعتبر أخصّائيو علم الاجتماع أنّ ظاهرة التّسوّل هي شكل من أشكال الفساد الاجتماعي، وهي نتيجة طبيعيّة للإخلالات التي تصيب التّوازنات الاقتصادية والاجتماعية ويحذّرون من تعاظم مخاطر وتداعيّات هذه الظّاهرة متى تمّ إقحام الأطفال القصّر ومتى تمّ توظيفهم في مجالات أوسع وأخطر حيث تنشط الظاهرة صُلب تشكيلات وتنظيمات وعصابات منظّمة تعمل في مجال المخدّرات والنّشل والسّطو مستغلّة الأطفال والمراهقين ممّن انقطعوا في سنّ مبكّرة عن الدّراسة لأسباب اقتصاديّة أو اجتماعيّة فوجدوا في التسوّل محضنة لكلّ الظّواهر الاجتماعية السّلبيّة من عنف وغضب اجتماعي وجريمة وإرهاب ناجم عن اختلال في التّوازن الاقتصاديّ والثقافيّ ما يستوجب إصلاحات جوهريّة لعديد المناهج والمنظومات وتحقيق عدالة اجتماعيّة حقيقية من خلال إعادة النّظر في منوال التنمية والاستثمار والتّوزيع العادل للثروات بين المناطق.

ناشطون متورّطون

أكّد عدد من أصحاب المحلاّت أنّ بعض المتسوّلين الذين يتواجدون بصفة يوميّة يقسّمون فيما بينهم الشّوارع والأنهج ولا يسمحون بتواجد وجوه جديدة، فالويل كلّ الويل لمن يقترب من مناطق نفوذ غيره وهو ما يبرّر نشوب خصومات عنيفة أحيانا تعجّل بكشف المستور وسقوط الأقنعة فينكشف أثناء المعركة حال من أوهم ولمدّة أشهر المارّة بعجز أو إعاقة.

وبيّن أصحاب المحلاّت أنّ ظاهرة التسوّل لا تقتصر على الأطفال والمراهقين بل تشمل أيضا الناشطين، حيث ذكر بعض المواطنين من متساكني أحد الأحياء الراقية بسوسة أن هناك من يمتهن التسوّل إلى جانب مهنة أخرى، مشدّدين على أن التسول اليوم لم يعد يعبّر بالضرورة عن الحاجة ويعكس الفاقة بل أصبح حرفة لدى البعض من المتحيّلين .

أيّ دور للجمعيّات والمنظّمات؟

أمام تفاقم الظّاهرة واتّخاذها لأبعاد متعدّدة تمسّ من سلامة النّسيج الاجتماعي والأسري للعائلة تزداد الحاجة الملحّة للجمعيات والمنظّمات الواجب تدخّلها من أجل دعم  مجهودات الدّولة وهياكلها للحدّ من ظاهرة التسوّل وتداعياتها الخطيرة على النّسيج الأسري والاجتماعي ومن أجل الإحاطة بالمسنين واستقبال المتشردين وهو ما يستوجب تشريك المجتمع المدني لشدّ أزر الدّولة ومؤسّساتها في اتّخاذ القرارات وتنفيذ الخطط والاستراتيجيات القائمة على دراسات ميدانيّة بعيدة عن القرارات المسقطة  برصد الأموال اللازمة لبعث المشاريع مراكز التّأهيل والإحاطة وفق إستراتيجية "دولة المهمّات" الكفيلة بتنفيذ برامج ومهمّات محدودة ولكنّها قابلة للتّحقيق والتّجسيم على أرض الواقع ويكون ذلك تحت رعاية ورقابة مشتركة بين هياكل الدّولة ومكوّنات المجتمع المدني بما يضمن حسن التصرّف في الأموال المرصودة وانسجامها مع تحقيق الأهداف المنشودة.

ويبقى تفعيل القوانين الزجرية التي تجرّم التسوّل وتعتبره انتهاكا للفضاء العامّ  أمرا محتوما حتّى تستعيد الدّولة هيبتها ويتخلّص المجتمع من ظاهرة تحمل في طيّاتها جانبا كبيرا من ثقافة التّواكل والتقاعس غير المبرّر .

أنور قلالة

توزيع أدوار.. ابتزاز عاطفي وأشكال تحيل جديدة..   التسوّل يتحوّل إلى "مهنة".. ودخل البعض يتجاوز 150 دينارا يوميا

تونس – الصباح

كانت شاحبة الوجه، ذابلة الملامح وغائرة العينين يبدو عليها الإرهاق والإعياء رغم صغر سنها فهي شابة ومن المرجح أنها لم تتجاوز العشرينات، تحمل بين ذراعيها طفلتها، تسأل المّارة العطف والرحمة وهي تردد بصوت خافت "حق خبزة أو باكو حليب بنتي جيعانة".. وليس بعيدا عنها بأحد شوارع العاصمة الرئيسية يجلس شيخ ملابسه بالية ويضع أمامه صور أشعة وشهادات طبية وهو يتمتم ويردد دعوات بالخير والنجاح على المارة علّ أحدهم يرأف لحاله ويمنحه بعض النقود لشراء علبة دواء.

وفي أحد الأنهج الضيقة للعاصمة نشب خصام بين امرأتين وقد تجمع حولهما المارة لمشاهدة ما يجري، اقتربنا بحذر لمعرفة سبب الخلاف، فإذا سبب الخصام من منهن تظفر بالمكان، لتنطلق في مهمتها المعتادة وهي "التسول".

يبدو أن هذه الظاهرة التي اتخذ منها العديد "مهنة" مربحة، فيها من هو حاصل على بطاقة "احتراف" مثل المرأتين فهما على دراية تامة بحركة كل الأنهج والشوارع الكبرى والأماكن التي تعتبر في نظرهم إستراتيجية ويسهل فيها الحصول على النقود.

إعداد: جهاد الكلبوسي

ظاهرة التسول ليست جديدة على مجتمعنا لكن تشهد خلال السنوات الأخيرة تنوعا في طبيعة الأشخاص حيث أصبحت تستهوي وتستقطب مختلف الفئات الاجتماعية وليس الفقراء منهم فقط هذا بالإضافة إلى احتراف تقمص شخصيات مختلفة، حيث لفت انتباهنا أثناء الحديث مع من اشتغلوا على هذه الظاهرة أن بعض المتسولين كونوا شبكات وعصابات لتوسيع نشاطهم، لكن الخطير في ما يجري استغلال الأطفال.

وبات لا يقتصر التسول في تونس على الشوارع والأنهج بل أصبح هناك صنفا آخر من التسول "الافتراضي" عبر شبكات التواصل الاجتماعي من خلال كتابة تدوينات أو مقاطع "فيديو" تحكي وضعيات عائلية أو نشر بعض الآيات القرآنية التي تحث على الصدقة، كما يتم استغلال بعض المرضى لإثارة التعاطف والغرائز الإنسانية للوصول إلى الهدف المرسوم.

يبدو أن للتسول أبعادا متنوعة فهي ظاهرة غير معزولة ومواكبة للتطور المجتمعي بل أصبحت لها "قواميس"  متعارف عليها مثل "كبس كبس" وهي الكلمة الشهيرة لمستعملي "التيك توك" أو مشاهير التسول في توصيف آخر للحالة.

 

رئيس الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان والإعلام:عدد المتسولين تجاوز 5 آلاف منهم 15 بالمائة فقط من الفقراء

اعتبر رضا كرويدة رئيس الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان لـ"الصباح"أن التسول ليس ظاهرة مرتبطة بالوضعية الاقتصادية للمتسولين، لأن نسبة الفقراء من مجموع المتسولين لا تتعدى 15 بالمائة، كما أن الشباب يمثل 25 بالمائة من مجموع المتسولين في تونس الكبرى وعددهم يصل إلى 4 آلاف متسول في الأربع ولايات تونس وأريانة ومنوبة وبن عروس.

وحسب كرويدة فإن عالم التسول ضم مختلف فئات المجتمع وجميع الأعمار مع العلم أن عدد النساء يمثل 60 بالمائة من المتسولين، كما أكد رئيس الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان والإعلام أن التسول تحول إلى مهنة تدر أموالا طائلة على هذه الفئات.

وأشار محدثنا إلى أن عدد المتسولين يتزايد يوما بعد آخر وتشير بعض المعطيات غير المؤكدة إلى أن عددهم أصبح يتعدى الـ 5 آلاف متسول في كامل تراب الجمهورية، محذرا من ظواهر خطيرة كالتغرير بالأطفال والمتاجرة بالعواطف من خلال إقحامهم في هذا العالم حيث يتم توزيعهم على الشوارع الرئيسية، وأغلب الأطفال الذين يتم استغلالهم في التسول ليس من قبل عائلاتهم بل من قبل بعض الشباب.

وفي نفس السياق أفاد كرويدة أن الأفارقة دخلوا على الخط وهم يمتهنون التسول ويستغلون الأطفال للحصول على "الصدقة"، كما أنهم يستعطفون المارة خاصة وأن أغلبهم غادر بلده بسبب الفقر والجوع. وبعد أن كانت شوارع المدن الكبرى مسرحا لتسول عديد السوريين في فترة ما خاصة بعد الحرب السورية نجدها اليوم محجوزة من قبل العديد من الأفارقة وبعض هذه الأماكن يحصل حولها خلافات لأنها تعتبر مواقع "إستراتيجية" بالنسبة للبعض مثل المساجد والشوارع الكبرى وإشارات المرور.

وقد أكد رئيس الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان والإعلام أن بعض المعاينات التي قامت بها الجمعية كشفت أن بعض المتسولين يتوافدون على المطاعم والمقاهي للتسول وبعضهم يصر على الحرفاء وهذا تم التأكد منه من خلال معاينات عديدة.

كما أفاد محدثنا بأن هذا العالم أصبح يستهوي العديد من الفئات وحتى ميسوري الحال لأنه يدر عليهم أموالا طائلة "فغلّة يوم" واحد كما يسميها البعض تصل إلى 150 دينارا، وقد أكد ذلك العديد من أصحاب محلات بيع الفواكه الجافة "الحماصة" لأنهم يقومون بتحويل أموال التسول "الصرف" إلى أوراق نقدية.

وأضاف أن عائدات المتسولين خيالية، وأصبح الكثير منهم يتحصل على المال بأشكال مختلفة، فمنهم من يتسول الدواء وعند الحصول عليه يتم إعادة بيعه إلى نفس الصيدلية طبعا مع فارق ضئيل في الثمن كما أن بعض النساء يستعطفن المارة لشراء الحليب لأطفالهن خاصة إذا كانت المرأة تحمل رضيعا وتمت مشاهدة العديد منهن وهن بصدد إعادة بيع الحليب لنفس محل بيع المواد الغذائية.

وقد خبر من لهم تجارب وتاريخ في عالم التسول عديد الحيل لكسب المال حيث أن العديد من الشباب يستغلون أطفالا قصرا من وراء عائلاتهم لجني المال.

ورغم مقاومة الأمن لهذه الظاهرة لكن دون جدوى، مضيفا أن الجمعية راسلت الجهات المختصة لإعلامهم بأنها تضع كل الإطارات المختصة على ذمتهم لتكوين لجان لإيجاد حل لهذه الظاهرة التي أصبحت "وصمة" عار أمام ما نشاهده يوميا في الشوارع الرئيسية للعاصمة من ممارسات تسيء لتونس كإزعاج السياح.

وشدد كرويدة على أن هناك تقاعسا من سلط الإشراف وخاصة وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في معالجة هذه الظاهرة الخطيرة، قائلا لم نشاهد لجانا من الوزارة تعاين الوضع في الشوارع وتقوم برصد الوضعيات والحالات خاصة بالنسبة للأطفال الذين هم في سن التمدرس، وبدل أن يكون هؤلاء في مدارسهم وبين أترابهم نجدهم يتسولون ويتسكعون في شوارع العاصمة وعلى مقربة من مقرات سيادية، وفق قوله.

وفي نفس السياق قال إن مشكل الجمعية أنه خلال رصد مثل هذه الظواهر ورغم مراسلات عديد الجهات ذات العلاقة مثل وزارات الشؤون الاجتماعية والأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن والداخلية على أساس التعاون مع المجتمع المدني لإيجاد حل، لا يسمع لنا صوت، وأمام هذا التجاهل لا يمكن أن نصمت عن استقالة الدولة على لعب دورها في مجال حماية الطفولة رغم الاتفاقيات الدولية التي أمضت عليها تونس، هذا بالإضافة إلى ترسانة التشريعات الخاصة بالطفولة وعلى رأسها مجلة حماية الطفولة التي تم تحيينها أربع مرات آخرها في فترة الوزيرة السابقة أمال موسى وهو تحيين معتبر وثري لأنه أتى بعديد الحقوق الجديدة الخاصة بالطفل، لكن رغم وجود كل هذه النصوص القانونية والتشريعات فإن للواقع كلمة أخرى وحقيقة مخالفة وعلى هذا الأساس تطالب الجمعية بتفعيل القوانين الخاصة بحماية المرأة والطفل.

التسول ليس ظاهرة اجتماعية فقط بل لها أثار أخرى وأساسا اقتصادية فمثلا في التصنيفات الدولية لا يتم الأخذ بعين الاعتبار فقط للأرقام والمؤشرات بل يتم اعتماد المعايير الاجتماعية، وبالنسبة للتسول الأرقام تبقى صادمة.

كما بلغت نسبة الاستغلال الاقتصادي للأطفال في الأنشطة الإجرامية الهامشية فضلا عن استغلالهم في ظاهرة التسول 24.2 بالمائة من مجموع الحالات المسجلة في ظاهرة الاتجار بالبشر لسنة 2021 والتي بلغت 653 حالة.

 

مندوب حماية الطفولة بولاية تونس:حماية الطفولة تتدخل أحيانا بشكل حمائي وليس عقابيا

أكد مندوب حماية الطفولة بولاية تونس أنيس عون الله لـ"الصباح" أن ظاهرة التسول في تونس تفاقمت بعد وفود عديد اللاجئين الأفارقة وكذلك السوريين، وأصبحت موطن رزق للبعض لأنه تم استسهال الظاهرة.

وحسب محدثنا فقد تعددت صور الاستغلال الاقتصادي للطفل وأدت إلى تراكم الإشكاليات التنفيذية خاصة بالنسبة للأطفال الذين تقف خلفهم شبكات وعصابات، أو الأطفال الذين يقومون من تلقاء أنفسهم بالتسول وهي أصعب الوضعيات خاصة في حالة الأطفال الذين يدفعهم الإحساس بالمسؤولية تجاه عائلاتهم، وفي هذه الحالة يتم تدخل حماية الطفولة بشكل حمائي وليس عقابيا لأن الطفل ضحية ومهدد، كما يتم التنسيق مع مختلف المتدخلين لتحسين وضعيات عديد العائلات العاجزة عن حماية أبنائها عبر تدخل وزارتي الأسرة والشؤون الاجتماعية.

وشدد مندوب حماية الطفولة في تونس، أنيس عون الله، إلى عدم منح النقود للأطفال المتسوّلين في الشوارع لأن هناك حالات تحيّل يقوم بها الأولياء، ويعرّضون أطفالهم لمخاطر اجتماعية من خلال دفعهم إلى التسوّل.

وتدفع العائدات المالية التي يجمعها الأطفال خلال تسوّلهم في الشوارع، إلى رفضهم العودة إلى مقاعد الدراسة، وجدير بالذكر، أن حالات التسوّل في تونس، تزداد يوما بعد يوم، خصوصا من قبل أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات إلى 18 سنة حيث تشير إحصائيات إلى أنه يوجد 600 طفل متسول.

وأكدت مجلة حماية الطفل في الفصل 20 منها على أنه يعتبر بوجه خاص من الحالات الصعبة التي تهدد صحة الطفل أو سلامته البدنية أو المعنوية تعريض الطفل للتسول أو استغلاله اقتصاديا، وفي هذه الحالة يجب إشعار مندوب حمية الطفولة على معنى الفصل 31 من ذات المجلة بالوضعية لاتخاذ الإجراءات والتدابير الضرورية التي يراها مناسبة، وفي هذه الحالة يمكن لمندوب حماية الطفولة الذي منحه القانون صلاحيات مأمور الضابطة العدلية ومكنه من الاستنجاد بالقوة العامة، والتدخل لحماية الطفل، فيقوم بجمع الأدلة وإجراء التحقيقات للتأكد من الأضرار التي لحقت بالطفل والظروف التي أدت إليها وذلك بعد الحصول على إذن من قاضي الأسرة.  وبناء على ذلك، يتخذ مندوب حماية الطفولة التدابير الحمائية العاجلة اللازمة مثل وضع الطفل بمؤسسة استشفائية أو بمركز إحاطة اجتماعية أو لدى عائلة وذلك دون إذن مسبق من قاضي الأسرة على أن يتحصل عليه لاحقا. ويمكن لمندوب حماية الطفولة أن يتخذ تدابير ذات صبغة اتفاقية إذا رآها ملائمة لوضعية الطفل ويقوم بمتابعتها حسب الفصل 39 من مجلة حماية الطفل.

كما تجدر الإشارة إلى أن استعمال الأطفال في التسول يعتبر حالة من حالات الاتجار بالأشخاص التي عرفها القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 المؤرخ في 3 أوت 2016 المتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته بأنه استقطاب أو تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو تحويل وجهتهم أو ترحيلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم باستعمال القوة أو السلاح أو التهديد بهما أو غير ذلك من أشكال الإكراه أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال حالة استضعاف أو استغلال نفوذ أو تسليم أو قبول مبالغ مالية أو مزايا أو عطايا أو وعود بعطايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر وذلك بقصد الاستغلال أيا كانت صوره سواء من طرف مرتكب تلك الأفعال أو بوضعه على ذمة الغير لاستغلاله.

وبالتالي فإن استعمال الأطفال في التسول يعتبر جريمة اتجار بالأشخاص خاصة وأن القانون المذكور لا يشترط لقيام أركان الاتجار بالأشخاص استعمال تلك الوسائل إذا كانت الضحية طفلا أو شخصا عديم الأهلية أو من ذوي الإعاقة الذهنية ضمن الفصل 5 منه.

ويعاقب على هذه الجريمة بصورة مشددة، وترتفع العقوبة إلى السجن مدة خمسة عشر عاما وخطية من خمسين ألف دينار إلى مائة ألف دينار على معنى الفصل 23 من القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 المذكور وذلك إذا ارتكبت جريمة الاتجار بالأشخاص ضد طفل أو باستخدامه أو إذا كان مرتكب الجريمة زوجا للضحية أو أحد أصولها أو فروعها أو وليها أو كانت له سلطة عليها.

 

التسول أصبح ظاهرة ملفتة بسوسة.. استمالة العواطف وإيهام بالإعاقة لابتزاز المارّة والتحيّل عليهم

أصبحت ظاهرة التسوّل من الظّواهر المُلفتة والمؤثّرة في تركيبة وكيان المجتمع التونسي والتي سجّلت حضورها بشكل كبير في السنوات الأخيرة بعد أن وجدت فرصا للتمظهر والتّموقع نتيجة ضعف أداء الجهات الرّسميّة وعجزها عن السّيطرة عليها ممّا شجّع على توظيفها في ارتكاب الجريمة المنظّمة من جهة فضلا عن استعمالها في صنوف التحيّل والمغالطة والإيهام بالفقر والخصاصة .

انتشار ملفت للمتسوّلين

على طول شارع الحبيب بورقيبة وشارع الطاهر صفر  وسط مدينة سوسة وأمام أغلب المؤسّسات البنكيّة والخدماتيّة والمستشفيات والفضاءات التجاريّة يسجّل متسوّلون تونسيون وأفارقة من مختلف الفئات العمرية ومن الجنسين حضورهم في وضعيّات يصعب الجزم والحسم فيها مستعملين في ذلك قوة تأثيرهم في المشاعر مستعرضين روايات وقصص وفصول من مسرحيّات عذاب تهزّ المشاعر وتستثير العواطف والشّجون فيما يعمد آخرون إلى الإيهام بالعجز والإعاقة لابتزاز المارّة والتحيّل عليهم .

التسوّل محضنة للجريمة المنظّمة

يعتبر أخصّائيو علم الاجتماع أنّ ظاهرة التّسوّل هي شكل من أشكال الفساد الاجتماعي، وهي نتيجة طبيعيّة للإخلالات التي تصيب التّوازنات الاقتصادية والاجتماعية ويحذّرون من تعاظم مخاطر وتداعيّات هذه الظّاهرة متى تمّ إقحام الأطفال القصّر ومتى تمّ توظيفهم في مجالات أوسع وأخطر حيث تنشط الظاهرة صُلب تشكيلات وتنظيمات وعصابات منظّمة تعمل في مجال المخدّرات والنّشل والسّطو مستغلّة الأطفال والمراهقين ممّن انقطعوا في سنّ مبكّرة عن الدّراسة لأسباب اقتصاديّة أو اجتماعيّة فوجدوا في التسوّل محضنة لكلّ الظّواهر الاجتماعية السّلبيّة من عنف وغضب اجتماعي وجريمة وإرهاب ناجم عن اختلال في التّوازن الاقتصاديّ والثقافيّ ما يستوجب إصلاحات جوهريّة لعديد المناهج والمنظومات وتحقيق عدالة اجتماعيّة حقيقية من خلال إعادة النّظر في منوال التنمية والاستثمار والتّوزيع العادل للثروات بين المناطق.

ناشطون متورّطون

أكّد عدد من أصحاب المحلاّت أنّ بعض المتسوّلين الذين يتواجدون بصفة يوميّة يقسّمون فيما بينهم الشّوارع والأنهج ولا يسمحون بتواجد وجوه جديدة، فالويل كلّ الويل لمن يقترب من مناطق نفوذ غيره وهو ما يبرّر نشوب خصومات عنيفة أحيانا تعجّل بكشف المستور وسقوط الأقنعة فينكشف أثناء المعركة حال من أوهم ولمدّة أشهر المارّة بعجز أو إعاقة.

وبيّن أصحاب المحلاّت أنّ ظاهرة التسوّل لا تقتصر على الأطفال والمراهقين بل تشمل أيضا الناشطين، حيث ذكر بعض المواطنين من متساكني أحد الأحياء الراقية بسوسة أن هناك من يمتهن التسوّل إلى جانب مهنة أخرى، مشدّدين على أن التسول اليوم لم يعد يعبّر بالضرورة عن الحاجة ويعكس الفاقة بل أصبح حرفة لدى البعض من المتحيّلين .

أيّ دور للجمعيّات والمنظّمات؟

أمام تفاقم الظّاهرة واتّخاذها لأبعاد متعدّدة تمسّ من سلامة النّسيج الاجتماعي والأسري للعائلة تزداد الحاجة الملحّة للجمعيات والمنظّمات الواجب تدخّلها من أجل دعم  مجهودات الدّولة وهياكلها للحدّ من ظاهرة التسوّل وتداعياتها الخطيرة على النّسيج الأسري والاجتماعي ومن أجل الإحاطة بالمسنين واستقبال المتشردين وهو ما يستوجب تشريك المجتمع المدني لشدّ أزر الدّولة ومؤسّساتها في اتّخاذ القرارات وتنفيذ الخطط والاستراتيجيات القائمة على دراسات ميدانيّة بعيدة عن القرارات المسقطة  برصد الأموال اللازمة لبعث المشاريع مراكز التّأهيل والإحاطة وفق إستراتيجية "دولة المهمّات" الكفيلة بتنفيذ برامج ومهمّات محدودة ولكنّها قابلة للتّحقيق والتّجسيم على أرض الواقع ويكون ذلك تحت رعاية ورقابة مشتركة بين هياكل الدّولة ومكوّنات المجتمع المدني بما يضمن حسن التصرّف في الأموال المرصودة وانسجامها مع تحقيق الأهداف المنشودة.

ويبقى تفعيل القوانين الزجرية التي تجرّم التسوّل وتعتبره انتهاكا للفضاء العامّ  أمرا محتوما حتّى تستعيد الدّولة هيبتها ويتخلّص المجتمع من ظاهرة تحمل في طيّاتها جانبا كبيرا من ثقافة التّواكل والتقاعس غير المبرّر .

أنور قلالة