إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تحليل إخباري.. عن حرب "اللاتماثلية" بين "حز.ب الله" وإسرائيل.. السيناريوهات والتداعيات

 

بقلم: نزار مقني

لم يطل أمد رد "حزب الله" على "مجزرتي أجهزة الاتصالات" كثيرا، حتى بدأ في إدخال مدينة حيفا إلى نطاق أهداف صواريخه، من خلال إدخال صواريخ متوسطة المدى إلى الخدمة، والتي تصل إلى حيفا، وأضحت بالتالي المنطقة الوسطى للأراضي الفلسطينية المحتلة ضمن مجال الاستهداف.

تصعيد جديد، يبدو أنه سيغير معادلة الردع بين الجانبين، بعد أن تغيرت قواعد الاشتباك بين الطرفين منذ تنفيذ الجانب اﻷمني والاستخباري الإسرائيلي لمذبحتي أجهزة الاتصالات، واغتيال قادة فرقة الرضوان، خلال اجتماعهم في الضاحية الجنوبية في بيروت.

ففي وقت دخلت حيفا، بما تحمله من أهداف حيوية ومدنية وعسكرية -تعتبر هامة بالنسبة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والمدنية للاحتلال- ضمن مجال الاستهداف لـ"حزب الله"، أخذت وتيرة الردود العسكرية الإسرائيلية تتكثف ضمن لعبة الغارات الجوية، والتي تضاعفت أكثر من 5 مرات أو أكثر عما كان عليه اﻷمر طوال أكثر من 10 أشهر منذ انطلاق "طوفان اﻷقصى"، ودخول الجبهة اللبنانية لمعادلة الحرب على غزة، ضمن "جبهة إسناد المقاومة الفلسطينية".

ولعل بداية تغيير حلقة الصراع بين الطرفين، تعني أن "حزب الله"، بالرغم من الضربات القوية التي تلقاها في ظرف وجيز مع إخراج أكثر من 4000 عنصر من عناصره المقاتلة والساندة له داخل الساحة اللبنانية من معادلة القتال، واستهداف أبرز عقوله الحربية و"تحييدها" من خلال الاغتيال، مازال يحافظ على مستوى تنظيمي متقدم وجيد، لم يتأثر من هذه الخسائر، بل لعلها مثلت شرارة، انطلاقه في زيادة وتيرة الضغط على الجانب الإسرائيلي، خصوصا مع دخول عامل الاستهداف للمرافق المدنية والحيوية ضمن معادلة "توازن الرعب" بين الطرفين.

معادلة "الحرب اللاتماثلية"

تلك المعادلة، التي تعمل إسرائيل على إعادة صياغتها، ضمن ما يخدم أهدافها وخاصة فيما يتعلق بتحقيق أهدافها للحرب على غزة، ضمن تحييد جبهة لبنان الضاغطة على المستوى السياسي للاحتلال، خاصة وأن عمليات حزب الله الصاروخية، حولت الشريط الحدودي الشمالي للأراضي الفلسطينية، ضمن منطقة الجليل اﻷعلى وهضبة الجولان المحتل وصولا للمناطق المحاذية للبحر اﻷبيض المتوسط، كمنطقة عازلة تمتد إلى حدود 30 كيلومترا، خالية نوعا ما من المدنيين، وسمحت لـ"حزب الله" بتمييز اﻷهداف العسكرية ضمن هذا الشريط، وهو ما حقق قواعد الاشتباك التي رسمها الحزب في بداية الحرب، وهي استهداف الأهداف العسكرية وعدم إدخال الأهداف المدنية ضمن معادلة الصراع، اﻷمر الذي ركزت عليه إسرائيل في عملياتها الاستخباراتية، وأدخلت اﻷهداف المدنية ضمن معادلة الحرب، لتعمل على زيادة الضغط على الحزب، للوصول إلى تسوية جديدة للصراع بين لبنان وإسرائيل، لكن بشروط إسرائيلية، يطرح أبرزها تنفيذ قرار مجلس اﻷمن رقم 1701 والذي "يلزم" "حزب الله" على الانسحاب وراء نهر الليطاني، وهو ما يرفضه الحزب مع عدم استجابة إسرائيلية بالانسحاب من منطقة مزارع شبعا بحجة أنها أراض سورية محتلة وليست لبنانية.

ووسط هذه التغييرات على مجال الحرب بين الطرفين، ودخولها لمربع جديد من المواجهات، فإن فرص زيادة اتساع مجال الحرب، بدخول عامل الاجتياح البري، أصبحت متزايدة.

فمع دخول الحرب بين الحزب وإسرائيل، لمجالات حربية جديدة، باتت تهدد المجالات الحيوية الإسرائيلية الموجودة في المنطقة الوسطى للأراضي الفلسطينية التاريخية المحتلة، فإن السردية السياسية لليمين الصهيوني المتطرف التي تتحكم في العقل السياسي لحكومة الاحتلال، والتي تعطي أولوية للاجتياح البري لجنوب لبنان واحتلاله، ستتحول للمنهج الذي يسير به جيش الاحتلال، ويحاول أن يدفع إليه.

جبهات داخلية غير مستقرة

إلا أن هذه السردية لا يوجد إلا طرف واحد في الحكومة التي يقف ضدها، وهو وزير الحرب اﻹسرائيلي يؤاف غالانت، الذي يرى أن الاجتياح البري قد يكون مغامرة غير محسوبة العواقب، خصوصا وأن القوات البرية لجيش الاحتلال، واجهت حربا لا تماثلية مع المقاومة الفلسطينية في غزة، كانت بمثابة حرب استنزاف لها، في مجال جغرافي ضيق، يتميز بتضاريس وبطوبوغرافيا سهلة (غزة عبارة عن سهل)، في وقت يعتبر المجال الجغرافي في جنوب لبنان أوسع وبطوبوغرافيا وتضاريس تتميز بالوعورة وانتشار الجبال الشاهقة، والتي كانت في سنة 2006، مصيدة لجيش الاحتلال، وكانت تلك الحرب بمثابة هزيمة تكتيكية وإستراتجية لتل أبيب، كان من بين أبرزها انعكاساتها السياسية صعود التيار اليميني بجناحيه الديني والعلماني وسيطرته على الحكومة، التي أضحت حكومة أكثر يمينية في تاريخ الكيان منذ تأسيسه سنة 1948.

غالانت يواجه اليوم سيناريو العزل من قبل نتنياهو وتعويضه بوزير آخر، قد يكون أحد أعضاء الليكود الحاكم في إسرائيل والذي أصبح متبنيا لسردية اليمين الديني المتطرف في خيار الاجتياح البري لجنوب لبنان.

وبالرغم من أن تبني الخيار المتطرف في التعامل مع خيار الحرب على جبهات متعددة من قبل حكومة الاحتلال، إلا أن هذا الخيار قد يعرضها لمطبات سياسية عديدة خصوصا في علاقة بالمعارضة الإسرائيلية والمعارضين لخيار التصعيد العسكري في غزة ولبنان، مقابل الذهاب في خيار دبلوماسي لحل هذه القضايا وخصوصا فيما يتعلق بمفاوضات هدنة غزة، والتي تمثل المؤشر الأساسي في تعديل أوتار الصراع، وتراجع حدة الحرب في غزة ولبنان، مما يسمح بعودة المستوطنين لشمال فلسطين المحتلة، وخصوصا عودة الحياة الاقتصادية في إسرائيل التي تضررت جراء الحرب في غزة، واشتباكات حزب الله في الشمال، بالإضافة لاستنزاف الطبقة الشغيلة بسبب حملات التجنيد والالتحاق بجيش الاحتلال.

هذه المحاور هي التي باتت تؤثث سرديات المعارضة الإسرائيلية في مواجهتها لنتنياهو، الذي يعتمد إستراتجية الهروب إلى الأمام، في مواجهة معارضيه والضاغطين عليه من الائتلاف الحكومي، وهو ما أدى إلى تبنيه لسياسة "حافة الهاوية" في صراعه مع المؤثرين الإقليميين في الشرق الأوسط.

 في الجانب اللبناني، فإن الساحة السياسية اللبنانية، التي يتحكم فيها مشهد النفور بين القوى اﻷغلبية التي تضم "حزب الله" وقوى اﻷقلية، قد يشكل مشهد التصعيد بين الطرفين، في إعادة المشهد إلى السنوات الأولى للحرب اﻷهلية، فبعض القوى المعارضة لـ"حزب الله"، قد تذهب إلى استغلال فرص الضربات التي تلقاها الحزب لاستثمارها سياسيا، ضمن التشكيك في قوة "حزب الله"، ومحاولة المناوشة معه، خصوصا مع انتشار عديد القوى المناوئة له، مثل تنظيم "جنود الرب"، الذي يقدم نفسه كتنظيم مسيحي لحماية الهوية المسيحية في المناطق المسيحية في بيروت ولبنان عموما.

مثل هذه التنظيمات قد تصبح مستقبلا، مربعا جديدا للمد العسكري المعارض لـ"حزب الله"، خصوصا إذا ما تم تسليحه، وجعله بمثابة "القوات اللبنانية" وقبلها مليشيات حزب الكتائب المسيحي، واللذين قد يصبحان من ضمن اﻷوتار التي قد تلعب عليها إسرائيل وحلفائها من الغربيين لمزيد حصار "حزب الله" في الداخل وفتح جبهة داخلية على الحزب تضعف أداءه على "جبهة المساندة" على الحدود مع إسرائيل.

ويبدو أن كلا الطرفين-"حزب الله" وإسرائيل- وصلا إلى منطقة من الرمال المتحركة، والتي قد تشكل فيها أصغر التفاصيل، فارقا في المواجهة بين الطرفين، خاصة وأن الحزب مازال يحتفظ بأوراق عسكرية في المواجهة الحربية مع إسرائيل مع تطور ترسانته العسكرية عن تلك التي واجه بها الاحتلال خلال سنة 2006، وكذلك مع استمرار خطوط المد اللوجستي الاستراتجي من سوريا والعراق وإيران، هذه اﻷخيرة التي ترى أن جبهة لبنان تعتبر أبرز جبهة في لعبة التوازن الاستراتيجي بينها وبين الدول المناوئة لها إقليميا في المنطقة، وبينها وبين الغرب والولايات المتحدة دوليا، وخصوصا فيما يخص ملفها النووي.

امتدادات إقليمية ودولية

فجبهة لبنان تعتبر الجبهة المباشرة، واﻷكثر امتدادا مع إسرائيل (بالإضافة لجبهة الجولان السوري)، التي تعتبر الحليف اﻷكثر أهمية للولايات المتحدة والغرب في الشرق اﻷوسط، وبالتالي فإن أي تراجع للجبهة إلى أكثر من 30 كيلومترا داخل الأراضي اللبنانية، قد تفقد هذه الجبهة لمفعولها الضاغط، الذي يساعد طهران على الضغط ضمن أي مفاوضات مع القوى الست (مجموعة 5+1 التي تشرف على المفاوضات مع إيران على ملفها النووي)، وهذه الجبهة هي التي لا تسمح لجيش الاحتلال، استراتجيا، بالعمل على تحقيق أهدافه كاملة في غزة.

كما أن جبهة لبنان والجولان السوري يعتبران مهمين، بالنسبة ﻷي إمداد بمقاتلين من جبهات أخرى مساندة لإيران في المنطقة، كتنظيمات العسكرية الشيعية العراقية ومثلها اليزيدية اليمينية وعلى رأسها تنظيم "أنصار الله" الحوثي، والمقاتلين الشيعة اﻷفغان والباكستانيين، والذين قد يشكلون حلقة تعبئة حربية مهمة في أي مواجهة برية قد يعرفها جنوب لبنان، كما أنهم قد يسمحون بتعويض فارق المقاتلين الذين خسرهم "حزب الل"ه بعد "مجزرتي البيجرز والووكي توكي".

هذه الجبهة تعتبر كذلك بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، جبهة اشتعال للحرب في الشرق ألأوسط على أوسع نطاق، وتحويل طابعها من حرب لاتماثلية إلى حرب نظامية إذا ما انظمت إيران ووراءها دول مثل سوريا وبعض الفصائل العراقية إلى الحرب، لتصبح كل تخوم الصراع في الشرق الأوسط مشتعلة، وهو ما قد يعني "تورط" أمريكي في هذه الحرب التي لا تريدها واشنطن، ولا تسعى لدخولها لأولوياتها في هذه المرحلة، وذلك لسببين أساسيين: الأول يتعلق أساسا بالانتخابات الأمريكية، والتباين الكبير لكلا الحزبين الأساسيين فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وخصوصا في الشرق الأوسط، ففي وقت تتبنى المرشحة الديمقراطية للرئاسية الأمريكية كامالا هاريس خيارا يعتمد على التوصل لتسوية في غزة ولبنان، يبدو أن دونالد ترامب يبنى خيارا آخر، وهو خيار الدعم اللامتناهي لإسرائيل وائتلافها الحاكم في الحرب على "حماس" و"حزب الله" باعتبارهما حليفا إيران في المنطقة.

أما ثاني السببين فيتعلق بالإستراتيجية العامة للولايات المتحدة وأولوياتها الجيوسياسية في الصراع الجديد في العالم وبروز قوى دولية جديدة تريد لعب دور أكبر على الساحة الدولية وهما الصين والصراع في جنوب شرق آسيا، وخصوصا في بحر الصين الجنوبي، وروسيا وجربها في أوكرانيا.

ويبدو أن التورط في حرب أخرى في الشرق الأوسط سيكون مكلفا بالنسبة لواشنطن، وسيكون فرصة للصين لزيادة فرض سطوتها ونفوذها في مجال جيوسياسي حيوي للاقتصاد الدولي وهو بحر الصين الجنوبي، كما أن التورط في مثل هذه الحرب ستكون تداعياته مباشرة على جهود احتواء روسيا واستنزافها في أوكرانيا من خلال دعم كييف مباشرة، مما سيسمح لروسيا بمزيد التوسع في البحر الأسود وضمان نجاح تحقيق هدفها الجيواستراتيجي وهو التمدد في الفضاء الأوراسي في شرق أوروبا والقوقاز وآسيا الوسطى.

تحليل إخباري..   عن حرب "اللاتماثلية" بين "حز.ب الله" وإسرائيل.. السيناريوهات والتداعيات

 

بقلم: نزار مقني

لم يطل أمد رد "حزب الله" على "مجزرتي أجهزة الاتصالات" كثيرا، حتى بدأ في إدخال مدينة حيفا إلى نطاق أهداف صواريخه، من خلال إدخال صواريخ متوسطة المدى إلى الخدمة، والتي تصل إلى حيفا، وأضحت بالتالي المنطقة الوسطى للأراضي الفلسطينية المحتلة ضمن مجال الاستهداف.

تصعيد جديد، يبدو أنه سيغير معادلة الردع بين الجانبين، بعد أن تغيرت قواعد الاشتباك بين الطرفين منذ تنفيذ الجانب اﻷمني والاستخباري الإسرائيلي لمذبحتي أجهزة الاتصالات، واغتيال قادة فرقة الرضوان، خلال اجتماعهم في الضاحية الجنوبية في بيروت.

ففي وقت دخلت حيفا، بما تحمله من أهداف حيوية ومدنية وعسكرية -تعتبر هامة بالنسبة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والمدنية للاحتلال- ضمن مجال الاستهداف لـ"حزب الله"، أخذت وتيرة الردود العسكرية الإسرائيلية تتكثف ضمن لعبة الغارات الجوية، والتي تضاعفت أكثر من 5 مرات أو أكثر عما كان عليه اﻷمر طوال أكثر من 10 أشهر منذ انطلاق "طوفان اﻷقصى"، ودخول الجبهة اللبنانية لمعادلة الحرب على غزة، ضمن "جبهة إسناد المقاومة الفلسطينية".

ولعل بداية تغيير حلقة الصراع بين الطرفين، تعني أن "حزب الله"، بالرغم من الضربات القوية التي تلقاها في ظرف وجيز مع إخراج أكثر من 4000 عنصر من عناصره المقاتلة والساندة له داخل الساحة اللبنانية من معادلة القتال، واستهداف أبرز عقوله الحربية و"تحييدها" من خلال الاغتيال، مازال يحافظ على مستوى تنظيمي متقدم وجيد، لم يتأثر من هذه الخسائر، بل لعلها مثلت شرارة، انطلاقه في زيادة وتيرة الضغط على الجانب الإسرائيلي، خصوصا مع دخول عامل الاستهداف للمرافق المدنية والحيوية ضمن معادلة "توازن الرعب" بين الطرفين.

معادلة "الحرب اللاتماثلية"

تلك المعادلة، التي تعمل إسرائيل على إعادة صياغتها، ضمن ما يخدم أهدافها وخاصة فيما يتعلق بتحقيق أهدافها للحرب على غزة، ضمن تحييد جبهة لبنان الضاغطة على المستوى السياسي للاحتلال، خاصة وأن عمليات حزب الله الصاروخية، حولت الشريط الحدودي الشمالي للأراضي الفلسطينية، ضمن منطقة الجليل اﻷعلى وهضبة الجولان المحتل وصولا للمناطق المحاذية للبحر اﻷبيض المتوسط، كمنطقة عازلة تمتد إلى حدود 30 كيلومترا، خالية نوعا ما من المدنيين، وسمحت لـ"حزب الله" بتمييز اﻷهداف العسكرية ضمن هذا الشريط، وهو ما حقق قواعد الاشتباك التي رسمها الحزب في بداية الحرب، وهي استهداف الأهداف العسكرية وعدم إدخال الأهداف المدنية ضمن معادلة الصراع، اﻷمر الذي ركزت عليه إسرائيل في عملياتها الاستخباراتية، وأدخلت اﻷهداف المدنية ضمن معادلة الحرب، لتعمل على زيادة الضغط على الحزب، للوصول إلى تسوية جديدة للصراع بين لبنان وإسرائيل، لكن بشروط إسرائيلية، يطرح أبرزها تنفيذ قرار مجلس اﻷمن رقم 1701 والذي "يلزم" "حزب الله" على الانسحاب وراء نهر الليطاني، وهو ما يرفضه الحزب مع عدم استجابة إسرائيلية بالانسحاب من منطقة مزارع شبعا بحجة أنها أراض سورية محتلة وليست لبنانية.

ووسط هذه التغييرات على مجال الحرب بين الطرفين، ودخولها لمربع جديد من المواجهات، فإن فرص زيادة اتساع مجال الحرب، بدخول عامل الاجتياح البري، أصبحت متزايدة.

فمع دخول الحرب بين الحزب وإسرائيل، لمجالات حربية جديدة، باتت تهدد المجالات الحيوية الإسرائيلية الموجودة في المنطقة الوسطى للأراضي الفلسطينية التاريخية المحتلة، فإن السردية السياسية لليمين الصهيوني المتطرف التي تتحكم في العقل السياسي لحكومة الاحتلال، والتي تعطي أولوية للاجتياح البري لجنوب لبنان واحتلاله، ستتحول للمنهج الذي يسير به جيش الاحتلال، ويحاول أن يدفع إليه.

جبهات داخلية غير مستقرة

إلا أن هذه السردية لا يوجد إلا طرف واحد في الحكومة التي يقف ضدها، وهو وزير الحرب اﻹسرائيلي يؤاف غالانت، الذي يرى أن الاجتياح البري قد يكون مغامرة غير محسوبة العواقب، خصوصا وأن القوات البرية لجيش الاحتلال، واجهت حربا لا تماثلية مع المقاومة الفلسطينية في غزة، كانت بمثابة حرب استنزاف لها، في مجال جغرافي ضيق، يتميز بتضاريس وبطوبوغرافيا سهلة (غزة عبارة عن سهل)، في وقت يعتبر المجال الجغرافي في جنوب لبنان أوسع وبطوبوغرافيا وتضاريس تتميز بالوعورة وانتشار الجبال الشاهقة، والتي كانت في سنة 2006، مصيدة لجيش الاحتلال، وكانت تلك الحرب بمثابة هزيمة تكتيكية وإستراتجية لتل أبيب، كان من بين أبرزها انعكاساتها السياسية صعود التيار اليميني بجناحيه الديني والعلماني وسيطرته على الحكومة، التي أضحت حكومة أكثر يمينية في تاريخ الكيان منذ تأسيسه سنة 1948.

غالانت يواجه اليوم سيناريو العزل من قبل نتنياهو وتعويضه بوزير آخر، قد يكون أحد أعضاء الليكود الحاكم في إسرائيل والذي أصبح متبنيا لسردية اليمين الديني المتطرف في خيار الاجتياح البري لجنوب لبنان.

وبالرغم من أن تبني الخيار المتطرف في التعامل مع خيار الحرب على جبهات متعددة من قبل حكومة الاحتلال، إلا أن هذا الخيار قد يعرضها لمطبات سياسية عديدة خصوصا في علاقة بالمعارضة الإسرائيلية والمعارضين لخيار التصعيد العسكري في غزة ولبنان، مقابل الذهاب في خيار دبلوماسي لحل هذه القضايا وخصوصا فيما يتعلق بمفاوضات هدنة غزة، والتي تمثل المؤشر الأساسي في تعديل أوتار الصراع، وتراجع حدة الحرب في غزة ولبنان، مما يسمح بعودة المستوطنين لشمال فلسطين المحتلة، وخصوصا عودة الحياة الاقتصادية في إسرائيل التي تضررت جراء الحرب في غزة، واشتباكات حزب الله في الشمال، بالإضافة لاستنزاف الطبقة الشغيلة بسبب حملات التجنيد والالتحاق بجيش الاحتلال.

هذه المحاور هي التي باتت تؤثث سرديات المعارضة الإسرائيلية في مواجهتها لنتنياهو، الذي يعتمد إستراتجية الهروب إلى الأمام، في مواجهة معارضيه والضاغطين عليه من الائتلاف الحكومي، وهو ما أدى إلى تبنيه لسياسة "حافة الهاوية" في صراعه مع المؤثرين الإقليميين في الشرق الأوسط.

 في الجانب اللبناني، فإن الساحة السياسية اللبنانية، التي يتحكم فيها مشهد النفور بين القوى اﻷغلبية التي تضم "حزب الله" وقوى اﻷقلية، قد يشكل مشهد التصعيد بين الطرفين، في إعادة المشهد إلى السنوات الأولى للحرب اﻷهلية، فبعض القوى المعارضة لـ"حزب الله"، قد تذهب إلى استغلال فرص الضربات التي تلقاها الحزب لاستثمارها سياسيا، ضمن التشكيك في قوة "حزب الله"، ومحاولة المناوشة معه، خصوصا مع انتشار عديد القوى المناوئة له، مثل تنظيم "جنود الرب"، الذي يقدم نفسه كتنظيم مسيحي لحماية الهوية المسيحية في المناطق المسيحية في بيروت ولبنان عموما.

مثل هذه التنظيمات قد تصبح مستقبلا، مربعا جديدا للمد العسكري المعارض لـ"حزب الله"، خصوصا إذا ما تم تسليحه، وجعله بمثابة "القوات اللبنانية" وقبلها مليشيات حزب الكتائب المسيحي، واللذين قد يصبحان من ضمن اﻷوتار التي قد تلعب عليها إسرائيل وحلفائها من الغربيين لمزيد حصار "حزب الله" في الداخل وفتح جبهة داخلية على الحزب تضعف أداءه على "جبهة المساندة" على الحدود مع إسرائيل.

ويبدو أن كلا الطرفين-"حزب الله" وإسرائيل- وصلا إلى منطقة من الرمال المتحركة، والتي قد تشكل فيها أصغر التفاصيل، فارقا في المواجهة بين الطرفين، خاصة وأن الحزب مازال يحتفظ بأوراق عسكرية في المواجهة الحربية مع إسرائيل مع تطور ترسانته العسكرية عن تلك التي واجه بها الاحتلال خلال سنة 2006، وكذلك مع استمرار خطوط المد اللوجستي الاستراتجي من سوريا والعراق وإيران، هذه اﻷخيرة التي ترى أن جبهة لبنان تعتبر أبرز جبهة في لعبة التوازن الاستراتيجي بينها وبين الدول المناوئة لها إقليميا في المنطقة، وبينها وبين الغرب والولايات المتحدة دوليا، وخصوصا فيما يخص ملفها النووي.

امتدادات إقليمية ودولية

فجبهة لبنان تعتبر الجبهة المباشرة، واﻷكثر امتدادا مع إسرائيل (بالإضافة لجبهة الجولان السوري)، التي تعتبر الحليف اﻷكثر أهمية للولايات المتحدة والغرب في الشرق اﻷوسط، وبالتالي فإن أي تراجع للجبهة إلى أكثر من 30 كيلومترا داخل الأراضي اللبنانية، قد تفقد هذه الجبهة لمفعولها الضاغط، الذي يساعد طهران على الضغط ضمن أي مفاوضات مع القوى الست (مجموعة 5+1 التي تشرف على المفاوضات مع إيران على ملفها النووي)، وهذه الجبهة هي التي لا تسمح لجيش الاحتلال، استراتجيا، بالعمل على تحقيق أهدافه كاملة في غزة.

كما أن جبهة لبنان والجولان السوري يعتبران مهمين، بالنسبة ﻷي إمداد بمقاتلين من جبهات أخرى مساندة لإيران في المنطقة، كتنظيمات العسكرية الشيعية العراقية ومثلها اليزيدية اليمينية وعلى رأسها تنظيم "أنصار الله" الحوثي، والمقاتلين الشيعة اﻷفغان والباكستانيين، والذين قد يشكلون حلقة تعبئة حربية مهمة في أي مواجهة برية قد يعرفها جنوب لبنان، كما أنهم قد يسمحون بتعويض فارق المقاتلين الذين خسرهم "حزب الل"ه بعد "مجزرتي البيجرز والووكي توكي".

هذه الجبهة تعتبر كذلك بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، جبهة اشتعال للحرب في الشرق ألأوسط على أوسع نطاق، وتحويل طابعها من حرب لاتماثلية إلى حرب نظامية إذا ما انظمت إيران ووراءها دول مثل سوريا وبعض الفصائل العراقية إلى الحرب، لتصبح كل تخوم الصراع في الشرق الأوسط مشتعلة، وهو ما قد يعني "تورط" أمريكي في هذه الحرب التي لا تريدها واشنطن، ولا تسعى لدخولها لأولوياتها في هذه المرحلة، وذلك لسببين أساسيين: الأول يتعلق أساسا بالانتخابات الأمريكية، والتباين الكبير لكلا الحزبين الأساسيين فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وخصوصا في الشرق الأوسط، ففي وقت تتبنى المرشحة الديمقراطية للرئاسية الأمريكية كامالا هاريس خيارا يعتمد على التوصل لتسوية في غزة ولبنان، يبدو أن دونالد ترامب يبنى خيارا آخر، وهو خيار الدعم اللامتناهي لإسرائيل وائتلافها الحاكم في الحرب على "حماس" و"حزب الله" باعتبارهما حليفا إيران في المنطقة.

أما ثاني السببين فيتعلق بالإستراتيجية العامة للولايات المتحدة وأولوياتها الجيوسياسية في الصراع الجديد في العالم وبروز قوى دولية جديدة تريد لعب دور أكبر على الساحة الدولية وهما الصين والصراع في جنوب شرق آسيا، وخصوصا في بحر الصين الجنوبي، وروسيا وجربها في أوكرانيا.

ويبدو أن التورط في حرب أخرى في الشرق الأوسط سيكون مكلفا بالنسبة لواشنطن، وسيكون فرصة للصين لزيادة فرض سطوتها ونفوذها في مجال جيوسياسي حيوي للاقتصاد الدولي وهو بحر الصين الجنوبي، كما أن التورط في مثل هذه الحرب ستكون تداعياته مباشرة على جهود احتواء روسيا واستنزافها في أوكرانيا من خلال دعم كييف مباشرة، مما سيسمح لروسيا بمزيد التوسع في البحر الأسود وضمان نجاح تحقيق هدفها الجيواستراتيجي وهو التمدد في الفضاء الأوراسي في شرق أوروبا والقوقاز وآسيا الوسطى.