يصف مفهومنا هذا علاقة المواطن التونسي- في قمة وقاعدة المجتمع التونسي- بنظيره التونسي الذي لا يعرفه من قبل، أي "البرّاني" كمصطلح في هذا المقال. ففي تفاعله الاجتماعي اليومي يظهر التونسي إزاء التونسي "البرّاني" قدرا من السلوك الحذر وحالة من عدم الارتياح والتوجس والخوف، الأمر الذي يؤدي إلى نوع من التوتر الخفي والظاهر بينهما. ومن هنا جاء وصفنا للتونسي بأنه ذو شخصية مستنفِرة (من النفور) في احتكاكه بالتونسي "البرّاني" أو "الآخر". وهذا يعني أن الشخصية التونسية المستنفرة ينقصها الكثير من التعاطف والرغبة في التعرف على التونسي " البرّاني" ، ومـن ثم ينقص هاجس احترامه والرغبة في خدمته. يُنتظر من التفاعلات الاجتماعية التونسية التي تغلب عليها هذه السمة من عدم الارتياح مع التونسي "الآخر"/"البرّاني" أن تقود ، من ناحية ، إلى كثير من التوتر في الاحتكاكات الاجتماعية بين التونسيين والتونسيات والتي طالما تقترن، من ناحية أخرى، بالعنف اللفظي وكثرة السفاهة (الكلام الجنسي البذيء واللعن وسب اسم الجلالة عند الرجال) والدعا (الدعا على ) واللعن عند النساء ، وبالعنف الجسدي بين الذكور على الخصوص في العديد من التفاعلات الاجتماعية بالمجتمع التونسي. كما أنه يمكن القول بأن كثرة ميل التونسيين الذكور إلى الاعتداء وتكسير وتهشيم الأملاك العامة هو عنف ضدّ أملاك "الآخرين": "البّرانيين" (الِبليك).
غياب المفاهيم عند الباحثين
يساعد مفهومُ الشخصية التونسية المستنفرة كثيرا على فهم وتفسير مثل تلك السلوكيات التونسية ، ومنه يسمح بفضل ما فيه من رؤى لعلميْ النفس والاجتماع أن يطرح استراتيجيات للتعامل والتحكم في تلك السلوكيات المشينة والمتفشية في المجتمع التونسي. إن نحت المفاهيم أمر مطلوب للغاية في البحث العلمي الأصيل الذي قد يؤدي إلى اكتشاف حتى النظريات. مع الأسف، فعلماء الاجتماع التونسيون لم ينجحوا في إنتاج مفاهيم مستلّة من التربة الاجتماعية التونسية. مثلا، فكتاب عالم الاجتماع المرحوم منصف وناس حول الشخصية التونسية خال من المفاهيم العلمية ومقتصر على وصف بعض معالمها، والفرق كبير بين الاثنين إذ المفهوم أداة تفسير للسلوكيات والوصف هو مجرد وصف للسلوكيات لا يحمل تفسيرا لها.
تفشي العنف اللفظي والجسمي بين التونسيين
إن الأمثلة على السلوكيات العنيفة والعدوانية من واقع المجتمع التونسي اليومي عديدة ومتنوعة. فمعروف عن التونسي سرعة لجوئه وحتى لأبسط وأتفه الأشياء أحيانا إلى العنف اللفظي والجسمي إزاء التونسي الآخر. فخطاب الشتم والسب و"السفاهة" عند التونسي الذكر أمر مشهور ببذاءته وكثرة تداوله أثناء التفاعلات الاجتماعية. فمَنْ من التونسيين لم يشاهد أو لم يتبادل التراشق اللفظي البذيء في حياته خاصة مع التونسي الآخر؟
أما المرأة التونسية فتساهم هي الأخرى بنصيبها في ظاهرة التراشق بعبارات السب والشتم مع التونسيات والتونسيين "البرانين" وحتى الأقرباء ويغلب على الخطاب الأنثوي اللجوء إلى عبارات "الدعا" المتفشية أكثر عند معشر النساء.
أما ممارسة العنف مع التونسي البراني وغيره تعنيفا جسميا فهي ظاهرة تنتشر أساسا في عالم الذكور. فتفشي "العرك" بين التونسيين أصبح موضوعا للنكت عند التونسيين. فهذا طالب تونسي قضى سنوات عديدة في الخارج حيث يبدو أنه لم يشاهد "عركة" واحدة في الشوارع. وما أن وطأت أقدامُه مطار تونس قرطاج حتى رأى لتوه "عركة" حية بين التونسيين على أرض المطار. إن معظم التونسيين الذين قضوا وقتا خارج أرض الوطن يتفقون على أن ظاهرة "العرك" ظاهرة يتميز بها المجتمع التونسي ، وهي ظاهرة ذات علاقة قوية بظاهرة انفراد المجتمع التونسي بظاهرة طوفان خطاب الكلام البذيء كما تحدث عن ذلك بيرم التونسي وكما نشرح في كتابنا كيف أن الكلام التونسي العنيف/البذيء (غير اللطيف) يهيئ التونسيين نفسيا للعنف الجسدي والمادي .
غياب الفهم والتفسير للظاهرة
يتحدث التونسيون والتونسيات كثيرا عن سلوكيات سيئة لهؤلاء نحو بعضهم البعض تتلخص أحيانا في قولهم " التونسيون والتونسيات لا يحبون بعضهم البعض". وبعبارة أخرى، فهؤلاء فاقدون لثقافة التعاطف والتقدير والاحترام للآخرين من مواطني مجتمعهم. فقد وصفت الكاتبة حياة السايب في جريدة الصباح 28/07/24 موقف هؤلاء المواطنين إزاء بعضهم البعض : " ولكننا نتحدث عن ثقافة نفتقر إليها كثيرا وهي ثقافة الاحترام وتقدير الجهود والاعتراف للناس. بل على العكس، وكما هو واضح فإن ثقافتنا تقوم على التنمر والتطاول ص 8". ومع الأسف فلا حياة السايب ولا وسائل الإعلام التونسية التي تتحدث عن تلك الظاهرة تعطي تفسيرا لها كما يفعل مفهومنا المطروح هنا.
الشخصيات القاعدية والتسيير الإداري.
يتحدث التونسيون والتونسيات كثيرا عن المعاملات الطيبة التي تلقوها أو يتلقونها في الإدارات الأجنبية داخل الجمهورية أو خارجها من طرف الأجانب. وفي المقابل يطنبون في شكواهم من المعاملات السيئة وغير الحضرية التي تعرضوا أو يتعرضون لها في الإدارات التونسية من طرف التونسيات والتونسيين. وقد يسرع البعض فيقولون إن ذلك يعود إلى تطور وتقدّم إمكانيات الأجانب المادية والتقنية والتنظيمية، من جهة، وتأخر تلك الوسائل في الإدارة التونسية، من جهة ثانية. وبالتأكيد فإن توفر تلك الإمكانيات ليست وحدها في النهاية هي الحاسمة في نجاح تسيير الهياكل الإدارية. ففي إدارات المجتمعات المتقدمة يوجد إنسان ذو شخصية أساسية تختلف عما نجده عند الإداري التونسي، فالإداري الأمريكي مثلا طالما يستقبل الحرفاء بابتسامة سائلا إياهم بلطف بعبارة "هل يمكن أن أساعدك"؟ (May I help you ?) فهو إداري يمارس زمام المبادرة في خدمة الآخرين سواء كانوا من العامة أو الخاصة. أما الإدارة التونسية فمعروف عنها أن المرء قد يلقي الأمرّين في قضاء حتى بعض الأمور البسيطة. فابتسامة الإداري التونسي إلى حريفه التونسي (البرّاني) الذي لا تربطه به أية علاقة ليست بعد ظاهرة اجتماعية واسعة بالإدارات التونسية. وما يلاحظه المرء في كثير من الأحيان هو عكس الابتسامة اللطيفة : ربما يشاهد محيّى صامتا أو جبينا مقطبا... وتأتي عبارة "أش تحب" في كثير من الأحيان لتعبر بالكلمة المنطوقة بطريقة لاشعورية أن الإداري التونسي غير مرتاح في تعامله مع التونسي الآخر (البرّاني).
المشاريع المعطلة
يصف البعضُ تونس بأنها بلاد المشاريع المعطَّلة دون أن يطرحوا فرضيات أو تفسيرات لأسباب ذلك. فمفهوم الشخصية التونسية المستنفرة مؤهل لتشخيص الخفايا النفسية في طيات الشخصية التونسية التي تقف حجر عثرة أمام إنجاز المشاريع الجماعية الصغيرة والكبيرة. فالمشاريع الجماعية تتطلب تفاعلا جيدا بين الذين يديرونها، وهو ما لا تملكه الشخصية التونسية المستنفرة. ومنه، يذهب الكثيرون إلى حد القول إن تونس تنفرد بهذا الوضع مقارنة بالبلدان المجاورة.
النفور الباطني والظاهر من اللغة الوطنية
لا يقتصر نفور التونسيات والتونسيين من اللغة العربية على ضُعف استعمالها في الحديث والكتابة فقط، بل طالما يقترن ذلك بما نود تسميته بالإعاقة النفسية التي تصيب علاقتهم بلغتهم بحيث تصبح مكانة العربية لديهم ليست هي المكانة الأولى، ومنه طالما يظهرون"الحشمة" في استعمالها في الكتابة والحديث. لأنهم غير مرتاحين نفسيا في استعمالها..ومن ثم، يقترن هذا الوضع بسلوكيات فردية وجماعية تعبر على الشعور بمركب النقص إزاء استعمال العربية مما يؤدي إلى ضُعف الغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها. فتلك الإعاقة اللغوية النفسية تفسر ظاهرة غياب احتجاج الجميع على اللافتات المكتوبة بالفرنسية فقط.
ظاهرة "الدزان" بالمجتمع التونسي
من الظواهر الاجتماعية الأخرى المنتشرة في المجتمع التونسي هي ظاهرة "الدزان". فمن من التونسيات والتونسيين لم يسمع أو لم يشاهد أو لم يمارس أو لم يتعرض إلى هذه الظاهرة في الحافلات العمومية أو أثناء محاولته الحصول على مقعد في سيارة أجرة أو تاكسي ؟ لو سألنا التونسي والتونسية عن سبب تفشي ظاهرة "الدزان" في الحافلات العمومية مثلا لكانت هناك تفسيرات متنوعة للظاهرة. فمنهم من سوف يفسر ظاهرة "الدزان" بوجود الاكتظاظ المزمن في الحافلات. إن مثل هذا التفسير يبدو بسيطا وغير مقنع. وكيف يكون مقنعا والحال أن التونسيات والتونسيين يلجأون إلى "الدزان" حتى إن كانت الحافلات شاغرة أو شبه شاغرة ؟ فمفهوم الشخصية المستنفرة يساعد على تفسير هذه الظاهرة: فمعظم الركاب لا يعرفون بعضهم البعض (برانين: في حالة نفور من الركاب 'الآخرين') فيكون 'الدزان' نتيجة لذلك .
انعكاسات النفور على التونسيين ومجتمعهم
إن سمة النفور المشار إليها في الشخصية التونسية لا بد أن يكون لها آثار مباشرة على دولة المؤسسات والقانون. فعمل المؤسسات العمومية على الخصوص سوف يبقى متأثرا سلبيا باستمرار العلاقات المتوترة والمتوجسة والمستنفرة بين المواطنين والعاملين بالمؤسسات. ففي هذه الظروف سوف يكون المسؤولون بالمؤسسات أقل تحفزا ومبادرة لخدمة المواطنين ،من ناحية، كما أن هؤلاء المواطنين سوف يتحاشون ما استطاعوا التعامل مع العاملين بالمؤسسات، من ناحية أخرى. إن هذا التضارب بين طرفي المؤسسات لا يمكن إلا أن يعرقل دور المؤسسات الحاسم بالنسبة لنجاح عملية التنمية الشاملة في المجتمع.
أما بخصوص سيادة القانون فإن عقلية النفور بين المسؤولين والمواطنين سوف تجعل مبدأ احترام سلطان القانون مبدأ يصعب الالتزام به كليا. أي أن المواطنين التونسيين والمسؤولين سوف يكونون غير قادرين على وضع حد نهائي لظاهرتي "الواسطة" و"الأكتاف" لقضاء شؤونهم قبل 'الآخرين' وبأقل (أو دون) مشقة..
إن سمة النفور هذه تساعد هي الأخرى على فهم وربما تفسير ظاهرة ما أصبح يسمى اليوم "بفردانية/أنانية الإنسان التونسي". أي أن هذا الأخير لا تهمه أساسا إلا شؤونه الخاصة. فهموم الآخر هي هموم إنسان غريب عنه يصعب عليه التعاطف معه واحترامه. ويندرج في هذه الرؤية ما أصبحت تتحدث عه صحفنا أخيرا وهو "أن التونسيات والتونسيين لا يرحبون بعمل الآخرين" فهم سجناء أنفسهم غير قادرين على مد اليد للآخر المختلف عنهم. إن حياة الفرد في المجتمع التونسي تتعرض إذن إلى الكثير من التوترات أثناء تعامل الشخص مع الغرباء. ولعله ليس من المبالغة أن يكون لذلك تأثير سلبي على حالته النفسية والصحية. وعلى المختصين في هذه الميادين أن يحدّدوا لنا بالبحث والدراسة الموضوعيين درجة مدى إرهاق التونسي المتعامل بازدياد مع عينات تونسية " برّانية".
*عالم الاجتماع
بقلم: الأستاذ الدكتور محمود الذوادي
مفهوم الشخصية التونسية المستنفرة
يصف مفهومنا هذا علاقة المواطن التونسي- في قمة وقاعدة المجتمع التونسي- بنظيره التونسي الذي لا يعرفه من قبل، أي "البرّاني" كمصطلح في هذا المقال. ففي تفاعله الاجتماعي اليومي يظهر التونسي إزاء التونسي "البرّاني" قدرا من السلوك الحذر وحالة من عدم الارتياح والتوجس والخوف، الأمر الذي يؤدي إلى نوع من التوتر الخفي والظاهر بينهما. ومن هنا جاء وصفنا للتونسي بأنه ذو شخصية مستنفِرة (من النفور) في احتكاكه بالتونسي "البرّاني" أو "الآخر". وهذا يعني أن الشخصية التونسية المستنفرة ينقصها الكثير من التعاطف والرغبة في التعرف على التونسي " البرّاني" ، ومـن ثم ينقص هاجس احترامه والرغبة في خدمته. يُنتظر من التفاعلات الاجتماعية التونسية التي تغلب عليها هذه السمة من عدم الارتياح مع التونسي "الآخر"/"البرّاني" أن تقود ، من ناحية ، إلى كثير من التوتر في الاحتكاكات الاجتماعية بين التونسيين والتونسيات والتي طالما تقترن، من ناحية أخرى، بالعنف اللفظي وكثرة السفاهة (الكلام الجنسي البذيء واللعن وسب اسم الجلالة عند الرجال) والدعا (الدعا على ) واللعن عند النساء ، وبالعنف الجسدي بين الذكور على الخصوص في العديد من التفاعلات الاجتماعية بالمجتمع التونسي. كما أنه يمكن القول بأن كثرة ميل التونسيين الذكور إلى الاعتداء وتكسير وتهشيم الأملاك العامة هو عنف ضدّ أملاك "الآخرين": "البّرانيين" (الِبليك).
غياب المفاهيم عند الباحثين
يساعد مفهومُ الشخصية التونسية المستنفرة كثيرا على فهم وتفسير مثل تلك السلوكيات التونسية ، ومنه يسمح بفضل ما فيه من رؤى لعلميْ النفس والاجتماع أن يطرح استراتيجيات للتعامل والتحكم في تلك السلوكيات المشينة والمتفشية في المجتمع التونسي. إن نحت المفاهيم أمر مطلوب للغاية في البحث العلمي الأصيل الذي قد يؤدي إلى اكتشاف حتى النظريات. مع الأسف، فعلماء الاجتماع التونسيون لم ينجحوا في إنتاج مفاهيم مستلّة من التربة الاجتماعية التونسية. مثلا، فكتاب عالم الاجتماع المرحوم منصف وناس حول الشخصية التونسية خال من المفاهيم العلمية ومقتصر على وصف بعض معالمها، والفرق كبير بين الاثنين إذ المفهوم أداة تفسير للسلوكيات والوصف هو مجرد وصف للسلوكيات لا يحمل تفسيرا لها.
تفشي العنف اللفظي والجسمي بين التونسيين
إن الأمثلة على السلوكيات العنيفة والعدوانية من واقع المجتمع التونسي اليومي عديدة ومتنوعة. فمعروف عن التونسي سرعة لجوئه وحتى لأبسط وأتفه الأشياء أحيانا إلى العنف اللفظي والجسمي إزاء التونسي الآخر. فخطاب الشتم والسب و"السفاهة" عند التونسي الذكر أمر مشهور ببذاءته وكثرة تداوله أثناء التفاعلات الاجتماعية. فمَنْ من التونسيين لم يشاهد أو لم يتبادل التراشق اللفظي البذيء في حياته خاصة مع التونسي الآخر؟
أما المرأة التونسية فتساهم هي الأخرى بنصيبها في ظاهرة التراشق بعبارات السب والشتم مع التونسيات والتونسيين "البرانين" وحتى الأقرباء ويغلب على الخطاب الأنثوي اللجوء إلى عبارات "الدعا" المتفشية أكثر عند معشر النساء.
أما ممارسة العنف مع التونسي البراني وغيره تعنيفا جسميا فهي ظاهرة تنتشر أساسا في عالم الذكور. فتفشي "العرك" بين التونسيين أصبح موضوعا للنكت عند التونسيين. فهذا طالب تونسي قضى سنوات عديدة في الخارج حيث يبدو أنه لم يشاهد "عركة" واحدة في الشوارع. وما أن وطأت أقدامُه مطار تونس قرطاج حتى رأى لتوه "عركة" حية بين التونسيين على أرض المطار. إن معظم التونسيين الذين قضوا وقتا خارج أرض الوطن يتفقون على أن ظاهرة "العرك" ظاهرة يتميز بها المجتمع التونسي ، وهي ظاهرة ذات علاقة قوية بظاهرة انفراد المجتمع التونسي بظاهرة طوفان خطاب الكلام البذيء كما تحدث عن ذلك بيرم التونسي وكما نشرح في كتابنا كيف أن الكلام التونسي العنيف/البذيء (غير اللطيف) يهيئ التونسيين نفسيا للعنف الجسدي والمادي .
غياب الفهم والتفسير للظاهرة
يتحدث التونسيون والتونسيات كثيرا عن سلوكيات سيئة لهؤلاء نحو بعضهم البعض تتلخص أحيانا في قولهم " التونسيون والتونسيات لا يحبون بعضهم البعض". وبعبارة أخرى، فهؤلاء فاقدون لثقافة التعاطف والتقدير والاحترام للآخرين من مواطني مجتمعهم. فقد وصفت الكاتبة حياة السايب في جريدة الصباح 28/07/24 موقف هؤلاء المواطنين إزاء بعضهم البعض : " ولكننا نتحدث عن ثقافة نفتقر إليها كثيرا وهي ثقافة الاحترام وتقدير الجهود والاعتراف للناس. بل على العكس، وكما هو واضح فإن ثقافتنا تقوم على التنمر والتطاول ص 8". ومع الأسف فلا حياة السايب ولا وسائل الإعلام التونسية التي تتحدث عن تلك الظاهرة تعطي تفسيرا لها كما يفعل مفهومنا المطروح هنا.
الشخصيات القاعدية والتسيير الإداري.
يتحدث التونسيون والتونسيات كثيرا عن المعاملات الطيبة التي تلقوها أو يتلقونها في الإدارات الأجنبية داخل الجمهورية أو خارجها من طرف الأجانب. وفي المقابل يطنبون في شكواهم من المعاملات السيئة وغير الحضرية التي تعرضوا أو يتعرضون لها في الإدارات التونسية من طرف التونسيات والتونسيين. وقد يسرع البعض فيقولون إن ذلك يعود إلى تطور وتقدّم إمكانيات الأجانب المادية والتقنية والتنظيمية، من جهة، وتأخر تلك الوسائل في الإدارة التونسية، من جهة ثانية. وبالتأكيد فإن توفر تلك الإمكانيات ليست وحدها في النهاية هي الحاسمة في نجاح تسيير الهياكل الإدارية. ففي إدارات المجتمعات المتقدمة يوجد إنسان ذو شخصية أساسية تختلف عما نجده عند الإداري التونسي، فالإداري الأمريكي مثلا طالما يستقبل الحرفاء بابتسامة سائلا إياهم بلطف بعبارة "هل يمكن أن أساعدك"؟ (May I help you ?) فهو إداري يمارس زمام المبادرة في خدمة الآخرين سواء كانوا من العامة أو الخاصة. أما الإدارة التونسية فمعروف عنها أن المرء قد يلقي الأمرّين في قضاء حتى بعض الأمور البسيطة. فابتسامة الإداري التونسي إلى حريفه التونسي (البرّاني) الذي لا تربطه به أية علاقة ليست بعد ظاهرة اجتماعية واسعة بالإدارات التونسية. وما يلاحظه المرء في كثير من الأحيان هو عكس الابتسامة اللطيفة : ربما يشاهد محيّى صامتا أو جبينا مقطبا... وتأتي عبارة "أش تحب" في كثير من الأحيان لتعبر بالكلمة المنطوقة بطريقة لاشعورية أن الإداري التونسي غير مرتاح في تعامله مع التونسي الآخر (البرّاني).
المشاريع المعطلة
يصف البعضُ تونس بأنها بلاد المشاريع المعطَّلة دون أن يطرحوا فرضيات أو تفسيرات لأسباب ذلك. فمفهوم الشخصية التونسية المستنفرة مؤهل لتشخيص الخفايا النفسية في طيات الشخصية التونسية التي تقف حجر عثرة أمام إنجاز المشاريع الجماعية الصغيرة والكبيرة. فالمشاريع الجماعية تتطلب تفاعلا جيدا بين الذين يديرونها، وهو ما لا تملكه الشخصية التونسية المستنفرة. ومنه، يذهب الكثيرون إلى حد القول إن تونس تنفرد بهذا الوضع مقارنة بالبلدان المجاورة.
النفور الباطني والظاهر من اللغة الوطنية
لا يقتصر نفور التونسيات والتونسيين من اللغة العربية على ضُعف استعمالها في الحديث والكتابة فقط، بل طالما يقترن ذلك بما نود تسميته بالإعاقة النفسية التي تصيب علاقتهم بلغتهم بحيث تصبح مكانة العربية لديهم ليست هي المكانة الأولى، ومنه طالما يظهرون"الحشمة" في استعمالها في الكتابة والحديث. لأنهم غير مرتاحين نفسيا في استعمالها..ومن ثم، يقترن هذا الوضع بسلوكيات فردية وجماعية تعبر على الشعور بمركب النقص إزاء استعمال العربية مما يؤدي إلى ضُعف الغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها. فتلك الإعاقة اللغوية النفسية تفسر ظاهرة غياب احتجاج الجميع على اللافتات المكتوبة بالفرنسية فقط.
ظاهرة "الدزان" بالمجتمع التونسي
من الظواهر الاجتماعية الأخرى المنتشرة في المجتمع التونسي هي ظاهرة "الدزان". فمن من التونسيات والتونسيين لم يسمع أو لم يشاهد أو لم يمارس أو لم يتعرض إلى هذه الظاهرة في الحافلات العمومية أو أثناء محاولته الحصول على مقعد في سيارة أجرة أو تاكسي ؟ لو سألنا التونسي والتونسية عن سبب تفشي ظاهرة "الدزان" في الحافلات العمومية مثلا لكانت هناك تفسيرات متنوعة للظاهرة. فمنهم من سوف يفسر ظاهرة "الدزان" بوجود الاكتظاظ المزمن في الحافلات. إن مثل هذا التفسير يبدو بسيطا وغير مقنع. وكيف يكون مقنعا والحال أن التونسيات والتونسيين يلجأون إلى "الدزان" حتى إن كانت الحافلات شاغرة أو شبه شاغرة ؟ فمفهوم الشخصية المستنفرة يساعد على تفسير هذه الظاهرة: فمعظم الركاب لا يعرفون بعضهم البعض (برانين: في حالة نفور من الركاب 'الآخرين') فيكون 'الدزان' نتيجة لذلك .
انعكاسات النفور على التونسيين ومجتمعهم
إن سمة النفور المشار إليها في الشخصية التونسية لا بد أن يكون لها آثار مباشرة على دولة المؤسسات والقانون. فعمل المؤسسات العمومية على الخصوص سوف يبقى متأثرا سلبيا باستمرار العلاقات المتوترة والمتوجسة والمستنفرة بين المواطنين والعاملين بالمؤسسات. ففي هذه الظروف سوف يكون المسؤولون بالمؤسسات أقل تحفزا ومبادرة لخدمة المواطنين ،من ناحية، كما أن هؤلاء المواطنين سوف يتحاشون ما استطاعوا التعامل مع العاملين بالمؤسسات، من ناحية أخرى. إن هذا التضارب بين طرفي المؤسسات لا يمكن إلا أن يعرقل دور المؤسسات الحاسم بالنسبة لنجاح عملية التنمية الشاملة في المجتمع.
أما بخصوص سيادة القانون فإن عقلية النفور بين المسؤولين والمواطنين سوف تجعل مبدأ احترام سلطان القانون مبدأ يصعب الالتزام به كليا. أي أن المواطنين التونسيين والمسؤولين سوف يكونون غير قادرين على وضع حد نهائي لظاهرتي "الواسطة" و"الأكتاف" لقضاء شؤونهم قبل 'الآخرين' وبأقل (أو دون) مشقة..
إن سمة النفور هذه تساعد هي الأخرى على فهم وربما تفسير ظاهرة ما أصبح يسمى اليوم "بفردانية/أنانية الإنسان التونسي". أي أن هذا الأخير لا تهمه أساسا إلا شؤونه الخاصة. فهموم الآخر هي هموم إنسان غريب عنه يصعب عليه التعاطف معه واحترامه. ويندرج في هذه الرؤية ما أصبحت تتحدث عه صحفنا أخيرا وهو "أن التونسيات والتونسيين لا يرحبون بعمل الآخرين" فهم سجناء أنفسهم غير قادرين على مد اليد للآخر المختلف عنهم. إن حياة الفرد في المجتمع التونسي تتعرض إذن إلى الكثير من التوترات أثناء تعامل الشخص مع الغرباء. ولعله ليس من المبالغة أن يكون لذلك تأثير سلبي على حالته النفسية والصحية. وعلى المختصين في هذه الميادين أن يحدّدوا لنا بالبحث والدراسة الموضوعيين درجة مدى إرهاق التونسي المتعامل بازدياد مع عينات تونسية " برّانية".