إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

في إصلاح التعليم: هل ما زال الحديث عن فكرة التعليم " خدمة اجتماعية " ممكنا؟

 

التعليم في بداية الاستقلال وسنوات بعده مصعد اجتماعي وركيزة من ركائز التحديث والتطور والتقدم

بقلم نوفل سلامة 

منطلق هذا المقال هو المشاركة في النقاش المجتمعي والحوار الذي يدور اليوم حول مشروع إصلاح التعليم الذي انطلق منذ فترة ولم ير النور ولا اكتملت معالمه وتوقف نتيجة الاختلاف الحاد حول منطلقاته وتحديد مدخلاته وكذلك الخلاف حول مخرجاته وغاياته والإجابة على سؤال ماذا نريد من هذا الإصلاح ؟ وماذا نريد من المدرسة التونسية في راهنيتها وفي ظل تحديات العالم ؟وماذا نريد من التعليم الذي نريد أن نصلحه في زمن التحولات ؟وهي أسئلة مركزية في أي إصلاح .

وعلى هذا الأساس فإننا سوف نتعرض إلى قضية كثيرا ما يتم التغافل عنها ويتم تناسيها ونحن نناقش فكرة إصلاح التعليم المرتقب وضرورة القيام بتغيير المنظومة التربوية الحالية المطبقة والتي أجمع الكل على فشلها وأنها كانت سببا رئيسيا في تراجع النتائج في السنوات الأخيرة وكانت وراء تراجع المستوى العلمي والثقافي لأجيال ثلاثة على الأقل من أبنائنا. هذه المسألة التي نحاورها ونطرحها للنقاش تنطلق من مسلمة تقول بأن التعليم باعتباره منظومة كغيرها من المنظومات التي يحتاجها المجتمع لحسن انتظامه وتحتاجها الدولة لضبط سياساتها وتنفيذ برامجها وما تنتظره من وراء السهر على تعليم أبناء الشعب وإقرار ميزانيات من المال العام ووضع برامج واستراتيجيات وخيارات تربوية وهي قضية أخرى تحتاج نقاشا آخر في علاقة التعليم بالسياسة وفكرة ارتباط المنظومة التربوية بالمنظومة السياسية وهل من الضروري أن يكون التعليم في خدمة النظام السياسي القائم وعاكس لتوجهاته أم لا؟ .. هذه المسلمة التي ننطلق منها تقول هل ما زال اليوم في عصر التحولات هذا وزمن كل شيء فيه متغير ومتحرك وفقد ثباته من الممكن أن نتحدث عن دور اجتماعي للتعليم؟ وأن نقر بأن التعليم هو في حقيقته خدمة اجتماعية على اعتبار أن التعليم هو منظومة كبقية المنظومات الأخرى الموجودة يتحتم عليها أن تكون وظيفتها خدمة المجتمع بما يعني أننا لا نضع منظومة تربوية تعليمية من أجل التعليم فقط ومن أجل ترقية مدارك الافراد واكسابهم وعيا ومكتسبات وقدرات يحتاجونها هم فقط وانما التعليم بصفته خدمة اجتماعية يجب أن يكون من أجل المجتمع وفق هدف يقع الاتفاق عليه ويعود بالنفع على الجميع وزاوية النظر هذه التي نريد أن ينتبه إليها من يتصدر إلى عملية الإصلاح لها ما يبررها في الخلاصة التي انتهت إليها السياسة التعليمية التي تم انتهاجها في تونس والتي بدأت مع الصادق باي ( 1859/1882) وتأسيس المدرسة الصادقية وخيار التعليم العصري إلى جانب التعليم الزيتوني الذي راهنت عليه الدولة في انتاج نخبة متعلمة هي في حاجة إليها وما عرفته من مشاريع اصلاح مختلفة بدءا بمشروع محمود المسعدي وانتهاء بمشروع محمد الشرفي وتواصلت هذه السياسة إلى زمن الثورة2011 قد انتهت إلى ما يوحي بعدم توافقها مع طموحات ومتطلبات وانتظارات المجتمع التونسي .

قد تعرض الكاتب التونسي عبد المجيد عطية ( 1925 / 2014) في روايته المنبتّ التي كتبت في بداية الاستقلال والدولة التونسية في طور تكونها وتشكلها العصري والمجتمع التونسي في طريقه للخروج من التخلف والبحث عن سبل للتطور إلى هذه القضية المهمة في علاقة التعليم بالمجتمع وفكرة أن يتحول التعليم إلى خدمة للمجموعة الوطنية وليس مطمحا فرديا وتناول مسألة الصراع الخفي بين رغبات الفرد من التعليم وحاجة الدولة وانتظاراتها من إشرافها وسهرها عليه وطموحات العائلة والمجتمع من وراء إرسال أبنائها إلى المدرسة .

تدور رواية المنبتّ حول بطل الرواية الشاب " حسن " الذي ينتمى إلى عائلة فقيرة من عائلات الداخل التونسي ومن وسط ريفي في إحدى قرى تونس التي ترسل أبناءها إلى المدرسة لتعلم القراءة والكتابة ولمن حالفه الحظ وتخطى المرحلة الابتدائية ثم الثانوية ونال شهادة الباكالوريا التي كانت تجرى على مرحلتين وفي سنتين .. أكمل حسن بنجاح امتحان الباكالوريا في دورته الأولى في مدرسة في العاصمة ولما رجع إلى قريته كانت الاحتفالات في انتظاره والكل فخور بما حققه وانجزه رغم قلة الموارد المالية وغياب السند العائلي وما إن حط رحله ببيت العائلة حتى بدأت الانتظارات تقدم إليه والكل يخطط عوضا عنه ودون مشورته فقد وصلته رسالة من وزارة التربية تعلمه فيها بتسميته معلما بمدرسة ابتدائية بالعاصمة وهو لم يكمل بعد المرحلة الثانية من الباكالوريا وصارحته أمه أنها تريده معلما في قريتها وتتمنى لو سمي معلما في البلدة أو بمركز قريب منها وبدأ الصراع بين طموحات الشاب ورغبات الدولة وتطلعات المجتمع وقال في نفسه ما أبعد رغبتي عن رغبة أمي ورغبة الدولة فلكل منا أمانيه ولكن لا يهم ما دمت من المحكوم عليهم حيث كان الشاب يطمح لأن يواصل تعليمه الجامعي وينتقل إلى باريس للتخصص في الفلسفة.

بهذا الحوار الذي دار داخل نفس الشاب ولم يخرجه للعلن ليصبح حوارا مجتمعيا لخص عبد المجيد عطية انتظارات المجتمع من التعليم وأهداف الدولة من العملية التعليمية وفي المقابل ما يطلبه شباب تونس المتعلم في تلك المرحلة وكل مرحلة فالعائلة تنظر إلى التعليم مصعدا اجتماعيا وطريقا لتحسين وضعها المادي والارتقاء في السلم الاجتماعي والاقتراب من الطبقات الاجتماعية المحظوظة فالعائلة كانت تفخر بأن يكون لها إبن متعلم ويشتغل مدرسا في القرية أو البلدة والدولة كانت ترى أنها في حاجة لكل فرد متعلم متفوق وحائز على شهادة علمية لتشغيله في مؤسساتها التي تحتاج إلى النخبة المتعلمة في عملية تونسة الإدارة فالتعليم بالنسبة للدولة كان مرتبطا بالتشغيل ومن أجل بلوغ مشروع النهضة والتقدم وتحقيق الحداثة والعصرنة بأبنائها هي فقط .

القضية التي طرحها عبد المجيد عطية في روايته "المنبت" أن كلا من الدولة والمجتمع كان ينظر للتعليم " خدمة اجتماعية " وفي صالح المجتمع فبناء المدارس ووضع البرامج والخيارات التعليمية وتشجيع العائلات على إرسال أبنائها إلى المدرسة كانت من وراء فكرة جوهرية وهي أن التعليم لا بد أن يكون مرتبطا بالمجتمع وفي خدمة المجتمع الذي لا يمكن أن يتطور وينهض ويتغير وتتحسن حاله إلا من خلال أفراد متعلمين وهذا ما جعل التعليم في بداية الاستقلال وسنوات ما بعده مصعدا اجتماعيا وركيزة من ركائز التحديث والتطور والتقدم فالشباب المتعلم في تلك الفترة كانت اختياراتهم مبرمجة مسبقا في سياق أن الدولة تريد أن تنهض بأبنائها وتنهض بهم وهذا ما جعل التعليم في بداية الاستقلال قائما على فكرة ارتباط التفوق والنجاح بالوظيف والتشغيل لكن هذه الفكرة وهذا المطمح والذي عبر عنه المجتمع وعبرت عنه الدولة عرف تحولا في أواخر السبعينات وحتى قبل ذلك بقليل بعد أن بدأت محاولات أولى لفك هذا الارتباط بين التعليم وفكرة أن يكون خدمة لصالح المجتمع. يقول حسن بطل رواية المنبت : " لقد أجبروني أن اختار طريقا عبر نافذة لقد دفعتني الضرورة المالية إلى أن أقضي على نفسي ، لقد صدق أستاذنا الذي ينعتنا بالمحكوم عليهم نعم إنني محكوم عليه أن ابقى معلم صبيان .."

اليوم تنقضي سنوات كثيرة على كتابة رواية "المنبت" التي نقل فيها عبد المجيد عطية الفكرة التي كانت تحملها الدولة عن التعليم بصفته خدمة اجتماعية تحتاج إليها للتطور والفكرة التي كانت عند المجتمع والعائلة بصفته مصعدا اجتماعيا وطريقا للحصول على وظيفة في مؤسسات الدولة وفي القطاع الحكومي وعودتنا إليها في محاولة لإحياء هذه الفكرة المهمة التي غابت اليوم ولا نجد لها مكانا في مشروع الإصلاح واستعادة التفكير في فكرة أن يكون التعليم في المقام الأول خدمة اجتماعية وفي صالح المجموعة الوطنية التي انفقت من مالها في سبيل أن يكون لها تعليم مثمر يعود عليها بالنفع ويحقق لها الإفادة والارتقاء قبل ان يكون مطلبا خاصا ورغبة ذاتية تهم الفرد وحده من دون ربط التعليم بالمسألة الحضارية الكبرى وهي تحقيق الريادة والتفوق الحضاري أي أن يكون التعليم مرتبطا بهدف كبير وهو العودة إلى السباق الحضاري والتنافس العلمي وتحقيق الازدهار للبلاد إلى جانب تمكين الأفراد من كسب المال والنظر إلى التعليم مسألة مادية صرفة من دون ربطها بحاجيات البلاد وطموحات المجتمع وآماله من وراء اصلاح التعليم.

 

 

 

في إصلاح التعليم:  هل ما زال الحديث عن فكرة التعليم " خدمة اجتماعية " ممكنا؟

 

التعليم في بداية الاستقلال وسنوات بعده مصعد اجتماعي وركيزة من ركائز التحديث والتطور والتقدم

بقلم نوفل سلامة 

منطلق هذا المقال هو المشاركة في النقاش المجتمعي والحوار الذي يدور اليوم حول مشروع إصلاح التعليم الذي انطلق منذ فترة ولم ير النور ولا اكتملت معالمه وتوقف نتيجة الاختلاف الحاد حول منطلقاته وتحديد مدخلاته وكذلك الخلاف حول مخرجاته وغاياته والإجابة على سؤال ماذا نريد من هذا الإصلاح ؟ وماذا نريد من المدرسة التونسية في راهنيتها وفي ظل تحديات العالم ؟وماذا نريد من التعليم الذي نريد أن نصلحه في زمن التحولات ؟وهي أسئلة مركزية في أي إصلاح .

وعلى هذا الأساس فإننا سوف نتعرض إلى قضية كثيرا ما يتم التغافل عنها ويتم تناسيها ونحن نناقش فكرة إصلاح التعليم المرتقب وضرورة القيام بتغيير المنظومة التربوية الحالية المطبقة والتي أجمع الكل على فشلها وأنها كانت سببا رئيسيا في تراجع النتائج في السنوات الأخيرة وكانت وراء تراجع المستوى العلمي والثقافي لأجيال ثلاثة على الأقل من أبنائنا. هذه المسألة التي نحاورها ونطرحها للنقاش تنطلق من مسلمة تقول بأن التعليم باعتباره منظومة كغيرها من المنظومات التي يحتاجها المجتمع لحسن انتظامه وتحتاجها الدولة لضبط سياساتها وتنفيذ برامجها وما تنتظره من وراء السهر على تعليم أبناء الشعب وإقرار ميزانيات من المال العام ووضع برامج واستراتيجيات وخيارات تربوية وهي قضية أخرى تحتاج نقاشا آخر في علاقة التعليم بالسياسة وفكرة ارتباط المنظومة التربوية بالمنظومة السياسية وهل من الضروري أن يكون التعليم في خدمة النظام السياسي القائم وعاكس لتوجهاته أم لا؟ .. هذه المسلمة التي ننطلق منها تقول هل ما زال اليوم في عصر التحولات هذا وزمن كل شيء فيه متغير ومتحرك وفقد ثباته من الممكن أن نتحدث عن دور اجتماعي للتعليم؟ وأن نقر بأن التعليم هو في حقيقته خدمة اجتماعية على اعتبار أن التعليم هو منظومة كبقية المنظومات الأخرى الموجودة يتحتم عليها أن تكون وظيفتها خدمة المجتمع بما يعني أننا لا نضع منظومة تربوية تعليمية من أجل التعليم فقط ومن أجل ترقية مدارك الافراد واكسابهم وعيا ومكتسبات وقدرات يحتاجونها هم فقط وانما التعليم بصفته خدمة اجتماعية يجب أن يكون من أجل المجتمع وفق هدف يقع الاتفاق عليه ويعود بالنفع على الجميع وزاوية النظر هذه التي نريد أن ينتبه إليها من يتصدر إلى عملية الإصلاح لها ما يبررها في الخلاصة التي انتهت إليها السياسة التعليمية التي تم انتهاجها في تونس والتي بدأت مع الصادق باي ( 1859/1882) وتأسيس المدرسة الصادقية وخيار التعليم العصري إلى جانب التعليم الزيتوني الذي راهنت عليه الدولة في انتاج نخبة متعلمة هي في حاجة إليها وما عرفته من مشاريع اصلاح مختلفة بدءا بمشروع محمود المسعدي وانتهاء بمشروع محمد الشرفي وتواصلت هذه السياسة إلى زمن الثورة2011 قد انتهت إلى ما يوحي بعدم توافقها مع طموحات ومتطلبات وانتظارات المجتمع التونسي .

قد تعرض الكاتب التونسي عبد المجيد عطية ( 1925 / 2014) في روايته المنبتّ التي كتبت في بداية الاستقلال والدولة التونسية في طور تكونها وتشكلها العصري والمجتمع التونسي في طريقه للخروج من التخلف والبحث عن سبل للتطور إلى هذه القضية المهمة في علاقة التعليم بالمجتمع وفكرة أن يتحول التعليم إلى خدمة للمجموعة الوطنية وليس مطمحا فرديا وتناول مسألة الصراع الخفي بين رغبات الفرد من التعليم وحاجة الدولة وانتظاراتها من إشرافها وسهرها عليه وطموحات العائلة والمجتمع من وراء إرسال أبنائها إلى المدرسة .

تدور رواية المنبتّ حول بطل الرواية الشاب " حسن " الذي ينتمى إلى عائلة فقيرة من عائلات الداخل التونسي ومن وسط ريفي في إحدى قرى تونس التي ترسل أبناءها إلى المدرسة لتعلم القراءة والكتابة ولمن حالفه الحظ وتخطى المرحلة الابتدائية ثم الثانوية ونال شهادة الباكالوريا التي كانت تجرى على مرحلتين وفي سنتين .. أكمل حسن بنجاح امتحان الباكالوريا في دورته الأولى في مدرسة في العاصمة ولما رجع إلى قريته كانت الاحتفالات في انتظاره والكل فخور بما حققه وانجزه رغم قلة الموارد المالية وغياب السند العائلي وما إن حط رحله ببيت العائلة حتى بدأت الانتظارات تقدم إليه والكل يخطط عوضا عنه ودون مشورته فقد وصلته رسالة من وزارة التربية تعلمه فيها بتسميته معلما بمدرسة ابتدائية بالعاصمة وهو لم يكمل بعد المرحلة الثانية من الباكالوريا وصارحته أمه أنها تريده معلما في قريتها وتتمنى لو سمي معلما في البلدة أو بمركز قريب منها وبدأ الصراع بين طموحات الشاب ورغبات الدولة وتطلعات المجتمع وقال في نفسه ما أبعد رغبتي عن رغبة أمي ورغبة الدولة فلكل منا أمانيه ولكن لا يهم ما دمت من المحكوم عليهم حيث كان الشاب يطمح لأن يواصل تعليمه الجامعي وينتقل إلى باريس للتخصص في الفلسفة.

بهذا الحوار الذي دار داخل نفس الشاب ولم يخرجه للعلن ليصبح حوارا مجتمعيا لخص عبد المجيد عطية انتظارات المجتمع من التعليم وأهداف الدولة من العملية التعليمية وفي المقابل ما يطلبه شباب تونس المتعلم في تلك المرحلة وكل مرحلة فالعائلة تنظر إلى التعليم مصعدا اجتماعيا وطريقا لتحسين وضعها المادي والارتقاء في السلم الاجتماعي والاقتراب من الطبقات الاجتماعية المحظوظة فالعائلة كانت تفخر بأن يكون لها إبن متعلم ويشتغل مدرسا في القرية أو البلدة والدولة كانت ترى أنها في حاجة لكل فرد متعلم متفوق وحائز على شهادة علمية لتشغيله في مؤسساتها التي تحتاج إلى النخبة المتعلمة في عملية تونسة الإدارة فالتعليم بالنسبة للدولة كان مرتبطا بالتشغيل ومن أجل بلوغ مشروع النهضة والتقدم وتحقيق الحداثة والعصرنة بأبنائها هي فقط .

القضية التي طرحها عبد المجيد عطية في روايته "المنبت" أن كلا من الدولة والمجتمع كان ينظر للتعليم " خدمة اجتماعية " وفي صالح المجتمع فبناء المدارس ووضع البرامج والخيارات التعليمية وتشجيع العائلات على إرسال أبنائها إلى المدرسة كانت من وراء فكرة جوهرية وهي أن التعليم لا بد أن يكون مرتبطا بالمجتمع وفي خدمة المجتمع الذي لا يمكن أن يتطور وينهض ويتغير وتتحسن حاله إلا من خلال أفراد متعلمين وهذا ما جعل التعليم في بداية الاستقلال وسنوات ما بعده مصعدا اجتماعيا وركيزة من ركائز التحديث والتطور والتقدم فالشباب المتعلم في تلك الفترة كانت اختياراتهم مبرمجة مسبقا في سياق أن الدولة تريد أن تنهض بأبنائها وتنهض بهم وهذا ما جعل التعليم في بداية الاستقلال قائما على فكرة ارتباط التفوق والنجاح بالوظيف والتشغيل لكن هذه الفكرة وهذا المطمح والذي عبر عنه المجتمع وعبرت عنه الدولة عرف تحولا في أواخر السبعينات وحتى قبل ذلك بقليل بعد أن بدأت محاولات أولى لفك هذا الارتباط بين التعليم وفكرة أن يكون خدمة لصالح المجتمع. يقول حسن بطل رواية المنبت : " لقد أجبروني أن اختار طريقا عبر نافذة لقد دفعتني الضرورة المالية إلى أن أقضي على نفسي ، لقد صدق أستاذنا الذي ينعتنا بالمحكوم عليهم نعم إنني محكوم عليه أن ابقى معلم صبيان .."

اليوم تنقضي سنوات كثيرة على كتابة رواية "المنبت" التي نقل فيها عبد المجيد عطية الفكرة التي كانت تحملها الدولة عن التعليم بصفته خدمة اجتماعية تحتاج إليها للتطور والفكرة التي كانت عند المجتمع والعائلة بصفته مصعدا اجتماعيا وطريقا للحصول على وظيفة في مؤسسات الدولة وفي القطاع الحكومي وعودتنا إليها في محاولة لإحياء هذه الفكرة المهمة التي غابت اليوم ولا نجد لها مكانا في مشروع الإصلاح واستعادة التفكير في فكرة أن يكون التعليم في المقام الأول خدمة اجتماعية وفي صالح المجموعة الوطنية التي انفقت من مالها في سبيل أن يكون لها تعليم مثمر يعود عليها بالنفع ويحقق لها الإفادة والارتقاء قبل ان يكون مطلبا خاصا ورغبة ذاتية تهم الفرد وحده من دون ربط التعليم بالمسألة الحضارية الكبرى وهي تحقيق الريادة والتفوق الحضاري أي أن يكون التعليم مرتبطا بهدف كبير وهو العودة إلى السباق الحضاري والتنافس العلمي وتحقيق الازدهار للبلاد إلى جانب تمكين الأفراد من كسب المال والنظر إلى التعليم مسألة مادية صرفة من دون ربطها بحاجيات البلاد وطموحات المجتمع وآماله من وراء اصلاح التعليم.