إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

أي منوال تنموي مستقبلي لتونس؟

النوايا لا تكفي لكسب التحديات المستقبلية المطروحة

بقلم الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة

منذ استقلالها عام 1956،اعتمدت تونس على خيارات منوال تنموي متعدد الأوجه تتجدد توجهاته المركزية بكل واقعية ومرونة ، مع كل عشرية من الزمن، ومع ما تأتي به الساحة الداخلية أو الخارجية من تغير التوجهات الإيديولوجية بين اليمين واليسار والرأسمالية أو الاشتراكية، والاشتراكية الديمقراطية الاسكندينافية أو الرأسمالية المتوحشة أخيرا.

ولم تكن تونس بمنأى عن هذه التجارب العالمية التي تصبح في كثير من الحالات موضة الفترة في الخيارات الاقتصادية للدول، حيث يختلط فيها الأيديولوجي بالواقع واكراهاته في كل بلدان المعمورة في أوروبا وأمريكا وأسيا وإفريقيا.

وهكذا خاضت تونس تجربة الاشتراكية التعاضدية مع بدايات استقلالها حيث قامت الدولة بتأميم وسائل الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري بعد أن استرجعت الأراضي من المعمرين الفرنسيين إثر اتفاقية الجلاء الزراعي في 12 ماي 1964، ثماني سنوات بعد الاستقلال التام وهو مايؤكد حنكة وواقعية الزعيم الحبيب بورقيبة الذي لم يبادر مباشرة إلى طرد المعمرين وتأميم الضيعات الفلاحية، مما تسبب في مجاعات كبرى في عدة دول مشابهة حديثة الاستقلال. وطبقت خلال العشرية الاولي للاستقلال سياسة تخطيط مركزية اشتراكية خالصة جعلت كل أدوات الإنتاج بيد الدولة. وتكمنت عبر تلك السياسة من أن توجه دفة الاقتصاد الوطني الى القطاعات الإنتاجية العصرية، وأن تقضي على رواسب عصور الانحطاط المتبوعة بعصر الاستعمار الفرنسي .

وفي إطار ذلك تمكنت الدولة الفتية بقيادة الوزير القوي أحمد بن صالح من تركيز نواة صناعة وطنية لازالت أثارها الإنتاجية باقية إلى اليوم في الاقتصاد الوطني وهي مؤسسات ومعامل مثل شركة تصنيع السيارات ومركب البتروكمياويات ومعمل الصلب ومعمل صناعة الحليب ومعمل الرفاهة للصناعات المنزلية ومعمل السكر بباجة ومعمل الورق بالقصرين وغيرها.

ورغم تطبيقها سياسة اشتراكية خالصة، فقد كان التعاون المالي والاستثماري كبيرا بين تونس والبنك الدولي ذي التوجهات الرأسمالية الغربية الذي مول الكثير من مشاريع البنية التحتية لتونس.

ولكن السياسة التعاضدية المفرطة في المركزية والمسقطة من السلطة صاحبها فشل ذريع في توفير مقومات الحياة الكريمة للسكان مما أدى إلى فشل الخيار الاشتراكي الذي زاد في فشله نفور المواطنين من التجربة الاشتراكية العمودية، وقد تعودوا على الملكية والمبادرة الخاصة، إضافة إلى تزامن خمس سنوات من الجفاف والقحط الموسمي قضت على كل أمل في استئناف النمو. وقرر بورقيبة إنهاء التجربة وإقالة أحمد بن صالح وتعويضه بالهادي نويرة المعروف بتوجهه الليبرالي الذي طبقه منذ البداية بكل مرونة وواقعية وأثمر منذ السنوات الأولى لعشريّته السبعينية نتائج إيجابية على مستوى استرجاع النمو وتدفق الاستثمارات الخارجية بفضل قانون أفريل 1972 لحفز الاستثمار الخارجي وبعث المعامل التصديرية ودفع التشغيل، مما كان له أبلغ الأثر على الإنتاج والنمو وخلق الثروة. وقد حقق نويرة نتائج اقتصادية باهرة خلال عشرية السبعينات التي حكم فيها ووصلت فيها نسبة النمو رقمين أي أكثر من عشرة بالمائة، مما جعل الصحافة الغربية والفرنسية بالخصوص تقول أن تونس حققت "معجزة اقتصادية"مقارنة بجيرانها وذلك بفضل تكامل أداء ثلاثية القطاع العمومي والقطاعين المشترك والخاص .ولكن الطفرة الاقتصادية صاحبتها أزمات سياسية واجتماعية بسبب الصراع داخل السلطة على خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة إضافة إلى مطالب الانفتاح السياسي ووضع حد لسياسة الحزب الواحد وإقرار التعددية. وكانت مرتبطة خارجيا بزوال أخر الأنظمة السلطوية والاستبدادية في أوروبا الغربية وهي اليونان والبرتغال اللتين التحقتا بسائر البلدان الأوروبية الديمقراطية. وقد استجاب بورقيبة إلى تلك الضغوط الداخلية والخارجية فأعلن التعددية السياسية والحزبية وعين محمد مزالي رئيسا للحكومة خلفا للهادي نويرة.

وخلال عشرية حكم مزالي المتزامن مع أزمات داخلية واستفحال الصراع على خلافة بورقيبة الهرم،إلى جانب أزمات ونزاعات متجددة مع الجارة ليبيا ومع الجزائر. كما طبق سياسة شعبوية بزيادات كبيرة في الأجور وصلت حد مضاعفتها، وكانت أكبر من طاقة استحمال الاقتصاد، مما كان له تأثير سلبي على الاقتصاد الذي سقط في هوة الركود والتداين الخارجي المفرط حد الإفلاس، مما جعل صندوق النقد الدولي يفرض عليها برنامج إصلاح هيكلي صارم ظلت تداعياته على التوازنات المالية مستمرة حتى عشرية التسعينات اللاحقة .

وبمجيء الرئيس الثاني للجمهورية زين العابدين بن علي،عادت البلاد الى نموذج الهادي نويرة في الحكم والتصرف الاقتصادي بمنوال اقتصادي ليبرالي مع جرعة استقرار اجتماعي، سمحت على مدة عشريتي حكم بن علي، باستئناف النمو وحفز التشغيل وتوسيع علاقات الشراكة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي وتحسين العلاقات السياسية والمبادلات مع الجارتين ليبيا والجزائر الغارقتين وقتها في الحصار الدولي بالنسبة لليبيا بسبب الإرهاب وفي بؤرة الإرهاب الدموي للجماعات المسلحة في العشرية السوداء بالنسبة للجزائر. وقد حققت تونس خلال تلك العشريتين نتائج باهرة بتسجيل نسبة نمو قاربت الخمسة بالمائة من 1990 إلى 2006، وهي نسبة قريبة من البلدان الصاعدة في جنوب شرقي أسيا والملقبة بالنمور. وكانت تلك النتائج المميزة أحد أسباب توقيع اتفاقية الشراكة والتعان مع الاتحاد الأوروبي عام 1995 ، وهو الأول من نوعه الذي توقعه بروكسال مع بلد من الحوض الجنوبي للمتوسط. وكانت الغاية منه إعطاء دفع مالي واقتصادي وسياسي لهذا البلد العربي الإسلامي النموذجي الذي يستعد لبناء اقتصاد صلب وعصري وحياة سياسية متطورة تقوم على الديمقراطية والتعددية والتناوب السلمي على السلطة واحترام الحريات وحقوق الانسان وضمان حرية التعبير، وهو ماتضمنه اتفاق الشراكة الذي نص على اصلاحات سياسية واعلامية وقضائية على المدى المتوسط لم يقع تنفيذها. وستحاول أوروبا وأمريكا تطبيق ذلك بالحديد والنار الباردة من خلال سياسة الانتقال الديمقراطي التي دشنها الغرب في جانفي 2011 بعد اسقاط بن علي كمرحلة اولى لنشر الديمقراطية في العالم العربي تلاها إسقاط الأنظمة الوطنية التي كانت تقارع الاستعمار وإرادة الهيمنة الغربية وهي كل من ليبيا القذافي وسوريا الأسد ولبنان نصرالله ويمن عبد الله صالح ومصر مبارك. ولكن تلك الثورات للربيع العربي التي اطلق عليها بعض المحللين "ثورات الربيع العِبْرِي" كانت فيها إسرائيل هي المنتصرة الأولى سياسيا وعسكريا واقتصاديا في تلك الثورات التي كان شعارها التدميري هو " الشعب يريد اسقاط النظام" .وقد دمرت بالفعل تلك الثورات وفكّكت منظومات الحكم القديمة القائمة على السلطوية والاستبداد، دون أن يقع تعويضها بأنظمة سياسية ديمقراطية فعلا واقتصادية قائمة على منوال تنمية واضح. وتردت تونس على غرار باقي الدول العربية خلال العشرية الماضية في أتون الأزمات الاقتصادية ومضت دون منوال تنموي واضح ليس له من خطة سوى التعويل على التداين الخارجي المفرط الذي كان يجد الترحاب لدى المؤسسات الإقراضية الدولية المستقرة في نيويورك التي كانت تشجع مسار الانتقال الديمقراطي الوليد بضخ القروض السخية والمساعدات دون حساب. وكانت أيضا ترى في الحكومات العشر المتواترة خلال العشرية الماضية يدا منفذة لمطالب الغرب مقابل ركود في الإنتاج وتراجع كل مؤشرات النمو.

تقاليد المنوال التنموي التونسي

لقد ظلت تونس تعمل منذ الاستقلال بحكوماتها وأنظمتها السياسية المتواترة والمتراوحة بين الاشتراكية والرأسمالية ، حسب منوال تنموي يقوم على التخطيط وعلى التوفيق بين المجهود التمويلي الذاتي والتمويل الأجنبي المتفاوض عليه نقطة بنقطة تحترم فيه المصالح الوطنية الحيوية. ولكن هذا الخيار الاستراتيجي لتمويل التنمية الذي ضمن تراكم إنجازات التنمية كل عشرية، وقع خرقه خلال العشرية الماضية التي عمدت فيها الحكومات الانتقالية العشر العجاف على الاقتراض الزبوني من الخارج دون أن تنتفع به ماكينة الإنتاج المتعطلة، وذهبت أمواله وقروضه وهباته في تمويل ارتفاع كتلة الأجور ومضاعفة عدد الموظفين وتفشي البيروقراطية والفساد الذي أصبح هيكليا دون أي انتاج. وهكذا التهمت السنوات "العِجاف" للعشرية الأخيرة كل رصيد إنتاج السنوات "السِّمان" للعشريات السابقة، كما كتب أحد المعلقين الصحفيين. وكان من نتائج ذلك أن نسبة النمو خلال العشرية الأخيرة لم تتجاوز الواحد بالمائة وكانت في بعض السنوات أقل من صفر سلبي، في حين تراجعت فرص جلب الاستثمار إلى 12 بالمائة وهي أضعف نسبة في المجال طوال عشريات الاستقلال الستة، إضافة إلى عجز مزمن في الميزانية بسبعة بالمائة وارتفاع وتضاعف نسبة التداين العمومي إلى ثمانين بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي بعد أن كان لايزيد عن أربعين بالمائة عام 2010.

وفي نظر الخبراء والأخصائيين، لن يتم اليوم وغدا الخروج من عنق الزجاجة المالية والتنموية بالإعراض المبدئي عن الاقتراض الخارجي المُعَقْلن سواء من صندوق النقد الدولي أو غيره من المؤسسات الاقراضية الإقليمية أو الدولية أو من خلال التعويل أساسا على الإمكانيات المالية الذاتية التي هي في نهاية الأمر محدودة وغير قادرة البتة على تمويل تجديد بنية تحتية وإنتاجية مهترئة في كل مجالات الاقتصاد، لم تعرف الصيانة والتجديد طوال العشرية الماضية .

ويشير هؤلاء إلى أن الاقتصاد التونسي كان دوما مفتوحا وتعود ضمن منواله التقليدي المرن على المصادر الخارجية لتمويل جانب هام من ميزانيته ومجهوده التنموي لتوفير الشغل والرخاء وتأمين جودة الحياة للمواطنين. وهو أمر أصبح صعب المنال كما يشاهد في تردي الخدمات في كل القطاعات، التي أضحت مع تراكم التردي تتطلب "مال قارون"لتصحيح أوضاعها وتصبح قادرة على التنافسية في محيط إقليمي ودولي يستعد لرفع تحديات مجتمع المعرفة والذكاء الاصطناعي .

ورغم توفر النوايا الوطنية الصادقة لدى الكثير من الفاعلين، فالنوايا لاتكفي لكسب التحديات المستقبلية المطروحة على الساحتين الداخلية والخارجية، كما يؤكد جميع هؤلاء .

 

 

 

 

 

أي منوال تنموي مستقبلي لتونس؟

النوايا لا تكفي لكسب التحديات المستقبلية المطروحة

بقلم الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة

منذ استقلالها عام 1956،اعتمدت تونس على خيارات منوال تنموي متعدد الأوجه تتجدد توجهاته المركزية بكل واقعية ومرونة ، مع كل عشرية من الزمن، ومع ما تأتي به الساحة الداخلية أو الخارجية من تغير التوجهات الإيديولوجية بين اليمين واليسار والرأسمالية أو الاشتراكية، والاشتراكية الديمقراطية الاسكندينافية أو الرأسمالية المتوحشة أخيرا.

ولم تكن تونس بمنأى عن هذه التجارب العالمية التي تصبح في كثير من الحالات موضة الفترة في الخيارات الاقتصادية للدول، حيث يختلط فيها الأيديولوجي بالواقع واكراهاته في كل بلدان المعمورة في أوروبا وأمريكا وأسيا وإفريقيا.

وهكذا خاضت تونس تجربة الاشتراكية التعاضدية مع بدايات استقلالها حيث قامت الدولة بتأميم وسائل الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري بعد أن استرجعت الأراضي من المعمرين الفرنسيين إثر اتفاقية الجلاء الزراعي في 12 ماي 1964، ثماني سنوات بعد الاستقلال التام وهو مايؤكد حنكة وواقعية الزعيم الحبيب بورقيبة الذي لم يبادر مباشرة إلى طرد المعمرين وتأميم الضيعات الفلاحية، مما تسبب في مجاعات كبرى في عدة دول مشابهة حديثة الاستقلال. وطبقت خلال العشرية الاولي للاستقلال سياسة تخطيط مركزية اشتراكية خالصة جعلت كل أدوات الإنتاج بيد الدولة. وتكمنت عبر تلك السياسة من أن توجه دفة الاقتصاد الوطني الى القطاعات الإنتاجية العصرية، وأن تقضي على رواسب عصور الانحطاط المتبوعة بعصر الاستعمار الفرنسي .

وفي إطار ذلك تمكنت الدولة الفتية بقيادة الوزير القوي أحمد بن صالح من تركيز نواة صناعة وطنية لازالت أثارها الإنتاجية باقية إلى اليوم في الاقتصاد الوطني وهي مؤسسات ومعامل مثل شركة تصنيع السيارات ومركب البتروكمياويات ومعمل الصلب ومعمل صناعة الحليب ومعمل الرفاهة للصناعات المنزلية ومعمل السكر بباجة ومعمل الورق بالقصرين وغيرها.

ورغم تطبيقها سياسة اشتراكية خالصة، فقد كان التعاون المالي والاستثماري كبيرا بين تونس والبنك الدولي ذي التوجهات الرأسمالية الغربية الذي مول الكثير من مشاريع البنية التحتية لتونس.

ولكن السياسة التعاضدية المفرطة في المركزية والمسقطة من السلطة صاحبها فشل ذريع في توفير مقومات الحياة الكريمة للسكان مما أدى إلى فشل الخيار الاشتراكي الذي زاد في فشله نفور المواطنين من التجربة الاشتراكية العمودية، وقد تعودوا على الملكية والمبادرة الخاصة، إضافة إلى تزامن خمس سنوات من الجفاف والقحط الموسمي قضت على كل أمل في استئناف النمو. وقرر بورقيبة إنهاء التجربة وإقالة أحمد بن صالح وتعويضه بالهادي نويرة المعروف بتوجهه الليبرالي الذي طبقه منذ البداية بكل مرونة وواقعية وأثمر منذ السنوات الأولى لعشريّته السبعينية نتائج إيجابية على مستوى استرجاع النمو وتدفق الاستثمارات الخارجية بفضل قانون أفريل 1972 لحفز الاستثمار الخارجي وبعث المعامل التصديرية ودفع التشغيل، مما كان له أبلغ الأثر على الإنتاج والنمو وخلق الثروة. وقد حقق نويرة نتائج اقتصادية باهرة خلال عشرية السبعينات التي حكم فيها ووصلت فيها نسبة النمو رقمين أي أكثر من عشرة بالمائة، مما جعل الصحافة الغربية والفرنسية بالخصوص تقول أن تونس حققت "معجزة اقتصادية"مقارنة بجيرانها وذلك بفضل تكامل أداء ثلاثية القطاع العمومي والقطاعين المشترك والخاص .ولكن الطفرة الاقتصادية صاحبتها أزمات سياسية واجتماعية بسبب الصراع داخل السلطة على خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة إضافة إلى مطالب الانفتاح السياسي ووضع حد لسياسة الحزب الواحد وإقرار التعددية. وكانت مرتبطة خارجيا بزوال أخر الأنظمة السلطوية والاستبدادية في أوروبا الغربية وهي اليونان والبرتغال اللتين التحقتا بسائر البلدان الأوروبية الديمقراطية. وقد استجاب بورقيبة إلى تلك الضغوط الداخلية والخارجية فأعلن التعددية السياسية والحزبية وعين محمد مزالي رئيسا للحكومة خلفا للهادي نويرة.

وخلال عشرية حكم مزالي المتزامن مع أزمات داخلية واستفحال الصراع على خلافة بورقيبة الهرم،إلى جانب أزمات ونزاعات متجددة مع الجارة ليبيا ومع الجزائر. كما طبق سياسة شعبوية بزيادات كبيرة في الأجور وصلت حد مضاعفتها، وكانت أكبر من طاقة استحمال الاقتصاد، مما كان له تأثير سلبي على الاقتصاد الذي سقط في هوة الركود والتداين الخارجي المفرط حد الإفلاس، مما جعل صندوق النقد الدولي يفرض عليها برنامج إصلاح هيكلي صارم ظلت تداعياته على التوازنات المالية مستمرة حتى عشرية التسعينات اللاحقة .

وبمجيء الرئيس الثاني للجمهورية زين العابدين بن علي،عادت البلاد الى نموذج الهادي نويرة في الحكم والتصرف الاقتصادي بمنوال اقتصادي ليبرالي مع جرعة استقرار اجتماعي، سمحت على مدة عشريتي حكم بن علي، باستئناف النمو وحفز التشغيل وتوسيع علاقات الشراكة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي وتحسين العلاقات السياسية والمبادلات مع الجارتين ليبيا والجزائر الغارقتين وقتها في الحصار الدولي بالنسبة لليبيا بسبب الإرهاب وفي بؤرة الإرهاب الدموي للجماعات المسلحة في العشرية السوداء بالنسبة للجزائر. وقد حققت تونس خلال تلك العشريتين نتائج باهرة بتسجيل نسبة نمو قاربت الخمسة بالمائة من 1990 إلى 2006، وهي نسبة قريبة من البلدان الصاعدة في جنوب شرقي أسيا والملقبة بالنمور. وكانت تلك النتائج المميزة أحد أسباب توقيع اتفاقية الشراكة والتعان مع الاتحاد الأوروبي عام 1995 ، وهو الأول من نوعه الذي توقعه بروكسال مع بلد من الحوض الجنوبي للمتوسط. وكانت الغاية منه إعطاء دفع مالي واقتصادي وسياسي لهذا البلد العربي الإسلامي النموذجي الذي يستعد لبناء اقتصاد صلب وعصري وحياة سياسية متطورة تقوم على الديمقراطية والتعددية والتناوب السلمي على السلطة واحترام الحريات وحقوق الانسان وضمان حرية التعبير، وهو ماتضمنه اتفاق الشراكة الذي نص على اصلاحات سياسية واعلامية وقضائية على المدى المتوسط لم يقع تنفيذها. وستحاول أوروبا وأمريكا تطبيق ذلك بالحديد والنار الباردة من خلال سياسة الانتقال الديمقراطي التي دشنها الغرب في جانفي 2011 بعد اسقاط بن علي كمرحلة اولى لنشر الديمقراطية في العالم العربي تلاها إسقاط الأنظمة الوطنية التي كانت تقارع الاستعمار وإرادة الهيمنة الغربية وهي كل من ليبيا القذافي وسوريا الأسد ولبنان نصرالله ويمن عبد الله صالح ومصر مبارك. ولكن تلك الثورات للربيع العربي التي اطلق عليها بعض المحللين "ثورات الربيع العِبْرِي" كانت فيها إسرائيل هي المنتصرة الأولى سياسيا وعسكريا واقتصاديا في تلك الثورات التي كان شعارها التدميري هو " الشعب يريد اسقاط النظام" .وقد دمرت بالفعل تلك الثورات وفكّكت منظومات الحكم القديمة القائمة على السلطوية والاستبداد، دون أن يقع تعويضها بأنظمة سياسية ديمقراطية فعلا واقتصادية قائمة على منوال تنمية واضح. وتردت تونس على غرار باقي الدول العربية خلال العشرية الماضية في أتون الأزمات الاقتصادية ومضت دون منوال تنموي واضح ليس له من خطة سوى التعويل على التداين الخارجي المفرط الذي كان يجد الترحاب لدى المؤسسات الإقراضية الدولية المستقرة في نيويورك التي كانت تشجع مسار الانتقال الديمقراطي الوليد بضخ القروض السخية والمساعدات دون حساب. وكانت أيضا ترى في الحكومات العشر المتواترة خلال العشرية الماضية يدا منفذة لمطالب الغرب مقابل ركود في الإنتاج وتراجع كل مؤشرات النمو.

تقاليد المنوال التنموي التونسي

لقد ظلت تونس تعمل منذ الاستقلال بحكوماتها وأنظمتها السياسية المتواترة والمتراوحة بين الاشتراكية والرأسمالية ، حسب منوال تنموي يقوم على التخطيط وعلى التوفيق بين المجهود التمويلي الذاتي والتمويل الأجنبي المتفاوض عليه نقطة بنقطة تحترم فيه المصالح الوطنية الحيوية. ولكن هذا الخيار الاستراتيجي لتمويل التنمية الذي ضمن تراكم إنجازات التنمية كل عشرية، وقع خرقه خلال العشرية الماضية التي عمدت فيها الحكومات الانتقالية العشر العجاف على الاقتراض الزبوني من الخارج دون أن تنتفع به ماكينة الإنتاج المتعطلة، وذهبت أمواله وقروضه وهباته في تمويل ارتفاع كتلة الأجور ومضاعفة عدد الموظفين وتفشي البيروقراطية والفساد الذي أصبح هيكليا دون أي انتاج. وهكذا التهمت السنوات "العِجاف" للعشرية الأخيرة كل رصيد إنتاج السنوات "السِّمان" للعشريات السابقة، كما كتب أحد المعلقين الصحفيين. وكان من نتائج ذلك أن نسبة النمو خلال العشرية الأخيرة لم تتجاوز الواحد بالمائة وكانت في بعض السنوات أقل من صفر سلبي، في حين تراجعت فرص جلب الاستثمار إلى 12 بالمائة وهي أضعف نسبة في المجال طوال عشريات الاستقلال الستة، إضافة إلى عجز مزمن في الميزانية بسبعة بالمائة وارتفاع وتضاعف نسبة التداين العمومي إلى ثمانين بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي بعد أن كان لايزيد عن أربعين بالمائة عام 2010.

وفي نظر الخبراء والأخصائيين، لن يتم اليوم وغدا الخروج من عنق الزجاجة المالية والتنموية بالإعراض المبدئي عن الاقتراض الخارجي المُعَقْلن سواء من صندوق النقد الدولي أو غيره من المؤسسات الاقراضية الإقليمية أو الدولية أو من خلال التعويل أساسا على الإمكانيات المالية الذاتية التي هي في نهاية الأمر محدودة وغير قادرة البتة على تمويل تجديد بنية تحتية وإنتاجية مهترئة في كل مجالات الاقتصاد، لم تعرف الصيانة والتجديد طوال العشرية الماضية .

ويشير هؤلاء إلى أن الاقتصاد التونسي كان دوما مفتوحا وتعود ضمن منواله التقليدي المرن على المصادر الخارجية لتمويل جانب هام من ميزانيته ومجهوده التنموي لتوفير الشغل والرخاء وتأمين جودة الحياة للمواطنين. وهو أمر أصبح صعب المنال كما يشاهد في تردي الخدمات في كل القطاعات، التي أضحت مع تراكم التردي تتطلب "مال قارون"لتصحيح أوضاعها وتصبح قادرة على التنافسية في محيط إقليمي ودولي يستعد لرفع تحديات مجتمع المعرفة والذكاء الاصطناعي .

ورغم توفر النوايا الوطنية الصادقة لدى الكثير من الفاعلين، فالنوايا لاتكفي لكسب التحديات المستقبلية المطروحة على الساحتين الداخلية والخارجية، كما يؤكد جميع هؤلاء .