إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قراءة جندرية في فكر التصوف الإسلامي

 

 

التعتيم والمغالطة وقلب الحقائق هو السائد في موضوع مكانة المرأة في الإسلام

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة

لطالما ظل التعتيم والمغالطة وقلب الحقائق هو السائد في موضوع مكانة المرأة في الإسلام بسبب رواسب قرون الانحطاط والاستعمار الفكري التي روجت صورة دونية للمرأة أرجعتها إلى حقبة الجاهلية التي قضى عليها الإسلام وأعطى للمرأة حقوقا شرعية مرعية ومكانة رفيعة في الحضارة العربية الإسلامية ، ساهمت في ظهور عالمات فقيهات وشاعرات وطبيبات ومفكرات وأديبات وناشطات في المجتمع وحاكمات تولين الحكم والسياسة.

   وقد خصص الكثير من رواد حركة الإصلاح الفكري للقرن الماضي الكثير من الجهد لدحض الأفكار السلبية للمجتمع المحافظ ، مطالبين بتعليم المرأة وتحريرها اجتماعيا. وتزعم هذه الحركة في تونس كل من الشيخ الزيتوني المستنير سالم بن حميدة وتلميذه الطاهر الحداد صاحب كتاب "امراتنا في الشريعة والمجتمع".

والمتابع الحصيف للتاريخ الإسلامي يجد مظاهر مشعة من أيقونات تكريم المرأة تتجاوز في تكريمها مظاهر الجندرية المعاصرة في المجال. وهي موجودة في العديد من المدارس الفكرية الإسلامية المستنيرة بأنوار الإسلام العقلي ومابعد العقل. ومن هذه المدارس مدرسة التوحيد والتصوف الإسلامي التي يبرز فيها الشيخ محي الدين بن عربي (1165-1240) أكبر الفلاسفة المتصوفة والعالم الروحاني والشاعر صاحب كتاب "الفتوحات المكية" وأكثر من مائة كتاب عن علوم التصوف والفلسفة .

  وتتميز مدرسة بن عربي الفكرية والفلسفية بنظرية ما يعرف ب"خطاب الأنوثة" الذي يمثل محورا من محاور فكر ابن عربي الثلاثة وهي: الحقيقة المحمدية والإنسان الكامل والأنوثة ، حيث يتحدث في كتابه الموسوعة عن تجارب النساء اللواتي تفوقن على الرجال في مجال التصوف وجسّمن "سر المرأة في التجلي الصوفي في الحب الإلاهي".

        ويذهب ابن عربي في فلسفته الوجودية إلى القول بأن الانسان هو وحدة انشقت فظهر منها الرجل والمرأة كشقيقين متماثلين ومتكافئين ماديا وروحيا. ويعتبر في سياق هذه النظرة الأنثوية أن الكون بما فيه من رجال هم إناث حقا وذلك في قوله في كتابه "ترجمان الاشواق":

إنّا إناث لما فينا يولده ** * فالحمد لله ما في الكون من رجل

إن الرجال الذين العرفُ عيّنَهم *** هم الإناثُ وهُم نفسي وهُم أملي

وتبدو نظرة بن عربي للمرأة ايجابية لاتعتريها أية سلبية أو استنقاص لمكانتها. وهو يرجعها الي المكانة البارزة التي اعطاها الاسلام للمرأة. وهي تختلف كثيرا عن النظرة السلبية لكتابات علماء التزمت الذين جاؤوا بعده في قرون الانحطاط الاسلامي.

وفي هذا الصدد خصص ابن عربي كتاب "ترجمان الاشواق " لمدح سيرة السيدة "نظام" او "قرة العين" كما يسميها، التي تعرف عليها في مكة عام 598 هجرية وجمعت بين الجمال والعلم والادب. وهي ابنة أحد شيوخه الفكريين من المتصوفة وهو الشيخ أبي شجعان بن رستم الإصفهاني. وقد تزوجها وساعدته على إكمال مؤلفاته التي تزيد عن المائة وكل أعماله الفكرية والروحية الهادفة إلى تأكيد الوجدانية الصافية للروح. وقد كتب ابن عربي عن رفيقة دربه الدنيوي والروحي يقول واصفا مكانتها: " إن أسهبَتْ أتْعبتْ، وان أوجزتْ أعجزتْ، وان أفصحتْ أوضحتْ. إن نطقتْ خرس قيس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإنْ وفَت قصّر السموأل خطاه، وأغرى بظهر الغرر وامتطاه. ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الاغراض، لأخذت في شرح ما أودع الله تعالي في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حُقّة مختومة، واسطة عقد منظومة. يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم".

   لقد مثل ابن عربي الفيلسوف المسلم الذي جمع بين سر الحضارة الإسلامية الزاهرة وسر تلقي الأسرار الإلاهية التي وضع منها قبس التصوف. فقد ولد وعاش في الاندلس في أوج ازدهار الحضارة العربية الاسلامية هناك بما ميزها من حضور فاعل للمرأة المسلمة ومن تبادل ثقافي ومعرفي وانفتاح على الديانات والملل، في شكل من أشكال العولمة الفكرية لحضارة الإسلام التعددية القائمة على مبدإ الاختلاف والتنوع . وقد وصف تلك التعددية الفكرية في موسوعته "الفتوحات المكية" بكل تسامح محاولا إيجاد الخيط الرابط بينها وهي الإنسانية، مؤكدا أن "الاعتقادات والأديان تشكل مظاهر وأليات لمعنى الألوهية". وقد خبر تلك الأفكار المعولمة حين انتقل إلى مكة وأقام فيها لمدة طويلة واشتغل فيها على معاني الرجوع إلى أصل الدين والإنسان .

بين عولمة الاندلس وصفاء الفتوحات المكية

   لقد ضمّن كل ذلك في كتابه "الفتوحات المكية " الذي يجمع أفكاره الصوفية والعقلية والروحية التي تربط بين عولمة الأندلس وتنوع واختلاف ثقافاتها واديانها، وبين صفاء الاجواء المكية الروحية في علاقة وحدة الوجود الانساني بالحكمة الإلاهية القائمة على التسامح والمحبة . وفي كل ترحاله الفلسفي والوجودي، يعتمد على مبدإ المحبة كأصل للمعرفة بدل الاعتماد على العقل أو النقل كمدرستين فكريتين تقليديتين تجاوزهما في تفكيره المعرفي الصوفي . ذلك أن المحبة في نظره لا حدود لها في علاقة الانسان بأخيه الانسان او في علاقة الانسان بالله .

 وقد جسّم ذلك ببيت شعري يقول فيه :

"أَدينُ بِدينِ الحبِّ أنَّى توجّهتْ *** رَكَائِبُهُ فالحبّ دِيني وإيماني"

  وقد أكد في مواقف عدة من كتابه أن الصوفية هي قراءة للجانب الخفي والعميق للدين الذي هو ليس فقط أوامر ونواه وطقوس، بل هو تجاوز الظاهر إلى الباطن ومحاولة لربط الاتصال والتواصل مع الذات الذاتية ومع الذات الإلاهية، وصولا إلى تلقي الأسرار الإلاهية .

ويقول أيضا وقدأصبح منفتحا على كل الأديان بما فيها غير التوحيدية :

" قد كُنتُ قبل اليوم أُنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه دَانِي .

 لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ، فمَرْعَى لغزلأنٍ ودِيرٌ لرُهبانٍ

 وبيْت لأوثانٍ وكَعْبةُ طائِفٍ وألواحُ توْراةٍ ومُصحف قُرآنٍ".

  لقد جسم بذلك بن عربي قبول الإسلام لكل من سبقه من الأديان والمعتقدات التي انصهر معها أو انصهرت وتواجدت في ممالك دار الإسلام بكل إخاء ومحبة إنسانية هي جوهر العقيدة الإسلامية السمحة، كما يقول.

   وقد كتب بن عربي في كتابه "الفتوحات المكية" وهو اكبر كتبه في علم التصوف ويضم أكثر من أربعة ألاف صفحة ، يقول في مقدمة أحد فصوله :"وآعلمأن جميع ما أتكلم فيه في مجالسي وتصانيفي إنما هو من حضرة القرأن وخزائنه، فإني أعْطِيتُ مفاتيح الفهْم فيه والإمْدادِ منه". (الفتوحات المكية".الهيئة المصرية العامة للكتاب .القاهرة 1985.الباب 48).

   وتبدو فكرة الأنوثة في فكر بن عربي متجسّمة في كينونة المرأة وخلقتها والتي تتكامل مع الرجل بعلاقة الوصال والارتباط، بحثا عن الكمال في العلاقة من حيث العاطفة والجسد والتوالد والتناسل لإعمار الأرض وإسعاد الانسان، أحد أهداف الإرادة الإلاهية للرجل والمرأة على السواء.

ودون الدخول في تفاصيل جدلية مكانة المرأة ومساراتها الكاملة مع الرجل في مجال الإرث والشهادة والتي يخصص لها بن عربي أطروحات ينتصر فيها للمرأة وينزلها مكانة رفيعة أعلى من مكانة الرجل . وقد أبانها بالتصريح في كتابه "ترجمان الأشواق" باعتبار المسألة لاتخرج من إطار الكتاب والسنة كما سائر آرائه وفلسفته حول وحدانية الخالق وفكرة التوحيد الطاغية على كتبه، كنِبْراس فكري وديني منه ينطلق منهجيا وإطاريا. وهي نفس المنهجية حول رفعة المرأة في إطار منهج الأنوثة حمّالة الأفكار التي رددها الكثير من العلماء المتأثرين به بعده بقرون في العصر الحديث منهم الشيخ الزيتوني المستنير سالم بن حميدة رائد الإصلاح الاجتماعي وتحرير المرأة الذي تناول في كتابه " الزهريات" الصادر عام 1928 بمنهجية العقل وما بعد العقل الصوفي دون النقل المهيمن تزمّتا على المجتمع التونسي وشيوخ الزيتونة ،والذي حوّل المرأة من مرتبة "الكمال" الى مرحلة "الدّون" في المجتمع الإسلامي بمنعها من التعليم. وقد تناول بن حميدة في كتابه المسألة الحيوية لإخراج المرأة من بوتقة الجهل والخنوع ، بواسطة التعليم ، ومن مرتبة الدونية الانحطاطية الي مرتبة المساواة مع الرجل في الشريعة والمجتمع وفي التعليم، بعد قرون الانحطاط الفكري والفلسفي والمجتمعي منذ عصر ابن عربي حتى العصر الحديث. وقد قال الشيخ بن حميدة في خطبة الاحتفاء بصدور كتاب تلميذه الطاهر الحداد في نادي البلفدير عام 1930:" يقولون لي إن الإسلام يمنع ذلك. أمر مضحك. أني شديد الاعتقاد في الإسلام. وأرى الإسلام قد أنال المرأة حقوقا لم ينلها الرجل".

  ويعتبر الشيخ بن حميدة فيلسوفا متصوفا من أتباع شيخ المتصوفة ابن عربي. وكان يوظف ملكة الجدل الفلسفي والديني في المجتمع للدفاع عن الإصلاح الاجتماعي وتحرير المرأة، رمز الكمال منذ منتصف القرن الماضي. وقد ألف كتابه " الزهريات" شكليا وعلى مستوى المحتوى بنفس منهجية كتاب "الفتوحات المكية" وهي المراوحة في كل فصوله بين النثر والشعر لكل فصل وباب، تبيانا للحقيقة وإظهارا للقدرة على الكتابة والنفاذ إلى متلقي العلم بيسر وسهولة في غرضي الشعر والنثر علي حد السواء.

 

 

 

 

 

 

 

 

قراءة جندرية في فكر التصوف الإسلامي

 

 

التعتيم والمغالطة وقلب الحقائق هو السائد في موضوع مكانة المرأة في الإسلام

بقلم د. الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الاعلام والصحافة

لطالما ظل التعتيم والمغالطة وقلب الحقائق هو السائد في موضوع مكانة المرأة في الإسلام بسبب رواسب قرون الانحطاط والاستعمار الفكري التي روجت صورة دونية للمرأة أرجعتها إلى حقبة الجاهلية التي قضى عليها الإسلام وأعطى للمرأة حقوقا شرعية مرعية ومكانة رفيعة في الحضارة العربية الإسلامية ، ساهمت في ظهور عالمات فقيهات وشاعرات وطبيبات ومفكرات وأديبات وناشطات في المجتمع وحاكمات تولين الحكم والسياسة.

   وقد خصص الكثير من رواد حركة الإصلاح الفكري للقرن الماضي الكثير من الجهد لدحض الأفكار السلبية للمجتمع المحافظ ، مطالبين بتعليم المرأة وتحريرها اجتماعيا. وتزعم هذه الحركة في تونس كل من الشيخ الزيتوني المستنير سالم بن حميدة وتلميذه الطاهر الحداد صاحب كتاب "امراتنا في الشريعة والمجتمع".

والمتابع الحصيف للتاريخ الإسلامي يجد مظاهر مشعة من أيقونات تكريم المرأة تتجاوز في تكريمها مظاهر الجندرية المعاصرة في المجال. وهي موجودة في العديد من المدارس الفكرية الإسلامية المستنيرة بأنوار الإسلام العقلي ومابعد العقل. ومن هذه المدارس مدرسة التوحيد والتصوف الإسلامي التي يبرز فيها الشيخ محي الدين بن عربي (1165-1240) أكبر الفلاسفة المتصوفة والعالم الروحاني والشاعر صاحب كتاب "الفتوحات المكية" وأكثر من مائة كتاب عن علوم التصوف والفلسفة .

  وتتميز مدرسة بن عربي الفكرية والفلسفية بنظرية ما يعرف ب"خطاب الأنوثة" الذي يمثل محورا من محاور فكر ابن عربي الثلاثة وهي: الحقيقة المحمدية والإنسان الكامل والأنوثة ، حيث يتحدث في كتابه الموسوعة عن تجارب النساء اللواتي تفوقن على الرجال في مجال التصوف وجسّمن "سر المرأة في التجلي الصوفي في الحب الإلاهي".

        ويذهب ابن عربي في فلسفته الوجودية إلى القول بأن الانسان هو وحدة انشقت فظهر منها الرجل والمرأة كشقيقين متماثلين ومتكافئين ماديا وروحيا. ويعتبر في سياق هذه النظرة الأنثوية أن الكون بما فيه من رجال هم إناث حقا وذلك في قوله في كتابه "ترجمان الاشواق":

إنّا إناث لما فينا يولده ** * فالحمد لله ما في الكون من رجل

إن الرجال الذين العرفُ عيّنَهم *** هم الإناثُ وهُم نفسي وهُم أملي

وتبدو نظرة بن عربي للمرأة ايجابية لاتعتريها أية سلبية أو استنقاص لمكانتها. وهو يرجعها الي المكانة البارزة التي اعطاها الاسلام للمرأة. وهي تختلف كثيرا عن النظرة السلبية لكتابات علماء التزمت الذين جاؤوا بعده في قرون الانحطاط الاسلامي.

وفي هذا الصدد خصص ابن عربي كتاب "ترجمان الاشواق " لمدح سيرة السيدة "نظام" او "قرة العين" كما يسميها، التي تعرف عليها في مكة عام 598 هجرية وجمعت بين الجمال والعلم والادب. وهي ابنة أحد شيوخه الفكريين من المتصوفة وهو الشيخ أبي شجعان بن رستم الإصفهاني. وقد تزوجها وساعدته على إكمال مؤلفاته التي تزيد عن المائة وكل أعماله الفكرية والروحية الهادفة إلى تأكيد الوجدانية الصافية للروح. وقد كتب ابن عربي عن رفيقة دربه الدنيوي والروحي يقول واصفا مكانتها: " إن أسهبَتْ أتْعبتْ، وان أوجزتْ أعجزتْ، وان أفصحتْ أوضحتْ. إن نطقتْ خرس قيس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإنْ وفَت قصّر السموأل خطاه، وأغرى بظهر الغرر وامتطاه. ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الاغراض، لأخذت في شرح ما أودع الله تعالي في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حُقّة مختومة، واسطة عقد منظومة. يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم".

   لقد مثل ابن عربي الفيلسوف المسلم الذي جمع بين سر الحضارة الإسلامية الزاهرة وسر تلقي الأسرار الإلاهية التي وضع منها قبس التصوف. فقد ولد وعاش في الاندلس في أوج ازدهار الحضارة العربية الاسلامية هناك بما ميزها من حضور فاعل للمرأة المسلمة ومن تبادل ثقافي ومعرفي وانفتاح على الديانات والملل، في شكل من أشكال العولمة الفكرية لحضارة الإسلام التعددية القائمة على مبدإ الاختلاف والتنوع . وقد وصف تلك التعددية الفكرية في موسوعته "الفتوحات المكية" بكل تسامح محاولا إيجاد الخيط الرابط بينها وهي الإنسانية، مؤكدا أن "الاعتقادات والأديان تشكل مظاهر وأليات لمعنى الألوهية". وقد خبر تلك الأفكار المعولمة حين انتقل إلى مكة وأقام فيها لمدة طويلة واشتغل فيها على معاني الرجوع إلى أصل الدين والإنسان .

بين عولمة الاندلس وصفاء الفتوحات المكية

   لقد ضمّن كل ذلك في كتابه "الفتوحات المكية " الذي يجمع أفكاره الصوفية والعقلية والروحية التي تربط بين عولمة الأندلس وتنوع واختلاف ثقافاتها واديانها، وبين صفاء الاجواء المكية الروحية في علاقة وحدة الوجود الانساني بالحكمة الإلاهية القائمة على التسامح والمحبة . وفي كل ترحاله الفلسفي والوجودي، يعتمد على مبدإ المحبة كأصل للمعرفة بدل الاعتماد على العقل أو النقل كمدرستين فكريتين تقليديتين تجاوزهما في تفكيره المعرفي الصوفي . ذلك أن المحبة في نظره لا حدود لها في علاقة الانسان بأخيه الانسان او في علاقة الانسان بالله .

 وقد جسّم ذلك ببيت شعري يقول فيه :

"أَدينُ بِدينِ الحبِّ أنَّى توجّهتْ *** رَكَائِبُهُ فالحبّ دِيني وإيماني"

  وقد أكد في مواقف عدة من كتابه أن الصوفية هي قراءة للجانب الخفي والعميق للدين الذي هو ليس فقط أوامر ونواه وطقوس، بل هو تجاوز الظاهر إلى الباطن ومحاولة لربط الاتصال والتواصل مع الذات الذاتية ومع الذات الإلاهية، وصولا إلى تلقي الأسرار الإلاهية .

ويقول أيضا وقدأصبح منفتحا على كل الأديان بما فيها غير التوحيدية :

" قد كُنتُ قبل اليوم أُنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه دَانِي .

 لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ، فمَرْعَى لغزلأنٍ ودِيرٌ لرُهبانٍ

 وبيْت لأوثانٍ وكَعْبةُ طائِفٍ وألواحُ توْراةٍ ومُصحف قُرآنٍ".

  لقد جسم بذلك بن عربي قبول الإسلام لكل من سبقه من الأديان والمعتقدات التي انصهر معها أو انصهرت وتواجدت في ممالك دار الإسلام بكل إخاء ومحبة إنسانية هي جوهر العقيدة الإسلامية السمحة، كما يقول.

   وقد كتب بن عربي في كتابه "الفتوحات المكية" وهو اكبر كتبه في علم التصوف ويضم أكثر من أربعة ألاف صفحة ، يقول في مقدمة أحد فصوله :"وآعلمأن جميع ما أتكلم فيه في مجالسي وتصانيفي إنما هو من حضرة القرأن وخزائنه، فإني أعْطِيتُ مفاتيح الفهْم فيه والإمْدادِ منه". (الفتوحات المكية".الهيئة المصرية العامة للكتاب .القاهرة 1985.الباب 48).

   وتبدو فكرة الأنوثة في فكر بن عربي متجسّمة في كينونة المرأة وخلقتها والتي تتكامل مع الرجل بعلاقة الوصال والارتباط، بحثا عن الكمال في العلاقة من حيث العاطفة والجسد والتوالد والتناسل لإعمار الأرض وإسعاد الانسان، أحد أهداف الإرادة الإلاهية للرجل والمرأة على السواء.

ودون الدخول في تفاصيل جدلية مكانة المرأة ومساراتها الكاملة مع الرجل في مجال الإرث والشهادة والتي يخصص لها بن عربي أطروحات ينتصر فيها للمرأة وينزلها مكانة رفيعة أعلى من مكانة الرجل . وقد أبانها بالتصريح في كتابه "ترجمان الأشواق" باعتبار المسألة لاتخرج من إطار الكتاب والسنة كما سائر آرائه وفلسفته حول وحدانية الخالق وفكرة التوحيد الطاغية على كتبه، كنِبْراس فكري وديني منه ينطلق منهجيا وإطاريا. وهي نفس المنهجية حول رفعة المرأة في إطار منهج الأنوثة حمّالة الأفكار التي رددها الكثير من العلماء المتأثرين به بعده بقرون في العصر الحديث منهم الشيخ الزيتوني المستنير سالم بن حميدة رائد الإصلاح الاجتماعي وتحرير المرأة الذي تناول في كتابه " الزهريات" الصادر عام 1928 بمنهجية العقل وما بعد العقل الصوفي دون النقل المهيمن تزمّتا على المجتمع التونسي وشيوخ الزيتونة ،والذي حوّل المرأة من مرتبة "الكمال" الى مرحلة "الدّون" في المجتمع الإسلامي بمنعها من التعليم. وقد تناول بن حميدة في كتابه المسألة الحيوية لإخراج المرأة من بوتقة الجهل والخنوع ، بواسطة التعليم ، ومن مرتبة الدونية الانحطاطية الي مرتبة المساواة مع الرجل في الشريعة والمجتمع وفي التعليم، بعد قرون الانحطاط الفكري والفلسفي والمجتمعي منذ عصر ابن عربي حتى العصر الحديث. وقد قال الشيخ بن حميدة في خطبة الاحتفاء بصدور كتاب تلميذه الطاهر الحداد في نادي البلفدير عام 1930:" يقولون لي إن الإسلام يمنع ذلك. أمر مضحك. أني شديد الاعتقاد في الإسلام. وأرى الإسلام قد أنال المرأة حقوقا لم ينلها الرجل".

  ويعتبر الشيخ بن حميدة فيلسوفا متصوفا من أتباع شيخ المتصوفة ابن عربي. وكان يوظف ملكة الجدل الفلسفي والديني في المجتمع للدفاع عن الإصلاح الاجتماعي وتحرير المرأة، رمز الكمال منذ منتصف القرن الماضي. وقد ألف كتابه " الزهريات" شكليا وعلى مستوى المحتوى بنفس منهجية كتاب "الفتوحات المكية" وهي المراوحة في كل فصوله بين النثر والشعر لكل فصل وباب، تبيانا للحقيقة وإظهارا للقدرة على الكتابة والنفاذ إلى متلقي العلم بيسر وسهولة في غرضي الشعر والنثر علي حد السواء.