-كل قرارات الترفيع على أهميتها تبقى ظرفية والدولة ملزمة بسياسة يتوفر فيها الحد الأدنى على الأقل من العدالة الاجتماعية
-العدالة الاجتماعية مطلب رفعه المواطنون خلال أحداث 14 جانفي ومازالوا ينادون بها
تونس – الصباح
بعد قرارات الترفيع في سقف القروض التي يمنحها كل من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (عن القطاع الخاص) والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية (عن القطاع العمومي)، التي انطلقت الصناديق الاجتماعية في تفعيلها بين مارس وأفريل الماضيين، أعلن على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية عن قرار جديد يتمثل في الترفيع في قيمة الجرايات الدنيا من 180 دينارا إلى 240 دينارا بداية من جويلية الجاري. وقد أعلن عن القرار إثر لقاء رئيس الجمهورية قيس سعيد بكل من وزيرة المالية سهام البوغديري نمصية ووزير الشؤون الاجتماعية كمال المدور يوم الثلاثاء (9 جويلية 2024) بقصر الجمهورية بقرطاج.
وكانت رئاسة الجمهورية قد أعلنت في موفى جوان (27 جوان تحديدا) عن الترفيع بنسبة 7% في الأجور الدنيا المضمونة في القطاع الخاص بالنسبة للنشيطين وزيادة ثانية بنسبة 7.5% بداية من أول جانفي 2025، وهو ما سيترتب عليه آليا الترفيع في جرايات المتقاعدين في القطاع الخاص. وكل هذه الزيادات سيكون لها مفعولا رجعيا منذ شهر ماي كما أنها ستنعكس على جرايات المتقاعدين وفق نفس المصدر. وقد أعلن عن هذه القرارات في لقاء لرئيس الجمهورية مع وزير الشؤون الاجتماعية في التاريخ المذكور بقصر الجمهورية بقرطاج.
وإذا ما علمنا أن بلادنا تعد وفق أرقام رسمية مليون متقاعد وحوالي 310 آلاف يحصلون على جراية لم تكن تتجاوز 180 دينارا، فإن أخبار الزيادات من شأنها أن تبعث شيئا من الأمل لدى أصحابها ولو كان ذلك نسبيا خاصة فيما يتعلق بأصحاب الجرايات الدنيا نظرا لارتفاع تكاليف العيش وخاصة لارتفاع الأسعار المتزايد والذي يعتبر اليوم أحد أبرز المحن التي يواجهها متوسطو الدخل فما بالك بالفقراء.
كل القرارات المذكورة قد اتخذت في وقت يشهد فيه الوضع العام صعوبات كبيرة إذ تضطر البلاد منذ سنوات إلى إعلان "حالة" استنفار لإعداد الميزانية العامة للبلاد نظرا لضعف الموارد وحجم الدين الخارجي والتركة الثقيلة من المشاكل التي خلفتها منظومة الحكم المنبثقة عن أحداث 14 جانفي2011 التي تسلمت المشعل بعد سقوط الديكتاتورية في تونس، والتي اقل ما يقال بشأنها أنها أخطأت الأهداف وأدخلت البلاد في متاهات هي في غنى عنها وذلك خلافا للمتوقع بالمرة.
التغييرات التي لم تحدث
فالتونسيون بإزاحتهم لنظام الحكم الدكتاتوري الذي كان سائدا لعقود كانوا يتوقعون تغييرات جذرية تنعكس إيجابا على حياتهم لكن حدث العكس وظلت تونس تعاني لأكثر من عقد من الزمن من التجاذبات السياسية ومن الصراعات الأيديولوجية والعنف الذي ساد الأوساط السياسية وتسرب إلى المجتمع مما أضر بأمن البلاد وتضرر اقتصادها وتأثر الوضع الاجتماعي كثيرا حتى أنه كان ينذر بالانفجار. فما هي الاختيارات التي بقيت متاحة أمامنا في ظل هذا الوضع؟
لنعترف أولا أن هذه الخيارات قليلة. وأول شيء هو القيام بترميم ما هدمته السياسات الفاشلة التي زادت في حجم التوتر والحيرة وتسببت في نشر حالة الإحباط لدى نسب متزايدة من المواطنين. فارتفاع تكاليف الحياة في تونس لم تزد الفقراء إلا فقرا كما أنها وسعت في قاعدة الفقراء خاصة مع تآكل الطبقة المتوسطة التي تتكون بالخصوص من الموظفين والتي تم تفقيرها بكثرة الأداءات مقابل تجميد الأجور أو الاكتفاء بزيادات طفيفة لا قبل لها بمجابهة الارتفاع الصاروخي للأسعار التي لم تتمكن الدولة من السيطرة عليه رغم كل المحاولات.
الترميم قبل "القطع مع سياسة الماضي"
وتتنزل القرارات بالترفيع في سقف قروض الصناديق الاجتماعية (بنسب جيدة مقارنة مع ما كان موجودا) والترفيع في الأجور الدنيا المضمونة والجرايات الضعيفة في هذا الإطار. ولن تكتفي الدولة بذلك، بل ستعمل على مراجعة السياسة الاجتماعية بطريقة جوهرية وذلك وفق ما فهمنا من تعهد رئيس الجمهورية خلال لقائه يوم الثلاثاء 9 جويلية بكل من وزيرة المالية ووزير الشؤون الاجتماعية، إذ قال إن "سياسة الدولة في المستقبل يجب أن تقوم على القطع مع الماضي قطعا نهائيا بالاعتماد على الإمكانيات الذاتية، في المقام الأول، وبناء على سياسة جبائية عادلة وعلى نظام تغطية اجتماعية عادل ومنصف بدوره."
وقد لا نبالغ عندما نقول أن أكثر شيء نادى به التونسيون خلال الأحداث التي اندلعت منذ 10 ديسمبر 2010 وانتهت في 14 جانفي في العام الموالي بإسقاط نظام الرئيس بن علي وإسقاط منظومة الحكم الديكتاتوري، هو ضمان العدالة الاجتماعية. ولنا أن نذكر بأن تونس كانت تسير قبل اندلاع الأحداث التي أدت لسقوط الديكتاتورية من قبل وفق نسقين، نسق الأثرياء الذين يزدادون ثراء ونسق الفقراء الذين يزدادون فقرا. وقد كرست المنظومة التي تسلمت السلطة بعد الثورة الأمر السائد، بل تفاقمت الأوضاع وتسارعت الأحداث وكثرت الصراعات خاصة في ظل منظومة حكم لم تحقق الاستقرار السياسي وكيف لها ذلك وقد كانت تقوم على فكرة المحاصصة الحزبية. وفي هذا السياق الصعب الذي كانت تمر به البلاد، أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد عن حركة 25 جويلية 2021 وحل بمقتضاها البرلمان(انتخابات 2019) وأقال الحكومة وهو يقود إلى اليوم العملية السياسية التي أفرزت عن وضع دستور جديد وانتخاب برلمان جديد وإحداث مجلس للجهات والأقاليم وينتظر أن تنظم بلادنا انتخابات رئاسية جديدة في 6 أكتوبر القادم.
الهدوء النسبي الذي مكن من استيعاب ما حدث
ويمكن القول أن الهدوء السياسي النسبي الذي عرفته البلاد بعد 25 جويلية 2021، قد مكن من استيعاب حجم الكارثة على المستوى الاجتماعي. بلادنا تقهقرت كثيرا على هذا المستوى وتراجع مستوى كل الخدمات تقريبا، سواء الخدمات الصحية أوفي مجال التعليم وغيرهما وتفشى العنف وانتشرت الجريمة المنظمة وانتشرت المخدرات وتفاقمت البطالة (بما في ذلك بطالة أصحاب الشهادات العليا) دون أن ننسى معضلة ارتفاع الأسعار التي فاقمت من الأوضاع وتسببت في خلق حالة من عدم الارتياح لدى نسب عالية من المواطنين، لكن ولئن تعهدت الدولة بمعالجة كل القضايا، فإن المسألة السياسية فرضت على الدولة إعادة ترتيب الأولويات وكانت تهدئة الوضع السياسي وبناء أسس الحكم من جديد أولوية قصوى، ثم كان لابد من وضع حد للتوتر الذي كان مسيطرا على اغلب الميادين، وهو ما حصل فعلا مع مرور الأيام.
وتتالت إثر ذلك سلسلة من الإجراءات الاجتماعية التي تعكس إرادة الدولة في تأكيد حضورها مجددا بعد تخليها عن دورها الاجتماعي في السنوات الأخيرة، في انتظار الدخول في مرحلة إعادة النظر في السياسات العامة و"القطع مع الماضي" وفق ما تم التعهد به على أعلى مستوى، وقد وضحنا ذلك بالأعلى.
صحيح يتزامن القرار الترفيع في الأجور الدنيا المضمونة وفي الجرايات الضعيفة مع الأشهر الأخيرة في الفترة الرئاسية الأولى لرئيس الجمهورية قيس سعيد وربما يأتي في سياق الاستعداد للانتخابات الرئاسية الجديدة، وقد تكون هذه القرارات الاجتماعية قد تأخرت نسبيا للأسباب التي ذكرنا ومنها أن الوضع السياسي غير المستقر في البلاد، جعل الجهود تركز في مرحلة أولى على إرساء أسس هذا الاستقرار المنشود، لكن تبقى تونس دولة اجتماعية بالأساس وحضور الدولة من أجل المواطنين الأقل حظا اجتماعيا كان دائما واضحا منذ تأسيس دولة الاستقلال ومرورا بمختلف مراحل تطورها، قبل أن تشهد الأوضاع الاجتماعية تراجعا واضحا في الفترة الأخيرة لحكم الرئيس بن علي لتشهد تقهقرا غريبا خلال العشرية التي تلت إزاحة النظام الديكتاتوري.
لهذا اعتبر هذا القرار مهما
ولأجل ذلك تلقت الساحة الإعلامية ومختلف الأوساط الاجتماعية قرار الترفيع في سقف القروض التي تمنحها الصناديق الاجتماعية بترحاب كبير لأنها تعبر بشكل ما عن إرادة الدولة في أن تكون حازمة في علاقة بالمسألة الاجتماعية. والقرار المذكور الذي فتح آفاقا جديدة أمام منخرطي الصناديق الاجتماعية، يهدف بالأساس لمساعدة المواطن على التحرر قليلا من هيمنة البنوك التي تفرض إجراءات مجحفة وغالبا ما يكون اللجوء إليها من أجل الحصول على قروض (قروض شخصية- سكن ولشراء سيارة) في ظل المنظومة البنكية الموجودة في البلاد، وفي ظل الوضع الاجتماعي الصعب، شر لا بد منه.
أما بالنسبة للترفيع في الأجور الدنيا وفي الجرايات الضعيفة، فنعتقد أن الدولة يمكنها أن تجتهد أكثر قليلا، لأن قيمة هذه الأجور وهذه الجرايات لوحدها تختزل الوضع، وإذ ندرك أن الدولة تتدخل بعدة طرق للتخفيف من حدة الفقر، من خلال المنح الدائمة أو المناسباتية مثلا، لكن يمكنها أن تجتهد أكثر على مستوى الأجور الضعيفة لأن قيمة العمل تكمن في مردودية العامل وأيضا فيما يتحصل عليه مقابل عمله وجهده. وربما لسنا في حاجة للتأكيد على مدى الحاجة في تونس للعودة للعمل ولتكريس قيمته من جديد.
الوضع الحالي ربما لا يسمح بأكثر لكن..
صحيح، ربما لا يسمح الوضع الحالي بأكثر من ذلك إذ ينبغي للدولة أن تكون مستعدة لكل ما يترتب عن الزيادات من نتائج ومن تأثير على ميزانية الدولة وعليها أن توفر موارد لتغطية النفقات المضافة، لكن تبقى هذه الزيادات من الحلول الظرفية وهي لا تكفي لحل معضلة الفقر، بل يلزمنا حلولا شاملة تقضي على أصل الداء- وقد أشار رئيس الجمهورية لذلك بطريقته عند الإعلان عن الترفيع في الأجور الدنيا والجرايات الضعيفة بالإشارة إلى ضرورة القطع نهائيا مع الماضي.
وبلادنا التي يتوق فيها المواطن إلى الحياة الكريمة، لا استقرار لها دون حلول منصفة للكل. فمن حق كل التونسيين توفير شغل يضمن كرامة العيش ومن حقهم تغطية اجتماعية تضمن التغطية الصحية اللازمة وتضمن تقاعدا محترما. لكن أن توفر ما ذكرنا لفئات معينة، فإنه غير متوفر اليوم للجميع. وما هو ثابت وبالأرقام هو أن فئات غير قليلة تعيش بالحد الأدنى واقل من ذلك أحيانا. فماذا تعني بضعة دنانير- وهي كل ما يحصل عليه ما لا يقل عن 300 ألف مواطن في شكل جراية دنيا- لغلاء المعيشة التي صارت تمثل هاجسا مؤرقا للكثيرين ومشكلة حقيقية تتطلب حلولا عاجلة وواقعية، طبعا بعيدا عن الوعود الواهية. نقول ذلك وفي البال اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
حياة السايب
-كل قرارات الترفيع على أهميتها تبقى ظرفية والدولة ملزمة بسياسة يتوفر فيها الحد الأدنى على الأقل من العدالة الاجتماعية
-العدالة الاجتماعية مطلب رفعه المواطنون خلال أحداث 14 جانفي ومازالوا ينادون بها
تونس – الصباح
بعد قرارات الترفيع في سقف القروض التي يمنحها كل من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (عن القطاع الخاص) والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية (عن القطاع العمومي)، التي انطلقت الصناديق الاجتماعية في تفعيلها بين مارس وأفريل الماضيين، أعلن على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية عن قرار جديد يتمثل في الترفيع في قيمة الجرايات الدنيا من 180 دينارا إلى 240 دينارا بداية من جويلية الجاري. وقد أعلن عن القرار إثر لقاء رئيس الجمهورية قيس سعيد بكل من وزيرة المالية سهام البوغديري نمصية ووزير الشؤون الاجتماعية كمال المدور يوم الثلاثاء (9 جويلية 2024) بقصر الجمهورية بقرطاج.
وكانت رئاسة الجمهورية قد أعلنت في موفى جوان (27 جوان تحديدا) عن الترفيع بنسبة 7% في الأجور الدنيا المضمونة في القطاع الخاص بالنسبة للنشيطين وزيادة ثانية بنسبة 7.5% بداية من أول جانفي 2025، وهو ما سيترتب عليه آليا الترفيع في جرايات المتقاعدين في القطاع الخاص. وكل هذه الزيادات سيكون لها مفعولا رجعيا منذ شهر ماي كما أنها ستنعكس على جرايات المتقاعدين وفق نفس المصدر. وقد أعلن عن هذه القرارات في لقاء لرئيس الجمهورية مع وزير الشؤون الاجتماعية في التاريخ المذكور بقصر الجمهورية بقرطاج.
وإذا ما علمنا أن بلادنا تعد وفق أرقام رسمية مليون متقاعد وحوالي 310 آلاف يحصلون على جراية لم تكن تتجاوز 180 دينارا، فإن أخبار الزيادات من شأنها أن تبعث شيئا من الأمل لدى أصحابها ولو كان ذلك نسبيا خاصة فيما يتعلق بأصحاب الجرايات الدنيا نظرا لارتفاع تكاليف العيش وخاصة لارتفاع الأسعار المتزايد والذي يعتبر اليوم أحد أبرز المحن التي يواجهها متوسطو الدخل فما بالك بالفقراء.
كل القرارات المذكورة قد اتخذت في وقت يشهد فيه الوضع العام صعوبات كبيرة إذ تضطر البلاد منذ سنوات إلى إعلان "حالة" استنفار لإعداد الميزانية العامة للبلاد نظرا لضعف الموارد وحجم الدين الخارجي والتركة الثقيلة من المشاكل التي خلفتها منظومة الحكم المنبثقة عن أحداث 14 جانفي2011 التي تسلمت المشعل بعد سقوط الديكتاتورية في تونس، والتي اقل ما يقال بشأنها أنها أخطأت الأهداف وأدخلت البلاد في متاهات هي في غنى عنها وذلك خلافا للمتوقع بالمرة.
التغييرات التي لم تحدث
فالتونسيون بإزاحتهم لنظام الحكم الدكتاتوري الذي كان سائدا لعقود كانوا يتوقعون تغييرات جذرية تنعكس إيجابا على حياتهم لكن حدث العكس وظلت تونس تعاني لأكثر من عقد من الزمن من التجاذبات السياسية ومن الصراعات الأيديولوجية والعنف الذي ساد الأوساط السياسية وتسرب إلى المجتمع مما أضر بأمن البلاد وتضرر اقتصادها وتأثر الوضع الاجتماعي كثيرا حتى أنه كان ينذر بالانفجار. فما هي الاختيارات التي بقيت متاحة أمامنا في ظل هذا الوضع؟
لنعترف أولا أن هذه الخيارات قليلة. وأول شيء هو القيام بترميم ما هدمته السياسات الفاشلة التي زادت في حجم التوتر والحيرة وتسببت في نشر حالة الإحباط لدى نسب متزايدة من المواطنين. فارتفاع تكاليف الحياة في تونس لم تزد الفقراء إلا فقرا كما أنها وسعت في قاعدة الفقراء خاصة مع تآكل الطبقة المتوسطة التي تتكون بالخصوص من الموظفين والتي تم تفقيرها بكثرة الأداءات مقابل تجميد الأجور أو الاكتفاء بزيادات طفيفة لا قبل لها بمجابهة الارتفاع الصاروخي للأسعار التي لم تتمكن الدولة من السيطرة عليه رغم كل المحاولات.
الترميم قبل "القطع مع سياسة الماضي"
وتتنزل القرارات بالترفيع في سقف قروض الصناديق الاجتماعية (بنسب جيدة مقارنة مع ما كان موجودا) والترفيع في الأجور الدنيا المضمونة والجرايات الضعيفة في هذا الإطار. ولن تكتفي الدولة بذلك، بل ستعمل على مراجعة السياسة الاجتماعية بطريقة جوهرية وذلك وفق ما فهمنا من تعهد رئيس الجمهورية خلال لقائه يوم الثلاثاء 9 جويلية بكل من وزيرة المالية ووزير الشؤون الاجتماعية، إذ قال إن "سياسة الدولة في المستقبل يجب أن تقوم على القطع مع الماضي قطعا نهائيا بالاعتماد على الإمكانيات الذاتية، في المقام الأول، وبناء على سياسة جبائية عادلة وعلى نظام تغطية اجتماعية عادل ومنصف بدوره."
وقد لا نبالغ عندما نقول أن أكثر شيء نادى به التونسيون خلال الأحداث التي اندلعت منذ 10 ديسمبر 2010 وانتهت في 14 جانفي في العام الموالي بإسقاط نظام الرئيس بن علي وإسقاط منظومة الحكم الديكتاتوري، هو ضمان العدالة الاجتماعية. ولنا أن نذكر بأن تونس كانت تسير قبل اندلاع الأحداث التي أدت لسقوط الديكتاتورية من قبل وفق نسقين، نسق الأثرياء الذين يزدادون ثراء ونسق الفقراء الذين يزدادون فقرا. وقد كرست المنظومة التي تسلمت السلطة بعد الثورة الأمر السائد، بل تفاقمت الأوضاع وتسارعت الأحداث وكثرت الصراعات خاصة في ظل منظومة حكم لم تحقق الاستقرار السياسي وكيف لها ذلك وقد كانت تقوم على فكرة المحاصصة الحزبية. وفي هذا السياق الصعب الذي كانت تمر به البلاد، أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد عن حركة 25 جويلية 2021 وحل بمقتضاها البرلمان(انتخابات 2019) وأقال الحكومة وهو يقود إلى اليوم العملية السياسية التي أفرزت عن وضع دستور جديد وانتخاب برلمان جديد وإحداث مجلس للجهات والأقاليم وينتظر أن تنظم بلادنا انتخابات رئاسية جديدة في 6 أكتوبر القادم.
الهدوء النسبي الذي مكن من استيعاب ما حدث
ويمكن القول أن الهدوء السياسي النسبي الذي عرفته البلاد بعد 25 جويلية 2021، قد مكن من استيعاب حجم الكارثة على المستوى الاجتماعي. بلادنا تقهقرت كثيرا على هذا المستوى وتراجع مستوى كل الخدمات تقريبا، سواء الخدمات الصحية أوفي مجال التعليم وغيرهما وتفشى العنف وانتشرت الجريمة المنظمة وانتشرت المخدرات وتفاقمت البطالة (بما في ذلك بطالة أصحاب الشهادات العليا) دون أن ننسى معضلة ارتفاع الأسعار التي فاقمت من الأوضاع وتسببت في خلق حالة من عدم الارتياح لدى نسب عالية من المواطنين، لكن ولئن تعهدت الدولة بمعالجة كل القضايا، فإن المسألة السياسية فرضت على الدولة إعادة ترتيب الأولويات وكانت تهدئة الوضع السياسي وبناء أسس الحكم من جديد أولوية قصوى، ثم كان لابد من وضع حد للتوتر الذي كان مسيطرا على اغلب الميادين، وهو ما حصل فعلا مع مرور الأيام.
وتتالت إثر ذلك سلسلة من الإجراءات الاجتماعية التي تعكس إرادة الدولة في تأكيد حضورها مجددا بعد تخليها عن دورها الاجتماعي في السنوات الأخيرة، في انتظار الدخول في مرحلة إعادة النظر في السياسات العامة و"القطع مع الماضي" وفق ما تم التعهد به على أعلى مستوى، وقد وضحنا ذلك بالأعلى.
صحيح يتزامن القرار الترفيع في الأجور الدنيا المضمونة وفي الجرايات الضعيفة مع الأشهر الأخيرة في الفترة الرئاسية الأولى لرئيس الجمهورية قيس سعيد وربما يأتي في سياق الاستعداد للانتخابات الرئاسية الجديدة، وقد تكون هذه القرارات الاجتماعية قد تأخرت نسبيا للأسباب التي ذكرنا ومنها أن الوضع السياسي غير المستقر في البلاد، جعل الجهود تركز في مرحلة أولى على إرساء أسس هذا الاستقرار المنشود، لكن تبقى تونس دولة اجتماعية بالأساس وحضور الدولة من أجل المواطنين الأقل حظا اجتماعيا كان دائما واضحا منذ تأسيس دولة الاستقلال ومرورا بمختلف مراحل تطورها، قبل أن تشهد الأوضاع الاجتماعية تراجعا واضحا في الفترة الأخيرة لحكم الرئيس بن علي لتشهد تقهقرا غريبا خلال العشرية التي تلت إزاحة النظام الديكتاتوري.
لهذا اعتبر هذا القرار مهما
ولأجل ذلك تلقت الساحة الإعلامية ومختلف الأوساط الاجتماعية قرار الترفيع في سقف القروض التي تمنحها الصناديق الاجتماعية بترحاب كبير لأنها تعبر بشكل ما عن إرادة الدولة في أن تكون حازمة في علاقة بالمسألة الاجتماعية. والقرار المذكور الذي فتح آفاقا جديدة أمام منخرطي الصناديق الاجتماعية، يهدف بالأساس لمساعدة المواطن على التحرر قليلا من هيمنة البنوك التي تفرض إجراءات مجحفة وغالبا ما يكون اللجوء إليها من أجل الحصول على قروض (قروض شخصية- سكن ولشراء سيارة) في ظل المنظومة البنكية الموجودة في البلاد، وفي ظل الوضع الاجتماعي الصعب، شر لا بد منه.
أما بالنسبة للترفيع في الأجور الدنيا وفي الجرايات الضعيفة، فنعتقد أن الدولة يمكنها أن تجتهد أكثر قليلا، لأن قيمة هذه الأجور وهذه الجرايات لوحدها تختزل الوضع، وإذ ندرك أن الدولة تتدخل بعدة طرق للتخفيف من حدة الفقر، من خلال المنح الدائمة أو المناسباتية مثلا، لكن يمكنها أن تجتهد أكثر على مستوى الأجور الضعيفة لأن قيمة العمل تكمن في مردودية العامل وأيضا فيما يتحصل عليه مقابل عمله وجهده. وربما لسنا في حاجة للتأكيد على مدى الحاجة في تونس للعودة للعمل ولتكريس قيمته من جديد.
الوضع الحالي ربما لا يسمح بأكثر لكن..
صحيح، ربما لا يسمح الوضع الحالي بأكثر من ذلك إذ ينبغي للدولة أن تكون مستعدة لكل ما يترتب عن الزيادات من نتائج ومن تأثير على ميزانية الدولة وعليها أن توفر موارد لتغطية النفقات المضافة، لكن تبقى هذه الزيادات من الحلول الظرفية وهي لا تكفي لحل معضلة الفقر، بل يلزمنا حلولا شاملة تقضي على أصل الداء- وقد أشار رئيس الجمهورية لذلك بطريقته عند الإعلان عن الترفيع في الأجور الدنيا والجرايات الضعيفة بالإشارة إلى ضرورة القطع نهائيا مع الماضي.
وبلادنا التي يتوق فيها المواطن إلى الحياة الكريمة، لا استقرار لها دون حلول منصفة للكل. فمن حق كل التونسيين توفير شغل يضمن كرامة العيش ومن حقهم تغطية اجتماعية تضمن التغطية الصحية اللازمة وتضمن تقاعدا محترما. لكن أن توفر ما ذكرنا لفئات معينة، فإنه غير متوفر اليوم للجميع. وما هو ثابت وبالأرقام هو أن فئات غير قليلة تعيش بالحد الأدنى واقل من ذلك أحيانا. فماذا تعني بضعة دنانير- وهي كل ما يحصل عليه ما لا يقل عن 300 ألف مواطن في شكل جراية دنيا- لغلاء المعيشة التي صارت تمثل هاجسا مؤرقا للكثيرين ومشكلة حقيقية تتطلب حلولا عاجلة وواقعية، طبعا بعيدا عن الوعود الواهية. نقول ذلك وفي البال اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.