إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

أمام ضرورة إعادة النظر في المنظومة في كامل مراحلها .. أي تعليم نريد؟

 

-بناء مؤسسات جامعية في مناطق داخلية دون توفير محيط جامعي متكامل فيه إجحاف في حق الطلبة

-كل الجامعات تمنح شهائد عليا لكن هل كلها تضمن نفس حظوظ النجاح في سوق الشغل أو تفتح آفاقا أمام خريجيها؟؟

تونس- الصباح

راهنت بلادنا منذ بداية تأسيس دولة الاستقلال على التعليم. وقد خصّصت تونس موارد هائلة للتعليم الذي جعلته عاما وإجباريا ومجانيا. وشيدت المدارس الابتدائية والمعاهد الثانوية وبعثت أقطابا جامعية وقد أثمر هذا الاختيار الاستراتيجي نتائج إيجابية وانتشر التعليم في كل مكان. ولم تقتصر دولة الاستقلال على ذلك، بل قدمت الدعم اللازم للتلاميذ والطلبة وبنت المطاعم الجامعية والمبيتات ووفرت منحا للطلبة كانت في البداية معممة ثم أصبحت مرتبطة بالدخل العائلي. لكن إن كانت مراهنة تونس عموما على التعليم هي المبدأ العام، فإننا على مستوى التفاصيل لم يحالفنا التوفيق دائما. وقد شابت التعليم في كل مراحله العديد من الشوائب خاصة في العقود الأخيرة ولم تمكن برامج الإصلاح المتواترة من حل عديد الإشكاليات التي ظلت عالقة، بل تزداد الأمور مع الأيام تعقيدا. وقد كانت المرحلة التي تلت أحداث 14 جانفي 2011 من أصعب المراحل التي شهدها قطاع التعليم في تاريخ تونس المعاصرة. النتيجة أننا اليوم أمام مفترق طرق وأضحى لزاما علينا أن نحسم مسألة أي تعليم نريد؟

التعليم العمومي وقضية العدالة في توزيع الفرص؟

أي تعليم نريد؟ سؤال من وحي الواقع وهو مستلهم من الوضع. فالتعليم العمومي في تونس مازال سند الكثيرين ومازال يمثل الأمل بالنسبة للكثيرين لكنه تراجع كثيرا وتراجعت المضامين بشكل رهيب وهو بالخصوص لم يعد يضمن تلك العدالة المطلوبة في توزيع الفرص لأن هناك هوة كبيرة بين المؤسسات المدرسية والجامعية في البلاد وفرق كبير بينها على مستوى الإمكانيات المادية والبشرية وعلى مستوى الآفاق المفتوحة لخريجيها.

ونخشى أن يفقد التعليم العمومي مع الوقت نجاعته بالكامل وأن يصبح التعليم في العموم حكرا على فئة قليلة محظوظة. والسؤال بطريقة أخرى هل نريد أن نواصل في نفس الخيارات أم نقوم بمراجعات جذرية تمكن من الحفاظ على أحد أبرز مكاسب التونسيين وهو مكسب التعليم العمومي وان نعمل على أن يسترجع على الأقل الحد الأدنى من النجاعة التي كان يتحلى بها؟

ربما للدولة جزء من الأجوبة في ما يتعلق بالتعليم العالي وقد تكون بدأت في تنفيذ مشروعها من خلال إعادة النظر في دليل التوجيه الجامعي لهذا العام، وحذفها لعدد من الشعب من بعض المؤسسات الجامعية ببعض المناطق بالجمهورية، قد يكون إيذانا بالانطلاق في مشروع إعادة النظر في منظومة التعليم العالي.

الدولة تريد أن تمر الى السرعة القصوى؟؟

طبعا لم يمر الأمر دون أن يثير جدلا. فالتعليم في تونس هو قضية الجميع والكل يعتبر أن من حقه أن يكون له رأي في ما يجري، فما بالك بأهل الذكر من إطارات تربوية وهياكل نقابية. صحيح لم نلاحظ ضجة على غرار ما اعتدناه خاصة فيما بعد أحداث 14 جانفي 2011 وقد كانت للهياكل التمثيلية كلمتها في كل ما يتعلق بالتعليم بما في ذلك برامج الإصلاح، وأحيانا كانت لها الكلمة الأولى، لكن ارتفعت بعض الأصوات محتجة مطالبة بتوضيح الموقف.

وعلى ما يبدو، فإن الدولة اليوم ممثلة في سلطة الإشراف ونعني بذلك وزارت الاختصاص، تريد أن تمر الى السرعة القصوى. فتجربة الشراكة القوية مع الأطراف النقابية ليست مشجعة. وقد أضاعت تونس الكثير من الوقت في التجاذبات والصراعات وخاصة بين الهياكل النقابية الممثلة وسلطة الإشراف. وقصة الصراعات هذه معروفة وقد لا نكون في حاجة الى العودة إليها بكل تفاصيلها في هذا الحيز، لكن لا بأس أن نذكر بأن الأعوام العشرة الأولى بعد أحداث 14جانفي 2011 قد مرت على وقع الإضرابات المتتالية والمشاحنات بين الطرف النقابي والطرف الرسمي وقد وصل الأمر الى حد حجز الأعداد والتلويح بعدم انجاز الامتحانات بما في ذلك المناظرات والامتحانات الوطنية. ولئن مرت هذه المرحلة وانتهت، فإنها تركت أثارها وليس من السهل التخلص من مخلفاتها وقد تضرر التعليم العمومي كله من هذه المرحلة، ولئن كان الضرر الكبير قد لحق التعليم الابتدائي والثانوي بسبب المعارك التي استمرت طويلا بين الطرف النقابي وسلطة الإشراف، فإن التعليم العالي قد تضرر بدوره. حيث أنه بدوره كان موضوع تجاذبات ومشاحنات إضافة الى كونه يتأثر بما يحدث في المراحل الأخرى فهو في النهاية حلقة ضمن سلسلة متكاملة من الحلقات اسمها منظومة التربية والتعليم العالي.

ويمكن أن نجزم بأن الأمور لم تهدأ إلا بعد فترة من الإعلان عن حركة 25 جويلية 2021 بتونس. فقد قطع رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي أعلن حينها عن دخول البلاد في مرحلة استثنائية بعد إقالته للحكومة وحله للبرلمان المنبثق عن انتخابات أكتوبر 2019، مع تقاليد العمل التي كانت سائدة طيلة السنوات المذكورة وعمل على أن يكون للدولة حضور قوي.

مرحلة التجاذبات والصراعات بين الطرف النقابي وسلطة الإشراف

وكانت بلادنا قد اعتمدت بعد 14 جانفي 2011 على منظومة حكم تقوم على المحاصصة الحزبية وتضخم دور المنظمات الوطنية والتكتلات المهنية على حساب الدولة الذي ضعفت، بل بالأحرى استضعفت مما جعل السلطة التنفيذية عاجزة أحيانا عن تنفيذ أبسط القرارات. وفي تلك المرحلة بالذات تضخم دور نقابات التعليم وخاصة التعليم الابتدائي والثانوي وهو ما نتج عنه استفحال الصراعات والتجاذبات وعاشت الساحة التربوية والتعليمية حالة من الاحتقان لعلها لم تكن مسبوقة، حتى ان الصحافة الوطنية كانت تعنون دائما وفي صفحاتها الأولى عن معارك كسر العظام بين النقابات ووزارة التربية بالخصوص.

وقد خفّت حدة الصراعات بعد 25 جويلية 2021 ٍتاريخ دخول البلاد في مرحلة سياسية جديدة انتهت كما هو معروف بوضع دستور جديد للبلاد وانتخاب برلمان جديد وإحداث مجلس للجهات والأقاليم قبل أن يدعو رئيس الجمهورية مؤخرا الشعب التونسي الى صناديق الاقتراع مجددا لانتخاب رئيس جديد للبلاد في 6 أكتوبر من هذا العام (2024). خفت الصراعات بين الأطراف النقابية وسلطة الإشراف لتتقلص حدة النزاعات بطريقة ملفتة للانتباه حتى أننا لم نسمع صوتا للأطراف النقابية في الجامعة إلا هذه الأيام من خلال استنكار "القرار المجحف" وفق وصف بعض المتحدثين من ممثلي الاتحاد العام التونسي للشغل للإعلام، والمتمثل في حذف عدة شعب علمية من مؤسسات جامعية بكل من سيدي بوزيد وقابس وقفصة. وشدد المتدخلون على انه تم التفطن الى ذلك بعد نشر دليل التوجيه الجامعي الجديد دون تنسيق مع الأطراف المعنية.

وإن كنا لا نتوقع أن تعمد سلطة الإشراف الى إلغاء بعض الشعب سواء كانت علمية أو أدبية وأن تغلي إجازات كاملة بطريقة اعتباطية، أي دون توفر أسباب موضوعية، من بينها مثلا عدم قدرتها على استقطاب الطلبة بالقدر الكافي حتى من الجهة نفسها، فإننا نعتقد أنه من الطبيعي أن يثير أي قرار مفاجئ الاحتجاجات وأنه يحبذ دائما أن تتم العملية بالتنسيق مع أهل الذكر لأن القرارات التي تأتي هكذا دون سابق إنذار يتعامل معها دائما على أنها قرارات فوقية حتى لو أملتها الضرورة القصوى. لكن في المقابل نعتقد انه قد حان الوقت كي نتحلى بالموضوعية الكاملة عندما نتحدث عن إصلاح منظومة التعليم العالي وأن نعمل من أجل تغليب المصلحة الوطنية على الاعتبارات الأخرى وذلك التعاطف الذي يبدو في ظاهره انتصارا للحق وفي باطنه تحويلا للنقاش عن مساره الطبيعي. ولنا أن نطرح في هذا السياق بعض الملاحظات، التي ربما علينا إن أردنا فعلا أن نواجه الحقيقة، أن نتوقف عندها وأن نتأملها بموضوعية.

ملاحظات ووقفة تأمل

أولا، لا يعتبر عمل الدولة على بعث مؤسسات جامعية في كل منطقة من مناطق الجمهورية دون دراسة دقيقة وشاملة، دليل حرص واهتمام ورغبة في تحقيق التطور والتنمية بالمنطقة. قد يكون فقط من أجل غايات أخرى لا علاقة لها بكل ما ذكرنا. فالعديد من البلدان تبعث أقطابا جامعية في بعض المناطق وتوفر لها كل الإمكانيات لتستقطب الطلبة من الداخل والخارج كذلك. ولا يمكن لأي بلد أن يبعث أقطابا جامعية في كل جهة وان يضمن لها نفس ظروف النجاح. وتحقيق التنمية في أي منطقة قد يكون ممكنا بشكل أفضل أحيانا من خلال بعث أقطاب صناعية أو فلاحية أو سياحية وغيرها وليس بشرطه ان يكون مرتبطا ببعث أقطاب جامعية.

ثانيا، لقد ثبت أن النجاح في التعليم العالي والتفوق لا يقف على بناء معهد عال أو كلية عصرية أو حتى جامعة وإنما يتطلب كذلك محيطا جامعيا مشجعا يساعد الطالب على تطوير ذائقته وتنمية حسه النقدي وتوسيع ثقافته العامة وهو أمر لا يتوفر في كل المناطق، وإرسال الطالب الى جهة تفتقر الى كل مقومات الحياة الثقافية فيه مجازفة كبيرة وقد يحصل الطالب في النهاية على شهادته الجامعية لكنه لا يكون متساوي الحظوظ مع خريجي الجامعة بالعاصمة مثلا أو بمناطق أخرى أكثر حظا في بنيتها الأساسية الجامعية والثقافية.

ثالثا، إن التعلل بعدم قدرة أبناء بعض الجهات على التنقل الى العاصمة أو الى مناطق أخرى، فيه مبالغة كبيرة حتى لا نقول مغالطة، فالتوجيه الجامعي يتم حسب المعدلات وحسب اختيارات الطلبة. ويفضل الطلبة من مختلف جهات الجمهورية عادة التنقل الى مؤسسات جامعية ذات صيت أفضل على البقاء على عين المكان عندما تقتضي مصلحتهم ذلك. وليس خافيا على الكثيرين أن البعض ممن يتم توجيههم الى شعب ببعض المناطق داخل الجمهورية يتحولون -ان توفرت لهم الإمكانيات - الى التعليم العالي الخاص بحثا عن فرص أفضل.

كل ذلك يدعونا للقول إن إصلاح منظومة التعليم العالي يتطلب وضع كل الأوراق على الطاولة بصراحة وبوضوح وهذا لن ينجح أبدا إلا بتوفر أمرين مؤكدين:

أولا، توفر الإرادة من كل الأطراف، أي سلطة إشراف وهياكل ممثلة وخبرات تونسية في المجال، للعمل الجماعي بعيدا عن منطق الإقصاء حيث يكون الهدف التوصل الى حلول من أجل الإصلاح دون أي إسقاطات من أي جهة.

ثانيا، الاعتماد على دراسات علمية دقيقة والتخلي عن عادتنا في عدم البناء على ما هو إيجابي والتخلي بالخصوص عن عقلية الهدم بغرض إثبات فشل الآخر. فمنطق الدولة يقول إن هناك متابعة للعمل وليس من الضروري أن يهدم كل وافد جديد ما سبق حتى وإن كان ناجحا.

وقد لا نكون بحاجة بطبيعة الحال للتذكير بان عامل الوقت ليس لصالحنا وأننا أضعنا ما يكفي من الوقت وأن النتائج أمامنا والقضية واضحة وليس لنا إلا أن نستخلص النتائج وأن نقرر "أي تعليم نريد؟".

حياة السايب

 

 

 

 

أمام ضرورة إعادة النظر في المنظومة في كامل مراحلها  .. أي تعليم نريد؟

 

-بناء مؤسسات جامعية في مناطق داخلية دون توفير محيط جامعي متكامل فيه إجحاف في حق الطلبة

-كل الجامعات تمنح شهائد عليا لكن هل كلها تضمن نفس حظوظ النجاح في سوق الشغل أو تفتح آفاقا أمام خريجيها؟؟

تونس- الصباح

راهنت بلادنا منذ بداية تأسيس دولة الاستقلال على التعليم. وقد خصّصت تونس موارد هائلة للتعليم الذي جعلته عاما وإجباريا ومجانيا. وشيدت المدارس الابتدائية والمعاهد الثانوية وبعثت أقطابا جامعية وقد أثمر هذا الاختيار الاستراتيجي نتائج إيجابية وانتشر التعليم في كل مكان. ولم تقتصر دولة الاستقلال على ذلك، بل قدمت الدعم اللازم للتلاميذ والطلبة وبنت المطاعم الجامعية والمبيتات ووفرت منحا للطلبة كانت في البداية معممة ثم أصبحت مرتبطة بالدخل العائلي. لكن إن كانت مراهنة تونس عموما على التعليم هي المبدأ العام، فإننا على مستوى التفاصيل لم يحالفنا التوفيق دائما. وقد شابت التعليم في كل مراحله العديد من الشوائب خاصة في العقود الأخيرة ولم تمكن برامج الإصلاح المتواترة من حل عديد الإشكاليات التي ظلت عالقة، بل تزداد الأمور مع الأيام تعقيدا. وقد كانت المرحلة التي تلت أحداث 14 جانفي 2011 من أصعب المراحل التي شهدها قطاع التعليم في تاريخ تونس المعاصرة. النتيجة أننا اليوم أمام مفترق طرق وأضحى لزاما علينا أن نحسم مسألة أي تعليم نريد؟

التعليم العمومي وقضية العدالة في توزيع الفرص؟

أي تعليم نريد؟ سؤال من وحي الواقع وهو مستلهم من الوضع. فالتعليم العمومي في تونس مازال سند الكثيرين ومازال يمثل الأمل بالنسبة للكثيرين لكنه تراجع كثيرا وتراجعت المضامين بشكل رهيب وهو بالخصوص لم يعد يضمن تلك العدالة المطلوبة في توزيع الفرص لأن هناك هوة كبيرة بين المؤسسات المدرسية والجامعية في البلاد وفرق كبير بينها على مستوى الإمكانيات المادية والبشرية وعلى مستوى الآفاق المفتوحة لخريجيها.

ونخشى أن يفقد التعليم العمومي مع الوقت نجاعته بالكامل وأن يصبح التعليم في العموم حكرا على فئة قليلة محظوظة. والسؤال بطريقة أخرى هل نريد أن نواصل في نفس الخيارات أم نقوم بمراجعات جذرية تمكن من الحفاظ على أحد أبرز مكاسب التونسيين وهو مكسب التعليم العمومي وان نعمل على أن يسترجع على الأقل الحد الأدنى من النجاعة التي كان يتحلى بها؟

ربما للدولة جزء من الأجوبة في ما يتعلق بالتعليم العالي وقد تكون بدأت في تنفيذ مشروعها من خلال إعادة النظر في دليل التوجيه الجامعي لهذا العام، وحذفها لعدد من الشعب من بعض المؤسسات الجامعية ببعض المناطق بالجمهورية، قد يكون إيذانا بالانطلاق في مشروع إعادة النظر في منظومة التعليم العالي.

الدولة تريد أن تمر الى السرعة القصوى؟؟

طبعا لم يمر الأمر دون أن يثير جدلا. فالتعليم في تونس هو قضية الجميع والكل يعتبر أن من حقه أن يكون له رأي في ما يجري، فما بالك بأهل الذكر من إطارات تربوية وهياكل نقابية. صحيح لم نلاحظ ضجة على غرار ما اعتدناه خاصة فيما بعد أحداث 14 جانفي 2011 وقد كانت للهياكل التمثيلية كلمتها في كل ما يتعلق بالتعليم بما في ذلك برامج الإصلاح، وأحيانا كانت لها الكلمة الأولى، لكن ارتفعت بعض الأصوات محتجة مطالبة بتوضيح الموقف.

وعلى ما يبدو، فإن الدولة اليوم ممثلة في سلطة الإشراف ونعني بذلك وزارت الاختصاص، تريد أن تمر الى السرعة القصوى. فتجربة الشراكة القوية مع الأطراف النقابية ليست مشجعة. وقد أضاعت تونس الكثير من الوقت في التجاذبات والصراعات وخاصة بين الهياكل النقابية الممثلة وسلطة الإشراف. وقصة الصراعات هذه معروفة وقد لا نكون في حاجة الى العودة إليها بكل تفاصيلها في هذا الحيز، لكن لا بأس أن نذكر بأن الأعوام العشرة الأولى بعد أحداث 14جانفي 2011 قد مرت على وقع الإضرابات المتتالية والمشاحنات بين الطرف النقابي والطرف الرسمي وقد وصل الأمر الى حد حجز الأعداد والتلويح بعدم انجاز الامتحانات بما في ذلك المناظرات والامتحانات الوطنية. ولئن مرت هذه المرحلة وانتهت، فإنها تركت أثارها وليس من السهل التخلص من مخلفاتها وقد تضرر التعليم العمومي كله من هذه المرحلة، ولئن كان الضرر الكبير قد لحق التعليم الابتدائي والثانوي بسبب المعارك التي استمرت طويلا بين الطرف النقابي وسلطة الإشراف، فإن التعليم العالي قد تضرر بدوره. حيث أنه بدوره كان موضوع تجاذبات ومشاحنات إضافة الى كونه يتأثر بما يحدث في المراحل الأخرى فهو في النهاية حلقة ضمن سلسلة متكاملة من الحلقات اسمها منظومة التربية والتعليم العالي.

ويمكن أن نجزم بأن الأمور لم تهدأ إلا بعد فترة من الإعلان عن حركة 25 جويلية 2021 بتونس. فقد قطع رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي أعلن حينها عن دخول البلاد في مرحلة استثنائية بعد إقالته للحكومة وحله للبرلمان المنبثق عن انتخابات أكتوبر 2019، مع تقاليد العمل التي كانت سائدة طيلة السنوات المذكورة وعمل على أن يكون للدولة حضور قوي.

مرحلة التجاذبات والصراعات بين الطرف النقابي وسلطة الإشراف

وكانت بلادنا قد اعتمدت بعد 14 جانفي 2011 على منظومة حكم تقوم على المحاصصة الحزبية وتضخم دور المنظمات الوطنية والتكتلات المهنية على حساب الدولة الذي ضعفت، بل بالأحرى استضعفت مما جعل السلطة التنفيذية عاجزة أحيانا عن تنفيذ أبسط القرارات. وفي تلك المرحلة بالذات تضخم دور نقابات التعليم وخاصة التعليم الابتدائي والثانوي وهو ما نتج عنه استفحال الصراعات والتجاذبات وعاشت الساحة التربوية والتعليمية حالة من الاحتقان لعلها لم تكن مسبوقة، حتى ان الصحافة الوطنية كانت تعنون دائما وفي صفحاتها الأولى عن معارك كسر العظام بين النقابات ووزارة التربية بالخصوص.

وقد خفّت حدة الصراعات بعد 25 جويلية 2021 ٍتاريخ دخول البلاد في مرحلة سياسية جديدة انتهت كما هو معروف بوضع دستور جديد للبلاد وانتخاب برلمان جديد وإحداث مجلس للجهات والأقاليم قبل أن يدعو رئيس الجمهورية مؤخرا الشعب التونسي الى صناديق الاقتراع مجددا لانتخاب رئيس جديد للبلاد في 6 أكتوبر من هذا العام (2024). خفت الصراعات بين الأطراف النقابية وسلطة الإشراف لتتقلص حدة النزاعات بطريقة ملفتة للانتباه حتى أننا لم نسمع صوتا للأطراف النقابية في الجامعة إلا هذه الأيام من خلال استنكار "القرار المجحف" وفق وصف بعض المتحدثين من ممثلي الاتحاد العام التونسي للشغل للإعلام، والمتمثل في حذف عدة شعب علمية من مؤسسات جامعية بكل من سيدي بوزيد وقابس وقفصة. وشدد المتدخلون على انه تم التفطن الى ذلك بعد نشر دليل التوجيه الجامعي الجديد دون تنسيق مع الأطراف المعنية.

وإن كنا لا نتوقع أن تعمد سلطة الإشراف الى إلغاء بعض الشعب سواء كانت علمية أو أدبية وأن تغلي إجازات كاملة بطريقة اعتباطية، أي دون توفر أسباب موضوعية، من بينها مثلا عدم قدرتها على استقطاب الطلبة بالقدر الكافي حتى من الجهة نفسها، فإننا نعتقد أنه من الطبيعي أن يثير أي قرار مفاجئ الاحتجاجات وأنه يحبذ دائما أن تتم العملية بالتنسيق مع أهل الذكر لأن القرارات التي تأتي هكذا دون سابق إنذار يتعامل معها دائما على أنها قرارات فوقية حتى لو أملتها الضرورة القصوى. لكن في المقابل نعتقد انه قد حان الوقت كي نتحلى بالموضوعية الكاملة عندما نتحدث عن إصلاح منظومة التعليم العالي وأن نعمل من أجل تغليب المصلحة الوطنية على الاعتبارات الأخرى وذلك التعاطف الذي يبدو في ظاهره انتصارا للحق وفي باطنه تحويلا للنقاش عن مساره الطبيعي. ولنا أن نطرح في هذا السياق بعض الملاحظات، التي ربما علينا إن أردنا فعلا أن نواجه الحقيقة، أن نتوقف عندها وأن نتأملها بموضوعية.

ملاحظات ووقفة تأمل

أولا، لا يعتبر عمل الدولة على بعث مؤسسات جامعية في كل منطقة من مناطق الجمهورية دون دراسة دقيقة وشاملة، دليل حرص واهتمام ورغبة في تحقيق التطور والتنمية بالمنطقة. قد يكون فقط من أجل غايات أخرى لا علاقة لها بكل ما ذكرنا. فالعديد من البلدان تبعث أقطابا جامعية في بعض المناطق وتوفر لها كل الإمكانيات لتستقطب الطلبة من الداخل والخارج كذلك. ولا يمكن لأي بلد أن يبعث أقطابا جامعية في كل جهة وان يضمن لها نفس ظروف النجاح. وتحقيق التنمية في أي منطقة قد يكون ممكنا بشكل أفضل أحيانا من خلال بعث أقطاب صناعية أو فلاحية أو سياحية وغيرها وليس بشرطه ان يكون مرتبطا ببعث أقطاب جامعية.

ثانيا، لقد ثبت أن النجاح في التعليم العالي والتفوق لا يقف على بناء معهد عال أو كلية عصرية أو حتى جامعة وإنما يتطلب كذلك محيطا جامعيا مشجعا يساعد الطالب على تطوير ذائقته وتنمية حسه النقدي وتوسيع ثقافته العامة وهو أمر لا يتوفر في كل المناطق، وإرسال الطالب الى جهة تفتقر الى كل مقومات الحياة الثقافية فيه مجازفة كبيرة وقد يحصل الطالب في النهاية على شهادته الجامعية لكنه لا يكون متساوي الحظوظ مع خريجي الجامعة بالعاصمة مثلا أو بمناطق أخرى أكثر حظا في بنيتها الأساسية الجامعية والثقافية.

ثالثا، إن التعلل بعدم قدرة أبناء بعض الجهات على التنقل الى العاصمة أو الى مناطق أخرى، فيه مبالغة كبيرة حتى لا نقول مغالطة، فالتوجيه الجامعي يتم حسب المعدلات وحسب اختيارات الطلبة. ويفضل الطلبة من مختلف جهات الجمهورية عادة التنقل الى مؤسسات جامعية ذات صيت أفضل على البقاء على عين المكان عندما تقتضي مصلحتهم ذلك. وليس خافيا على الكثيرين أن البعض ممن يتم توجيههم الى شعب ببعض المناطق داخل الجمهورية يتحولون -ان توفرت لهم الإمكانيات - الى التعليم العالي الخاص بحثا عن فرص أفضل.

كل ذلك يدعونا للقول إن إصلاح منظومة التعليم العالي يتطلب وضع كل الأوراق على الطاولة بصراحة وبوضوح وهذا لن ينجح أبدا إلا بتوفر أمرين مؤكدين:

أولا، توفر الإرادة من كل الأطراف، أي سلطة إشراف وهياكل ممثلة وخبرات تونسية في المجال، للعمل الجماعي بعيدا عن منطق الإقصاء حيث يكون الهدف التوصل الى حلول من أجل الإصلاح دون أي إسقاطات من أي جهة.

ثانيا، الاعتماد على دراسات علمية دقيقة والتخلي عن عادتنا في عدم البناء على ما هو إيجابي والتخلي بالخصوص عن عقلية الهدم بغرض إثبات فشل الآخر. فمنطق الدولة يقول إن هناك متابعة للعمل وليس من الضروري أن يهدم كل وافد جديد ما سبق حتى وإن كان ناجحا.

وقد لا نكون بحاجة بطبيعة الحال للتذكير بان عامل الوقت ليس لصالحنا وأننا أضعنا ما يكفي من الوقت وأن النتائج أمامنا والقضية واضحة وليس لنا إلا أن نستخلص النتائج وأن نقرر "أي تعليم نريد؟".

حياة السايب