إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تحليل‭ ‬إخباري.. نهاية‭ ‬عصر‭ ‬الدولار‭.. ‬والصين‭ ‬تعيد‭ ‬‭ ‬كتابة‭ ‬قواعد‭ ‬اللعبة‭ ‬المالية‭ ‬عالميا

منذ‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬شكّل‭ ‬الدولار‭ ‬الأميركي‭ ‬حجر‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬المالي‭ ‬العالمي،‭ ‬وأصبح‭ ‬العملة‭ ‬الاحتياطية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬والأداة‭ ‬الأساسية‭ ‬لتسعير‭ ‬السلع‭ ‬الأساسية‭ ‬كالبترول‭ ‬والذهب‭ ‬وجل‭ ‬المعادن،‭ ‬ومرتكزًا‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬النقدية‭ ‬الدولية‭. ‬ 

إلا‭ ‬أن‭ ‬الرياح‭ ‬الآن‭ ‬تسير‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬تشتهيه‭ ‬واشنطن،‭ ‬مع‭ ‬تصاعد‭ ‬مؤشرات‭ ‬نهاية‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬الدولار‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تراجع‭ ‬هيمنته‭ ‬لصالح‭ ‬عملات‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬اليورو‭ ‬واليوان‭ ‬الصيني‭ ‬وتدحرج‭ ‬قيمته‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬العملات‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الدينار‭ ‬التونسي‭ ‬الذي‭ ‬نزل‭ ‬مؤخرا‭ ‬الى‭ ‬ما‭ ‬تحت‭ ‬الثلاثة‭ ‬دنانير‭ ‬للدولار‭ ‬الواحد‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬إلى‭ ‬3‭,‬3دينار‭.‬
التحول‭ ‬الصيني‭.. ‬رسالة‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية
وفي‭ ‬خطوة‭ ‬تحمل‭ ‬دلالات‭ ‬استراتيجية‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬قرارات‭ ‬ترامب‭ ‬الجبائية‭ ‬وحرب‭ ‬الرسومات‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬بيكين،‭ ‬بدأ‭ ‬مستثمرون‭ ‬صينيون،‭ ‬بدعم‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬من‭ ‬الدولة،‭ ‬تقليص‭ ‬استثماراتهم‭ ‬في‭ ‬سندات‭ ‬الخزانة‭ ‬الأمريكية‭ ‬لصالح‭ ‬أدوات‭ ‬الدين‭ ‬الأوروبية‭ ‬واليابانية،‭ ‬وفق‭ ‬تقرير‭ ‬لمجموعة‭ ‬دويتشه‭ ‬بنك‭ ‬الألمانية‭. ‬التحرك‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قراءته‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬السياق‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬المتوتر‭ ‬بين‭ ‬واشنطن‭ ‬وبكين،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬التي‭ ‬شنّها‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬والتي‭ ‬أعادت‭ ‬رسم‭ ‬خطوط‭ ‬الاشتباك‭ ‬الاقتصادي‭ ‬بين‭ ‬القوتين‭ ‬العظميين‭.‬
وأكدت‭ ‬ليليان‭ ‬تاو،‭ ‬رئيسة‭ ‬قطاع‭ ‬مبيعات‭ ‬اقتصاد‭ ‬الصين‭ ‬الكلي‭ ‬في‭ ‬دويتشه‭ ‬بنك،‭ ‬أن‭ ‬المستثمرين‭ ‬الصينيين‭ ‬بدأوا‭ ‬فعلياً‭ ‬بخفض‭ ‬الوزن‭ ‬النسبي‭ ‬للدولار‭ ‬في‭ ‬محافظهم‭ ‬الاستثمارية،‭ ‬مفضلين‭ ‬الأسواق‭ ‬الأوروبية‭ ‬ذات‭ ‬التصنيف‭ ‬الائتماني‭ ‬المرتفع،‭ ‬مثل‭ ‬ألمانيا،‭ ‬وحتى‭ ‬الأسواق‭ ‬‮«‬المهملة‮»‬‭ ‬سابقاً‭ ‬كإيطاليا‭ ‬وإسبانيا‭.‬
الدولار‭ ‬في‭ ‬مهبّ‭ ‬العاصفة
لطالما‭ ‬اعتُبر‭ ‬الدولار‭ ‬ملاذاً‭ ‬آمناً‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الأزمات،‭ ‬لكن‭ ‬الأزمة‭ ‬الحالية‭ ‬تبدو‭ ‬مختلفة‭. ‬فارتفاع‭ ‬العائدات‭ ‬على‭ ‬سندات‭ ‬الخزانة‭ ‬الأمريكية‭ ‬مؤخراً‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بسبب‭ ‬تحسّن‭ ‬في‭ ‬الأداء‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الأميركي،‭ ‬بل‭ ‬نتيجة‭ ‬عمليات‭ ‬بيع‭ ‬مكثفة،‭ ‬تعكس‭ ‬فقدان‭ ‬الثقة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬رهانات‭ ‬على‭ ‬الأرباح‭. ‬ومع‭ ‬تزايد‭ ‬التقلبات‭ ‬وغياب‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التنبؤ‭ ‬بسياسات‭ ‬واشنطن،‭ ‬باتت‭ ‬الأصول‭ ‬المقوّمة‭ ‬بالدولار‭ ‬تفقد‭ ‬جاذبيتها‭ ‬تدريجياً‭.‬
والرؤية‭ ‬الصينية‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬حسابات‭ ‬عائد‭ ‬ومخاطر،‭ ‬بل‭ ‬تُعبّر‭ ‬عن‭ ‬توجه‭ ‬استراتيجي‭ ‬للتقليل‭ ‬من‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الدولار‭ ‬كوسيلة‭ ‬للتسوية‭ ‬التجارية‭ ‬والاحتياط‭ ‬النقدي‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬تصاعد‭ ‬العقوبات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬واستخدام‭ ‬الدولار‭ ‬كسلاح‭ ‬جيوسياسي،‭ ‬باتت‭ ‬بكين‭ ‬تسعى‭ ‬جاهدة‭ ‬إلى‭ ‬فكّ‭ ‬الارتباط‭ ‬تدريجياً‭ ‬مع‭ ‬الدولار‭ ‬ومع‭ ‬سياسات‭ ‬أمريكا‭ ‬النقدية‭ ‬والتحول‭ ‬نحو‭ ‬أوروبا‭ ‬المضرة‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬سياسات‭ ‬ترامب‭.‬
دور‭ ‬أوروبا‭ ‬الصاعد
هذا‭ ‬التحوّل‭ ‬الصيني‭ ‬تجاه‭ ‬أوروبا‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬أدوات‭ ‬الدين،‭ ‬بل‭ ‬يعكس‭ ‬إعادة‭ ‬تموضع‭ ‬عالمي‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬الاستثمارات‭. ‬فالحوافز‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الألمانية،‭ ‬وتوجه‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬الأوروبي‭ ‬نحو‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬المرونة‭ ‬النقدية،‭ ‬منحا‭ ‬الأسواق‭ ‬الأوروبية‭ ‬زخماً‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭. ‬ووسط‭ ‬الانكماش‭ ‬الأمريكي‭ ‬المترنح،‭ ‬تُقدّم‭ ‬أوروبا‭ ‬نفسها‭ ‬كبديل‭ ‬آمن‭ ‬ومتزن،‭ ‬ولو‭ ‬إلى‭ ‬حين‭.‬
فاليورو‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬منافسة‭ ‬الدولار‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الحجم‭ ‬والانتشار،‭ ‬لكنه‭ ‬بدأ‭ ‬يستقطب‭ ‬اهتمام‭ ‬المستثمرين‭ ‬الدوليين‭ ‬بوصفه‭ ‬عملة‭ ‬احتياط‭ ‬ثانوية‭ ‬جدية‭. ‬أما‭ ‬الصين،‭ ‬فهي‭ ‬تواصل‭ ‬مساعي‭ ‬تدويل‭ ‬اليوان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اتفاقات‭ ‬المقايضة‭ ‬بالعملات‭ ‬المحلية،‭ ‬والربط‭ ‬المتزايد‭ ‬بين‭ ‬بورصاتها‭ ‬والأسواق‭ ‬العالمية‭.‬
نحو‭ ‬نظام‭ ‬مالي‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب
الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬نهاية‭ ‬الدولار‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬انهياره،‭ ‬بل‭ ‬بداية‭ ‬تراجعه‭ ‬التدريجي‭ ‬عن‭ ‬موقعه‭ ‬المهيمن‭. ‬فنحن‭ ‬اليوم‭ ‬أمام‭ ‬عالم‭ ‬مالي‭ ‬يتجه‭ ‬نحو‭ ‬التعددية‭ ‬القطبية،‭ ‬الدولار‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬في‭ ‬الصدارة،‭ ‬لكن‭ ‬اليوان‭ ‬يزحف‭ ‬بثبات،‭ ‬واليورو‭ ‬يعاود‭ ‬الظهور،‭ ‬وحتى‭ ‬الذهب‭ ‬يعود‭ ‬كملاذ‭ ‬كلاسيكي‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬عدم‭ ‬اليقين‭.‬
ويمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬انسحاب‭ ‬الصين‭ ‬من‭ ‬سندات‭ ‬الخزانة‭ ‬الأميركية‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬مؤشراً‭ ‬على‭ ‬تغير‭ ‬المزاج‭ ‬الاستثماري،‭ ‬بل‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬بداية‭ ‬تحوّل‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬النقدي‭ ‬العالمي‭. ‬وإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬توجه‭ ‬دول‭ ‬‮«‬البريكس‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬إطلاق‭ ‬عملة‭ ‬موحدة‭ ‬محتملة،‭ ‬وتوقيع‭ ‬اتفاقات‭ ‬ثنائية‭ ‬بعملات‭ ‬غير‭ ‬الدولار،‭ ‬فإن‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬بُني‭ ‬عليه‭ ‬اقتصاد‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬يبدو‭ ‬مهدداً‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭.‬
أي‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الدولار؟
والسؤال‭ ‬المطروح‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الدولار‭ ‬سيفقد‭ ‬هيمنته،‭ ‬بل‭ ‬متى‭ ‬وبأي‭ ‬وتيرة‭. ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تشهد‭ ‬فيه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عجزاً‭ ‬مالياً‭ ‬متفاقماً،‭ ‬وصراعات‭ ‬جيوسياسية‭ ‬متزايدة،‭ ‬تبدو‭ ‬القوى‭ ‬الصاعدة‭ ‬كالصين‭ ‬مستعدة‭ ‬لإعادة‭ ‬كتابة‭ ‬قواعد‭ ‬اللعبة‭.‬
و»نهاية‭ ‬عصر‭ ‬الدولار‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬لحظة‭ ‬حاسمة‭ ‬بل‭ ‬مسار‭ ‬طويل‭ ‬ومعقد،‭ ‬لكنه‭ ‬بدأ‭ ‬فعلاً‭. ‬ومن‭ ‬يراقب‭ ‬حركة‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال‭ ‬اليوم،‭ ‬سيكتشف‭ ‬أن‭ ‬القطارات‭ ‬بدأت‭ ‬تتجه‭ ‬شرقاً،‭ ‬وأوروبا‭ ‬تُفتح‭ ‬أمامها‭ ‬الأبواب‭.‬ 

سفيان‭ ‬رجب

تحليل‭ ‬إخباري..   نهاية‭ ‬عصر‭ ‬الدولار‭.. ‬والصين‭ ‬تعيد‭ ‬‭ ‬كتابة‭ ‬قواعد‭ ‬اللعبة‭ ‬المالية‭ ‬عالميا

منذ‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬شكّل‭ ‬الدولار‭ ‬الأميركي‭ ‬حجر‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬المالي‭ ‬العالمي،‭ ‬وأصبح‭ ‬العملة‭ ‬الاحتياطية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬والأداة‭ ‬الأساسية‭ ‬لتسعير‭ ‬السلع‭ ‬الأساسية‭ ‬كالبترول‭ ‬والذهب‭ ‬وجل‭ ‬المعادن،‭ ‬ومرتكزًا‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬النقدية‭ ‬الدولية‭. ‬ 

إلا‭ ‬أن‭ ‬الرياح‭ ‬الآن‭ ‬تسير‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬تشتهيه‭ ‬واشنطن،‭ ‬مع‭ ‬تصاعد‭ ‬مؤشرات‭ ‬نهاية‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬الدولار‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تراجع‭ ‬هيمنته‭ ‬لصالح‭ ‬عملات‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬اليورو‭ ‬واليوان‭ ‬الصيني‭ ‬وتدحرج‭ ‬قيمته‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬العملات‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الدينار‭ ‬التونسي‭ ‬الذي‭ ‬نزل‭ ‬مؤخرا‭ ‬الى‭ ‬ما‭ ‬تحت‭ ‬الثلاثة‭ ‬دنانير‭ ‬للدولار‭ ‬الواحد‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬إلى‭ ‬3‭,‬3دينار‭.‬
التحول‭ ‬الصيني‭.. ‬رسالة‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية
وفي‭ ‬خطوة‭ ‬تحمل‭ ‬دلالات‭ ‬استراتيجية‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬قرارات‭ ‬ترامب‭ ‬الجبائية‭ ‬وحرب‭ ‬الرسومات‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬بيكين،‭ ‬بدأ‭ ‬مستثمرون‭ ‬صينيون،‭ ‬بدعم‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬من‭ ‬الدولة،‭ ‬تقليص‭ ‬استثماراتهم‭ ‬في‭ ‬سندات‭ ‬الخزانة‭ ‬الأمريكية‭ ‬لصالح‭ ‬أدوات‭ ‬الدين‭ ‬الأوروبية‭ ‬واليابانية،‭ ‬وفق‭ ‬تقرير‭ ‬لمجموعة‭ ‬دويتشه‭ ‬بنك‭ ‬الألمانية‭. ‬التحرك‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قراءته‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬السياق‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬المتوتر‭ ‬بين‭ ‬واشنطن‭ ‬وبكين،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬التي‭ ‬شنّها‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬والتي‭ ‬أعادت‭ ‬رسم‭ ‬خطوط‭ ‬الاشتباك‭ ‬الاقتصادي‭ ‬بين‭ ‬القوتين‭ ‬العظميين‭.‬
وأكدت‭ ‬ليليان‭ ‬تاو،‭ ‬رئيسة‭ ‬قطاع‭ ‬مبيعات‭ ‬اقتصاد‭ ‬الصين‭ ‬الكلي‭ ‬في‭ ‬دويتشه‭ ‬بنك،‭ ‬أن‭ ‬المستثمرين‭ ‬الصينيين‭ ‬بدأوا‭ ‬فعلياً‭ ‬بخفض‭ ‬الوزن‭ ‬النسبي‭ ‬للدولار‭ ‬في‭ ‬محافظهم‭ ‬الاستثمارية،‭ ‬مفضلين‭ ‬الأسواق‭ ‬الأوروبية‭ ‬ذات‭ ‬التصنيف‭ ‬الائتماني‭ ‬المرتفع،‭ ‬مثل‭ ‬ألمانيا،‭ ‬وحتى‭ ‬الأسواق‭ ‬‮«‬المهملة‮»‬‭ ‬سابقاً‭ ‬كإيطاليا‭ ‬وإسبانيا‭.‬
الدولار‭ ‬في‭ ‬مهبّ‭ ‬العاصفة
لطالما‭ ‬اعتُبر‭ ‬الدولار‭ ‬ملاذاً‭ ‬آمناً‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الأزمات،‭ ‬لكن‭ ‬الأزمة‭ ‬الحالية‭ ‬تبدو‭ ‬مختلفة‭. ‬فارتفاع‭ ‬العائدات‭ ‬على‭ ‬سندات‭ ‬الخزانة‭ ‬الأمريكية‭ ‬مؤخراً‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بسبب‭ ‬تحسّن‭ ‬في‭ ‬الأداء‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الأميركي،‭ ‬بل‭ ‬نتيجة‭ ‬عمليات‭ ‬بيع‭ ‬مكثفة،‭ ‬تعكس‭ ‬فقدان‭ ‬الثقة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬رهانات‭ ‬على‭ ‬الأرباح‭. ‬ومع‭ ‬تزايد‭ ‬التقلبات‭ ‬وغياب‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التنبؤ‭ ‬بسياسات‭ ‬واشنطن،‭ ‬باتت‭ ‬الأصول‭ ‬المقوّمة‭ ‬بالدولار‭ ‬تفقد‭ ‬جاذبيتها‭ ‬تدريجياً‭.‬
والرؤية‭ ‬الصينية‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬حسابات‭ ‬عائد‭ ‬ومخاطر،‭ ‬بل‭ ‬تُعبّر‭ ‬عن‭ ‬توجه‭ ‬استراتيجي‭ ‬للتقليل‭ ‬من‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الدولار‭ ‬كوسيلة‭ ‬للتسوية‭ ‬التجارية‭ ‬والاحتياط‭ ‬النقدي‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬تصاعد‭ ‬العقوبات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬واستخدام‭ ‬الدولار‭ ‬كسلاح‭ ‬جيوسياسي،‭ ‬باتت‭ ‬بكين‭ ‬تسعى‭ ‬جاهدة‭ ‬إلى‭ ‬فكّ‭ ‬الارتباط‭ ‬تدريجياً‭ ‬مع‭ ‬الدولار‭ ‬ومع‭ ‬سياسات‭ ‬أمريكا‭ ‬النقدية‭ ‬والتحول‭ ‬نحو‭ ‬أوروبا‭ ‬المضرة‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬سياسات‭ ‬ترامب‭.‬
دور‭ ‬أوروبا‭ ‬الصاعد
هذا‭ ‬التحوّل‭ ‬الصيني‭ ‬تجاه‭ ‬أوروبا‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬أدوات‭ ‬الدين،‭ ‬بل‭ ‬يعكس‭ ‬إعادة‭ ‬تموضع‭ ‬عالمي‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬الاستثمارات‭. ‬فالحوافز‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الألمانية،‭ ‬وتوجه‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬الأوروبي‭ ‬نحو‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬المرونة‭ ‬النقدية،‭ ‬منحا‭ ‬الأسواق‭ ‬الأوروبية‭ ‬زخماً‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭. ‬ووسط‭ ‬الانكماش‭ ‬الأمريكي‭ ‬المترنح،‭ ‬تُقدّم‭ ‬أوروبا‭ ‬نفسها‭ ‬كبديل‭ ‬آمن‭ ‬ومتزن،‭ ‬ولو‭ ‬إلى‭ ‬حين‭.‬
فاليورو‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬منافسة‭ ‬الدولار‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الحجم‭ ‬والانتشار،‭ ‬لكنه‭ ‬بدأ‭ ‬يستقطب‭ ‬اهتمام‭ ‬المستثمرين‭ ‬الدوليين‭ ‬بوصفه‭ ‬عملة‭ ‬احتياط‭ ‬ثانوية‭ ‬جدية‭. ‬أما‭ ‬الصين،‭ ‬فهي‭ ‬تواصل‭ ‬مساعي‭ ‬تدويل‭ ‬اليوان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اتفاقات‭ ‬المقايضة‭ ‬بالعملات‭ ‬المحلية،‭ ‬والربط‭ ‬المتزايد‭ ‬بين‭ ‬بورصاتها‭ ‬والأسواق‭ ‬العالمية‭.‬
نحو‭ ‬نظام‭ ‬مالي‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب
الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬نهاية‭ ‬الدولار‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬انهياره،‭ ‬بل‭ ‬بداية‭ ‬تراجعه‭ ‬التدريجي‭ ‬عن‭ ‬موقعه‭ ‬المهيمن‭. ‬فنحن‭ ‬اليوم‭ ‬أمام‭ ‬عالم‭ ‬مالي‭ ‬يتجه‭ ‬نحو‭ ‬التعددية‭ ‬القطبية،‭ ‬الدولار‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬في‭ ‬الصدارة،‭ ‬لكن‭ ‬اليوان‭ ‬يزحف‭ ‬بثبات،‭ ‬واليورو‭ ‬يعاود‭ ‬الظهور،‭ ‬وحتى‭ ‬الذهب‭ ‬يعود‭ ‬كملاذ‭ ‬كلاسيكي‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬عدم‭ ‬اليقين‭.‬
ويمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬انسحاب‭ ‬الصين‭ ‬من‭ ‬سندات‭ ‬الخزانة‭ ‬الأميركية‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬مؤشراً‭ ‬على‭ ‬تغير‭ ‬المزاج‭ ‬الاستثماري،‭ ‬بل‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬بداية‭ ‬تحوّل‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬النقدي‭ ‬العالمي‭. ‬وإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬توجه‭ ‬دول‭ ‬‮«‬البريكس‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬إطلاق‭ ‬عملة‭ ‬موحدة‭ ‬محتملة،‭ ‬وتوقيع‭ ‬اتفاقات‭ ‬ثنائية‭ ‬بعملات‭ ‬غير‭ ‬الدولار،‭ ‬فإن‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬بُني‭ ‬عليه‭ ‬اقتصاد‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬يبدو‭ ‬مهدداً‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭.‬
أي‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الدولار؟
والسؤال‭ ‬المطروح‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الدولار‭ ‬سيفقد‭ ‬هيمنته،‭ ‬بل‭ ‬متى‭ ‬وبأي‭ ‬وتيرة‭. ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تشهد‭ ‬فيه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عجزاً‭ ‬مالياً‭ ‬متفاقماً،‭ ‬وصراعات‭ ‬جيوسياسية‭ ‬متزايدة،‭ ‬تبدو‭ ‬القوى‭ ‬الصاعدة‭ ‬كالصين‭ ‬مستعدة‭ ‬لإعادة‭ ‬كتابة‭ ‬قواعد‭ ‬اللعبة‭.‬
و»نهاية‭ ‬عصر‭ ‬الدولار‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬لحظة‭ ‬حاسمة‭ ‬بل‭ ‬مسار‭ ‬طويل‭ ‬ومعقد،‭ ‬لكنه‭ ‬بدأ‭ ‬فعلاً‭. ‬ومن‭ ‬يراقب‭ ‬حركة‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال‭ ‬اليوم،‭ ‬سيكتشف‭ ‬أن‭ ‬القطارات‭ ‬بدأت‭ ‬تتجه‭ ‬شرقاً،‭ ‬وأوروبا‭ ‬تُفتح‭ ‬أمامها‭ ‬الأبواب‭.‬ 

سفيان‭ ‬رجب