تحليل إخباري.. نهاية عصر الدولار.. والصين تعيد كتابة قواعد اللعبة المالية عالميا
الإنتخابات الرئاسية 2024
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شكّل الدولار الأميركي حجر الزاوية في النظام المالي العالمي، وأصبح العملة الاحتياطية الأولى في العالم، والأداة الأساسية لتسعير السلع الأساسية كالبترول والذهب وجل المعادن، ومرتكزًا أساسياً في السياسات النقدية الدولية.
إلا أن الرياح الآن تسير عكس ما تشتهيه واشنطن، مع تصاعد مؤشرات نهاية «عصر الدولار»، أو على الأقل تراجع هيمنته لصالح عملات أخرى، في مقدمتها اليورو واليوان الصيني وتدحرج قيمته أمام كل العملات بما في ذلك الدينار التونسي الذي نزل مؤخرا الى ما تحت الثلاثة دنانير للدولار الواحد بعد أن وصل منذ أيام إلى 3,3دينار.
التحول الصيني.. رسالة سياسية واقتصادية
وفي خطوة تحمل دلالات استراتيجية خاصة بعد قرارات ترامب الجبائية وحرب الرسومات خاصة مع بيكين، بدأ مستثمرون صينيون، بدعم غير مباشر من الدولة، تقليص استثماراتهم في سندات الخزانة الأمريكية لصالح أدوات الدين الأوروبية واليابانية، وفق تقرير لمجموعة دويتشه بنك الألمانية. التحرك هذا لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الجيوسياسي المتوتر بين واشنطن وبكين، خاصة بعد الحرب التجارية التي شنّها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي أعادت رسم خطوط الاشتباك الاقتصادي بين القوتين العظميين.
وأكدت ليليان تاو، رئيسة قطاع مبيعات اقتصاد الصين الكلي في دويتشه بنك، أن المستثمرين الصينيين بدأوا فعلياً بخفض الوزن النسبي للدولار في محافظهم الاستثمارية، مفضلين الأسواق الأوروبية ذات التصنيف الائتماني المرتفع، مثل ألمانيا، وحتى الأسواق «المهملة» سابقاً كإيطاليا وإسبانيا.
الدولار في مهبّ العاصفة
لطالما اعتُبر الدولار ملاذاً آمناً في أوقات الأزمات، لكن الأزمة الحالية تبدو مختلفة. فارتفاع العائدات على سندات الخزانة الأمريكية مؤخراً لم يكن بسبب تحسّن في الأداء الاقتصادي الأميركي، بل نتيجة عمليات بيع مكثفة، تعكس فقدان الثقة أكثر من كونها رهانات على الأرباح. ومع تزايد التقلبات وغياب القدرة على التنبؤ بسياسات واشنطن، باتت الأصول المقوّمة بالدولار تفقد جاذبيتها تدريجياً.
والرؤية الصينية ليست مجرد حسابات عائد ومخاطر، بل تُعبّر عن توجه استراتيجي للتقليل من الاعتماد على الدولار كوسيلة للتسوية التجارية والاحتياط النقدي. وفي ظل تصاعد العقوبات الاقتصادية واستخدام الدولار كسلاح جيوسياسي، باتت بكين تسعى جاهدة إلى فكّ الارتباط تدريجياً مع الدولار ومع سياسات أمريكا النقدية والتحول نحو أوروبا المضرة أيضا من سياسات ترامب.
دور أوروبا الصاعد
هذا التحوّل الصيني تجاه أوروبا لا يقتصر على أدوات الدين، بل يعكس إعادة تموضع عالمي في توزيع الاستثمارات. فالحوافز الاقتصادية الألمانية، وتوجه البنك المركزي الأوروبي نحو مزيد من المرونة النقدية، منحا الأسواق الأوروبية زخماً غير مسبوق. ووسط الانكماش الأمريكي المترنح، تُقدّم أوروبا نفسها كبديل آمن ومتزن، ولو إلى حين.
فاليورو لا يزال بعيداً عن منافسة الدولار من حيث الحجم والانتشار، لكنه بدأ يستقطب اهتمام المستثمرين الدوليين بوصفه عملة احتياط ثانوية جدية. أما الصين، فهي تواصل مساعي تدويل اليوان من خلال اتفاقات المقايضة بالعملات المحلية، والربط المتزايد بين بورصاتها والأسواق العالمية.
نحو نظام مالي متعدد الأقطاب
الحديث عن «نهاية الدولار» لا يعني انهياره، بل بداية تراجعه التدريجي عن موقعه المهيمن. فنحن اليوم أمام عالم مالي يتجه نحو التعددية القطبية، الدولار لا يزال في الصدارة، لكن اليوان يزحف بثبات، واليورو يعاود الظهور، وحتى الذهب يعود كملاذ كلاسيكي في فترات عدم اليقين.
ويمكن اعتبار انسحاب الصين من سندات الخزانة الأميركية ليس فقط مؤشراً على تغير المزاج الاستثماري، بل أيضاً على بداية تحوّل في بنية النظام النقدي العالمي. وإذا أضفنا إلى ذلك توجه دول «البريكس» إلى إطلاق عملة موحدة محتملة، وتوقيع اتفاقات ثنائية بعملات غير الدولار، فإن الأساس الذي بُني عليه اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية يبدو مهدداً أكثر من أي وقت مضى.
أي عالم ما بعد الدولار؟
والسؤال المطروح اليوم ليس إن كان الدولار سيفقد هيمنته، بل متى وبأي وتيرة. في الوقت الذي تشهد فيه الولايات المتحدة عجزاً مالياً متفاقماً، وصراعات جيوسياسية متزايدة، تبدو القوى الصاعدة كالصين مستعدة لإعادة كتابة قواعد اللعبة.
و»نهاية عصر الدولار» ليست لحظة حاسمة بل مسار طويل ومعقد، لكنه بدأ فعلاً. ومن يراقب حركة رؤوس الأموال اليوم، سيكتشف أن القطارات بدأت تتجه شرقاً، وأوروبا تُفتح أمامها الأبواب.
سفيان رجب
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شكّل الدولار الأميركي حجر الزاوية في النظام المالي العالمي، وأصبح العملة الاحتياطية الأولى في العالم، والأداة الأساسية لتسعير السلع الأساسية كالبترول والذهب وجل المعادن، ومرتكزًا أساسياً في السياسات النقدية الدولية.
إلا أن الرياح الآن تسير عكس ما تشتهيه واشنطن، مع تصاعد مؤشرات نهاية «عصر الدولار»، أو على الأقل تراجع هيمنته لصالح عملات أخرى، في مقدمتها اليورو واليوان الصيني وتدحرج قيمته أمام كل العملات بما في ذلك الدينار التونسي الذي نزل مؤخرا الى ما تحت الثلاثة دنانير للدولار الواحد بعد أن وصل منذ أيام إلى 3,3دينار.
التحول الصيني.. رسالة سياسية واقتصادية
وفي خطوة تحمل دلالات استراتيجية خاصة بعد قرارات ترامب الجبائية وحرب الرسومات خاصة مع بيكين، بدأ مستثمرون صينيون، بدعم غير مباشر من الدولة، تقليص استثماراتهم في سندات الخزانة الأمريكية لصالح أدوات الدين الأوروبية واليابانية، وفق تقرير لمجموعة دويتشه بنك الألمانية. التحرك هذا لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الجيوسياسي المتوتر بين واشنطن وبكين، خاصة بعد الحرب التجارية التي شنّها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي أعادت رسم خطوط الاشتباك الاقتصادي بين القوتين العظميين.
وأكدت ليليان تاو، رئيسة قطاع مبيعات اقتصاد الصين الكلي في دويتشه بنك، أن المستثمرين الصينيين بدأوا فعلياً بخفض الوزن النسبي للدولار في محافظهم الاستثمارية، مفضلين الأسواق الأوروبية ذات التصنيف الائتماني المرتفع، مثل ألمانيا، وحتى الأسواق «المهملة» سابقاً كإيطاليا وإسبانيا.
الدولار في مهبّ العاصفة
لطالما اعتُبر الدولار ملاذاً آمناً في أوقات الأزمات، لكن الأزمة الحالية تبدو مختلفة. فارتفاع العائدات على سندات الخزانة الأمريكية مؤخراً لم يكن بسبب تحسّن في الأداء الاقتصادي الأميركي، بل نتيجة عمليات بيع مكثفة، تعكس فقدان الثقة أكثر من كونها رهانات على الأرباح. ومع تزايد التقلبات وغياب القدرة على التنبؤ بسياسات واشنطن، باتت الأصول المقوّمة بالدولار تفقد جاذبيتها تدريجياً.
والرؤية الصينية ليست مجرد حسابات عائد ومخاطر، بل تُعبّر عن توجه استراتيجي للتقليل من الاعتماد على الدولار كوسيلة للتسوية التجارية والاحتياط النقدي. وفي ظل تصاعد العقوبات الاقتصادية واستخدام الدولار كسلاح جيوسياسي، باتت بكين تسعى جاهدة إلى فكّ الارتباط تدريجياً مع الدولار ومع سياسات أمريكا النقدية والتحول نحو أوروبا المضرة أيضا من سياسات ترامب.
دور أوروبا الصاعد
هذا التحوّل الصيني تجاه أوروبا لا يقتصر على أدوات الدين، بل يعكس إعادة تموضع عالمي في توزيع الاستثمارات. فالحوافز الاقتصادية الألمانية، وتوجه البنك المركزي الأوروبي نحو مزيد من المرونة النقدية، منحا الأسواق الأوروبية زخماً غير مسبوق. ووسط الانكماش الأمريكي المترنح، تُقدّم أوروبا نفسها كبديل آمن ومتزن، ولو إلى حين.
فاليورو لا يزال بعيداً عن منافسة الدولار من حيث الحجم والانتشار، لكنه بدأ يستقطب اهتمام المستثمرين الدوليين بوصفه عملة احتياط ثانوية جدية. أما الصين، فهي تواصل مساعي تدويل اليوان من خلال اتفاقات المقايضة بالعملات المحلية، والربط المتزايد بين بورصاتها والأسواق العالمية.
نحو نظام مالي متعدد الأقطاب
الحديث عن «نهاية الدولار» لا يعني انهياره، بل بداية تراجعه التدريجي عن موقعه المهيمن. فنحن اليوم أمام عالم مالي يتجه نحو التعددية القطبية، الدولار لا يزال في الصدارة، لكن اليوان يزحف بثبات، واليورو يعاود الظهور، وحتى الذهب يعود كملاذ كلاسيكي في فترات عدم اليقين.
ويمكن اعتبار انسحاب الصين من سندات الخزانة الأميركية ليس فقط مؤشراً على تغير المزاج الاستثماري، بل أيضاً على بداية تحوّل في بنية النظام النقدي العالمي. وإذا أضفنا إلى ذلك توجه دول «البريكس» إلى إطلاق عملة موحدة محتملة، وتوقيع اتفاقات ثنائية بعملات غير الدولار، فإن الأساس الذي بُني عليه اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية يبدو مهدداً أكثر من أي وقت مضى.
أي عالم ما بعد الدولار؟
والسؤال المطروح اليوم ليس إن كان الدولار سيفقد هيمنته، بل متى وبأي وتيرة. في الوقت الذي تشهد فيه الولايات المتحدة عجزاً مالياً متفاقماً، وصراعات جيوسياسية متزايدة، تبدو القوى الصاعدة كالصين مستعدة لإعادة كتابة قواعد اللعبة.
و»نهاية عصر الدولار» ليست لحظة حاسمة بل مسار طويل ومعقد، لكنه بدأ فعلاً. ومن يراقب حركة رؤوس الأموال اليوم، سيكتشف أن القطارات بدأت تتجه شرقاً، وأوروبا تُفتح أمامها الأبواب.
سفيان رجب