إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مسلسل " حرقة " : الحرّاقة في عمل حارق.

 بقلم روضة القرافي

من المؤسف حقا أن لا يولي الإعلام التونسي اهتمامه  بالعمل  الدرامي المتميز لهذه السنة " الحرقة " فعلا  إلا بعد أن أصبح حديث العالم والصحافة العالمية والمنصات الدولية.

فمن خلال متابعتي  شخصيا لهذا العمل والتعليقات الإذاعية والتلفزية حوله في بداية بثه لاحظت ان  جلها  كانت تضعه خلف الأعمال الأخرى التي بثت خلال هذا الشهر مع أحكام مسبقة لصالح هذه الأخيرة رغم المواضيع الممجوجة التي تطرحها احيانا  والأدوار الدراميية المنمطة

الى حين برزت موجة التثمين العالمي للحرقة فاضطر إعلاميون من متابعي النشاط الدرامي للتدارك والانخراط في الحديث عن هذا العمل وفي التأكيد على  أهميته والنجاح الذي حققه .

من الأكيد ان هذا العمل قد نجح في استعمال  التقنيات الحديثة   لنجاح المسلسلات التلفزية وقدرتها بل و سلطتها في جذب المتفرج وانغماسه في عالمها السردي المتخيل  إذ يؤكد الدارسون  على سلطة المسلسلات التلفزية في جذب وشد المتفرج بل قدرتها على التاثير فيه   من خلال  انغماسه التام Immersion   في عالمها السردي المتخيل الى درجة نسيانه أنه إزاء خيال لا واقع ( يبكي لبكاء الشخصيات ويفرح لفرحها )

ينغمس المتفرج  في العالم الذي أبدعه وتخيله  شخص آخر  هو  كاتب النص الروائي أو مخرج العمل الدرامي   كلما تمكن من فهم وإدراك  ذلك العالم انطلاقا من معارفه العادية والبسيطة . هذا الاندماج أو الانغماس في العمل الإبداعي المتخيل أيا كان جنسه  يحصلان  من خلال بعد جوهري  وهو دخول العالم الإبداعي المتخيل  العالم  الواقعي لا ليحاكيه بل لينقل صورة متخيلة عنه فيتحول الى رجع صدى لهذا الواقع. 

في هذا العالم المتخيل الواقعي إذا صح التعبير   تغدو الأحداث والمواقف والشخصيات منتزعة من قلب الواقع قريبة منه  . إنها  التعبير المجازي عن واقع معيش لا ينقله  المبدع  كما هو ليكون سردا  تاريخيا  أو عملا وثائقيا  بل لينطلق  منه  فيصوغه  صياغة شخصية فكرية ووجدانية  تحمل موقفا من الوجود والحياة  .

إن تحقق هذا الاندماج بين المتلقي والعمل الإبداعي  يتطلب  اختيار  موضوع  ملائم وحقيقي  مستمد من الواقع  ينصهر تماما و بكثافة  في عالم الخيال   فيتحول الى   "حقيقة " متجسدة  الحصول رغم أنها متخيلة  .  كما يتطلب الأمر  أن يكون عالم السرد عالما ثريا   متنوعا  ولكن منسجما في تنوعه وثرائه . فمن المفيد للنص السردي المتخيل  ان يكثف العالم والسياق الذي يرتبط به  فيغذيه بشخصيات مختلفة وبعلاقات منطقية بين  تلك الشخصيات وبمغامرات و أحداث  منسجمة لا تتنكر للمنطق ومبدأ الاحتمال   Vraisemblance  ولكن لا   تقع أسيرة النقل الحرفي للواقع  اذ تشحنه  بعاطفة قوية  دون ان تسقط في مبالغات الملودراما الفجة التي غايتها استدرار عطف المتلقى لا أكثر.

  يحكي العمل الناجح  قصة إنسانية عميقة من خلال حكاية وشخصيات تحرك عاطفة المتفرج بلا شك ولكن  دون ان تلغي عقله  وحسه النقدي ..  وبذلك تكتسب نواة السرد  السمك المطلوب فيبدو  لنا العالم المتخيل نفسه شيئا فشيئا اقل نقصا باعتباره  محض خيال  و لكن أكثر اكتمالا من الواقع نفسه  لأنه ينقل صورة ذهنية  عنه شديدة التكثيف (1).

لقد حقق مسلسل " حرقة "  كثيرا من شروط النجاح النظرية  هذه، ومنها  اختيار موضوع واقعي هو موضوع الحرقة فحقق تأثيرا قويا   لدى من تابعوه لأنه وضع أمام أعينهم  قطعة حية من معيش  الكثير من التونسيين في مستويات  اجتماعية و مواقع مختلفة ومن مآسي هذه الظاهرة  العالمية. 

 تكثفت  نواة  السرد واكتسبت  السمك المطلوب  من خلال تعدد الشخصيات التي كشفت عن جوانب مختلفة  وأحيانا متناقضة  من الظاهرة  :  الحارق و الحرّاق و أهل الحارق و الأمن  والمحاماة والقضاء ..والسلطة السياسية في تونس و السلط الايطالية  والمنظمات غير الحكومية ذات الصلة. جمع  مسلسل  الحرقة   كل هؤلاء ووضعهم وجها  لوجه  متصادمين في أغلب الأحيان  لكن متحالفين أحيانا أخرى حتى في  تناقضهم .

  فالحرّاق يتحول هو نفسه الى حارق ويتبنى موقف الضحايا  في حين انه في الأصل مسؤول هو ايضا  عن وضعهم..  كما تطورت الأحداث وتصاعدت  لا لتحكي مصائر الشخصيات فحسب بل لتشير الى  مأزق  سياسي في المستوى الأعلى  من التحليل وهو مأزق تونس تعيش  انتقالا صعبا  ومؤلما  تسوده البطالة والفقر .خدم   الحوار الجيد كل ذلك  فكان سلسا  ومكثفا وكان تقمص الشخصيات  للأدوار  مناسبا صادقا ومقنعا  وبلغ التصوير من الناحية التقنية خاصة في المشاهد المصورة في البحر  مستوى كبيرا من  الجودة والجمالية لم نشهدها قبل في الأعمال التونسية.

لكن رغم إعجابي بالعمل الذي بعث في نفسي كمتفرجة تونسية  شعورا بالاعتزاز لما بلغه عمل درامي تونسي من عمق الطرح  وتحد ّللتابوهات الاجتماعية  والسياسية  بلغة بسيطة ومن خلال قصص غير متكلفة ( كثيرا ما نفتقدها  في الانتاج الدرامي التونسي) ومن جمالية الشكل والمحامل   فإنه أثار في ذهني تساؤلا  يبدو لي مشروعا  : .لماذا  اقتصر  طرح  مشكل الحرقة على فترة ما بعد الثورة دون إشارة ولو سريعة  إلى أن  الظاهرة  لم تأت بها الثورة  بل هي ظاهرة قديمة  ومستفحلة منذ عهد  الاستبداد   ؟

لماذا اقتصر التحليل الروائي على   فترة ما بعد الثورة في نوع من المحاكمة لها   في حين أن المسلسل كعمل ناجح ومتميز ما كان ليكون لولا المنجز الديمقراطي  الذي تحولت فيه التلفزة التونسية الى قناة عمومية  لا قناة حكومية يتحكم فيها النظام كما قال أحد الممثلين المشاركين في المسلسل في تعليق له على  نجاح العمل    ( رغم صعوبات هذا الانتقال   وارتداداته )

إن حرية التعبير التي يستفيد منها المبدعون اليوم  هي أفضل   تجسيد  للجوانب المضيئة لهذا الانتقال  . فمن  كان بمقدوره أن  يتخيل أن تنتج القناة الوطنية التونسية وتبث هذا العمل الزاخر  بمواقف صادقة بل مؤلمة في صدقها أحيانا   وقوية في نقد السلطة  وأجهزة الدولة.

إن صدى نجاح هذا العمل في الخارج الذي لا يجامل في تقييم الأعمال  يبقى اكبر دليل على أن الاستثمار في الديمقراطية هو  الذي سيدعم التحول  الذي حصل في بلادنا  من خلال  انتفاضة المحرومين المفقرين والمضطهدين  .هذا الانتقال يحتاج إلى ثورة فكرية وثقافية إذ لا إمكانية لتغيير حقيقي طالما لم يكن  الفكر والثقافة  في قلبه  ومن غاياته. لكن  بشرط أن لا نخطئ  التشخيص  وان نتجنب  الالتباسات في فهمنا للماضي   كالإيحاء عن قصد أو عن  غير قصد بأفضليته على الحاضر  حنينا  للماضي أو محاكمة  للحاضر ...

أخيرا تحية تقدير لكل من ساهم في إنجاز هذا العمل  

مسلسل  " حرقة " :   الحرّاقة  في عمل حارق.

 بقلم روضة القرافي

من المؤسف حقا أن لا يولي الإعلام التونسي اهتمامه  بالعمل  الدرامي المتميز لهذه السنة " الحرقة " فعلا  إلا بعد أن أصبح حديث العالم والصحافة العالمية والمنصات الدولية.

فمن خلال متابعتي  شخصيا لهذا العمل والتعليقات الإذاعية والتلفزية حوله في بداية بثه لاحظت ان  جلها  كانت تضعه خلف الأعمال الأخرى التي بثت خلال هذا الشهر مع أحكام مسبقة لصالح هذه الأخيرة رغم المواضيع الممجوجة التي تطرحها احيانا  والأدوار الدراميية المنمطة

الى حين برزت موجة التثمين العالمي للحرقة فاضطر إعلاميون من متابعي النشاط الدرامي للتدارك والانخراط في الحديث عن هذا العمل وفي التأكيد على  أهميته والنجاح الذي حققه .

من الأكيد ان هذا العمل قد نجح في استعمال  التقنيات الحديثة   لنجاح المسلسلات التلفزية وقدرتها بل و سلطتها في جذب المتفرج وانغماسه في عالمها السردي المتخيل  إذ يؤكد الدارسون  على سلطة المسلسلات التلفزية في جذب وشد المتفرج بل قدرتها على التاثير فيه   من خلال  انغماسه التام Immersion   في عالمها السردي المتخيل الى درجة نسيانه أنه إزاء خيال لا واقع ( يبكي لبكاء الشخصيات ويفرح لفرحها )

ينغمس المتفرج  في العالم الذي أبدعه وتخيله  شخص آخر  هو  كاتب النص الروائي أو مخرج العمل الدرامي   كلما تمكن من فهم وإدراك  ذلك العالم انطلاقا من معارفه العادية والبسيطة . هذا الاندماج أو الانغماس في العمل الإبداعي المتخيل أيا كان جنسه  يحصلان  من خلال بعد جوهري  وهو دخول العالم الإبداعي المتخيل  العالم  الواقعي لا ليحاكيه بل لينقل صورة متخيلة عنه فيتحول الى رجع صدى لهذا الواقع. 

في هذا العالم المتخيل الواقعي إذا صح التعبير   تغدو الأحداث والمواقف والشخصيات منتزعة من قلب الواقع قريبة منه  . إنها  التعبير المجازي عن واقع معيش لا ينقله  المبدع  كما هو ليكون سردا  تاريخيا  أو عملا وثائقيا  بل لينطلق  منه  فيصوغه  صياغة شخصية فكرية ووجدانية  تحمل موقفا من الوجود والحياة  .

إن تحقق هذا الاندماج بين المتلقي والعمل الإبداعي  يتطلب  اختيار  موضوع  ملائم وحقيقي  مستمد من الواقع  ينصهر تماما و بكثافة  في عالم الخيال   فيتحول الى   "حقيقة " متجسدة  الحصول رغم أنها متخيلة  .  كما يتطلب الأمر  أن يكون عالم السرد عالما ثريا   متنوعا  ولكن منسجما في تنوعه وثرائه . فمن المفيد للنص السردي المتخيل  ان يكثف العالم والسياق الذي يرتبط به  فيغذيه بشخصيات مختلفة وبعلاقات منطقية بين  تلك الشخصيات وبمغامرات و أحداث  منسجمة لا تتنكر للمنطق ومبدأ الاحتمال   Vraisemblance  ولكن لا   تقع أسيرة النقل الحرفي للواقع  اذ تشحنه  بعاطفة قوية  دون ان تسقط في مبالغات الملودراما الفجة التي غايتها استدرار عطف المتلقى لا أكثر.

  يحكي العمل الناجح  قصة إنسانية عميقة من خلال حكاية وشخصيات تحرك عاطفة المتفرج بلا شك ولكن  دون ان تلغي عقله  وحسه النقدي ..  وبذلك تكتسب نواة السرد  السمك المطلوب فيبدو  لنا العالم المتخيل نفسه شيئا فشيئا اقل نقصا باعتباره  محض خيال  و لكن أكثر اكتمالا من الواقع نفسه  لأنه ينقل صورة ذهنية  عنه شديدة التكثيف (1).

لقد حقق مسلسل " حرقة "  كثيرا من شروط النجاح النظرية  هذه، ومنها  اختيار موضوع واقعي هو موضوع الحرقة فحقق تأثيرا قويا   لدى من تابعوه لأنه وضع أمام أعينهم  قطعة حية من معيش  الكثير من التونسيين في مستويات  اجتماعية و مواقع مختلفة ومن مآسي هذه الظاهرة  العالمية. 

 تكثفت  نواة  السرد واكتسبت  السمك المطلوب  من خلال تعدد الشخصيات التي كشفت عن جوانب مختلفة  وأحيانا متناقضة  من الظاهرة  :  الحارق و الحرّاق و أهل الحارق و الأمن  والمحاماة والقضاء ..والسلطة السياسية في تونس و السلط الايطالية  والمنظمات غير الحكومية ذات الصلة. جمع  مسلسل  الحرقة   كل هؤلاء ووضعهم وجها  لوجه  متصادمين في أغلب الأحيان  لكن متحالفين أحيانا أخرى حتى في  تناقضهم .

  فالحرّاق يتحول هو نفسه الى حارق ويتبنى موقف الضحايا  في حين انه في الأصل مسؤول هو ايضا  عن وضعهم..  كما تطورت الأحداث وتصاعدت  لا لتحكي مصائر الشخصيات فحسب بل لتشير الى  مأزق  سياسي في المستوى الأعلى  من التحليل وهو مأزق تونس تعيش  انتقالا صعبا  ومؤلما  تسوده البطالة والفقر .خدم   الحوار الجيد كل ذلك  فكان سلسا  ومكثفا وكان تقمص الشخصيات  للأدوار  مناسبا صادقا ومقنعا  وبلغ التصوير من الناحية التقنية خاصة في المشاهد المصورة في البحر  مستوى كبيرا من  الجودة والجمالية لم نشهدها قبل في الأعمال التونسية.

لكن رغم إعجابي بالعمل الذي بعث في نفسي كمتفرجة تونسية  شعورا بالاعتزاز لما بلغه عمل درامي تونسي من عمق الطرح  وتحد ّللتابوهات الاجتماعية  والسياسية  بلغة بسيطة ومن خلال قصص غير متكلفة ( كثيرا ما نفتقدها  في الانتاج الدرامي التونسي) ومن جمالية الشكل والمحامل   فإنه أثار في ذهني تساؤلا  يبدو لي مشروعا  : .لماذا  اقتصر  طرح  مشكل الحرقة على فترة ما بعد الثورة دون إشارة ولو سريعة  إلى أن  الظاهرة  لم تأت بها الثورة  بل هي ظاهرة قديمة  ومستفحلة منذ عهد  الاستبداد   ؟

لماذا اقتصر التحليل الروائي على   فترة ما بعد الثورة في نوع من المحاكمة لها   في حين أن المسلسل كعمل ناجح ومتميز ما كان ليكون لولا المنجز الديمقراطي  الذي تحولت فيه التلفزة التونسية الى قناة عمومية  لا قناة حكومية يتحكم فيها النظام كما قال أحد الممثلين المشاركين في المسلسل في تعليق له على  نجاح العمل    ( رغم صعوبات هذا الانتقال   وارتداداته )

إن حرية التعبير التي يستفيد منها المبدعون اليوم  هي أفضل   تجسيد  للجوانب المضيئة لهذا الانتقال  . فمن  كان بمقدوره أن  يتخيل أن تنتج القناة الوطنية التونسية وتبث هذا العمل الزاخر  بمواقف صادقة بل مؤلمة في صدقها أحيانا   وقوية في نقد السلطة  وأجهزة الدولة.

إن صدى نجاح هذا العمل في الخارج الذي لا يجامل في تقييم الأعمال  يبقى اكبر دليل على أن الاستثمار في الديمقراطية هو  الذي سيدعم التحول  الذي حصل في بلادنا  من خلال  انتفاضة المحرومين المفقرين والمضطهدين  .هذا الانتقال يحتاج إلى ثورة فكرية وثقافية إذ لا إمكانية لتغيير حقيقي طالما لم يكن  الفكر والثقافة  في قلبه  ومن غاياته. لكن  بشرط أن لا نخطئ  التشخيص  وان نتجنب  الالتباسات في فهمنا للماضي   كالإيحاء عن قصد أو عن  غير قصد بأفضليته على الحاضر  حنينا  للماضي أو محاكمة  للحاضر ...

أخيرا تحية تقدير لكل من ساهم في إنجاز هذا العمل  

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews