إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

ملفات "الصباح" / محبطون.. مكتئبون.. عدوانيون الصحة النفسية لأطفال تونس.. في خطر!

  • في دراسة حديثة لليونيسف: 22 بالمائة من أطفالنا "محبطون"..!!

  • رئيس منظمة الدفاع عن حقوق الطفل لـ "الصباح": الطفل التونسي مفعول به ومنزوع الشخصية

  • مختصة في علم النفس الاجتماعي: مؤشرات القلق لدى الأطفال والشباب خطيرة..

  • جائحة كورونا أثرت سلبا على الصحة النفسية للأطفال

تونس – الصباح

قبل سنوات قليلة، قد يبدو من الغريب أن تكتظ عيادات الطب النفسي والعيادات الخارجية لأقسام طب الأمراض النفسية، بعدد كبير من الأطفال الذين لا يجد آباءهم، مناصا من عرضهم على المختصين للتأكد من سلامة صحتهم النفسية، ولكن اليوم بات عدد الأطفال الذين يعانون من اضطرابات نفسية ومن انحرافات سلوكية، في تزايد مخيف حذّر منه كل المختصين وكل المنظمات الدولية والمحلية المعنية بشأن الطفولة.

هندة.ع أم لطفل يبلغ من العمر 8 سنوات، يعاني من اضطرابات سلوكية ويميل إلى العنف والعدوانية، كما يعاني من نوع من النشاط المفرط الذي يجعل التحكم في حركته شبه مستحيل ومرهق، تواصلنا معها في لقاء مباشر، وقد رفضت في البداية الاعتراف بأن ابنها يعاني من مشاكل نفسية ويجب أن يخضع لعلاج دقيق، ولكن في السنة الفارطة قام بالاعتداء بدنيا على طفل معه في نفس المدرسة بجهة أريانة، وألحق به أضرارا بالغة وكان على وشك طرده لعنفه في التعامل مع نفس التلاميذ من سنه، وتقول:"منحتني إدارة المدرسة مشكورة فرصة لمعالجة الأمر من خلال ضرورة عرض ابني على مختص نفسي، لم أتقبل الفكرة في البداية ولكن اليوم أتابع مع طبيبة مختصة في الطب النفسي حالة ابني التي تحسنت قليلا وبات أكثر هدوء وأقل عدوانية ولكن بصراحة ما زلت خائفة على مستقبله"..

 

مؤشرات سلبية حول الصحة النفسية لأطفالنا

 

كانت وضعية أطفال تونس، محل اهتمام منظمة الأمم المتحدة للطفولة، "يونيسف"، حيث نشرت منذ سنتين، دراسة قامت من خلالها بـ "تحليل وضعية الأطفال في تونس"، وقد توصلت هذه الدراسة الصادمة إلى أن 21.2 في المائة من الأطفال يعانون الفقر في تونس، والتي تبلغ فيها نسبة الفقر العام 15.2 في المائة. كما أكدت الدراسة أن 72 في المائة من الأطفال لا يمتلكون مهارات أساسية في العمليات الحسابية وأن 34 في المائة منهم لا يمتلكون المهارة في القراءة. وفيما يتعلق بظاهرة العنف أشارت إلى تسجيل حوالي 17500 حالة تبليغ عن العنف الجسدي المسلط على الأطفال في سنة 2018، مقابل نحو 6 آلاف حالة تبليغ عن حالات العنف في نهاية ديسمبر 2011.

ويبقى أخطر ما توصلت إليه هذه الدراسة أن هناك تحديات تتعلق بصحة الأطفال والمراهقين بما في ذلك صحتهم العقلية، مشيرة إلى وجود نقص على مستوى الكوادر في التعامل مع القضايا المتصلة بالصحة النفسية والعقلية للأطفال ووجود ضعف في السياسات العمومية التي تستهدف الاضطرابات والأمراض العقلية لديهم. كما كشفت أيضا عن وجود ضعف في تمويل السياسة الصحية النفسية في موازنة وزارة الصحة بالإضافة إلى عدم إدراج برنامج التثقيف الصحي في مناهج التعليم، ودعت "اليونيسف" في هذه الدراسة ضمن العديد من التوصيات الأخرى إلى تطوير آليات مكافحة العنف ضد الأطفال على غرار الاستغلال الاقتصادي والعنف الجسدي والنفسي وعدم احترام حقوق الطفل، مؤكدة على صياغة برنامج لتدريب الوالدين على كيفية تربية أبنائهما دون اللجوء إلى العنف. وفي ذات السياق وبالتزامن مع تلك الدراسة، نشرت وزارة الشؤون الاجتماعية بالشراكة مع "اليونسيف"، كشفت عن ارتفاع مؤشر الأمراض النفسية والعقلية لدى الأطفال.

وفي علاقة بالصحة النفسية للكبار والصغار في تونس قالت منظمة الصحة العالمية، في دراسة طبية لها في علاقة بالأمراض النفسية أن  تونس تأتي في المرتبة الثالثة إفريقيا من حيث عدد المصابين بالاكتئاب إذ يعاني 518 ألف تونسي من الاكتئاب أي بنسبة 8,2 في المائة، وأن هناك نسبة هامة من الأطفال التونسيين مصابين بالاكتئاب. وحسب مراجع الطب النفسي فالاكتئاب هو اضطراب نفسي حاد يعاني منه الطفل أو الراشد يتعرّض خلاله لمشاعر حزن غير مبرّر لفترة طويلة دون سبب واضح. وأن الطفل الذي لا يستطيع التعبير عن مشاعره يلجأ عادة للصمت وأن ذلك يعرضه لهذا الاضطراب إذ يمكن أن تتحوّل انفعالاته الداخلية لاكتئاب بحكم أننا لم نعلّمه التعبير أو فهم تعبيرات الآخرين.. والأطفال الذين يعانون من الاكتئاب يتسم سلوكهم بنظرة سلبية لذواتهم وإحساسهم الدائم بالدونية ويعانون من مشاكل ذهنية وصعوبة في التركيز والانتباه وضعف الأداء الدراسي، ولديهم تعلّق عاطفي مفرط وبطريقة مبالغ فيها تصل حتى لسلوكيات شاذة. ويؤثّر الاكتئاب على الجسم فالطفل المكتئب لديه رغبة كبيرة في النوم ويتعب ويجهد في أي نشاط يقوم به، وفق المختصين.

 

تداعيات الوضع العام على الصحة النفسية للأطفال..

 

تداعيات الوضع العام للبلاد، تؤثّر على الأطفال حتى قبل الكبار، ذلك ما أكده رئيس منظمة الدفاع عن الطفل د. معز الشريف في تصريح لـ"الصباح" ردا عن سؤال واقع الصحة النفسية للأطفال في تونس، في سياقات المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، مضيفا:"العائلة التونسية لم تعد عائلة موسعة بل أصبحت عائلة نواتية منغلقة على نفسها في شقة صغيرة وفي فضاء ضيّق يجعل انعكاس المشاكل الخارجية من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر عمقا، مقابل مؤسسة تربوية تخلت عن دورها البيداغوجي في الإحاطة بالطفل، وكل ذلك عرّض الصحة النفسية للأطفال وللمراهقين وللشباب لمخاطر عميقة وبات لها بدورها انعكاس مباشر على المجتمع بسبب انتشار العنف والإدمان". 

ويضيف:"المؤسسات التربوية تكتفي بتلقين الدروس دون اهتمام لما قد يعيشه الطفل من تقلبات وتغييرات.. نحن نتحدث عن مجلس المؤسسة الذي لم يعقد منذ 20 سنة والذي يضم ممثلين عن الأولياء والتلاميذ والإطار التربوي والسلط المحلية أو الجهوية والذي هو دوره النظر في مشكل البيئة المدرسية وإيجاد حلول لكل المخاطر، وهو ما جعل العلاقة بين العائلة وبين المؤسسات المحتضنة للأطفال هي علاقة اصطدام بالأساس ولم يعد هناك حوار لحل المشاكل أو الوقاية من الوصول إلى لحظة التصادم". 

كما أشار معز الشريف أنه لم يعد هناك تكوين بيداغوجي للمربي يمكنه من إمكانية التنبؤ بالمخاطر التي يعيشها الطفل أو بالمتغيرات النفسية الخطيرة التي قد يمر بها، وفقدت بذلك المدرسة دورها التربوي وأصبحت فقط مؤسسة تعليم وليست مؤسسة تربوية ولم تعد هناك يقظة للتفطن إلى المشاكل النفسية، حتى بعض الحلول التي أوجدتها الدولة بالشراكة بين وزارة التربية ووزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية والتي تسمى بخلايا الإنصات داخل المؤسسات التربوية الكبرى كالمعاهد فإن أغلبها تفتقد إلى الإطارات المختصة وحتى وإن وجدت هذه الإطارات فانه وبالنظر للنقص في الإطار الإداري والتربوي يقع تغيير اختصاص القائمين على خلايا الإنصات وتوجيههم إلى أعمال إدارية أو تربوية، وفق تعبيره.

 

غياب إستراتيجية للصحة النفسية للأطفال

 

 قال رئيس منظمة الدفاع عن حقوق الطفل، د. معز الشريف أن وزارة التربية وبالشراكة مع وزارة الصحة وإدارة الصحة المدرسية تفتقد إلى إستراتيجية تُعنى بالصحة النفسية حيث هناك عناية بالصحة الجسدية وبالتلاقيح المستوجبة ولكن الصحة النفسية مسألة مهملة تماما في الفضاء المدرسي، في المقابل فان الأطفال أصبحوا يعيشون على إيقاع حياة الكبار ومرتبطين بواجبات الكبار ونسق حياتهم اليومية، حيث منذ السادسة صباحا إلى السادسة مساء، يوضع الأطفال في فضاءات حضانة أو فضاءات تربوية، بما افقد العلاقة بين الأولياء والأطفال ذلك الرابط الحميمي الذي يمكن أن يحقق له اكتفاء عاطفي، وحتى تلك الفضاءات عاجزة عن توفير الإحاطة السليمة للأطفال في أغلبها ،قائلا : "أكثر من 60 بالمائة من الإطارات في رياض الأطفال على سبيل المثال ليس لها أي تكوين مناسب للفئة العمرية المُتعامل معها، وهو ما يجعل التنشئة من أساسها خاطئة".

 

الطفل "مفعول به" في الأسرة والمدرسة!

 

في ثقافتنا الاجتماعية هناك اعتماد على التأديب العنيف، حيث نضرب الأطفال، وننعتهم بنعوت مشينة ولا نتوانى في الدعاء عليهم بطريقة عنيفة، وهذا كله يحد من تطور شخصيتهم ويحبطهم ويجعلهم غير قادرين على النقاش أو إبداء الرأي خوفا من العقاب أو التأديب العنيف، هذا ما أكده معز الشريف، الذي يضيف :"نحن عندما نتحدث على الأطفال نتحدث على ضرورة كسر شوكة الطفل حتى يمكن السيطرة عليه وإخضاعه، لان الطفل في العائلة التونسية لا يتمتع بشخصية كاملة بل هو مفعول به منذ ولادته حيث نضع له إطارا منذ البداية ونحاول بكل جهدنا أن نقولبه في ذلك الإطار وفق رغباتنا وأهوائنا، دون إيلاء أدنى عناية لآرائه أو مهاراته".

وفي إحصائيات صادمة كشفها لنا الدكتور الشريف من خلال دراسة أنجزها معهد الإحصاء بالشراكة مع "اليونيسف"، فان 22 بالمائة من الأطفال التونسيين يعانون من الإحباط، علما وأن عدد الأطفال الجملي في تونس يبلغ حوالي 3 ملايين و500 ألف طفل، ويعرّف المختصون الإحباط بأنه مجموعة مشاعر سلبية، كالإحساس بالضيق والتوتر والغضب والعجز والدونية، وينتج عن وجود عائق ما يحول دون إشباع حاجة عند الإنسان أو حل مشكلاته، حيث يصبح المحبط عاجزا عن مواجهة مشاكله وفاقدا للثقة بنفسه، وأن يعيش الطفل التونسي على هذه المشاعر السلبية، فان ذلك مؤشر خطير يجب ايلائه العناية القصوى لأن مشاعر الإحباط قد تتطور وبشكل سلبي إلى مشاعر اكتئاب وعدوانية وتخلق جيل غير متوازن نفسيا ويعاني من اضطرابات سلوكية حادة. وقد أكد الدكتور الشريف أن ذلك دفع الدولة مؤخرا إلى إقرار إستراتيجية وطنية للصحة النفسية حماية لمستقبل الأجيال القادمة.

* الكورونا أزمت الأطفال نفسيا

أشار عدد من المختصين النفسيين في تونس إلى أن معدلات الاكتئاب ارتفعت في صفوف صغار السن بسبب تداعيات فيروس كورونا، الذي جعل من الأطفال والمراهقين من بين أكثر الفئات عرضة للهزات النفسية، لهشاشتهم النفسية وسرعة تأثرهم بالعوامل المحيطة بهم، مثل الكلفة الاجتماعية للجائحة التي أثرت بشكل مباشر على التماسك الأسري، وهو ما جعل المحيط الذي يعيش فيه الأطفال في تونس لا يشجع على التفاؤل، بسبب المشاكل الأسرية والصدام العائلي وحالات التشاؤم والغضب داخل الأسرة بسبب صعوبات الوضع المعيشي وغلاء الأسعار، إلى جانب تزايد مشاعر القلق والعنف اللفظي وانعدام الرضا والخوف من المستقبل في المحيط المدرسي والاجتماعي، وكل ذلك يدفع بالطفل إلى الشعور بالإحباط والخوف والتيه وانعدام التوازن والأمان.

وقد برزت هذه التداعيات في انتشار موجة من انتحار الأطفال في الأشهر الماضية بسبب عوامل اجتماعية واقتصادية وازدياد مشاكل الفقر وانعدام الأمل والإحساس بالحرمان لدى بعض المراهقين والأطفال المنحدرين من بيئة اجتماعية فقيرة لكنها تظل محدودة ولا ترتبط بالأثر النفسي المترتب عن الجائحة. وقد أشارت دراسة دولية نشرتها "اليونسيف" إلى أن 40٪ من القاصرين يعتبرون جائحة كورونا هي المصدر الرئيسي لمشاعر القلق، كما تسببت في انتشار اضطرابات في السلوك الغذائي وحالات الاكتئاب والوسواس القهري. 

 

* المختصة في علم النفس الاجتماعي د. دنيا الرميلي لـ "الصباح":ا نتشار كبير للقلق المرضي في صفوف الأطفال والشباب..

 

اشتغلت الدكتورة دنيا الرميلي على عدة ظواهر اجتماعية سلبية مثل العنف والانتحار، وهي اليوم تشتغل على ظاهرة القلق كأحد مؤشرات الصحة النفسية لدى الشباب، وفي سؤال حول وضعية الصحة النفسية للأطفال في تونس، قالت د. رميلي : "كثيرا ما نقول إن الأطفال بعيدين كل البعد عن الاضطرابات والمشاكل النفسية وهي معلومة مغلوطة، لأنه دائما ما نعتبر أن الأطفال لم يدخلوا بعد معترك الحياة وأن لا مشاكل لهم وهذا غير صحيح..، حيث أثبتت عديد الدراسات والبحوث الوطنية والدولية أن الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الأطفال وخاصة في السنوات الأخيرة هي اضطرابات عديدة، خاصة عندما نرى سلوكيات لدى الأطفال مثل ظاهرة العنف وعدم التركيز والفشل والانقطاع المدرسي وكل ذلك يعود إلى مشاكل على مستوى العائلة أو إلى تأثر العلاقات وتشنجها مع زملاء الدراسة والخوف الذي نجده عند الأطفال من الفشل والرسوب الدراسي، والخوف من ردة فعل الأولياء عند الاطلاع على النتائج المدرسية". 

كما أشارت د.رميلي إلى انتشار كبير لحالات الاكتئاب والأرق بين الأطفال والشباب، وقد قالت أن هناك نسبة كبيرة من المتمدرسين، يشعرون بقلق مرضي وأن ذلك نتيجة صادمة بالنسبة لمن أنجز بحوثا ميدانية في هذا السياق وانه لذلك يجب وضع استراتيجيات محينة، حتى يتم التحسين من الصحة النفسية لدى الطلبة والأطفال.

منية العرفاوي 

ملفات "الصباح" / محبطون.. مكتئبون.. عدوانيون  الصحة النفسية لأطفال تونس.. في خطر!
  • في دراسة حديثة لليونيسف: 22 بالمائة من أطفالنا "محبطون"..!!

  • رئيس منظمة الدفاع عن حقوق الطفل لـ "الصباح": الطفل التونسي مفعول به ومنزوع الشخصية

  • مختصة في علم النفس الاجتماعي: مؤشرات القلق لدى الأطفال والشباب خطيرة..

  • جائحة كورونا أثرت سلبا على الصحة النفسية للأطفال

تونس – الصباح

قبل سنوات قليلة، قد يبدو من الغريب أن تكتظ عيادات الطب النفسي والعيادات الخارجية لأقسام طب الأمراض النفسية، بعدد كبير من الأطفال الذين لا يجد آباءهم، مناصا من عرضهم على المختصين للتأكد من سلامة صحتهم النفسية، ولكن اليوم بات عدد الأطفال الذين يعانون من اضطرابات نفسية ومن انحرافات سلوكية، في تزايد مخيف حذّر منه كل المختصين وكل المنظمات الدولية والمحلية المعنية بشأن الطفولة.

هندة.ع أم لطفل يبلغ من العمر 8 سنوات، يعاني من اضطرابات سلوكية ويميل إلى العنف والعدوانية، كما يعاني من نوع من النشاط المفرط الذي يجعل التحكم في حركته شبه مستحيل ومرهق، تواصلنا معها في لقاء مباشر، وقد رفضت في البداية الاعتراف بأن ابنها يعاني من مشاكل نفسية ويجب أن يخضع لعلاج دقيق، ولكن في السنة الفارطة قام بالاعتداء بدنيا على طفل معه في نفس المدرسة بجهة أريانة، وألحق به أضرارا بالغة وكان على وشك طرده لعنفه في التعامل مع نفس التلاميذ من سنه، وتقول:"منحتني إدارة المدرسة مشكورة فرصة لمعالجة الأمر من خلال ضرورة عرض ابني على مختص نفسي، لم أتقبل الفكرة في البداية ولكن اليوم أتابع مع طبيبة مختصة في الطب النفسي حالة ابني التي تحسنت قليلا وبات أكثر هدوء وأقل عدوانية ولكن بصراحة ما زلت خائفة على مستقبله"..

 

مؤشرات سلبية حول الصحة النفسية لأطفالنا

 

كانت وضعية أطفال تونس، محل اهتمام منظمة الأمم المتحدة للطفولة، "يونيسف"، حيث نشرت منذ سنتين، دراسة قامت من خلالها بـ "تحليل وضعية الأطفال في تونس"، وقد توصلت هذه الدراسة الصادمة إلى أن 21.2 في المائة من الأطفال يعانون الفقر في تونس، والتي تبلغ فيها نسبة الفقر العام 15.2 في المائة. كما أكدت الدراسة أن 72 في المائة من الأطفال لا يمتلكون مهارات أساسية في العمليات الحسابية وأن 34 في المائة منهم لا يمتلكون المهارة في القراءة. وفيما يتعلق بظاهرة العنف أشارت إلى تسجيل حوالي 17500 حالة تبليغ عن العنف الجسدي المسلط على الأطفال في سنة 2018، مقابل نحو 6 آلاف حالة تبليغ عن حالات العنف في نهاية ديسمبر 2011.

ويبقى أخطر ما توصلت إليه هذه الدراسة أن هناك تحديات تتعلق بصحة الأطفال والمراهقين بما في ذلك صحتهم العقلية، مشيرة إلى وجود نقص على مستوى الكوادر في التعامل مع القضايا المتصلة بالصحة النفسية والعقلية للأطفال ووجود ضعف في السياسات العمومية التي تستهدف الاضطرابات والأمراض العقلية لديهم. كما كشفت أيضا عن وجود ضعف في تمويل السياسة الصحية النفسية في موازنة وزارة الصحة بالإضافة إلى عدم إدراج برنامج التثقيف الصحي في مناهج التعليم، ودعت "اليونيسف" في هذه الدراسة ضمن العديد من التوصيات الأخرى إلى تطوير آليات مكافحة العنف ضد الأطفال على غرار الاستغلال الاقتصادي والعنف الجسدي والنفسي وعدم احترام حقوق الطفل، مؤكدة على صياغة برنامج لتدريب الوالدين على كيفية تربية أبنائهما دون اللجوء إلى العنف. وفي ذات السياق وبالتزامن مع تلك الدراسة، نشرت وزارة الشؤون الاجتماعية بالشراكة مع "اليونسيف"، كشفت عن ارتفاع مؤشر الأمراض النفسية والعقلية لدى الأطفال.

وفي علاقة بالصحة النفسية للكبار والصغار في تونس قالت منظمة الصحة العالمية، في دراسة طبية لها في علاقة بالأمراض النفسية أن  تونس تأتي في المرتبة الثالثة إفريقيا من حيث عدد المصابين بالاكتئاب إذ يعاني 518 ألف تونسي من الاكتئاب أي بنسبة 8,2 في المائة، وأن هناك نسبة هامة من الأطفال التونسيين مصابين بالاكتئاب. وحسب مراجع الطب النفسي فالاكتئاب هو اضطراب نفسي حاد يعاني منه الطفل أو الراشد يتعرّض خلاله لمشاعر حزن غير مبرّر لفترة طويلة دون سبب واضح. وأن الطفل الذي لا يستطيع التعبير عن مشاعره يلجأ عادة للصمت وأن ذلك يعرضه لهذا الاضطراب إذ يمكن أن تتحوّل انفعالاته الداخلية لاكتئاب بحكم أننا لم نعلّمه التعبير أو فهم تعبيرات الآخرين.. والأطفال الذين يعانون من الاكتئاب يتسم سلوكهم بنظرة سلبية لذواتهم وإحساسهم الدائم بالدونية ويعانون من مشاكل ذهنية وصعوبة في التركيز والانتباه وضعف الأداء الدراسي، ولديهم تعلّق عاطفي مفرط وبطريقة مبالغ فيها تصل حتى لسلوكيات شاذة. ويؤثّر الاكتئاب على الجسم فالطفل المكتئب لديه رغبة كبيرة في النوم ويتعب ويجهد في أي نشاط يقوم به، وفق المختصين.

 

تداعيات الوضع العام على الصحة النفسية للأطفال..

 

تداعيات الوضع العام للبلاد، تؤثّر على الأطفال حتى قبل الكبار، ذلك ما أكده رئيس منظمة الدفاع عن الطفل د. معز الشريف في تصريح لـ"الصباح" ردا عن سؤال واقع الصحة النفسية للأطفال في تونس، في سياقات المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، مضيفا:"العائلة التونسية لم تعد عائلة موسعة بل أصبحت عائلة نواتية منغلقة على نفسها في شقة صغيرة وفي فضاء ضيّق يجعل انعكاس المشاكل الخارجية من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر عمقا، مقابل مؤسسة تربوية تخلت عن دورها البيداغوجي في الإحاطة بالطفل، وكل ذلك عرّض الصحة النفسية للأطفال وللمراهقين وللشباب لمخاطر عميقة وبات لها بدورها انعكاس مباشر على المجتمع بسبب انتشار العنف والإدمان". 

ويضيف:"المؤسسات التربوية تكتفي بتلقين الدروس دون اهتمام لما قد يعيشه الطفل من تقلبات وتغييرات.. نحن نتحدث عن مجلس المؤسسة الذي لم يعقد منذ 20 سنة والذي يضم ممثلين عن الأولياء والتلاميذ والإطار التربوي والسلط المحلية أو الجهوية والذي هو دوره النظر في مشكل البيئة المدرسية وإيجاد حلول لكل المخاطر، وهو ما جعل العلاقة بين العائلة وبين المؤسسات المحتضنة للأطفال هي علاقة اصطدام بالأساس ولم يعد هناك حوار لحل المشاكل أو الوقاية من الوصول إلى لحظة التصادم". 

كما أشار معز الشريف أنه لم يعد هناك تكوين بيداغوجي للمربي يمكنه من إمكانية التنبؤ بالمخاطر التي يعيشها الطفل أو بالمتغيرات النفسية الخطيرة التي قد يمر بها، وفقدت بذلك المدرسة دورها التربوي وأصبحت فقط مؤسسة تعليم وليست مؤسسة تربوية ولم تعد هناك يقظة للتفطن إلى المشاكل النفسية، حتى بعض الحلول التي أوجدتها الدولة بالشراكة بين وزارة التربية ووزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية والتي تسمى بخلايا الإنصات داخل المؤسسات التربوية الكبرى كالمعاهد فإن أغلبها تفتقد إلى الإطارات المختصة وحتى وإن وجدت هذه الإطارات فانه وبالنظر للنقص في الإطار الإداري والتربوي يقع تغيير اختصاص القائمين على خلايا الإنصات وتوجيههم إلى أعمال إدارية أو تربوية، وفق تعبيره.

 

غياب إستراتيجية للصحة النفسية للأطفال

 

 قال رئيس منظمة الدفاع عن حقوق الطفل، د. معز الشريف أن وزارة التربية وبالشراكة مع وزارة الصحة وإدارة الصحة المدرسية تفتقد إلى إستراتيجية تُعنى بالصحة النفسية حيث هناك عناية بالصحة الجسدية وبالتلاقيح المستوجبة ولكن الصحة النفسية مسألة مهملة تماما في الفضاء المدرسي، في المقابل فان الأطفال أصبحوا يعيشون على إيقاع حياة الكبار ومرتبطين بواجبات الكبار ونسق حياتهم اليومية، حيث منذ السادسة صباحا إلى السادسة مساء، يوضع الأطفال في فضاءات حضانة أو فضاءات تربوية، بما افقد العلاقة بين الأولياء والأطفال ذلك الرابط الحميمي الذي يمكن أن يحقق له اكتفاء عاطفي، وحتى تلك الفضاءات عاجزة عن توفير الإحاطة السليمة للأطفال في أغلبها ،قائلا : "أكثر من 60 بالمائة من الإطارات في رياض الأطفال على سبيل المثال ليس لها أي تكوين مناسب للفئة العمرية المُتعامل معها، وهو ما يجعل التنشئة من أساسها خاطئة".

 

الطفل "مفعول به" في الأسرة والمدرسة!

 

في ثقافتنا الاجتماعية هناك اعتماد على التأديب العنيف، حيث نضرب الأطفال، وننعتهم بنعوت مشينة ولا نتوانى في الدعاء عليهم بطريقة عنيفة، وهذا كله يحد من تطور شخصيتهم ويحبطهم ويجعلهم غير قادرين على النقاش أو إبداء الرأي خوفا من العقاب أو التأديب العنيف، هذا ما أكده معز الشريف، الذي يضيف :"نحن عندما نتحدث على الأطفال نتحدث على ضرورة كسر شوكة الطفل حتى يمكن السيطرة عليه وإخضاعه، لان الطفل في العائلة التونسية لا يتمتع بشخصية كاملة بل هو مفعول به منذ ولادته حيث نضع له إطارا منذ البداية ونحاول بكل جهدنا أن نقولبه في ذلك الإطار وفق رغباتنا وأهوائنا، دون إيلاء أدنى عناية لآرائه أو مهاراته".

وفي إحصائيات صادمة كشفها لنا الدكتور الشريف من خلال دراسة أنجزها معهد الإحصاء بالشراكة مع "اليونيسف"، فان 22 بالمائة من الأطفال التونسيين يعانون من الإحباط، علما وأن عدد الأطفال الجملي في تونس يبلغ حوالي 3 ملايين و500 ألف طفل، ويعرّف المختصون الإحباط بأنه مجموعة مشاعر سلبية، كالإحساس بالضيق والتوتر والغضب والعجز والدونية، وينتج عن وجود عائق ما يحول دون إشباع حاجة عند الإنسان أو حل مشكلاته، حيث يصبح المحبط عاجزا عن مواجهة مشاكله وفاقدا للثقة بنفسه، وأن يعيش الطفل التونسي على هذه المشاعر السلبية، فان ذلك مؤشر خطير يجب ايلائه العناية القصوى لأن مشاعر الإحباط قد تتطور وبشكل سلبي إلى مشاعر اكتئاب وعدوانية وتخلق جيل غير متوازن نفسيا ويعاني من اضطرابات سلوكية حادة. وقد أكد الدكتور الشريف أن ذلك دفع الدولة مؤخرا إلى إقرار إستراتيجية وطنية للصحة النفسية حماية لمستقبل الأجيال القادمة.

* الكورونا أزمت الأطفال نفسيا

أشار عدد من المختصين النفسيين في تونس إلى أن معدلات الاكتئاب ارتفعت في صفوف صغار السن بسبب تداعيات فيروس كورونا، الذي جعل من الأطفال والمراهقين من بين أكثر الفئات عرضة للهزات النفسية، لهشاشتهم النفسية وسرعة تأثرهم بالعوامل المحيطة بهم، مثل الكلفة الاجتماعية للجائحة التي أثرت بشكل مباشر على التماسك الأسري، وهو ما جعل المحيط الذي يعيش فيه الأطفال في تونس لا يشجع على التفاؤل، بسبب المشاكل الأسرية والصدام العائلي وحالات التشاؤم والغضب داخل الأسرة بسبب صعوبات الوضع المعيشي وغلاء الأسعار، إلى جانب تزايد مشاعر القلق والعنف اللفظي وانعدام الرضا والخوف من المستقبل في المحيط المدرسي والاجتماعي، وكل ذلك يدفع بالطفل إلى الشعور بالإحباط والخوف والتيه وانعدام التوازن والأمان.

وقد برزت هذه التداعيات في انتشار موجة من انتحار الأطفال في الأشهر الماضية بسبب عوامل اجتماعية واقتصادية وازدياد مشاكل الفقر وانعدام الأمل والإحساس بالحرمان لدى بعض المراهقين والأطفال المنحدرين من بيئة اجتماعية فقيرة لكنها تظل محدودة ولا ترتبط بالأثر النفسي المترتب عن الجائحة. وقد أشارت دراسة دولية نشرتها "اليونسيف" إلى أن 40٪ من القاصرين يعتبرون جائحة كورونا هي المصدر الرئيسي لمشاعر القلق، كما تسببت في انتشار اضطرابات في السلوك الغذائي وحالات الاكتئاب والوسواس القهري. 

 

* المختصة في علم النفس الاجتماعي د. دنيا الرميلي لـ "الصباح":ا نتشار كبير للقلق المرضي في صفوف الأطفال والشباب..

 

اشتغلت الدكتورة دنيا الرميلي على عدة ظواهر اجتماعية سلبية مثل العنف والانتحار، وهي اليوم تشتغل على ظاهرة القلق كأحد مؤشرات الصحة النفسية لدى الشباب، وفي سؤال حول وضعية الصحة النفسية للأطفال في تونس، قالت د. رميلي : "كثيرا ما نقول إن الأطفال بعيدين كل البعد عن الاضطرابات والمشاكل النفسية وهي معلومة مغلوطة، لأنه دائما ما نعتبر أن الأطفال لم يدخلوا بعد معترك الحياة وأن لا مشاكل لهم وهذا غير صحيح..، حيث أثبتت عديد الدراسات والبحوث الوطنية والدولية أن الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الأطفال وخاصة في السنوات الأخيرة هي اضطرابات عديدة، خاصة عندما نرى سلوكيات لدى الأطفال مثل ظاهرة العنف وعدم التركيز والفشل والانقطاع المدرسي وكل ذلك يعود إلى مشاكل على مستوى العائلة أو إلى تأثر العلاقات وتشنجها مع زملاء الدراسة والخوف الذي نجده عند الأطفال من الفشل والرسوب الدراسي، والخوف من ردة فعل الأولياء عند الاطلاع على النتائج المدرسية". 

كما أشارت د.رميلي إلى انتشار كبير لحالات الاكتئاب والأرق بين الأطفال والشباب، وقد قالت أن هناك نسبة كبيرة من المتمدرسين، يشعرون بقلق مرضي وأن ذلك نتيجة صادمة بالنسبة لمن أنجز بحوثا ميدانية في هذا السياق وانه لذلك يجب وضع استراتيجيات محينة، حتى يتم التحسين من الصحة النفسية لدى الطلبة والأطفال.

منية العرفاوي 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews