تحيي تونس غدا الأحد الذكرى التاسعة لاغتيال الشهيد الرمز شكري بلعيد، ذلك الرجل الشجاع الذي لم تتمكن أياد الغدر التي خططت وسهلت ونفذت عملية اغتياله بأربع رصاصات يوم 6 فيفري 2013 أمام منزله بالعاصمة والتي لم تحاسب على جريمتها النكراء إلى اليوم، لم تتمكن من إخماد صوته، لأن كلماته الملهمة مازالت محفورة في ذاكرة ملايين التونسيات والتونسيين أطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا، ولأن خطاباته النارية مازالت تثير في نفوسهم الحماس وتذكرهم دائما بأن تونس الحبيبة ولادة، وبأنها دولة حرة مستقلة مدنية تقدمية لا مكان فيها للظلاميين المتعصبين الإرهابيين أعداء الفكر والثقافة والتنوير الذين لا يؤمنون بقيم التسامح والاعتدال ولا يعترفون في قواميسهم بعبارة الحق في الاختلاف..
فكلمات الشهيد مازالت إلى اليوم ترن في الآذان، فمن لا يحس بقشعريرة تسري في جسده عندما يستمع إلي شكري وهو يغني "ميحانة ميحانة هذولا الي عذبوني".. أو وهو يقول"إن تونس جديرة بأن تعيش فوق الأرض وتحت الشمس حرة ديمقراطية مستقلة مزدهرة نيرة وإن تونس تستحق أن تكون جمهورية ديمقراطية اجتماعية"، أو وهو يقول "إن تونس حديقة فيها مائة وردة بمائة لون نعم نختلف ونتعدد لكن في إطار سلمي ديمقراطي"، أو وهو يقول "لازمنا ناقفوا لتونس"..
تونس التي أنجبت حسب تعبيره "ابن عرفة الورغمي الذي حرم العبودية منذ خمس مائة سنة أي قبل الإنقليز والأمريكان والتي كتب فيها أول دستور وضعي في كل الوطن العربي فهي البلاد التي أعطتنا أكبر حركة تحرير وتنوير احتوتها المدونة العظيمة للإمام للعلامة محمد الطاهر بن عاشور وهي البلاد التي أعطتنا الشيخ الزيتوني جعيط الذي كان له الفضل في مجلة الأحوال الشخصية وهي التي أعطتنا نصا مؤسسا في ثقافتها المعاصرة وهو الخيال الشعري عند العرب الذي ضرب الكثير من السواكن وهي التي أعطتنا الطاهر الحداد وأعطتنا الزخم التاريخي الكبير الذي نعتز به ونفخر"..
لقد وهب أبو نيروز وندى ورفيق درب المرأة الحديدية بسمة الخلفاوي، المناضل الفذ شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد والقيادي بالجبهة الشعبية، وهب نفسه لتونس التي أرادها أن تكون دولة مدنية تحترم فيها الحقوق والحريات وتقوم على المواطنة، وأن تكون دولة اجتماعية يعيش فيها المواطن بكرامة مرفوع الرأس، وكان شكري بشهادة المؤرخ فتحي ليسير "صاحب كاريزما طاغية ومن أقوى المعارضين شكيمة في عهد بن علي ومن أشدهم انتقادا لحزب حركة النهضة ولحكومة الترويكا الأولى برئاسة حمادي الجبالي ولأسلوب إدارتها للبلاد".. وأضاف المؤرخ في كتابه "دولة الهواة سنتان من حكم الترويكا في تونس إن وقع اغتيال بلعيد كان زلزالا سياسيا في تونس.. ترجمته الجنازة المهيبة للشهيد يوم 8 فيفري 2013 والمظاهرات التي عمت العاصمة وأغلب مدن البلاد وعبرت عن حالة من الحنق الشعبي على الترويكا "النهضة المؤتمر والتكتل" لتساهلها مع المجموعات العنيفة.. وبين ليسير أن بلعيد لم يخف يوما معارضته الشديدة للترويكا ولحزب حركة النهضة تحديدا ولهذا السبب كان في مرمى أنصار هذا الحزب وهدفا لحملات التشويه على صفحات التواصل الاجتماعي"..
حملات تشويه
نتيجة معارضته الشرسة لحركة النهضة تعرض الشهيد بلعيد إلى حملات تشويه متواصلة بلا هوادة من قبل قيادات الحركة وأنصارها ولم تتوقف عمليات التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي بل وصلت إلى منابر المساجد وبلغت درجة تكفيره من قبل أحد الأئمة في جرجيس، إذ قال هذا الإمام التكفيري في خطبة ألقاها وسط تكبير عدد من الملتحين المرتدين للباس أفغاني: "نطالب برأس شكري بلعيد ورأس نجيب الشابي، فأمثالهم وأشباههم رؤوسهم مطلوبة في جرجيس فتعال إلى جرجيس إن كان فيك دم ورجولة وسترى ماذا سيفعل فيك أبناء جرجيس.. يا إخوتي إنني أعبر عن غيض تجاه هؤلاء الذين مرقوا عن الإسلام فلا تجدوا لهم أعذارا فقد كفرهم الله سبحانة وتعالى وكفرهم الرسول عليه الصلاة والسلام فليس هذا من كيسي بل من أدلة شرعية كبيرة"..
وعلى حملات التكفير، رد بلعيد قائلا: "لأنهم اتخذوا من الكذب دينا فإنهم يتهمون الصادقين بالإلحاد".. كما لم يكن الشهيد الرمز يفوت فرص استضافته في منابر إعلامية دون أن يوجه انتقادات لاذعة لحركة النهضة إذ كان يعتقد جازما أنها "عدوة الذكاء التونسي لأن أبناءها يحبون التسطيح وتعميم الجهل".. وكان في كل إطلالة ينبه الشعب التونسي من خطر النهضة ومشتقاتها ويرى أنها قوة تشدنا إلى الوراء لأنها تحمل ثقافة العنف والموت والقتل واللون الواحد والرأي الواحد والقراءة الواحدة للنص المقدس..
وكان الشهيد يمطرهم نقدا لأنهم كانوا على حد تعبيره يمارسون العنف ضد الصحافيين وضد الحقوقيين وضد الجامعيين لأنهم يريدون ضرب دماغ تونس وذكر بغزواتهم لكلية الآداب منبوبة وباستهدافهم للمؤسسات التربوية لأنها الجهاز العصبي للمجتمع ولأنهم يريدون ضرب النخبة لأنهم أعداد الذكاء والحال أن تونس ليس لديها من ثروات غير ذكاء أبنائها.
نصير حرية الصحافة
كما كان الشهيد شكري بلعيد مدافعا شرسا عن الحقوق والحريات وفي مقدمتها حرية الإعلام.. ولعل الكلمات التي دونها بخطه الجميل في سجل النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين تشهد له بذلك، فبمناسبة إعلان النقابة عن إضراب 17 أكتوبر 2012 في قطاع الإعلام كان الشهيد شكري بلعيد أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين يومها أول الوافدين على مقر النقابة وخط على سجلها الذهبي كلمات لن تمحى من الذاكرة إذ كتب حرفيا:".. لا حريات، ولا ديمقراطية دون حرية الإعلام رافعة كل الحريات.. وضربها هو المدخل لبناء الاستبداد وتكريس الدكتاتورية لذلك فإننا معكم لأنكم مع تونس الجديدة تونس الحرية والديمقراطية.."
فكل مع عرف الشهيد شكري بلعيد يتذكر أن الرجل ساند جميع معارك حرية الإعلام والإبداع وقد أشار في كلمة قالها للتعبير عن تضامنه مع قناة نسمة إثر استهدافها من قبل التكفيريين في برنامج حواري بثته القناة إن ما تم:"لا ينفصل عن معارك جوهرية فهو مواصلة لصراع تاريخي، وهو لا يختلف عما تعرض له أبو القاسم الشابي عندما ألف الخيال الشعري عند العرب وعما تعرض له طه حسين من قبل نفس الجماعات عندما ألف الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر ولا يختلف في جوهره عن معركتهم مع الطاهر الحداد وعن معركتهم ضد الحلاج ولا يختلف عن جوهر الصراع عندما شوي وقلي ابن المقفع ولا يختلف عن محنة المعتزلة في بغداد على أياد السلفيين الحنابلة".. فهم حسب تعبيره أعداء حرية الفكر والضمير والمعتقد وحرية الوصول إلى المعلومة وأعداء الحرية الأكاديمية وحرية الإبداع..
لا للخوف
ولما وصلت حملة استهدافه أوجها وبلغت حد الاعتداء عليه بالضرب أمام بوابة المحكمة في عهد وزير الداخلية علي العريض قال الشهيد وقد حز في نفسه ما حصل له رفقة ثلة من المحامين والمثقفين إنه هو الذي كان في عهد بن علي يرافع للدفاع عن الإسلاميين في وقت رفض فيه محامون إسلاميون إنابتهم ولهذا السبب تم استهدافه من قبل النظام، لكنهم بعد كل ما فعله من أجلهم أصبحوا يشحنون الناس ضده، وقد كان محقا في كلامه ولعل الجميع يتذكرون في هذا الموضع تصريح وزير الداخلية السابق علي العريض الذي اتهم فيه بلعيد بتأجيج الأوضاع في سليانة سنة 2012، والحال أن الرجل كان في المغرب.
وبعد عودته من المغرب استقبله حمة الهمامي بمعية عدد غفير من أبناء الجبهة الشعبية في المطار إثر أحداث الرش بسليانة استقبالا يليق بمقامه وبتاريخه النضالي، وقال فيهم يومها خطبة مزلزلة جاء فيها ما يلي:" إن مناضلات ومناضلي الجبهة الشعبية الذي يشكلون مرة أخرى عنصر قلق لحكومة الالتفاف على الثورة قرروا بأن يكونوا مع الشعب ومع أهالينا في سليانة مثلما كانوا في سيدي بوزيد والعمران وقفصة وقابس والقصرين وبوسالم لأن عهد "الحقرة" انتهى والخوف انتهى.. فحكومة القهر الحكومة العميلة هي التي تخاف ومن قرر إطلاق الرش على أبناء سليانة هو الذي يخاف فهم المجرمون وسنلاحقهم ونحاسبهم ونحاكمهم".. وتوعد بلعيد الحكومة بأنها ستجد الجبهة الشعبية في سليانة وجندوبة والكاف والمنستير وصفاقس وبأن الجبهة ستكون شوكة في حلقهم وراية تدافع عن الشعب من أجل الديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية..
وإثر ذلك الحضور المبهر تلقى الشهيد تهديدات كثيرة بالتصفية الجسدية إذ نقرأ في كتاب المؤرخ فتحي ليسير انه بعد أحداث الرش في سليانة "كانت هناك دلائل كثيرة على تلقي بلعيد تهديدات بالتصفية الجسدية وكانت السلطات الأمنية على علم بها وقد كان يرد عليها بالقول إنه لا يخاف من الممارسات المناقضة تماما لقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان"..
ولكن الشجاعة والإقدام التي تميز بها الراحل لم تحل للأسف الشديد دون رصاصات الغدر التي طالته أمام داره وحرمت تونس من رجل متيم بحبها وأبكت آلاف التونسيين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب لجبل الجلود لحضور جنازته وتشييع جثمانه إلى مقبرة الجلاز رغم برودة الطقس ورداءة الأحوال الجوية والسحب المتلبدة حينا والأمطار المتهاطلة أحيانا.. لقد بكاه يومها المثقفون وقالوا إن تونس فقدت منارة وبكاه الفقراء وقالوا إنه كان أسدا وإنهم لن ينسوا زئيره الذي ارتجفت منه قلوب الآثمين في حق تونس، والمجرمين في حق شعبها المسكين، وإنه كان صوت الجياع والمهمشين والمنسيين والمسحوقين والمقصيين من خارطة ساسة ما قبل الثورة، وساسة ما بعد الثورة".. وبكاه رفاقه في الجبهة الشعبية ذلك المولود الذي كان أشبه بحلم جميل لدى طيف كبير من التونسيين خاصة أبناء اليسار.. ولكن أين هي اليوم تلك الجبهة التي تغنت بها الفنانة آمال الحمروني خلال حفل كبير أقيم بقبة المنزه بمناسبة الحملة الانتخابية الرئاسية والتشريعية لسنة 2014 وتقول كلمات الأغنية" جبهتنا جبهة نضال.. جبهتنا جبهة أحرار.. جبهتنا جبهة شهيد".. فأين تلك الجبهة الشعبية.. هل كانت "صرحا وهوى" أما أنها مازالت تسكن روح كل من أحب شكري بلعيد ذلك الرجل المثقف الفنان الإنسان المقدام ..
تحيي تونس غدا الأحد الذكرى التاسعة لاغتيال الشهيد الرمز شكري بلعيد، ذلك الرجل الشجاع الذي لم تتمكن أياد الغدر التي خططت وسهلت ونفذت عملية اغتياله بأربع رصاصات يوم 6 فيفري 2013 أمام منزله بالعاصمة والتي لم تحاسب على جريمتها النكراء إلى اليوم، لم تتمكن من إخماد صوته، لأن كلماته الملهمة مازالت محفورة في ذاكرة ملايين التونسيات والتونسيين أطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا، ولأن خطاباته النارية مازالت تثير في نفوسهم الحماس وتذكرهم دائما بأن تونس الحبيبة ولادة، وبأنها دولة حرة مستقلة مدنية تقدمية لا مكان فيها للظلاميين المتعصبين الإرهابيين أعداء الفكر والثقافة والتنوير الذين لا يؤمنون بقيم التسامح والاعتدال ولا يعترفون في قواميسهم بعبارة الحق في الاختلاف..
فكلمات الشهيد مازالت إلى اليوم ترن في الآذان، فمن لا يحس بقشعريرة تسري في جسده عندما يستمع إلي شكري وهو يغني "ميحانة ميحانة هذولا الي عذبوني".. أو وهو يقول"إن تونس جديرة بأن تعيش فوق الأرض وتحت الشمس حرة ديمقراطية مستقلة مزدهرة نيرة وإن تونس تستحق أن تكون جمهورية ديمقراطية اجتماعية"، أو وهو يقول "إن تونس حديقة فيها مائة وردة بمائة لون نعم نختلف ونتعدد لكن في إطار سلمي ديمقراطي"، أو وهو يقول "لازمنا ناقفوا لتونس"..
تونس التي أنجبت حسب تعبيره "ابن عرفة الورغمي الذي حرم العبودية منذ خمس مائة سنة أي قبل الإنقليز والأمريكان والتي كتب فيها أول دستور وضعي في كل الوطن العربي فهي البلاد التي أعطتنا أكبر حركة تحرير وتنوير احتوتها المدونة العظيمة للإمام للعلامة محمد الطاهر بن عاشور وهي البلاد التي أعطتنا الشيخ الزيتوني جعيط الذي كان له الفضل في مجلة الأحوال الشخصية وهي التي أعطتنا نصا مؤسسا في ثقافتها المعاصرة وهو الخيال الشعري عند العرب الذي ضرب الكثير من السواكن وهي التي أعطتنا الطاهر الحداد وأعطتنا الزخم التاريخي الكبير الذي نعتز به ونفخر"..
لقد وهب أبو نيروز وندى ورفيق درب المرأة الحديدية بسمة الخلفاوي، المناضل الفذ شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد والقيادي بالجبهة الشعبية، وهب نفسه لتونس التي أرادها أن تكون دولة مدنية تحترم فيها الحقوق والحريات وتقوم على المواطنة، وأن تكون دولة اجتماعية يعيش فيها المواطن بكرامة مرفوع الرأس، وكان شكري بشهادة المؤرخ فتحي ليسير "صاحب كاريزما طاغية ومن أقوى المعارضين شكيمة في عهد بن علي ومن أشدهم انتقادا لحزب حركة النهضة ولحكومة الترويكا الأولى برئاسة حمادي الجبالي ولأسلوب إدارتها للبلاد".. وأضاف المؤرخ في كتابه "دولة الهواة سنتان من حكم الترويكا في تونس إن وقع اغتيال بلعيد كان زلزالا سياسيا في تونس.. ترجمته الجنازة المهيبة للشهيد يوم 8 فيفري 2013 والمظاهرات التي عمت العاصمة وأغلب مدن البلاد وعبرت عن حالة من الحنق الشعبي على الترويكا "النهضة المؤتمر والتكتل" لتساهلها مع المجموعات العنيفة.. وبين ليسير أن بلعيد لم يخف يوما معارضته الشديدة للترويكا ولحزب حركة النهضة تحديدا ولهذا السبب كان في مرمى أنصار هذا الحزب وهدفا لحملات التشويه على صفحات التواصل الاجتماعي"..
حملات تشويه
نتيجة معارضته الشرسة لحركة النهضة تعرض الشهيد بلعيد إلى حملات تشويه متواصلة بلا هوادة من قبل قيادات الحركة وأنصارها ولم تتوقف عمليات التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي بل وصلت إلى منابر المساجد وبلغت درجة تكفيره من قبل أحد الأئمة في جرجيس، إذ قال هذا الإمام التكفيري في خطبة ألقاها وسط تكبير عدد من الملتحين المرتدين للباس أفغاني: "نطالب برأس شكري بلعيد ورأس نجيب الشابي، فأمثالهم وأشباههم رؤوسهم مطلوبة في جرجيس فتعال إلى جرجيس إن كان فيك دم ورجولة وسترى ماذا سيفعل فيك أبناء جرجيس.. يا إخوتي إنني أعبر عن غيض تجاه هؤلاء الذين مرقوا عن الإسلام فلا تجدوا لهم أعذارا فقد كفرهم الله سبحانة وتعالى وكفرهم الرسول عليه الصلاة والسلام فليس هذا من كيسي بل من أدلة شرعية كبيرة"..
وعلى حملات التكفير، رد بلعيد قائلا: "لأنهم اتخذوا من الكذب دينا فإنهم يتهمون الصادقين بالإلحاد".. كما لم يكن الشهيد الرمز يفوت فرص استضافته في منابر إعلامية دون أن يوجه انتقادات لاذعة لحركة النهضة إذ كان يعتقد جازما أنها "عدوة الذكاء التونسي لأن أبناءها يحبون التسطيح وتعميم الجهل".. وكان في كل إطلالة ينبه الشعب التونسي من خطر النهضة ومشتقاتها ويرى أنها قوة تشدنا إلى الوراء لأنها تحمل ثقافة العنف والموت والقتل واللون الواحد والرأي الواحد والقراءة الواحدة للنص المقدس..
وكان الشهيد يمطرهم نقدا لأنهم كانوا على حد تعبيره يمارسون العنف ضد الصحافيين وضد الحقوقيين وضد الجامعيين لأنهم يريدون ضرب دماغ تونس وذكر بغزواتهم لكلية الآداب منبوبة وباستهدافهم للمؤسسات التربوية لأنها الجهاز العصبي للمجتمع ولأنهم يريدون ضرب النخبة لأنهم أعداد الذكاء والحال أن تونس ليس لديها من ثروات غير ذكاء أبنائها.
نصير حرية الصحافة
كما كان الشهيد شكري بلعيد مدافعا شرسا عن الحقوق والحريات وفي مقدمتها حرية الإعلام.. ولعل الكلمات التي دونها بخطه الجميل في سجل النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين تشهد له بذلك، فبمناسبة إعلان النقابة عن إضراب 17 أكتوبر 2012 في قطاع الإعلام كان الشهيد شكري بلعيد أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين يومها أول الوافدين على مقر النقابة وخط على سجلها الذهبي كلمات لن تمحى من الذاكرة إذ كتب حرفيا:".. لا حريات، ولا ديمقراطية دون حرية الإعلام رافعة كل الحريات.. وضربها هو المدخل لبناء الاستبداد وتكريس الدكتاتورية لذلك فإننا معكم لأنكم مع تونس الجديدة تونس الحرية والديمقراطية.."
فكل مع عرف الشهيد شكري بلعيد يتذكر أن الرجل ساند جميع معارك حرية الإعلام والإبداع وقد أشار في كلمة قالها للتعبير عن تضامنه مع قناة نسمة إثر استهدافها من قبل التكفيريين في برنامج حواري بثته القناة إن ما تم:"لا ينفصل عن معارك جوهرية فهو مواصلة لصراع تاريخي، وهو لا يختلف عما تعرض له أبو القاسم الشابي عندما ألف الخيال الشعري عند العرب وعما تعرض له طه حسين من قبل نفس الجماعات عندما ألف الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر ولا يختلف في جوهره عن معركتهم مع الطاهر الحداد وعن معركتهم ضد الحلاج ولا يختلف عن جوهر الصراع عندما شوي وقلي ابن المقفع ولا يختلف عن محنة المعتزلة في بغداد على أياد السلفيين الحنابلة".. فهم حسب تعبيره أعداء حرية الفكر والضمير والمعتقد وحرية الوصول إلى المعلومة وأعداء الحرية الأكاديمية وحرية الإبداع..
لا للخوف
ولما وصلت حملة استهدافه أوجها وبلغت حد الاعتداء عليه بالضرب أمام بوابة المحكمة في عهد وزير الداخلية علي العريض قال الشهيد وقد حز في نفسه ما حصل له رفقة ثلة من المحامين والمثقفين إنه هو الذي كان في عهد بن علي يرافع للدفاع عن الإسلاميين في وقت رفض فيه محامون إسلاميون إنابتهم ولهذا السبب تم استهدافه من قبل النظام، لكنهم بعد كل ما فعله من أجلهم أصبحوا يشحنون الناس ضده، وقد كان محقا في كلامه ولعل الجميع يتذكرون في هذا الموضع تصريح وزير الداخلية السابق علي العريض الذي اتهم فيه بلعيد بتأجيج الأوضاع في سليانة سنة 2012، والحال أن الرجل كان في المغرب.
وبعد عودته من المغرب استقبله حمة الهمامي بمعية عدد غفير من أبناء الجبهة الشعبية في المطار إثر أحداث الرش بسليانة استقبالا يليق بمقامه وبتاريخه النضالي، وقال فيهم يومها خطبة مزلزلة جاء فيها ما يلي:" إن مناضلات ومناضلي الجبهة الشعبية الذي يشكلون مرة أخرى عنصر قلق لحكومة الالتفاف على الثورة قرروا بأن يكونوا مع الشعب ومع أهالينا في سليانة مثلما كانوا في سيدي بوزيد والعمران وقفصة وقابس والقصرين وبوسالم لأن عهد "الحقرة" انتهى والخوف انتهى.. فحكومة القهر الحكومة العميلة هي التي تخاف ومن قرر إطلاق الرش على أبناء سليانة هو الذي يخاف فهم المجرمون وسنلاحقهم ونحاسبهم ونحاكمهم".. وتوعد بلعيد الحكومة بأنها ستجد الجبهة الشعبية في سليانة وجندوبة والكاف والمنستير وصفاقس وبأن الجبهة ستكون شوكة في حلقهم وراية تدافع عن الشعب من أجل الديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية..
وإثر ذلك الحضور المبهر تلقى الشهيد تهديدات كثيرة بالتصفية الجسدية إذ نقرأ في كتاب المؤرخ فتحي ليسير انه بعد أحداث الرش في سليانة "كانت هناك دلائل كثيرة على تلقي بلعيد تهديدات بالتصفية الجسدية وكانت السلطات الأمنية على علم بها وقد كان يرد عليها بالقول إنه لا يخاف من الممارسات المناقضة تماما لقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان"..
ولكن الشجاعة والإقدام التي تميز بها الراحل لم تحل للأسف الشديد دون رصاصات الغدر التي طالته أمام داره وحرمت تونس من رجل متيم بحبها وأبكت آلاف التونسيين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب لجبل الجلود لحضور جنازته وتشييع جثمانه إلى مقبرة الجلاز رغم برودة الطقس ورداءة الأحوال الجوية والسحب المتلبدة حينا والأمطار المتهاطلة أحيانا.. لقد بكاه يومها المثقفون وقالوا إن تونس فقدت منارة وبكاه الفقراء وقالوا إنه كان أسدا وإنهم لن ينسوا زئيره الذي ارتجفت منه قلوب الآثمين في حق تونس، والمجرمين في حق شعبها المسكين، وإنه كان صوت الجياع والمهمشين والمنسيين والمسحوقين والمقصيين من خارطة ساسة ما قبل الثورة، وساسة ما بعد الثورة".. وبكاه رفاقه في الجبهة الشعبية ذلك المولود الذي كان أشبه بحلم جميل لدى طيف كبير من التونسيين خاصة أبناء اليسار.. ولكن أين هي اليوم تلك الجبهة التي تغنت بها الفنانة آمال الحمروني خلال حفل كبير أقيم بقبة المنزه بمناسبة الحملة الانتخابية الرئاسية والتشريعية لسنة 2014 وتقول كلمات الأغنية" جبهتنا جبهة نضال.. جبهتنا جبهة أحرار.. جبهتنا جبهة شهيد".. فأين تلك الجبهة الشعبية.. هل كانت "صرحا وهوى" أما أنها مازالت تسكن روح كل من أحب شكري بلعيد ذلك الرجل المثقف الفنان الإنسان المقدام ..