إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

عاملات النظافة بالبلديات.. قصة بؤس يومي..

 

تونس – الصباح

كانت تحاول بجهد دفع عربتها الخضراء، التي امتلأت بأكياس سوداء.. وعينها على الرصيف، تبحث عن بقايا فضلات قد يكون سهى عن التقاطها زميلها الذي سبقها في المهمة اليومية لرفع الفضلات المنزلية بأحد الأنهج الضيقة بولاية أريانة.. انحنت لالتقاط قارورة فارغة وضعتها في كيس يتدلى على أحد جانبي العربة.. اقتربت منها متوجسة من أن ترفض كما زميلتها في مهنة الشقاء التي رفضت الإدلاء بأي حديث صحفي خوفا من"عرفها" كما همست لي والذي كان ينظر إليها من بعيد وعلامات الغضب كانت بادية من نبرة صوته وهو يحثها على الإسراع في انجاز عملها.. »اشنوة توه باش نعدو نهار كامل في الحديث"، نهرها بصوت مزمجر، فأسرعت مبتعدة عني وهي تحمل كيسها الأسود..

لكن بشيرة لم ترفض الحديث، رفعت هامتها بصعوبة وهي تمسك بظهرها لتنظر لي متفحصة.. بتلك العينين المرهقتين وذلك الوجه الذي تعلوه تجاعيد بارزة وقد تركت عليه السنين والزمن آثارا لا يمكن لعين أن تهملها.. ابتسمت لي ابتسامة ترحيب محتشمة، ثم عادت لتدفع عربتها وهي تقول، ردا على سؤالي لماذا اختارت هذه المهنة الشاقة، بنبرة متهكمة فيها الكثيرة من المرارة: »وهل وجدت غيرها؟.. الزواولة لا يحق لهم الاختيار بل يجب عليهم القبول بما هو متوفر« .. ثم تضيف : »بعد طلاقي واختفاء زوجي دون أن أعلم عنه شيئا البعض يقول أنه في السجن والبعض الأخر يقول أن  "حرق"  إلى إيطاليا.. وجدت نفسي مجبرة على إعالة أطفالي الثلاثة.. لم أجد من يساعدني أو يمد لي يد العون.. بارك الله في المقاول الذي قبل بتشغيلي رغم أني لا أحسن لا القراءة ولا الكتابة.. لكن الأجر زهيد مقارنة بظروف العيش وارتفاع الأسعار ونصفه يذهب لدفع ايجار »القاراج « الذي نسكنه ولكن على الأقل لدينا سقف وأربعة جدران نحتمي بها"..

بسبب ظروفها الاجتماعية القاسية، وضعف أجرها الذي لا يتجاوز الـ 400 دينار والذي تحصل عليه من شركة النظافة المتعاقدة مع بلدية أريانة، دون تغطية صحية ولا تأمين اجتماعي، حاولت بشيرة تأمين مصاريف عائلتها ببعض الأعمال الإضافية مثل العمل أحيانا في المساء بالحمام أين تسكن بأحد الأحياء الشعبية المتاخمة لمدينة أريانة، كما أخبرتنا بذلك قائلة : »كنت اشتغل في المساء بالحمام لبضعة أيام في الأسبوع ولكن مع انتشار جائحة كورونا تم إغلاق الحمام، وساءت ظروفي الاجتماعية كثيرا".. تصمت قليلا، لتنحني وترفع قارورة بلاستيكية، ثم تتابع بنبرة حزينة : »أطفالي ما زالوا صغارا أكبرهم لم يبلغ بعد العشرين وهو يحاول بجهد إيجاد عمل لمساعدتي ولكن الجائحة قضت على كل محاولاتنا في تحسين دخل عائلتنا.. كان يشتغل بإحدى المقاهي ولكن صاحب المقهى تخلى عنه، بسبب ظروف الجائحة، هو اليوم يجرب العمل في حضائر البناء ولكنه عمل مرهق وغير قار..أنا اليوم لا أجد الأموال اللازمة لشراء الأدوات المدرسية لشقيقته الصغرى أو ثمن الدواء لابني الأوسط الذي يعاني من قصور كلوي".

معرّضات لشتى أنواع المخاطر..

بشيرة الفطناسي ليست الا واحدة من مئات النساء اللواتي يشتغلن في جمع الفضلات المنزلية سواء كن متعاقدات بشكل مباشر مع البلديات او مع شركات النظافة وفق عقود هشة، حيث تتعاقد هذه الشركات مع البلديات لانجاز أعمال النظافة بالشوارع والأنهج والمناطق الخضراء داخل الاحياء السكنية من خلال رفع الفضلات المنزلية وكذلك تنظيف المساحات الخضراء وتشجيرها أحيانا.. وأغلبهن يخفين وجوههن خوفا من الحقرة والاهانة من مجتمع لا يرحم حتى من أدارت لها الحياة ظهرها وقست عليها الأيام.

غير بعيد عن المكان الذي كانت تعمل فيه بشيرة، التقينا فاطمة، وهي سيدة في الأربعين من العمر، عندما اقتربنا منها كانت تسعل بشدة وبشكل لافت، بعد أن انتهت نوبة السعال وقبل سؤالها عن ظروفها الصحية، أجابت أنها تعاني من الحساسية، وأن تعاملها مع الغبار والأتربة يسبب لها هذه النوبات من السعال المتكررة، قائلة :» مع انتشار فيروس كورونا باتت هذه النوبات تشكل لي حرجا كبيرا حيث أرى الناس كيف يبتعدون مرعوبين وهم ينظرون لي بسخط.. قال لي الطبيب أن لا حل الا ترك عملي هذا ولكني لا أستطيع ترك العمل الذي اعتاش منه«.. ورغم أنها تجاوزت سن الأربعين إلا أن فاطمة ليست متزوجة، وما زالت تعيش مع والدها المسن في منزل صغير بأحد الأحياء الشعبية بالعاصمة، وقد أكدت لنا فاطمة أن ظروف العمل صعبة وشاقة وأنها تنهض يوميا قبل الفجر حتى تستطيع الوصول في الوقت إلى مقر العمل قبل أن تخرج في رحلة يومية مرهقة لجمع الفضلات المنزلية، وتقول: »مهنة مرهقة وأجر زهيد لا يكاد يسد الرمق ومع ذلك ينظر إلينا الجميع بنظرة احتقار وعدم احترام..عمال النظافة لا يحظون لا بالاحترام ولا بالتقدير رغم دورهم المهم"، وعن تأثيرات جائحة كورونا على عمال النظافة، تقول فاطمة: »نحن عانينا الأمرين بين خوفنا من التقاط العدوى من بين الفضلات وأداء عملنا، لكن لم يكن هناك خيار، في هذه المهنة نحن معرضون لشتى المخاطر خاصة وانه كما ترين لا يتم توفير وسائل الوقاية والحماية بشكل كاف".. وقد بدا ذلك واضحا حيث كانت فاطمة تعالج الفضلات التي تلتقطها بيدين عاريتين ولم تكن تحمل حتى كمامة بل تحاول ان تستغل وشاحها لتغطية وجهها.

تحرش ..عنف وحقرة !!

»الناس مزعجون في الشارع.. وبعضهم يحاول استغلال وضعنا الهش مهنيا واجتماعيا ويجيز لنفسه أن يتطاول عليك حتى دون سبب".. بهذه الكلمات لخصت بثينة وهي فتاة عشرينية من إحدى الأحياء المتاخمة للعاصمة والتي التحقت مؤخرا بهذه المهنة من خلال شركة نظافة تعاقدت معها بأجر زهيد لأنها لا تملك الخبرة.. بثينة تقول أن أكثر ما أزعجها في عملها هو نظرات الاحتقار التي تراها في الأعين وكذلك العنف اللفظي التي تتعرض له أحيانا ويصل حد التحرش.. وتستدرك بمرارة »لكن ماذا أفعل الخبزة مرة «؟.

وما تحدثت عنه بثينة ليس إلا عينة من المخاطر التي تواجهها النساء عاملات النظافة في الشارع، وعن هذه الوضعية تحدث إلينا الرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والناشط الحقوقي، مسعود الرمضاني الذي قال في تصريح لـ»الصباح«: »أكثر ما يزعجني أنهم يستغلون نساء ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية صعبة وهن في أغلبهن ريفيات او من أحياء شعبية فقيرة بأحواز العاصمة لتشغيلهن وبأجور زهيدة في هذا العمل الشاق والمرهق.. ما نلاحظه أن معظمهن يقمن بتغطية وجوههن حتى في الظروف العادية وفي كل الفصول حتى في الصيف وكأنهن يشعرن بالخوف أو يشعرن بالخجل من مهنتهن التي لا توفر لهن أدنى حماية ولا تضمن لهن كرامتهن". 

ويضيف الرمضاني انه يتم استغلال وبمنطق طبقي مستفز، النساء اللواتي يعشن ظروفا صعبة ومضطرات إلى العمل بحكم الفقر والخصاصة، ويقبلن حتى العمل بأجور زهيدة وفي مهنة خطيرة لا تضمن كرامتهن.. ويقول : »أنا تواصلت مع العديد منهن وفي تقديري أن وضعيتهن أسوأ حتى من عاملات الفلاحة، أولا لشعورهن بالإحراج وهن ينظفن الشوارع والأنهج أمام الجميع وثانيا هن معرّضات للتحرش وثالثا فان أجورهن زهيدة جدا وأقل من الأجر الأدنى المضمون.. وهو ما يشكل استهانة بالمرأة وتركها عرضة للعنف بأنواعه وحتى تعمدهن تغطية وجوههن فيه شعور بالحقرة وخوفا من التحرش وانا أعرف فتاة في مقتبل العمر ولكنها تقوم دائما بإخفاء وجهها لحماية نفسها من التحرش" .

ويؤكد مسعود الرمضاني أن هذه المهنة فيها إهانة للنساء، كما أن مخاطر العمل تكرس الطبقية واستغلال النساء اقتصاديا واجتماعيا .

شركات النظافة.. مناولة واستغلال

تلجأ أغلب البلديات الى التعاقد مع شركات النظافة المنتشرة على كامل الجمهورية للقيام بأعمال بلدية مثل رفع الفضلات المنزلية وكنس الشوارع والأنهج والتشجير، ورغم صيغة التعاقد هذه مع شركات النظافة تخضع الى كراس شروط يضبط الأدوار المنوطة بعهدة الشركة وكذلك حقوق العمال من استحقاقات مالية ومهنية مثل توفير ملابس العمل والمعدات وفق  كراس الشروط الإدارية والمطبقة على الصفقات العمومية الخاصة بالتزود بخدمات التنظيف..، إلا أن هذه الصفقات تهمل حقوقا أساسية للعمال وهو الحق في التغطية الاجتماعية والحق في التأمين الصحي.. حيث أن شركات النظافة التي تتنافس يوميا على هذا النوع من الصفقات وتهدف إلى الربح، تعمل في العادة عند المشاركة في هذه الصفقات الى تقديم عروض مالية أقل حتى تظفر بالصفقة.. ولكي تضغط بعد ذلك على المصاريف تلجأ الى الضغط على نفقات التأجير وهي لذلك تستغل النساء اللواتي يقبلن في العادة العمل بأجور زهيدة، بالإضافة إلى أن هذه الشركات تخرق بنود العقد المتفق عليه حتى في شروطه الدنيا وتستفيد من غياب الرقابة والافلات من المحاسبة والظروف الصعبة للعمال التي تجبرهم على الصمت والرضوخ.

أنواع التعاقد

عدنان بوعصيدة، رئيس الجامعة الوطنية للبلديات التونسية، تحدث على أنواع العقود التي تنظم طريقة العمل مع الأعوان البلديين سواء نساء أو رجالا، وقال في تصريح لـ »الصباح «: »هناك اليوم الانتدابات المباشرة عبر التعاقد مع البلديات لمدة سنة، وهناك النساء الذين يشتغلن في العمل البلدي من خلال صفقة منجزة بين البلديات والمقاولين، وهناك نساء مرسمات كعون بلدي".

وحول أداء النساء ومردوديتهن في العمل البلدي يقول بوعصيدة  »أنا لا أرى فرقا في الأداء وفي المردودية لأن الجميع يعمل وفق المساحة البلدية المحددة له، وعند الانتهاء من تنظيف المساحة المحددة ينتهي العمل وهذه المساحة في العادة تكون في حدود 1 كلم ونصف ويجب أن لا يتجاوز تنظيف المساحة المحددة، التوقيت المتعارف عليه للعمل البلدي ".

 كما تحدث رئيس الجامعة الوطنية للبلديات ورئيس بلدية رواد، عدنان بوعصيدة، عن أن مشكلة وضعية العاملات الاجتماعية تكمن في هذا النوع من العقود الذي يجمع النساء مع البلديات بشكل مباشر او مع شركات النظافة، يبقى الأجر الزهيد، ويفسر ذلك بأن العمل لا يتطلب مؤهلات عليا وكذلك لأن  وضعية البلديات والشركات المالية ليست جيدة في العموم، وفق تعبيره .

عدنان بوعصيدة أشار أيضا الى أنه ورغم الوضع الصعب الذي تعيشه البلديات عامة و المحدثة منها خاصة في ما يخص الموارد المالية وانخفاض نسبة التأطير والتشغيل بالبلديات فإن الوزارة لا تحرك ساكنا بل وتتحمل المسؤولية في ذلك، مؤكدا أن البنك العالمي للتنمية قد رصد  منح لانتداب 1039 إطارا للبلديات في المهن الضرورية لدعم العمل البلدي من مهندسين واخصائيين في المالية والشؤون القانونية والإعلامية وذلك منذ سنة 2019، لكن الى اليوم لم يتم صرف هذه الأموال وهو ما جعل البلديات في وضعيات مأساوية .

 

منظومة تشغيل هشة

 

يؤكد رئيس الكنفدرالية التونسية لرؤساء البلديات، فيصل الدريدي في تصريح لـ »الصباح « أن العمل وفق منظومة الحضائر متواصل وهو ما يجعل من وضعية العمل وضعية هشة بالنسبة للرجال والنساء على حد السواء، ولكنه ينفي أن تكون للبلديات عاملات بعقود مناولة قائلا : »ما لاحظناه بالنسبة لهؤلاء طيلة ثلاث سنوات من المجالس البلدية المنتخبة ان هؤلاء العاملات الذين تجدهم وسط الشارع يرفعون الفضلات المنزلية أو يتم ارسالهم في برامج نظافة عامة داخل المؤسسات المختلفة، وضعيتهن هشة..، ولكن كطاقة إنتاج وإنتاجية نحن نعرف ان هؤلاء يشتغلون لوقت لا يتجاوز الساعتين او الثلاث ساعات في اليوم وبالتالي ليس هناك مردودية هامة ولكنهم في المقابل عملهم يكتسي العديد من الإشكاليات كحوادث الشغل باعتبارهن موجودات في الطرقات والفضاءات العامة كذلك هن يتعرضن الى اعتداءات وهرسلة من المواطنين.. وحتى الوضعية القانونية هشة ولا يتم خلاصهم الا على أيام العمل المنجزة وفي المقابل هم يتقاضون أجر الحد الأدنى الذي لا يتجاوز 370 دينارا«  .

ويضيف الدريدي : »اليوم هناك توجه دولة مع اتحاد الشغل لتسوية ملف عمال الحضائر ومن بينهم هؤلاء العاملات، حيث تقرر أن من هم تحت سن 45 سنة سيتم انتدابهن في المؤسسات العمومية ومن ضمن هذه المؤسسات البلديات وذلك حسب الميزانية المتوفرة، ومن هم أكبر من سن 45 سنة سيحصلون على منحة مغادرة في حدود 20 ألف دينار، وهذا الاتفاق ممضي ولم يفعل الى اليوم رغم ان المنظومة التشغيلية الراهنة هي منظومة هشة ولا تتماشى مع الكرامة الإنسانية وخاصة عندما يكون العامل امرأة حيث تبقى معرضة لشتى أنواع الاعتداءات وهي في الشارع « .

وحول نسبة النساء اللواتي يشتغلن في أعمال بلدية أكد الدريدي أنه في حدود 40 بالمائة من مجموع الأعوان البلديين.

 

منية العرفاوي

عاملات النظافة بالبلديات.. قصة بؤس يومي..

 

تونس – الصباح

كانت تحاول بجهد دفع عربتها الخضراء، التي امتلأت بأكياس سوداء.. وعينها على الرصيف، تبحث عن بقايا فضلات قد يكون سهى عن التقاطها زميلها الذي سبقها في المهمة اليومية لرفع الفضلات المنزلية بأحد الأنهج الضيقة بولاية أريانة.. انحنت لالتقاط قارورة فارغة وضعتها في كيس يتدلى على أحد جانبي العربة.. اقتربت منها متوجسة من أن ترفض كما زميلتها في مهنة الشقاء التي رفضت الإدلاء بأي حديث صحفي خوفا من"عرفها" كما همست لي والذي كان ينظر إليها من بعيد وعلامات الغضب كانت بادية من نبرة صوته وهو يحثها على الإسراع في انجاز عملها.. »اشنوة توه باش نعدو نهار كامل في الحديث"، نهرها بصوت مزمجر، فأسرعت مبتعدة عني وهي تحمل كيسها الأسود..

لكن بشيرة لم ترفض الحديث، رفعت هامتها بصعوبة وهي تمسك بظهرها لتنظر لي متفحصة.. بتلك العينين المرهقتين وذلك الوجه الذي تعلوه تجاعيد بارزة وقد تركت عليه السنين والزمن آثارا لا يمكن لعين أن تهملها.. ابتسمت لي ابتسامة ترحيب محتشمة، ثم عادت لتدفع عربتها وهي تقول، ردا على سؤالي لماذا اختارت هذه المهنة الشاقة، بنبرة متهكمة فيها الكثيرة من المرارة: »وهل وجدت غيرها؟.. الزواولة لا يحق لهم الاختيار بل يجب عليهم القبول بما هو متوفر« .. ثم تضيف : »بعد طلاقي واختفاء زوجي دون أن أعلم عنه شيئا البعض يقول أنه في السجن والبعض الأخر يقول أن  "حرق"  إلى إيطاليا.. وجدت نفسي مجبرة على إعالة أطفالي الثلاثة.. لم أجد من يساعدني أو يمد لي يد العون.. بارك الله في المقاول الذي قبل بتشغيلي رغم أني لا أحسن لا القراءة ولا الكتابة.. لكن الأجر زهيد مقارنة بظروف العيش وارتفاع الأسعار ونصفه يذهب لدفع ايجار »القاراج « الذي نسكنه ولكن على الأقل لدينا سقف وأربعة جدران نحتمي بها"..

بسبب ظروفها الاجتماعية القاسية، وضعف أجرها الذي لا يتجاوز الـ 400 دينار والذي تحصل عليه من شركة النظافة المتعاقدة مع بلدية أريانة، دون تغطية صحية ولا تأمين اجتماعي، حاولت بشيرة تأمين مصاريف عائلتها ببعض الأعمال الإضافية مثل العمل أحيانا في المساء بالحمام أين تسكن بأحد الأحياء الشعبية المتاخمة لمدينة أريانة، كما أخبرتنا بذلك قائلة : »كنت اشتغل في المساء بالحمام لبضعة أيام في الأسبوع ولكن مع انتشار جائحة كورونا تم إغلاق الحمام، وساءت ظروفي الاجتماعية كثيرا".. تصمت قليلا، لتنحني وترفع قارورة بلاستيكية، ثم تتابع بنبرة حزينة : »أطفالي ما زالوا صغارا أكبرهم لم يبلغ بعد العشرين وهو يحاول بجهد إيجاد عمل لمساعدتي ولكن الجائحة قضت على كل محاولاتنا في تحسين دخل عائلتنا.. كان يشتغل بإحدى المقاهي ولكن صاحب المقهى تخلى عنه، بسبب ظروف الجائحة، هو اليوم يجرب العمل في حضائر البناء ولكنه عمل مرهق وغير قار..أنا اليوم لا أجد الأموال اللازمة لشراء الأدوات المدرسية لشقيقته الصغرى أو ثمن الدواء لابني الأوسط الذي يعاني من قصور كلوي".

معرّضات لشتى أنواع المخاطر..

بشيرة الفطناسي ليست الا واحدة من مئات النساء اللواتي يشتغلن في جمع الفضلات المنزلية سواء كن متعاقدات بشكل مباشر مع البلديات او مع شركات النظافة وفق عقود هشة، حيث تتعاقد هذه الشركات مع البلديات لانجاز أعمال النظافة بالشوارع والأنهج والمناطق الخضراء داخل الاحياء السكنية من خلال رفع الفضلات المنزلية وكذلك تنظيف المساحات الخضراء وتشجيرها أحيانا.. وأغلبهن يخفين وجوههن خوفا من الحقرة والاهانة من مجتمع لا يرحم حتى من أدارت لها الحياة ظهرها وقست عليها الأيام.

غير بعيد عن المكان الذي كانت تعمل فيه بشيرة، التقينا فاطمة، وهي سيدة في الأربعين من العمر، عندما اقتربنا منها كانت تسعل بشدة وبشكل لافت، بعد أن انتهت نوبة السعال وقبل سؤالها عن ظروفها الصحية، أجابت أنها تعاني من الحساسية، وأن تعاملها مع الغبار والأتربة يسبب لها هذه النوبات من السعال المتكررة، قائلة :» مع انتشار فيروس كورونا باتت هذه النوبات تشكل لي حرجا كبيرا حيث أرى الناس كيف يبتعدون مرعوبين وهم ينظرون لي بسخط.. قال لي الطبيب أن لا حل الا ترك عملي هذا ولكني لا أستطيع ترك العمل الذي اعتاش منه«.. ورغم أنها تجاوزت سن الأربعين إلا أن فاطمة ليست متزوجة، وما زالت تعيش مع والدها المسن في منزل صغير بأحد الأحياء الشعبية بالعاصمة، وقد أكدت لنا فاطمة أن ظروف العمل صعبة وشاقة وأنها تنهض يوميا قبل الفجر حتى تستطيع الوصول في الوقت إلى مقر العمل قبل أن تخرج في رحلة يومية مرهقة لجمع الفضلات المنزلية، وتقول: »مهنة مرهقة وأجر زهيد لا يكاد يسد الرمق ومع ذلك ينظر إلينا الجميع بنظرة احتقار وعدم احترام..عمال النظافة لا يحظون لا بالاحترام ولا بالتقدير رغم دورهم المهم"، وعن تأثيرات جائحة كورونا على عمال النظافة، تقول فاطمة: »نحن عانينا الأمرين بين خوفنا من التقاط العدوى من بين الفضلات وأداء عملنا، لكن لم يكن هناك خيار، في هذه المهنة نحن معرضون لشتى المخاطر خاصة وانه كما ترين لا يتم توفير وسائل الوقاية والحماية بشكل كاف".. وقد بدا ذلك واضحا حيث كانت فاطمة تعالج الفضلات التي تلتقطها بيدين عاريتين ولم تكن تحمل حتى كمامة بل تحاول ان تستغل وشاحها لتغطية وجهها.

تحرش ..عنف وحقرة !!

»الناس مزعجون في الشارع.. وبعضهم يحاول استغلال وضعنا الهش مهنيا واجتماعيا ويجيز لنفسه أن يتطاول عليك حتى دون سبب".. بهذه الكلمات لخصت بثينة وهي فتاة عشرينية من إحدى الأحياء المتاخمة للعاصمة والتي التحقت مؤخرا بهذه المهنة من خلال شركة نظافة تعاقدت معها بأجر زهيد لأنها لا تملك الخبرة.. بثينة تقول أن أكثر ما أزعجها في عملها هو نظرات الاحتقار التي تراها في الأعين وكذلك العنف اللفظي التي تتعرض له أحيانا ويصل حد التحرش.. وتستدرك بمرارة »لكن ماذا أفعل الخبزة مرة «؟.

وما تحدثت عنه بثينة ليس إلا عينة من المخاطر التي تواجهها النساء عاملات النظافة في الشارع، وعن هذه الوضعية تحدث إلينا الرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والناشط الحقوقي، مسعود الرمضاني الذي قال في تصريح لـ»الصباح«: »أكثر ما يزعجني أنهم يستغلون نساء ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية صعبة وهن في أغلبهن ريفيات او من أحياء شعبية فقيرة بأحواز العاصمة لتشغيلهن وبأجور زهيدة في هذا العمل الشاق والمرهق.. ما نلاحظه أن معظمهن يقمن بتغطية وجوههن حتى في الظروف العادية وفي كل الفصول حتى في الصيف وكأنهن يشعرن بالخوف أو يشعرن بالخجل من مهنتهن التي لا توفر لهن أدنى حماية ولا تضمن لهن كرامتهن". 

ويضيف الرمضاني انه يتم استغلال وبمنطق طبقي مستفز، النساء اللواتي يعشن ظروفا صعبة ومضطرات إلى العمل بحكم الفقر والخصاصة، ويقبلن حتى العمل بأجور زهيدة وفي مهنة خطيرة لا تضمن كرامتهن.. ويقول : »أنا تواصلت مع العديد منهن وفي تقديري أن وضعيتهن أسوأ حتى من عاملات الفلاحة، أولا لشعورهن بالإحراج وهن ينظفن الشوارع والأنهج أمام الجميع وثانيا هن معرّضات للتحرش وثالثا فان أجورهن زهيدة جدا وأقل من الأجر الأدنى المضمون.. وهو ما يشكل استهانة بالمرأة وتركها عرضة للعنف بأنواعه وحتى تعمدهن تغطية وجوههن فيه شعور بالحقرة وخوفا من التحرش وانا أعرف فتاة في مقتبل العمر ولكنها تقوم دائما بإخفاء وجهها لحماية نفسها من التحرش" .

ويؤكد مسعود الرمضاني أن هذه المهنة فيها إهانة للنساء، كما أن مخاطر العمل تكرس الطبقية واستغلال النساء اقتصاديا واجتماعيا .

شركات النظافة.. مناولة واستغلال

تلجأ أغلب البلديات الى التعاقد مع شركات النظافة المنتشرة على كامل الجمهورية للقيام بأعمال بلدية مثل رفع الفضلات المنزلية وكنس الشوارع والأنهج والتشجير، ورغم صيغة التعاقد هذه مع شركات النظافة تخضع الى كراس شروط يضبط الأدوار المنوطة بعهدة الشركة وكذلك حقوق العمال من استحقاقات مالية ومهنية مثل توفير ملابس العمل والمعدات وفق  كراس الشروط الإدارية والمطبقة على الصفقات العمومية الخاصة بالتزود بخدمات التنظيف..، إلا أن هذه الصفقات تهمل حقوقا أساسية للعمال وهو الحق في التغطية الاجتماعية والحق في التأمين الصحي.. حيث أن شركات النظافة التي تتنافس يوميا على هذا النوع من الصفقات وتهدف إلى الربح، تعمل في العادة عند المشاركة في هذه الصفقات الى تقديم عروض مالية أقل حتى تظفر بالصفقة.. ولكي تضغط بعد ذلك على المصاريف تلجأ الى الضغط على نفقات التأجير وهي لذلك تستغل النساء اللواتي يقبلن في العادة العمل بأجور زهيدة، بالإضافة إلى أن هذه الشركات تخرق بنود العقد المتفق عليه حتى في شروطه الدنيا وتستفيد من غياب الرقابة والافلات من المحاسبة والظروف الصعبة للعمال التي تجبرهم على الصمت والرضوخ.

أنواع التعاقد

عدنان بوعصيدة، رئيس الجامعة الوطنية للبلديات التونسية، تحدث على أنواع العقود التي تنظم طريقة العمل مع الأعوان البلديين سواء نساء أو رجالا، وقال في تصريح لـ »الصباح «: »هناك اليوم الانتدابات المباشرة عبر التعاقد مع البلديات لمدة سنة، وهناك النساء الذين يشتغلن في العمل البلدي من خلال صفقة منجزة بين البلديات والمقاولين، وهناك نساء مرسمات كعون بلدي".

وحول أداء النساء ومردوديتهن في العمل البلدي يقول بوعصيدة  »أنا لا أرى فرقا في الأداء وفي المردودية لأن الجميع يعمل وفق المساحة البلدية المحددة له، وعند الانتهاء من تنظيف المساحة المحددة ينتهي العمل وهذه المساحة في العادة تكون في حدود 1 كلم ونصف ويجب أن لا يتجاوز تنظيف المساحة المحددة، التوقيت المتعارف عليه للعمل البلدي ".

 كما تحدث رئيس الجامعة الوطنية للبلديات ورئيس بلدية رواد، عدنان بوعصيدة، عن أن مشكلة وضعية العاملات الاجتماعية تكمن في هذا النوع من العقود الذي يجمع النساء مع البلديات بشكل مباشر او مع شركات النظافة، يبقى الأجر الزهيد، ويفسر ذلك بأن العمل لا يتطلب مؤهلات عليا وكذلك لأن  وضعية البلديات والشركات المالية ليست جيدة في العموم، وفق تعبيره .

عدنان بوعصيدة أشار أيضا الى أنه ورغم الوضع الصعب الذي تعيشه البلديات عامة و المحدثة منها خاصة في ما يخص الموارد المالية وانخفاض نسبة التأطير والتشغيل بالبلديات فإن الوزارة لا تحرك ساكنا بل وتتحمل المسؤولية في ذلك، مؤكدا أن البنك العالمي للتنمية قد رصد  منح لانتداب 1039 إطارا للبلديات في المهن الضرورية لدعم العمل البلدي من مهندسين واخصائيين في المالية والشؤون القانونية والإعلامية وذلك منذ سنة 2019، لكن الى اليوم لم يتم صرف هذه الأموال وهو ما جعل البلديات في وضعيات مأساوية .

 

منظومة تشغيل هشة

 

يؤكد رئيس الكنفدرالية التونسية لرؤساء البلديات، فيصل الدريدي في تصريح لـ »الصباح « أن العمل وفق منظومة الحضائر متواصل وهو ما يجعل من وضعية العمل وضعية هشة بالنسبة للرجال والنساء على حد السواء، ولكنه ينفي أن تكون للبلديات عاملات بعقود مناولة قائلا : »ما لاحظناه بالنسبة لهؤلاء طيلة ثلاث سنوات من المجالس البلدية المنتخبة ان هؤلاء العاملات الذين تجدهم وسط الشارع يرفعون الفضلات المنزلية أو يتم ارسالهم في برامج نظافة عامة داخل المؤسسات المختلفة، وضعيتهن هشة..، ولكن كطاقة إنتاج وإنتاجية نحن نعرف ان هؤلاء يشتغلون لوقت لا يتجاوز الساعتين او الثلاث ساعات في اليوم وبالتالي ليس هناك مردودية هامة ولكنهم في المقابل عملهم يكتسي العديد من الإشكاليات كحوادث الشغل باعتبارهن موجودات في الطرقات والفضاءات العامة كذلك هن يتعرضن الى اعتداءات وهرسلة من المواطنين.. وحتى الوضعية القانونية هشة ولا يتم خلاصهم الا على أيام العمل المنجزة وفي المقابل هم يتقاضون أجر الحد الأدنى الذي لا يتجاوز 370 دينارا«  .

ويضيف الدريدي : »اليوم هناك توجه دولة مع اتحاد الشغل لتسوية ملف عمال الحضائر ومن بينهم هؤلاء العاملات، حيث تقرر أن من هم تحت سن 45 سنة سيتم انتدابهن في المؤسسات العمومية ومن ضمن هذه المؤسسات البلديات وذلك حسب الميزانية المتوفرة، ومن هم أكبر من سن 45 سنة سيحصلون على منحة مغادرة في حدود 20 ألف دينار، وهذا الاتفاق ممضي ولم يفعل الى اليوم رغم ان المنظومة التشغيلية الراهنة هي منظومة هشة ولا تتماشى مع الكرامة الإنسانية وخاصة عندما يكون العامل امرأة حيث تبقى معرضة لشتى أنواع الاعتداءات وهي في الشارع « .

وحول نسبة النساء اللواتي يشتغلن في أعمال بلدية أكد الدريدي أنه في حدود 40 بالمائة من مجموع الأعوان البلديين.

 

منية العرفاوي

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews