إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

أستاذ القانون العام الصغيرالزكراوي لـ"الصباح": 25 جويلية إنقاذ للدولة.. وأختلف مع سعيد لهذه الأسباب

 

تونس – الصباح

صنف مدير قسم القانون العام بكلية الحقوق والعلوم السياسية الصغير الزكراوي حركة 25 جويلية في خانة انتصار إرادة شعب لكنس منظومة فاشلة وفاسدة وليست برنامجا أو مشروعا لقيس سعيد. ولم يخف موقفه الداعم لمسار ما بعدما وصفه باللحظة المفصلية في تاريخ تونس بعد عشر سنوات عجاف. واعتبر أن قيس سعيد أخطأ في عدة مسائل ومطلوب منه أن يصيب وينجح في أخرى عديدة لأن الخطأ لم يعد مقبولا في هذه المرحلة المملوءة بالمطبات والمكائد، وفق تعبيره، وتطرق مدير قسم القانون العام بالجامعة التونسية إلى مشروع الاتحاد العام التونسي للشغل كخارطة طريق إلى عدة مسائل سياسية واجتماعية ودستورية وغيرها من المسائل الأخرى في الحوار التالي:

*في ظل الجدل الواسع والاصطفافات المسجلة في المشهد العام أساسا منه السياسي، أين تضع نفسك؟

-اخترت الحديث بصوت عال في هذه المرحلة الوطنية الصعبة لأني أؤمن بالدفاع عن مصلحة البلاد وبوصلتي هي تونس فقط. وليس في الأمر "أنوات" أو رغبة في التقرب من أحد مثلما يدعي البعض من الرافضين لكلمة الحق لأن مكاني هو كرسي الجامعة التونسية. وما قلته في قيس سعيد من نقد لم يقله فيه أحد خاصة أني كنت أنتقد المنظومة منذ 2011 ولم أقبل أن أكون يوما مستشارا في أي حكومة أو حزب وصفتي أكاديمي مختص في القانون تكفيني. لذلك لا استغرب من بعض الاصطفافات أو إعلان الموقف وضده على غرار محمد عبو الذي كان أول من دعا سعيد إلى إنزال الجيش إلى الشارع لينقلب اليوم على موقفه على غرار الأصوات المدافعة على المنظومة الفاسدة تحت دواع مختلفة بما في ذلك السعي للاستقواء بالأجنبي والمس من السيادة الوطنية.

*هل أنت مع قيس سعيد؟

-نعم أنا مع حركة 25 جويلية ولست مع سعيد كشخص، فهي ليست برنامج سعيد، وإنما كانت إرادة شعب أراد كنس منظومة فاسدة وفاشلة بجميع مكوناتها بما في ذلك دستورها بعد أن أصبح يتخبط في دائرة مغلقة تتلاطمه الأزمات ممثلة في غلاء المعيشة والبطالة والمديونية والفساد واللوبيات المتحكمة في مفاصل الدولة. لأن تلك القرارات كانت مفصلية في تاريخ تونس لإنقاذ الدولة من براثن المنظومة الحاكمة المتهالكة، التي كانت محكمة الإغلاق والأفخاخ. إذ لم تكن هناك محكمة دستورية لتعديل الصراع بين الرئاسات الثلاث في تنازعها على السلطات. فرئيس الجمهورية له السلطة التقديرية وهو رمز سيادة الدولة واستمراريتها ووحدة شعبها، وتطبيقه الفصل 80 من الدستور كان في إطار الدفاع الشرعي عن الدولة. وليعلم الجميع أني التقيت سعيد مرة واحدة منذ توليه الرئاسة وذلك في أفريل الماضي بعد أن دعا بن عاشور إلى عزله لكني حينها خالفتهم الرأي للسبب الآنف الذكر. والحديث عن برنامج سعيد ربما يكون في المستقبل بعد أن يعلن عن برنامجه بترشحه للرئاسية القادمة. وأنا أختلف مع سعيد في عدة مسائل منها إيماني بدور الأحزاب الأساسي في الدولة والمنظومة.

*قلت إن النظام الذي حكم تونس في سنوات ما بعد الثورة كان محكم الإغلاق والأفخاخ، ماذا تعني؟

-هذه حقيقة يجمع عليها المختصون في القانون وغيرهم، فالنظام السياسي الذي حكم تونس في العشرية الأخيرة هو محكم الأقفال جعل المواطنين رهائن عند هذه المنظومة خاصة منذ 2014 إلى ما قبل 25  جويلية. وقيس سعيد يحسب له أن قام بتحرير الشعب من هذا "السجن" أو القمقم بعد أن "أتت اللحظة التي وعد بها". فالدستور كان مبنيا على التناقض وعدم الانسجام ثم أن المؤسسات والهياكل المفصلية لم تكن موجودة مثل المحكمة الدستورية ثم أن بقية المؤسسات لم تكن مستقلة في مجملها.

*هل تعني أنه يجب اعتماد مبدأ "الشطب" والدخول في مرحلة تأسيس وبناء جديدة؟

-لا يجب أن يكون الأمر كذلك وإنما وجب القيام بتعديل ومراجعة شاملة وهذا يتطلب وقتا ومجهودا وإمكانيات بشرية ومالية كبيرة. لكن وجب اليوم الدخول في مرحلة المراجعة وإصلاح ما يمكن إصلاحه خاصة أن بلادنا تزخر بالكفاءات والشرفاء والوطنيين. بدءا بمراجعة قانون الأحزاب والجمعيات الذي كان مدخلا لتسميم المشهد السياسي ومراجعة الإطار القانوني للهيئة المستقلة للانتخابات التي لم تقم بدورها المطلوب في علاقة بقضية التمويل الأجنبي في الانتخابات الأخيرة إضافة إلى كونها اليوم غير قانونية كما هو الشأن بالنسبة لعدة هيئات أخرى على غرار "الهياكا".

*كيف تقيم أداء الهيئات الدستورية ومدى نجاحها في تحقيق المعادلة المطلوبة في المرحلة الماضية؟

-في الحقيقة أصبحت هذه الهيئات الدستورية المستقلة طرفا في شبكة "اللوبي" المتحكم في مسار البلاد. ويكفي الإشارة إلى أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تمردت على الدولة. لذا أرى أنه يجب تقليص الهيئات الدستورية لأنها أضعفت دور الدولة ومست من هبتها وذلك من خلال باب اللامركزية وتحصينه. وأنا شخصيا لست مع "قلب الهرم" مثلما يدعو لذلك بعض المقربين من سعيد. ثم أن بعض المؤسسات لم تكن مستقلة لتقوم بدورها المطلوب المنوط بعهدتها على غرار محكمة المحاسبات التي كانت "مضروبة على أيديها" كغيرها في المؤسسة القضائية لأنه لم يكن هناك مناخ حرية.

*كيف تقيم دور مؤسسة الرئاسة منذ25 جويلية إلى اليوم في التعاطي مع إفرازات الهبة الشعبية في ظل الضبابية والتعتيم وتأخر الحسم؟

-مازلنا ننتظر ولكن لا أنكر أن هناك نوعا من التخبط والتردد، فمستشار رئيس الجمهورية يقول أن هناك توجها لتعديل الدستور. فالتونسي لم يعد قادرا على الانتظار والصبر أكثر بعد أن ضاق ذرعا من المنظومة السابقة والجميع يتطلع إلى مرحلة جديدة تفتح أفقا سياسيا جديدا.

*ما هي ملامح هذا الأفق السياسي؟

-الضرورة تقتضي تعليق العمل بدستور 2014 لأنه مصدر كل الشرور ولا يستجيب لأدنى معايير الدساتير بما يقتضيه من انسجام بين فصوله فضلا عما يتضمنه من أفخاخ وتناقضات كبيرة بين فصوله. ويكفي الاستشهاد بمعركة الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث لنتأكد من ذلك. إضافة إلى الهنات لأنه وليد توافقات مغشوشة وحسابات وتنازلات واستعمله بعض السياسيين للتمكن من مفاصل الدولة ولم يكن أفق تونس حاصلا وحاضرا فيه. وهناك سيناريوهات مطروحة على رئاسة الجمهورية لإدراك ذلك الأول يتمثل في تكوين لجنة مصغرة تتولى القيام بتعديل هذا الدستور وعرضه على الاستفتاء في مرحلة لاحقة. والسيناريو الثاني يتمثل في القيام بتعديل الدستور الحالي. ويبدو أن سعيد استقر رأيه على هذا الخيار لا أدري هل كان تحت ضغوط أجنبية لا نعلمها. ولكني كشعب نطالب بتعديل الدستور كحد أدنى وما يترتب عنه من إجراءات أخرى حل للبرلمان باعتباره بؤرة الفساد بعد أن أصبحت فصول ومشاريع قوانين ونواب تباع وتشترى في ضرب صارخ بالمصلحة والسيادة الوطنية.

*بم تفسر تخوف البعض عن عودة الاستبداد و"ضياع" المكسب الديمقراطي؟

-أعتقد أن الديمقراطية ومكسب الحريات التي تحقق بفضل شباب ثورة 2011 تم الالتفاف عليها من قبل المنظومة التي حكمت تونس في العقد الأخير، وأصبحت ديمقراطية شكلية زائفة فاقدة لمقومات الديمقراطية واقتصرت على إجراء الانتخابات في ظاهرها وانتشار الفساد في جوهرها، ليثبت فيما بعد أن تلك الانتخابات لم تكن نزيهة وشفافة. لأن المال الفاسد واللوبيات نسفت مضمونها والدليل أن المرشح الثاني للرئاسة فار ومطلوب للعدالة. لأن هناك ما هو أخطر وهو الديمقراطية الزائفة التي ترتهن فيها البلاد والعباد وتؤدي إلى تفقير الشعوب وتداين الدولة وهو ما نعيشه اليوم، الأمر الذي دفع البعض للمجاهرة بتمني عودة منظومة بن علي والتعبير عن الحنين إليها.

*ما هو في "تقديرك" النظام الأنسب لتونس اليوم برلماني أم رئاسي؟

-لا أعتقد أن المرحلة تتطلب نظاما برلمانيا ليس فقط بسبب فشل التجربة الذريع ولكن لعدم توفر شروطه. لأن العيب ليس فيه وإنما في عدم توفر شروطه في هذه المرحلة. فالبرلماني يتطلب وجود أحزاب راسخة ومتجذرة في حين الحزب الوحيد الذي حافظ على بقائه واستمراريته في المشهد السياسي في الفترة الماضية هو النهضة. ولكن وحسب المفهوم الأكاديمي النهضة ليست حزبا سياسيا وإنما جماعة لا تعترف بالديمقراطية في أدبياتها. ويكفي العودة إلى "دواخل" الحركة للتأكد من ذلك، فليس لها برنامجا فيما الهياكل الموجودة داخلها صورية والغنوشي أقرب إلى "داعية" منه لرئيس حزب سياسي، يحكم الحركة لأكثر من أربعين سنة. فالنظام البرلماني يتطلب شروطا ومناخا سياسيا غير متوفر حاليا في تونس. والأمر لا يتوقف على السياسيين والأحزاب فقط بل يشمل أيضا الناخب الذي يفترض أن يكون على قدر من الوعي ومدركا لقناعاته واختياراته ولكنه يُشْتَرى بالمال.

*في هذه الوضعية أنت تذهب إلى النظام الرئاسي ولكن البعض يتخوف من تحوله إلى رئاسوي خاصة أمام فشل بعض التجارب المماثلة في العالم؟

-صحيح أن الحل في نظام رئاسي وهناك نموذج وحيد في العالم ناجح هو الأمريكي. وبلادنا تحتاج اليوم إلى نظام شبه رئاسي كان موجودا في دستور 59 في نسخته الأولى قبل أن يتم تنقيحه لاحقا ثم أن بن علي أدخل عليه تغييرات كبيرة جردت الوزير الأول من صلاحياته وجعلت رئيس الجمهورية هو حجر الزاوية وقلب الرحى يمسك بكل السلطات والوزير الأول مجرد منسق وهو أول الوزراء وأعلاهم في نظام كان يحكمه حزب واحد.

ولكن النظام الرئاسي الذي نطمح له اليوم يأخذ بمبدأ التفريق المرن بين السلط أي فيه برلمان منتخب يتمتع بصلاحيات هامة في التشريع وسن القوانين ومراقبة ومحاسبة الحكومة التي تنبثق منه ويصادق عليها وفيه تفاعل مع السلطة التنفيذية. أما فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية فيجب أن تكون برأسين يمثلها رئيس جمهورية يتمتع بصلاحيات على خلاف ما حددها دستور 2014 ووزير أول يتمتع بصلاحيات هامة منها تشكيل حكومة بالتشاور مع الرئيس على غرار التجربة الفرنسية بعد أن كشفت أزمة كورونا أن كل شيء يمر عبر الرئيس الفرنسي. لأن ذلك فيه توازن بين السلط. فرئيس الجمهورية يبقى رمز وحدة الدولة ومصدر استمراريتها ثم أن عقلية التونسي تجعلنا أقرب إلى نظام رئاسي منه للبرلماني. وحبذا لو أن رئيس الجمهورية يكون ينتمي لحزب حتى تكون له الأغلبية. لذلك لا يمكن الحديث عن نظام رئاسوي وعودة الديكتاتورية. الخوف من تحول هذا النظام إلى استبدادي ليس هناك مدعاة لطرحه اليوم. لأنه ليس هناك قانون اجتماعي على غرار "الخلدوني" يؤكد ذلك ثم أن هناك عدة هياكل ومؤسسات ومجتمع مدني سوف تكونسدا منيعا أمام محاولات العودة  إلى الاستبداد أو التفريط في المكتسبات. وأعتقد أن البعض يطرح ذلك من باب التشويش والتهويل ورفض القطع مع المنظومة الفاسدة.

*بم تفسر طغيان الجدل عما هو دستوري في حين أن البلاد ترزح تحت كومة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة؟

-صحيح أن الجدل الدستوري طغى على المشهد وتم تغييب المشاكل والمشاغل الحقيقية والأساسية التي قامت من أجلها ثورة 2011 وانتفاضة 25 جويلية لاسيما ما تعلق بالتنمية والمشاغل الاقتصادية والاجتماعية. وذلك كان ممنهجا للتغطية على حجم الفشل الذريع للحكومات والمنظومة التي حكمت البلاد طيلة العقد الأخير وللتغطية أيضا على حجم الفساد الذي نخر جسد الدولة. وأعتقد أن الحكومة المقبلة التي سيتم الإعلان عنها خلال الأيام القليلة القادمة على ما يبدو ستكون متفرغة لمعالجة هذه المشاكل الاقتصادية والمديونية والبطالة وتكون هذه المشاغل من أولوياتها.

*في سياق حديثك لم تذكر مبادرة أو مشروع الاتحاد الذي قدمه كخارطة طريق للخروج من مرحلة ما بعد 25 جويلية، هل كنت على علم بذلك؟

-نعم أطلعت على هذا المشروع.

*ما هو رأيك في ذلك؟

-صراحة أعتبر هذه "الخارطة" غير صائبة. لأنها تتضمن ما يتم تداوله من قبل الرافضين للقطع الكلي مع المنظومة الفاشلة والفاسدة. وأعتبر ذلك "مسرحية بايخة" سمجة سيئة الإخراج لا تليق بمنظمة حشاد العريقة.

*هل يعني أنك مع خيار سعيد في إبعاد الاتحاد العام التونسي للشغل من دائرة الهندسة للمرحلة المقبلة؟

-أعتقد أن خطأ سعيد كان في تحييد الاتحاد نظرا لقيمته ودوره كمنظمة عريقة في البلاد، وربما هذا ما جعل قياداتها تنقلب على بعض مواقفها في علاقة بالأحزاب السياسية ولقاء نورالدين الطبوبي وعبير موسي رئيس حزب الستوري الحر مؤخرا مثال على ذلك. ثم أنه عمليا لا يمكن لرجل واحد أن يتفرد بالتفكير لـ12 مليون.

*ما هو المخرج إذن؟

-السيناريو الذي يتماشى ومتطلبات المرحلة هو الذهاب إلى تعديل الدستور وإرساء نظام رئاسي متوازن يتم عرضه على لجنة خبراء يتم تشكيلها للغرض وبعد ذلك يقع عرضه على الاستفتاء وهو مخرج ديمقراطي وأسلوب أمثل في الأنظمة الديمقراطية.

*لنعد للحديث عن مسألة أشرت لها عديد المرات في سياق حديثك وهي الهشاشة الحزبية، بم تفسر ذلك؟

-اعتقد أنها حقيقة لا يمكن نفيها، ويرجع ذلك لحالة التصحر التي عاشتها بلادنا في عهود التفكير والحزب الواحد ثم أن غياب العنصر البشري الراغب في التغيير له دوره نظرا لطغيان مرض "الأنوات" المتضخمة والمتورمة لدىبعض الأحزاب والقيادات الكلاسيكية وحمة الهمامي وراشد الغنوشي ومصطفى بن جعفر ونجيب الشابي خير أمثلة لذلك.  ثم أن جل الأحزاب الموجودة توعد ولا تنفذ لكن ليس لها برامج وهذه ظاهرة عالمية وليست تونسية فحسب. الأمر الذي خلق نوعا من النفور من الممارسة السياسية والحزبية ليتجه الأغلبية إلى العمل المدني والجمعياتي. إضافة إلى ارتباط الأحزاب بالمال الفاسد وهي ظاهرة تتطلب القيام بدراسات سيوسولوجية علمية.

*ولكن البعض يرى أن الأحزاب استقطبت نشطاء المجتمع المدني أليس الأمر كذلك؟

-صحيح هذا حصل بشكل لافت لكن الخيبة كانت سريعة خاصة بعد أن أصبحت الأحزاب عائلية وعروشية وجهوية.

 

حاورته نزيهة الغضباني

أستاذ القانون العام الصغيرالزكراوي لـ"الصباح":  25 جويلية إنقاذ للدولة.. وأختلف مع سعيد لهذه الأسباب

 

تونس – الصباح

صنف مدير قسم القانون العام بكلية الحقوق والعلوم السياسية الصغير الزكراوي حركة 25 جويلية في خانة انتصار إرادة شعب لكنس منظومة فاشلة وفاسدة وليست برنامجا أو مشروعا لقيس سعيد. ولم يخف موقفه الداعم لمسار ما بعدما وصفه باللحظة المفصلية في تاريخ تونس بعد عشر سنوات عجاف. واعتبر أن قيس سعيد أخطأ في عدة مسائل ومطلوب منه أن يصيب وينجح في أخرى عديدة لأن الخطأ لم يعد مقبولا في هذه المرحلة المملوءة بالمطبات والمكائد، وفق تعبيره، وتطرق مدير قسم القانون العام بالجامعة التونسية إلى مشروع الاتحاد العام التونسي للشغل كخارطة طريق إلى عدة مسائل سياسية واجتماعية ودستورية وغيرها من المسائل الأخرى في الحوار التالي:

*في ظل الجدل الواسع والاصطفافات المسجلة في المشهد العام أساسا منه السياسي، أين تضع نفسك؟

-اخترت الحديث بصوت عال في هذه المرحلة الوطنية الصعبة لأني أؤمن بالدفاع عن مصلحة البلاد وبوصلتي هي تونس فقط. وليس في الأمر "أنوات" أو رغبة في التقرب من أحد مثلما يدعي البعض من الرافضين لكلمة الحق لأن مكاني هو كرسي الجامعة التونسية. وما قلته في قيس سعيد من نقد لم يقله فيه أحد خاصة أني كنت أنتقد المنظومة منذ 2011 ولم أقبل أن أكون يوما مستشارا في أي حكومة أو حزب وصفتي أكاديمي مختص في القانون تكفيني. لذلك لا استغرب من بعض الاصطفافات أو إعلان الموقف وضده على غرار محمد عبو الذي كان أول من دعا سعيد إلى إنزال الجيش إلى الشارع لينقلب اليوم على موقفه على غرار الأصوات المدافعة على المنظومة الفاسدة تحت دواع مختلفة بما في ذلك السعي للاستقواء بالأجنبي والمس من السيادة الوطنية.

*هل أنت مع قيس سعيد؟

-نعم أنا مع حركة 25 جويلية ولست مع سعيد كشخص، فهي ليست برنامج سعيد، وإنما كانت إرادة شعب أراد كنس منظومة فاسدة وفاشلة بجميع مكوناتها بما في ذلك دستورها بعد أن أصبح يتخبط في دائرة مغلقة تتلاطمه الأزمات ممثلة في غلاء المعيشة والبطالة والمديونية والفساد واللوبيات المتحكمة في مفاصل الدولة. لأن تلك القرارات كانت مفصلية في تاريخ تونس لإنقاذ الدولة من براثن المنظومة الحاكمة المتهالكة، التي كانت محكمة الإغلاق والأفخاخ. إذ لم تكن هناك محكمة دستورية لتعديل الصراع بين الرئاسات الثلاث في تنازعها على السلطات. فرئيس الجمهورية له السلطة التقديرية وهو رمز سيادة الدولة واستمراريتها ووحدة شعبها، وتطبيقه الفصل 80 من الدستور كان في إطار الدفاع الشرعي عن الدولة. وليعلم الجميع أني التقيت سعيد مرة واحدة منذ توليه الرئاسة وذلك في أفريل الماضي بعد أن دعا بن عاشور إلى عزله لكني حينها خالفتهم الرأي للسبب الآنف الذكر. والحديث عن برنامج سعيد ربما يكون في المستقبل بعد أن يعلن عن برنامجه بترشحه للرئاسية القادمة. وأنا أختلف مع سعيد في عدة مسائل منها إيماني بدور الأحزاب الأساسي في الدولة والمنظومة.

*قلت إن النظام الذي حكم تونس في سنوات ما بعد الثورة كان محكم الإغلاق والأفخاخ، ماذا تعني؟

-هذه حقيقة يجمع عليها المختصون في القانون وغيرهم، فالنظام السياسي الذي حكم تونس في العشرية الأخيرة هو محكم الأقفال جعل المواطنين رهائن عند هذه المنظومة خاصة منذ 2014 إلى ما قبل 25  جويلية. وقيس سعيد يحسب له أن قام بتحرير الشعب من هذا "السجن" أو القمقم بعد أن "أتت اللحظة التي وعد بها". فالدستور كان مبنيا على التناقض وعدم الانسجام ثم أن المؤسسات والهياكل المفصلية لم تكن موجودة مثل المحكمة الدستورية ثم أن بقية المؤسسات لم تكن مستقلة في مجملها.

*هل تعني أنه يجب اعتماد مبدأ "الشطب" والدخول في مرحلة تأسيس وبناء جديدة؟

-لا يجب أن يكون الأمر كذلك وإنما وجب القيام بتعديل ومراجعة شاملة وهذا يتطلب وقتا ومجهودا وإمكانيات بشرية ومالية كبيرة. لكن وجب اليوم الدخول في مرحلة المراجعة وإصلاح ما يمكن إصلاحه خاصة أن بلادنا تزخر بالكفاءات والشرفاء والوطنيين. بدءا بمراجعة قانون الأحزاب والجمعيات الذي كان مدخلا لتسميم المشهد السياسي ومراجعة الإطار القانوني للهيئة المستقلة للانتخابات التي لم تقم بدورها المطلوب في علاقة بقضية التمويل الأجنبي في الانتخابات الأخيرة إضافة إلى كونها اليوم غير قانونية كما هو الشأن بالنسبة لعدة هيئات أخرى على غرار "الهياكا".

*كيف تقيم أداء الهيئات الدستورية ومدى نجاحها في تحقيق المعادلة المطلوبة في المرحلة الماضية؟

-في الحقيقة أصبحت هذه الهيئات الدستورية المستقلة طرفا في شبكة "اللوبي" المتحكم في مسار البلاد. ويكفي الإشارة إلى أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تمردت على الدولة. لذا أرى أنه يجب تقليص الهيئات الدستورية لأنها أضعفت دور الدولة ومست من هبتها وذلك من خلال باب اللامركزية وتحصينه. وأنا شخصيا لست مع "قلب الهرم" مثلما يدعو لذلك بعض المقربين من سعيد. ثم أن بعض المؤسسات لم تكن مستقلة لتقوم بدورها المطلوب المنوط بعهدتها على غرار محكمة المحاسبات التي كانت "مضروبة على أيديها" كغيرها في المؤسسة القضائية لأنه لم يكن هناك مناخ حرية.

*كيف تقيم دور مؤسسة الرئاسة منذ25 جويلية إلى اليوم في التعاطي مع إفرازات الهبة الشعبية في ظل الضبابية والتعتيم وتأخر الحسم؟

-مازلنا ننتظر ولكن لا أنكر أن هناك نوعا من التخبط والتردد، فمستشار رئيس الجمهورية يقول أن هناك توجها لتعديل الدستور. فالتونسي لم يعد قادرا على الانتظار والصبر أكثر بعد أن ضاق ذرعا من المنظومة السابقة والجميع يتطلع إلى مرحلة جديدة تفتح أفقا سياسيا جديدا.

*ما هي ملامح هذا الأفق السياسي؟

-الضرورة تقتضي تعليق العمل بدستور 2014 لأنه مصدر كل الشرور ولا يستجيب لأدنى معايير الدساتير بما يقتضيه من انسجام بين فصوله فضلا عما يتضمنه من أفخاخ وتناقضات كبيرة بين فصوله. ويكفي الاستشهاد بمعركة الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث لنتأكد من ذلك. إضافة إلى الهنات لأنه وليد توافقات مغشوشة وحسابات وتنازلات واستعمله بعض السياسيين للتمكن من مفاصل الدولة ولم يكن أفق تونس حاصلا وحاضرا فيه. وهناك سيناريوهات مطروحة على رئاسة الجمهورية لإدراك ذلك الأول يتمثل في تكوين لجنة مصغرة تتولى القيام بتعديل هذا الدستور وعرضه على الاستفتاء في مرحلة لاحقة. والسيناريو الثاني يتمثل في القيام بتعديل الدستور الحالي. ويبدو أن سعيد استقر رأيه على هذا الخيار لا أدري هل كان تحت ضغوط أجنبية لا نعلمها. ولكني كشعب نطالب بتعديل الدستور كحد أدنى وما يترتب عنه من إجراءات أخرى حل للبرلمان باعتباره بؤرة الفساد بعد أن أصبحت فصول ومشاريع قوانين ونواب تباع وتشترى في ضرب صارخ بالمصلحة والسيادة الوطنية.

*بم تفسر تخوف البعض عن عودة الاستبداد و"ضياع" المكسب الديمقراطي؟

-أعتقد أن الديمقراطية ومكسب الحريات التي تحقق بفضل شباب ثورة 2011 تم الالتفاف عليها من قبل المنظومة التي حكمت تونس في العقد الأخير، وأصبحت ديمقراطية شكلية زائفة فاقدة لمقومات الديمقراطية واقتصرت على إجراء الانتخابات في ظاهرها وانتشار الفساد في جوهرها، ليثبت فيما بعد أن تلك الانتخابات لم تكن نزيهة وشفافة. لأن المال الفاسد واللوبيات نسفت مضمونها والدليل أن المرشح الثاني للرئاسة فار ومطلوب للعدالة. لأن هناك ما هو أخطر وهو الديمقراطية الزائفة التي ترتهن فيها البلاد والعباد وتؤدي إلى تفقير الشعوب وتداين الدولة وهو ما نعيشه اليوم، الأمر الذي دفع البعض للمجاهرة بتمني عودة منظومة بن علي والتعبير عن الحنين إليها.

*ما هو في "تقديرك" النظام الأنسب لتونس اليوم برلماني أم رئاسي؟

-لا أعتقد أن المرحلة تتطلب نظاما برلمانيا ليس فقط بسبب فشل التجربة الذريع ولكن لعدم توفر شروطه. لأن العيب ليس فيه وإنما في عدم توفر شروطه في هذه المرحلة. فالبرلماني يتطلب وجود أحزاب راسخة ومتجذرة في حين الحزب الوحيد الذي حافظ على بقائه واستمراريته في المشهد السياسي في الفترة الماضية هو النهضة. ولكن وحسب المفهوم الأكاديمي النهضة ليست حزبا سياسيا وإنما جماعة لا تعترف بالديمقراطية في أدبياتها. ويكفي العودة إلى "دواخل" الحركة للتأكد من ذلك، فليس لها برنامجا فيما الهياكل الموجودة داخلها صورية والغنوشي أقرب إلى "داعية" منه لرئيس حزب سياسي، يحكم الحركة لأكثر من أربعين سنة. فالنظام البرلماني يتطلب شروطا ومناخا سياسيا غير متوفر حاليا في تونس. والأمر لا يتوقف على السياسيين والأحزاب فقط بل يشمل أيضا الناخب الذي يفترض أن يكون على قدر من الوعي ومدركا لقناعاته واختياراته ولكنه يُشْتَرى بالمال.

*في هذه الوضعية أنت تذهب إلى النظام الرئاسي ولكن البعض يتخوف من تحوله إلى رئاسوي خاصة أمام فشل بعض التجارب المماثلة في العالم؟

-صحيح أن الحل في نظام رئاسي وهناك نموذج وحيد في العالم ناجح هو الأمريكي. وبلادنا تحتاج اليوم إلى نظام شبه رئاسي كان موجودا في دستور 59 في نسخته الأولى قبل أن يتم تنقيحه لاحقا ثم أن بن علي أدخل عليه تغييرات كبيرة جردت الوزير الأول من صلاحياته وجعلت رئيس الجمهورية هو حجر الزاوية وقلب الرحى يمسك بكل السلطات والوزير الأول مجرد منسق وهو أول الوزراء وأعلاهم في نظام كان يحكمه حزب واحد.

ولكن النظام الرئاسي الذي نطمح له اليوم يأخذ بمبدأ التفريق المرن بين السلط أي فيه برلمان منتخب يتمتع بصلاحيات هامة في التشريع وسن القوانين ومراقبة ومحاسبة الحكومة التي تنبثق منه ويصادق عليها وفيه تفاعل مع السلطة التنفيذية. أما فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية فيجب أن تكون برأسين يمثلها رئيس جمهورية يتمتع بصلاحيات على خلاف ما حددها دستور 2014 ووزير أول يتمتع بصلاحيات هامة منها تشكيل حكومة بالتشاور مع الرئيس على غرار التجربة الفرنسية بعد أن كشفت أزمة كورونا أن كل شيء يمر عبر الرئيس الفرنسي. لأن ذلك فيه توازن بين السلط. فرئيس الجمهورية يبقى رمز وحدة الدولة ومصدر استمراريتها ثم أن عقلية التونسي تجعلنا أقرب إلى نظام رئاسي منه للبرلماني. وحبذا لو أن رئيس الجمهورية يكون ينتمي لحزب حتى تكون له الأغلبية. لذلك لا يمكن الحديث عن نظام رئاسوي وعودة الديكتاتورية. الخوف من تحول هذا النظام إلى استبدادي ليس هناك مدعاة لطرحه اليوم. لأنه ليس هناك قانون اجتماعي على غرار "الخلدوني" يؤكد ذلك ثم أن هناك عدة هياكل ومؤسسات ومجتمع مدني سوف تكونسدا منيعا أمام محاولات العودة  إلى الاستبداد أو التفريط في المكتسبات. وأعتقد أن البعض يطرح ذلك من باب التشويش والتهويل ورفض القطع مع المنظومة الفاسدة.

*بم تفسر طغيان الجدل عما هو دستوري في حين أن البلاد ترزح تحت كومة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة؟

-صحيح أن الجدل الدستوري طغى على المشهد وتم تغييب المشاكل والمشاغل الحقيقية والأساسية التي قامت من أجلها ثورة 2011 وانتفاضة 25 جويلية لاسيما ما تعلق بالتنمية والمشاغل الاقتصادية والاجتماعية. وذلك كان ممنهجا للتغطية على حجم الفشل الذريع للحكومات والمنظومة التي حكمت البلاد طيلة العقد الأخير وللتغطية أيضا على حجم الفساد الذي نخر جسد الدولة. وأعتقد أن الحكومة المقبلة التي سيتم الإعلان عنها خلال الأيام القليلة القادمة على ما يبدو ستكون متفرغة لمعالجة هذه المشاكل الاقتصادية والمديونية والبطالة وتكون هذه المشاغل من أولوياتها.

*في سياق حديثك لم تذكر مبادرة أو مشروع الاتحاد الذي قدمه كخارطة طريق للخروج من مرحلة ما بعد 25 جويلية، هل كنت على علم بذلك؟

-نعم أطلعت على هذا المشروع.

*ما هو رأيك في ذلك؟

-صراحة أعتبر هذه "الخارطة" غير صائبة. لأنها تتضمن ما يتم تداوله من قبل الرافضين للقطع الكلي مع المنظومة الفاشلة والفاسدة. وأعتبر ذلك "مسرحية بايخة" سمجة سيئة الإخراج لا تليق بمنظمة حشاد العريقة.

*هل يعني أنك مع خيار سعيد في إبعاد الاتحاد العام التونسي للشغل من دائرة الهندسة للمرحلة المقبلة؟

-أعتقد أن خطأ سعيد كان في تحييد الاتحاد نظرا لقيمته ودوره كمنظمة عريقة في البلاد، وربما هذا ما جعل قياداتها تنقلب على بعض مواقفها في علاقة بالأحزاب السياسية ولقاء نورالدين الطبوبي وعبير موسي رئيس حزب الستوري الحر مؤخرا مثال على ذلك. ثم أنه عمليا لا يمكن لرجل واحد أن يتفرد بالتفكير لـ12 مليون.

*ما هو المخرج إذن؟

-السيناريو الذي يتماشى ومتطلبات المرحلة هو الذهاب إلى تعديل الدستور وإرساء نظام رئاسي متوازن يتم عرضه على لجنة خبراء يتم تشكيلها للغرض وبعد ذلك يقع عرضه على الاستفتاء وهو مخرج ديمقراطي وأسلوب أمثل في الأنظمة الديمقراطية.

*لنعد للحديث عن مسألة أشرت لها عديد المرات في سياق حديثك وهي الهشاشة الحزبية، بم تفسر ذلك؟

-اعتقد أنها حقيقة لا يمكن نفيها، ويرجع ذلك لحالة التصحر التي عاشتها بلادنا في عهود التفكير والحزب الواحد ثم أن غياب العنصر البشري الراغب في التغيير له دوره نظرا لطغيان مرض "الأنوات" المتضخمة والمتورمة لدىبعض الأحزاب والقيادات الكلاسيكية وحمة الهمامي وراشد الغنوشي ومصطفى بن جعفر ونجيب الشابي خير أمثلة لذلك.  ثم أن جل الأحزاب الموجودة توعد ولا تنفذ لكن ليس لها برامج وهذه ظاهرة عالمية وليست تونسية فحسب. الأمر الذي خلق نوعا من النفور من الممارسة السياسية والحزبية ليتجه الأغلبية إلى العمل المدني والجمعياتي. إضافة إلى ارتباط الأحزاب بالمال الفاسد وهي ظاهرة تتطلب القيام بدراسات سيوسولوجية علمية.

*ولكن البعض يرى أن الأحزاب استقطبت نشطاء المجتمع المدني أليس الأمر كذلك؟

-صحيح هذا حصل بشكل لافت لكن الخيبة كانت سريعة خاصة بعد أن أصبحت الأحزاب عائلية وعروشية وجهوية.

 

حاورته نزيهة الغضباني

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews